يرصد هنا الباحث الفلسطيني الوضع الفلسطيني من خلال التوقف عند المؤتمر الثاني عشر لرواد بيت القدس وفعالياته، وعن صورة القضية الفلسطينية والتي تحتاج اليوم الى توحيد صفوف الفصائل الفلسطينية ولم الشمل وقضية الأسرى الذين يقبعون في سجون الاحتلال والدعوة لمحاسبة الترسانة الهمجية للمستوطنين، رصد ومتابعة لأنقى وأنصع القضايا العادلة والتي تحتاج للضمائر الحية إحقاقا للعدالة وإعادة للحقوق.

تقارير من فلسطين

مصطفى يوسف اللداوي

 

روادُ القدسِ الأغيارُ يحملونَ سيفَها البتار

تنادى مئاتُ المشاركين من جهات الدنيا الأربعة، رجالاً ونساءً، شيباً وشباناً، عرباً وعجماً، يمثلون طيف الأمة كلها، من أكثر من أربعين دولة عربية وإسلامية، تلبيةً لنداء القدس ومسجدها الأقصى، ونصرةً لفلسطين وأهلها، واستجابةً لصرختها ومعاناتها، وهبةً لنجدتها والدفاع عنها، وإحساساً بهمومها وأحزانها، وإدراكاً منهم لحجم الأخطار المحدقة بها وخبث المؤامرات التي تحاك ضدها، وقد تجشم المشاركون جميعاً عناء السفر من بلادٍ بعيدةٍ وأماكن نائيةٍ، وصبروا على التعب واللأواء، والبرد والزمهير والرياح، وتحمل أغلبهم تكاليف السفر والإقامة، وساهموا بالقدر الذي يستطيعون في إنجاح المؤتمر، وتحقيق الأهداف المرجوة منه.

إنه المؤتمر الثاني عشر لرواد بيت المقدس، الذي يعقده وينظمه الائتلاف العالمي لنصرة القدس وفلسطين، تحت شعار "رواد القدس يحملون سيفها"، وقد سبقه أحد عشر مؤتمراً، لا يقلون أهميةً عن الأخير في السلسلة المقدسية الذهبية، التي عقدت كلها تحت شعاراتٍ مختلفةٍ، نصرةً للقدس وفلسطين، إلا أن المؤتمر الأخير يختلف عن سابقيه، فقد جاء بعد معركة سيف القدس الباسلة، التي أبلى فيها الفلسطينيون بلاءً حسناً، وأدت فيها المقاومة دورها الرائد، الذي أظهر دورها السني، وعملها البهي، ومصداقيتها النضية، وجدواها العملية، وفرضت على العدو معادلةً جديدةً، تختلف عما مضى، وتتجاوز مع اعتاد عليه وعرف، فقد انتصرت المقاومة للقدس، وأعلنت أنها لن تتخلى عنها أو عن أي مدينةٍ فلسطينيةٍ أخرى يستهدفها العدو أو يستفرد بها.

لم يقتصر المؤتمر على الكلمات والخطابات، ولا الأناشيد والتسجيلات، وإنما كان هناك عرضٌ علميٌ عمليٌ رائعٌ ورائدٌ، لمشاريع مستقبلية ناهزت الأربعين مشروعاً، تستهدف القدس والأجيال، والأقصى والأمة، والقرآن والمقدسات، والأطفال والذاكرة، والتاريخ والحضارة، قامت بتصميمها وإعدادها وإخراجها مجموعاتٌ عربية وإسلامية شابة من الجنسين، ممن تملؤهم الحماسة والحمية، والغيرة والحرص، والتميز والإبداع، وهم في أغلبهم شبان في مقتبل العمر، يعملون بلا كللٍ ولا مللٍ، بعقيدةٍ واقتدارٍ، والتزامٍ وإيمانٍ، طوعاً واختياراً، وتضحيةً وفداءً، من أجل القدس وفلسطين، يقتطعون الأوقات من حياتهم، ويدفعون من جيوبهم، ولا ينتظرون عطاءً من غير الخالق عز وجل أو جزاءً، فبدت أعمالهم موفقة، ومشاريعهم رائعة، وأهدافهم كبيرة، وغاياتهم سامية، وجهودهم بإذن الله مباركة، ستثمر اليوم أو غداً، جنىً يرضى، وحصاداً يسعد، وغرساً في القدس ينمو، وفي كل أرض فلسطين يكبر ويثمرُ حريةً وانتصاراً، وعودةً وتحريراً.

الوفود التي أمت المؤتمر وشاركت فيه، وفودٌ شعبية، تمثل سواد الأمة الفقير، وجمهورها المعدم، وعامتها البسيط المُتعَب، الذين يقضون أعمارهم بحثاً عن قوت يومهم ورزق عيالهم، ولكنهم في ساعة العطاء كانوا كعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في تجهيز جيش العسرة، فأعطوا بسخاء، وتبرعوا بكرم، وتعهدوا بصدق، وقدموا غاية ما يملكون وأقصى ما يستطيعون، مدخرين ما قدموا لفلسطين وقدسها وأقصاها، في سبيل الله عز وجل، الذي لا تضيع عنده الجهود، ولا يفقد من أقرضه ماله وادخر عنده جنى عمره، فكان حصاد ما جمعوا كبيراً، وحصيلة ما تبرعوا بركةً وخيراً كثيراً، سيراه المسجد الأقصى نوراً، والقدس ثباتاً، وفلسطين حريةً وانتصاراً.

أما القيمون على المؤتمر، غير رائدهم الكبير المهندس منير سعيد، ورئيس لجنتهم التحضيرية التونسي الشاب المتألق، فقد كانوا مجموعةً أخرى من الشبان اليافعين، المبدعين المتميزين، شكلوا بتنوعهم واختلافهم لوحةً جميلةً وثوباً قشيباً، عكسوا صورة الأمة التي تتحد أطرافها ويلتقي أبناؤها جميعاً من أجل القدس وفلسطين، وقد ازدانوا بالعرض الرشيق والتقديم الرائع، وحافظوا على لغتنا العربية الجميلة البليغة، وأدبها الراقي وبلاغتها الساحرة، فغدت كلماتهم أدباً وشعراً رائعاً، بديعاً مميزاً، خالياً من الأخطاء والعثرات، ومتجاوزاً للسقطات والهنات، حتى بدت مقدماتهم جدولاً رقراقاً صافياً، ينساب بسهولة، ويجري بسرعة، فأصغى إليهم الحضور، وأُعجب بجميل نظمهم وفاتن نثرهم السامعون، فاستحقوا الشكر والإشادة من المتلقين والملقين على السواء.

تزامن انعقاد المؤتمر مع مناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، الذي أطلقته الأمم المتحدة بهذا التاريخ من العام 1978، فكانت كلماته صرخةً في آذان وضمائر المجتمع الدولي، ووخزاً وتأنيباً لهم، وتذكيراً لهم بالواجب الملقى على عاتقهم، والدور الذي يجب أن يلعبوه لتحقيق العدالة وإعادة الحقوق إلى أصحابها، واستعادة الفلسطينيين جميعاً في الوطن والشتات حريتهم، وتمكينهم من بناء دولتهم وتقرير مصيرهم بأنفسهم، وإلا فإنهم كما كانوا شركاء في أصل الجريمة، وساهموا في احتلال الأرض واغتصاب الحقوق، فإنهم بمواقفهم المنحازة ما زالوا شركاء فيها، ويتحملون كامل المسؤولية عن نتائج سياساتهم الجائرة.

توجُ رواد بيت المقدس مؤتمرهم الثاني عشر، ببيانٍ ختاميٍ جامعٍ، عبر عن روح الأمة وآمالها، وعبر عن حالها وأحلامها، فجاءت كلماته حادةً كحدي سيف القدس البتار، حيث أكد على وحدة الأمة ووجوب حوار أبنائها واتحاد أطيافها، ورأى أن التطبيع مع العدو الصهيوني خيانةً ويجب التوقف عنه ومحاربته، وكرم المقاطعين العرب وأشاد بمواقفهم، واعتبر أن القدس هي قلب الصراع ومركز الأمة، ودعا إلى الدفاع عنها والعمل على تحريرها واستعادتها، ولم تغب قضية الأسرى ومعاناتهم عن بيانهم الذي رصع بنوده بالعمل على تحريرهم واستنقاذهم من براثن المحتل السجان.

هو مؤتمر رواد القدس بحق، وطلائع جيش الأمة الفاتح غداً، وسيفها البتار العائد، وقوسها المشدود المستعد، وسهمها المبري الجاهز، الذي لن تضيع جهوده هدراً، ولن يذهب عمله سدىً، ولن تجف كلماته أو تمزق صحفه، ولن يمل أعضاؤه، ولن يتعب القائمون عليه، حتى تتحقق الأهداف المرجوة والغايات المنشودة، ويأتي اليوم الذي نراه بإذن الله قريباً، الذي نعقد فيه مؤتمرنا الجامع في مدينة القدس الحرة، وفي رحاب مسجدها الأقصى المبارك، وبحضور ومشاركة الأمة كلها، وأبنائهم جميعاً، إنه على ما يشاء قدير، وبتحقيق الوعد الآخر جدير. 

 

الفلسطينيون مسؤولون عن صورتهم ومحاسبون على قضيتهم

لا يوجد في تاريخ أمتنا العربية والإسلامية قضيةً ناصعةً طاهرةً، نقيةً صافيةً، عقدية قومية، تجتمع عليها الأمة وتتوارث الإيمانَ بها ودعمها الأجيالُ المتعاقبة، وتضحي من أجلها بالغالي والنفيس، وتقدم في سبيلها أقصى ما تستطيع وغاية ما تملك، مثل القضية الفلسطينية والقدس والمسجد الأقصى المبارك، التي تسبق القضايا الوطنية، وتنافس الأولويات المحلية، وتنتصر في كل تحدي وسباقٍ داخلي، وتتصدر الملفات القومية، وتفرض نفسها على كل المحافل الشعبية، والقمم العربية الرسمية، وتكون سبباً في الوحدة والاتفاق، وعاملاً في الفرقة والانقسام، فهي على مر التاريخ توحد الأمة، وتلتقي عليها جهودها، ويتوافق عليها أبناؤها، ومن شذ عنها وتآمر عليها فإنه يقصى ويحارب، ويعاقب ويجازى، وقد يسقط ويهوي، وينهار ويندثر.

لكن سلوك القيادة الفلسطينية، والقوى والفصائل والتنظيمات، والنخب والفعاليات، والاتحادات والنقابات، والتجمعات والسفارات، والهيئات ومراكز السلطة والقرار، فيما يتعلق بعلاقاتهم الداخلية وقضاياهم المشتركة، وتنسيقاتهم البينية، وتعاونهم على كل المستويات الوطنية، وصورتهم العامة وخطابهم الإعلامي، يفقد القضية الفلسطينية رونقها، ويحرمها من نقائها، ويتسبب في تشويهها والإساءة إليها، ويعرض الفلسطينيين عامةً للنقد والإدانة، والغضب والعتاب، ويدفع الموالين للقضية الفلسطينية والمحبين للشعب الفلسطيني إلى التساؤل والحيرة، عن الأسباب التي تجعل الفلسطينيين مختلفين، وتتسبب في صراعهم وانقسامهم، وهم جميعاً يخضعون للاحتلال ويعانون من ممارساته، ويقاسون من سياساته.

لا تنعكس الخلافات الفلسطينية وتناقضاتهم الداخلية، على نفسية الموالين لهم والمؤيدين لقضيتهم، والمؤمنين بها والمضحين في سبيلها، والمتمسكين بها كأهلها وحسب، وإنما تمتد آثارها السلبية إلى قطاعٍ من الأمتين العربية والإسلامية، على المستويين الرسمي والشعبي، الذين رأوا أن الفلسطينيين لا يحترمون قضيتهم، ولا يسعون لخدمة شعبهم، ولا تعنيهم صورتهم، ولا يقلقون على مستقبلهم، ولا يتفقون فيما بينهم إكراماً لشعبهم ووفاءً له، وسعياً لراحته وتقديراً لتضحياته، وَهَمُ قيادتهم الأول بكل مستوياتها واتجاهاتها، المكاسب والمصالح، والمنافع والامتيازات، في الوقت الذي يتضور فيه شعبها جوعاً، ويقاسي ألماً، ويشكو حصاراً، ويكتوي أبناؤه أسراً واعتقالاً، وإصابةً وإعاقةً، وشهادةً وغياباً.

وجد بعض المتخاذلين من العرب، أنظمة حكمٍ ورجال سياسة، ونخباً اجتماعية وثقافية، ورموزاً فكرية وإعلامية، وقاماتٍ رأسمالية واقتصادية، ضالتهم المنشودة في التقارب مع العدو الإسرائيلي، والاعتراف به والتطبيع معه، في الحالة الفلسطينية المزرية، وواقعهم المهين، وصراعهم المخزي، وصورتهم المشوهة، التي يتحمل الفلسطينيون كامل المسؤولية عنها، فهم من صنعها ورسمها، وهم من فرضها وعرضها، وإن كان هذا لا يبرر للآخرين سقوطهم وترديهم، ولا يجيز لهم أفعالهم الأخيرة التي تتناقض مع قيمنا، وتتعارض مع موروثاتنا، ولا تتفق مع ديننا وتقاليدنا، فضلاً عن أنها تعود بالضرر الشديد على أمننا وسلامتنا واستقرار أوطاننا، وتهدد اقتصادنا وتنهب خيرات بلادنا.

يتحمل الفلسطينيون وحدهم ما آلت إليه أوضاع بعض أنظمتنا العربية، وانهياراتها القومية، وتصدع جدرانها التاريخية، وتغير مزاج شعوبها الأصيلة، وانفضاض بعضها من حولنا، وقد كانوا جميعاً أنظمةً وشعوباً معنا، يساندوننا ويؤيدوننا، ويحملون مواقفنا ويدافعون عنا، ويتطوعون معنا ويقاتلون إلى جنبنا.

لكن سوء أداء القيادة الفلسطينية، سلطةً وقوىً وأحزاباً، والصورة المشوهة التي أظهروها، والتضارب الوطني المشين، والتناقض الحزبي البغيض، والتراشق الإعلامي المهين، والسقوط الأمني المخزي، الذي يترجم على الأرض تنسيقاً أمنياً لا معنى له غير العمالة والخيانة، والتبعية والانقياد، يزيد في تشوه الصورة الفلسطينية واتهام قيادتها، ويظهرها عابثةً غير مسؤولة، ومهملة غير جادة، وشخصانية أكثر مما هي وطنية، وهو الأمر الذي جرأ البعض على الحرام، ودفعهم نحو الخبيث، وزين لهم الفحشاء والمنكر، وبرر لمن فرط وتخاذل، واعترف وطبع، رغباتهم الوضيعة وأمانيهم المريضة في التخلي عن القضية الفلسطينية، والنأي بأنفسهم عنها، ومصادقة العدو والاعتراف به، والتعاون معه.

يسوغ هؤلاء لأنفسهم، بجهالةٍ وقلة وعي، وضحالة فكرٍ ونقصٍ في التجربة، بحجة الواقع الفلسطيني السيئ، التوغل أكثر في التطبيع مع العدو في كل المجالات وعلى كل المستويات، دون أدنى إحساس بالحرج أو الخجل، أو بالعيب والخيانة، وحجتهم في ذلك أن أصحاب القضية فرطوا، وهم اعترفوا، ومع العدو نسقوا، وبه اجتمعوا، ومعه عملوا، وله قدموا، وفي مشروعه ساهموا، وفي أجهزته ومؤسساته تطوعوا.

فإلامَ يُعابون ويُعاتبون، ولماذا يُخَونون ويُتَهمون، وهم الذين تأخروا في الاعتراف والتطبيع، ولم يعجلوا به أو يسرعوا إليه، بينما سبق الفلسطينيون واعترفوا، وهم أصحاب القضية والشأن، وأهل المعاناة والكرب، وهم الذين ضربوا للجميع مثلاً، وكانوا لغيرهم أسوةً، إذ قبلوا بالتوقيع والاعتراف، والسلام والاتفاق، قبل أكثر من ثلاثين سنة، وما زالوا على عهدهم، يحافظون على اتفاقياتهم، ويصرون على تطبيعهم، ويمعنون في التعامل مع عدوهم بما يريد وكيف يريد، بل يعاقبون من يخرج على الاتفاق، ويعتقلون من يمس أمن العدو ويهدد مصالحه، وسجونهم على ذلك شاهدة، وسجلات شعبهم ضدهم تفضحهم وتكشف أسرارهم.

قد يكون من حقنا أن نلوم غيرنا، وأن نعتب على سوانا، وأن ننتقد أفعالهم ونغضب من سلوكهم، ونغتاظ من سياساتهم، ونتهمهم بالتخلي عنا والانقلاب علينا، ولكن علينا قبل ذلك كله أن نحاسب أنفسنا، وأن نراجع سياستنا، وأن نصلح ما أفسدنا، ونصحح ما أخطأنا، وأن نعيد رسم قضيتنا وعرض مشكلتنا، وأن ننهج بيننا سياسةً حكيمةً، تنهي الخلافات، وتقضي على الصراعات، وتؤسس للوحدة والاتفاق، والتعاون والتكامل، ونمنح شعبنا العظيم، المضحي المعطاء، الصابر الصادق، فرصةً للعيش الكريم والحياة الآمنة المستقرة، فلعله يشكو أيضاً من سوء الإدارة، وانحراف القيادة، وغياب الثقة، وفقدان الصدق والنزاهة.

 

الأسرى يوحدون صفوفَ الشعبِ ويجمعونَ كلمةَ الأمةِ

آحادٌ في الأمة العربية والإسلامية هم الأسرى والمعتقلون، وإن تجاوزت أعدادهم في السجون والمعتقلات الإسرائيلية الآلاف، إذ يزيد عدد الأسرى الفلسطينيين الذين سبق اعتقالهم مرةً أو مراتٍ عدة، أو أولئك الذين ما زالوا يقبعون في سجونهم الآن، عن المليون أسير من الرجال والنساء والأطفال، إلا أنهم رغم كثرتهم، يبقون أقليةً لا أكثرية، وطلائع المقاومة لا جيشها، وسنا الشعب لا نوره، وبريقه لا وهجه، وعلى الرغم من ذلك، فإن صوتهم الذي يخترق صمم جنود العدو، يملأ الفضاء كله، ويغطي الكون بأسره، ويخترق الآفاق على امتدادها، ويُسمِعُ الجوزاء في عليائها البعيد، ودوماً تنتصر إرادتهم على صخب سلطات السجون، وغطرسة ضباطهم، وحقد أجهزة قمعهم، ومرض نفوسهم وخبث ضمائرهم.

صوتهم بالحق صداحٌ لا تحده الحدود، ولا توقفه السدود، ولا تحول بينه وبين الأمة طول المسافات ولا وَهْم السيادات، ولا محاولات المنع أو مساعي الفصل، فصوتهم ضمير الأمة اليقظ وروحها الأبية، ينطق باسم القضية، ويعبر عن رأي الشعب، وهم خير من ينصح ويسدي، وأفضل من يشير ويستشار، وأصدق من يوجه ويرشد، وأسمى من نرفع إليهم قضايانا، وآخر من يستفيد من آلامنا ويتاجر بأحزاننا، ويوظف همومنا أو يخون دماءنا، أو يفرط في أحلامنا ويتخلى عن أهدافنا.

إنهم نخبةٌ مختارةٌ، وثلةٌ منتقاة، وعصبةٌ منيرة، كالنجوم في كبد سمائنا الملبدة بالغيوم تلمع، وكالقمر في ظلمائنا ينير، تصدح بالحق الأبلج ألسنتهم ولا تخاف، وترفع الصوت المجلجل ولا تتردد، وتعبر بحريتها عن رأيها ولا تتأخر، وتفرض بالمعاناة والألم إرادتها، ولا يصدها عما تريد قهرُ السجان ولا ظلم الجلاد، ولا صمت العبيد ولا عجز القعيد.

 

إنهم يختلفون عن غيرهم ولا يشبهون سواهم، ويتميزون عن أقرانهم ويتفوقون على لداتهم وأندادهم، رغم أنهم ضعافٌ في البنية وليسوا أقوياء في الجسد، ونحافٌ في الشكل وليسوا أصحاء في البدن، ولكنهم كالجحافل يجتاحون، وكالجيوش يزحفون، وبإرادةٍ كما الفلاذ يصمدون، وبثباتٍ كما الجبال الراسيات يقفون، يرفضون بشمم، ويأبون بكبرياء، ويفرضون مواقفهم بعزة، ويحققون مطالبهم بأنفةٍ، ويتطلعون إلى الحرية والعلياء بأملٍ، ولا يقبلون بفتاتٍ يلقى إليهم، أو بحسناتٍ تدفع لهم، مهما بلغت حاجتهم وعظمت مأساتهم.

الفلسطينيون يعرفون هذه الحقائق عن أسراهم ومعتقليهم، ويميزون بينهم وبين غيرهم من القادة والمسؤولين، من الذين يتقدمون الصفوف، ويظهرون في المناسبات، ويشاهدونهم في الصور، وإن علا صوتهم وصخب كلامهم، وادعوا العفة والصدق، والطهر والشرف، والأمانة والإخلاص، فإن الشعب لا يأبه بهم ولا يهتم، ولا يصغي إليهم ولا يجري معهم، ولا يصدق كلامهم ولا يبني مواقفه على وعودهم، ولا يتوقع خيراً من جعجعتهم ولا طحيناً من هديرهم، لهذا فهم يفضلون عليهم الأسرى والمعتقلين، يصدقونهم ويؤيدونهم، ويقفون معهم ويناضلون من أجلهم، ويتضامنون مع قضاياهم ويتبنون مطالبهم، ويخرجون إلى الشوارع متظاهرين نصرةً لهم، أو معتصمين ضغطاً من أجلهم، فهم يرون أنهم على الحق المبين، ويتمسكون بحبل المقاومة المتين.

الإسرائيليون يحقدون على الأسرى والمعتقلين ويكرهونهم، ويتمنون موتهم أو قتلهم، ويحلمون بالخلاص منهم والقضاء عليهم، ولا يرغبون في أن يخرجوا من سجونهم أحراراً، أو أن يعيشوا بين أهلهم وشعبهم طلقاء، بل يتمنون أن يقضوا كل عمرهم في السجون وفيها يموتون، ويسعون من خلال ممارساتهم معهم وسياساتهم المتبعة ضدهم إلى إذلالهم وقهرهم، وإخضاعهم وقتل روحهم المعنوية، فهم أكثر من يدرك تأثيرهم ويعرف قيمة دورهم، وهم يشعرون بأن تصريحاتهم كالسحر أثرها على شعبهم، الذي ينتفض من أجلهم، ويثور انتقاماً لهم، وانتصاراً لقضيتهم، ولا يبالي بأي تضحياتٍ في سبيلهم.

يدرك العدو الإسرائيلي قيمة الأسير الفلسطيني بحق، ويعرف أنه رغم قيوده والأغلال، والسجون والقضبان، والعزل والحرمان، والحجب والإبعاد، قادرٌ على أن يحرك الشارع الفلسطيني كله، وأن يقود الجماهير الشعبية، وأن يوجهها حيث يريد، فهو إن أعلن إضراباً عن الطعام أو اعتصم واعترض، انتفض الشعب معه، وتضامن مع قضيته، وسخر كل إمكانياته لنصرته.

تقوم سلطات السجون من حينٍ إلى آخر بمداهمة غرف الأسرى وأقسامهم، بحثاً عن أجهزة خلوي ووسائل اتصالٍ أخرى، كما تصادر ما تجده من أوراق ورسائل وكتاباتٍ ومنشوراتٍ، أياً كان نوعها أو مضمونها، فهي تخشى أن تكون أوراق الأسرى رسائل تحريضية، أو دعوات للانتفاضة، أو توجيهات لمجموعاتٍ عسكرية، يشرفون عليها ويتابعون عملها، بعد أن قاموا بتنظيمها وربط حلقاتها ووصل أطرافها، أو أنها مخططاتهم للأيام القادمة، إن كانوا ينوون الإضراب عن الطعام، أو القيام ببعض الأنشطة والفعاليات الاحتجاجية ضد إدارة السجون وممارساتها القمعية بحقهم.

الأسير الفلسطيني لا يملك أبواقاً إعلامية، ولا مؤسساتٍ صحفية، ولا ناطقين باسمه أو معبرين عنه، ولا تلتقيه الصحف أو تسرب أخباره وكالات الأنباء، ذلك أن العدو لا يسمح له بالظهور على شاشات الفضائيات، أو إجراء المقابلات واللقاءات، ولا تقبل أن يعبر عن قضيته، أو أن يبين معاناته، وصورته المنشورة هي صورةٌ قديمة قد تغير شكله بعدها وتبدل، فلا يعرفه كثيرٌ من الناس، ولكنهم يسمعون باسمه، ويفخرون بفعله.

يدرك الأسرى عظم الأمانة التي يحملون، وأهمية الدور الذي يقومون، والرمزية التي يمثلون، فيبدون استعدادهم أكثر لتحمل المزيد من المعاناة إكراماً لشعبهم الذي أولاهم الثقة، وتقديراً لأمتهم التي تتبنى قضاياهم، وتدافع عن حقوقهم، فيخوضون إضراباتٍ عن الطعام قد تطول لأكثر من شهرين، ويغامرون بحياة بعضهم ومستقبل أجسامهم، التي يصيبها التلف والعطب إن لم يستشهد بعضهم خلال فترة الإضراب، لكن هذا المصير المخيف أمام قضيتهم الكبرى يهون، فهم يعتقدون أن الشهادة قد فاتتهم، وأن رفاقاً لهم وإخوة على الدرب قد سبقوهم، فنالوا شرف الشهادة قبلهم، فلماذا منها يهربون، وعنهم يتأخرون، وعن دربهم يحيدون.

أسماء الأسرى العمالقة الأعلام، الذين كان لهم الفضل في تحريك الشعب وإيقاظ الأمة كثيرةٌ، ممن قضوا في السجون عشرات الأعوام، وخاضوا أعظم الإضرابات، وسجلوا أكبر الانتصارات، وصنعوا أكبر الأمجاد، وحققوا أكثر الإنجازات، وكان لهم أعظم الدور في تحريك وسائل الإعلام، وتسليط الضوء على قضاياهم الخاصة وقضية شعبهم العامة، ولهذا سأكتفي بالحديث العام عنهم لأنهم جميعاً أعلامٌ، يستحقون الذكر ويستأهلون المجد، حتى لا نغمط حق أحدهم ولا ننسى آخر، وسنكتفي بالعموم فهم جميعاً أهل الفضل والمنة، وأصحاب السابقة والبدرية، ندين لهم بالحب والوفاء، والتقدير والعرفان، ونسأل الله عز وجل لهم عاجل الحرية والسلامة التامة من كل ضيرٍ وضيمٍ وأذيةٍ.

 

لائحةُ اتهامٍ دوليةٍ ضد المستوطنين الإسرائيليين وحكومتهم

أعتقد أنه قد آن الأوان لأن يتقدم كبار رجال القانون الدوليون، والمؤسسات الحقوقية والإنسانية العربية والدولية، والشخصيات الفلسطينية الحقيقية والمعنوية، خاصةً أولئك الذين يتمتعون بجنسياتٍ أجنبيةٍ، ويعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية وعموم دول أوروبا، بشكاوى أمام محكمة الجنايات الدولية، وأمام المحاكم الوطنية ذات الاختصاص لدى بعض الدول الغربية، التي تتيح قوانينها الخاصة محاكمة متهمين أجانب من غير جنسية بلادها، ممن يثبت قيامهم بأعمالٍ إرهابية تخل بالقانون العام، وتمس الأمن العالمي، وتسببوا في إلحاق الضرر بمواطني الشعوب الأخرى، وقد شهدت سجلات المحاكم وأروقة القضاء قضايا مشابهة، نظر فيها القضاء، وخضعت للقوانين المحلية والدولية، ونال المدانون فيها عقوباتٍ مختلفة.

لن يجد المتطوعون لتقديم شكاوى ضد المستوطنين الإسرائيليين، صعوبةً في تحديد جريمتهم، وتوصيف تجاوزاتهم لمختلف القوانين الدولية والإنسانية، ولن يشكوا من نقصٍ في المعلوماتٍ، أو خللٍ في المعطياتٍ، أو عجزٍ في الصور والبيانات، أو عدم وضوحٍ في الشواهد والأدلة والقرائن، وسيجدون في ملفاتهم آلاف الشهود الموثقة شهادتهم بالصوت والصورة، التي تؤكد جرائم المستوطنين، التي يقدمون عليها عن سابق قصدٍ وإصرارٍ، ويكررونها بعمدٍ وعنادٍ، ولا يجدون عقباتٍ تعترضهم، أو سلطةً تمنعهم، أو قوةً تردهم، أو قوانين تدينهم، بل إن الجيش الإسرائيلي ومختلف سلطات الكيان تحميهم وتحفظهم، وتواكبهم وترعاهم، وتحول دون إدانتهم أو المساس بهم، وتعتبر أن تقصير الجيش والشرطة في حمايتهم أثناء عمليات التخريب والاعتداء، جريمةً يعاقبون عليها، ويوجه إليهم لفت نظرٍ بسببها.

جرائم المستوطنين "اليهود" في فلسطين المحتلة كثيرةٌ وعديدةٌ، وهي لا تخفى على أحد، ولا يختلف على توصيفها أحدٌ، فهي جرائمٌ من الدرجة الأولى، التي يقدم عليها مرتكبوها وهم يعلمون أنها جريمة، وأن القانون الدولي العادل يجرمها ويعاقب عليها، ولكنهم يصرون على ارتكابها والقيام بها لعلمهم أن القانون الإسرائيلي لا يطالهم، والقضاء لا يدينهم، والجيش لا يعتقلهم، والشرطة لا تحقق معهم، فلماذا لا يصرون على أفعالهم ويكررون جرائمهم طالما أنهم أَمِنوا العقوبة، وقد قال الحكماء قديماً "من أَمِنَ العقوبةَ أساءَ الأدب"، وهم، أي المستوطنين اليهود، أكثر من أّمِنَ العقوبة وأكثر من أساء الأدب.

قد لا تكفي هذه الصحيفة مهما طالت، أو أبدع كاتبها وأسهب وأطنب وأَلَمَّ شمولاً بجرائمهم، أن تحصيها عداً، أو تصنفها نوعاً، أو تنظمها درجاتٍ، فهي أكثر مما يعدها العادون، فهم إلى جانب جريمتهم الأولى والأساس التي ارتكبها آباؤهم ومضوا على سنتهم أبناءً وأحفاداً، باحتلال فلسطين واغتصاب أرضها، وطرد سكانها، ومصادرة حقوقهم، وتدنيس مقدساتها، ونهب خيراتها، وحرمان أهلها من حقوقهم في الحياة الحرة الكريمة في أرضهم، وعلى تراب وطنهم المستقل، في إطار دولةٍ تجمعهم، وحكومةٍ تمثلهم وتعبر عنهم، وهي الجريمة الأكبر التي بنيت عليها كل جرائمهم التالية واستندت إليها.

ينبغي أن يرد في لائحة الاتهام الدولية قيام المستوطنين الإسرائيليين يومياً وبصورٍ مستفزة، وبرعاية الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، وبمشاركة وزراء وأعضاء كنيست وضباط سابقين، باقتحام المسجد الأقصى، وإغلاق بواباته، ومنع الفلسطينيين من الدخول إليه والصلاة فيه، وقيامهم خلال ذلك بالاعتداء على المواطنين الفلسطينيين، وتخريب محلاتهم وقلب بسطاتهم، واتلاف بضاعتهم.

وإقدامهم المتكرر على ترويع المواطنين الفلسطينيين، والاعتداء على بيوتهم وحرقها، ورشقها بالحجارة الصخرية، وتكسير أبوابها ونوافذها، وتلويثها بزيوت السيارات والأصباغ المختلفة، ورسم علاماتٍ عنصرية عليها، وكتابة تهديدات وكلماتٍ بذيئةٍ مهينةٍ ضد أهلها وسكانها.

يعمد المستوطنون الإسرائيليون إلى مداهمة بعض البيوت الفلسطينية، ويطردون أهلها منها، ويلقون بمتاعهم وأثاثهم خارجها، ويأتون ببعض العائلات اليهودية ويدخلونها إليها، ويعلنون أنها بيوتهم قد عادت إليهم، وأنهم يمتلكونها منذ مئات السنوات ولهم كامل الحق بالتصرف فيها.

وقيامهم بوضع حواجز على الطرقات والشوارع التي يرتادها الفلسطينيون، واعتراضهم فيها قطعها عليهم، وإطلاق النار عليهم ورشقهم بالحجارة، وتحطيم سياراتهم وتهشيم زجاجها، وإضرام النار فيها أحياناً، دون مراعاةٍ للركاب فيها، سواء كانوا أطفالاً صغاراً، أو شيوخاً مسنين، أو نساء مرضى أو حوامل.

ويعمد المستوطنون بجماعاتٍ كبيرة وعصاباتٍ منظمة إلى الاعتداء على المزارع والحقول الفلسطينية، فيخربون الزروع، ويقتلعون الأشجار المثمرة، خاصةً أشجار الزيتون الوارفة، ويقومون بتجريفها أو حرقها، أو يفتحون مجاري المياه العادمة الكريهة الرائحة عليها، ويعتدون في طريقهم على شبكات الكهرباء فيقطعونها ويحرقون أعمدتها، وعلى شبكات مياه الشرب فيخربونها أو يسممونها.

يهاجم المستوطنون الإسرائيليون وقد اشتهر فيهم "فتية التلال"، البلدات الفلسطينية، ويعتلون جبالها، ويصعدون إلى تلالها، ويطردون منها أهلها، وينصبون فوقها خيامهم، أو يركبون فيها بيوتهم المسبقة الصنع، ليجعلوا منها أنويةً لمستوطناتٍ جديدةٍ، وقد تتحول هذه البؤر الاستيطانية العشوائية بعد ذلك إلى مستوطناتٍ حقيقيةٍ ودائمة، تشرعها المحكمة ويحميها الجيش وأجهزته الأمنية.

ويقوم المستوطنون الذين يحملون السلاح المرخص من الحكومة بدهس المواطنين الفلسطينيين، وإطلاق النار عليهم أحياناً، والتقدم بشكاوى لدى الشرطة والجيش ضدهم، يتهمونهم بالاعتداء عليهم ومحاولة دهسهم أو قتلهم، وتصدق الشرطة أقوالهم، وتؤكد على روايتهم، وتقوم باعتقال الفلسطينيين وتحقق معهم، وتوجه إليهم قائمة طويلة من الاتهامات الباطلة، التي يدانون بها ويحاكمون على أساسها.

كثيرةٌ هي جرائم المستوطنين الإسرائيليين التي يقترفونها تحت سمع الحكومة وبصرها، وبرعايتها ومباركتها، وبسلاحها وأدواتها، وكثيرةٌ هي آثارهم ومشاهد عدوانهم والشهود على اعتداءاتهم، فهلا عجل القانونيون الأحرار والمحامون الإنسانيون، والفلسطينيون والعرب والمسلمون، إلى رفع قضايا ضدهم، وملاحقتهم ومحاسبتهم، والتضييق عليهم ومحاكمتهم، فلعل هذا الإجراء يلجمهم والقانون الدولي يردعهم، أو يكون سبباً في التشويش عليهم وإرباكهم، فكل سلاحٍ ضدهم يلزمنا، وكل سبيلٍ يضعفهم ويفض العالم من حولهم، يجب أن نطرقه ونسلكه، وأن نستغله ونستخدمه.