حين وسم سارتر الجوائز الأدبية بقبلة الموت، كان قد رفض قبول جائزة نوبل للآداب (1964)، في هذه المقالة بحث في ظاهرة الجوائز بإيجابياتها وسلبياتها، كيف تتحول إلى عصا تأديب تارة وكيف تساهم في تعميم الأدب تارة أخرى، وكيف تستغل لأغراض سياسوية وحين رفض هابرماس والجابري وغيرهم كان الهدف التعالي على كل أشكال "التطويع والتدجين والقولبة".

ظاهرة الجوائز الدولية

 

تعالٍ على كل أشكال التطويع والتدجين والقولبة والاستخدام
(قنطرة) وقد علل أندريه غيغو مؤرخ سارتر سبب رفضه لجائزة نوبل بأنها قبلة الموت وهو لا يريد أن يدفن حيا. سارتر صاحب المقولة الشهيرة: "أن تموت واقفا خير من أن تظل راكعا على قدميك "، والمتعالي على كل أشكال التطويع والتدجين والقولبة والاستخدام، ثم هو يرفض تحويل الكاتب إلى مؤسسة وهو ذاته ينتقد كل المؤسسات فكيف يقبل تكريمها؟ إنه يصر على التحقق الوجودي وأهميته أن يتم التحقق بتعميق الرؤية الداخلية للذوات الإنسانية وليس بالبحث عن تضخيم حيز الجائزة والابتعاد عن المعنى الفعلي للمتعة التي يستشعرها الإنسان طوال رحلته الإبداعية.

وبقدر ما هلل المثقفون عندنا لرفض يورغن هابرماس 91 عاما لجائزة الشيخ زايد للكتاب ورأوا في ذلك إخلاصا للموقف التنويري ولنزاهة المثقف وترفعه عن كل أشكال التكريمات من قبل المؤسسات خاصة الموسومة بالقمعية وغير الديمقراطية والشفافة كما هو الحال في دول الخليج، أنحى مثقفون ألمان على هابرماس باللائمة وانتقدوه بشدة ولم يرحموه، فالكاتب الألماني شتيفان فايدنر يرى في ذلك استعلاء أخلاقيا لدى الغرب كما أنه ينسف جهود الحوار بين الشرق والغرب برفضه الجائزة التي قبلها مثقفون ألمان من قبل.

هابرماس صاحب فكرة العمل التواصلي بدل سياسة القوة الغاشمة

ففي عام 2018 فاز بها داغ نيكولاس في فرع الثقافة العربية في اللغات الأخرى وفي سنة 2020 كان اسم الكاتب الألماني شتيفان فايدنر مدرجا ضمن الأسماء المرشحة بكتابه "آداب الشرق"، وهناك صلات بين معرض أبوظبي للكتاب ومعرض فرانكفورت وبالتالي فذهاب الجائزة لهذا الفيلسوف ليس بدعا من الأعمال، هذه وجهة النظر الألمانية المنتقدة لموقف هابرماس.

فبحسب شتيفان فايدنر دائما هناك تناقض في موقف هابرماس الذي ذهب في عام 2002 إلى إيران من أجل الحوار والتواصل، قبل الجائزة في البداية لكن بعد صدور مقال دير شبيغل الموسوم "يورغن هابرماس والدعاية الإماراتية" عاد ورفض الجائزة لأن المقال يتهم الجائزة بمحاولة استغلال الفيلسوف من أجل الدعاية السياسية .

ألمانيا السياسية والاقتصادية مقابل ألمانيا الثقافية

مقدار الجائزة والبالغ 225 ألف يورو الذي رفضه هابرماس لم يشفع له في الهجوم الذي اتخذه ضده بعض المثقفين الألمان. هابرماس صاحب النظرية النقدية في تقليد ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو وصاحب فكرة العمل التواصلي بدل سياسة القوة الغاشمة وإضفاء طابع الشرعية على المؤسسات والإجراءات من خلال الخطاب العقلاني، وكأن الجائزة تريد الاستحواذ على تراث هابرماس العقلاني والتنويري المرتبط بالفلسفة الألمانية وهل تملك الجائزة تلك المشروعية؟

ودولة الإمارات تنتقد في مجال حقوق الإنسان فكيف يسوغ لها تكريم فيلسوف؟ وإن قبل هو بذلك ألا يضر ذلك بمصداقيته في الغرب عامة وفي ألمانيا خاصة؟ وهذا ما يعبر عنه في ألمانيا بحالة القلق الألماني إزاء كل قضية ملتبسة تعتبر محل رفض مبدئي. ألمانيا السياسية والاقتصادية التي توثق صلاتها التجارية مع دول الخليج وتحافظ عليها هي نفسها التي تسكت على حرمان معارضين وحقوقيين في الخليج ومصر مثلا من حقوقهم والمضايقات التي يتعرضون لها وهذا يعبر عن ازدواجية الموقف، الرسمي والمثقف  في الغرب كافة.

الجوائز في الغرب - حمى الاستهلاك حتى الأدبي في الغرب

رفض الجوائز في الغرب أمر شائع بل ومضطرب أحيانا من الرفض إلى التردد ثم القبول وتتداخل العوامل الإبداعية والسياسية والمتغيرات الدولية وسياسة الاستقطاب في القبول والرفض وقرار المنح، ففي عام 1919 مُنحت للشاعر السويدي إريك أكسل كارلفت جائزة نوبل للآداب لكنه طلب شطب اسمه ثم منحت له بعد وفاته عام 1931.

وفي عام 1925 منحت جائزة نوبل لبرنارد شو فرفضها ثم عاد فقبلها وقبل التكريم ووزع المال وأثر عنه قوله عن الجائزة "إنها طوق نجاة يلقى بها إلى رجل وصل فعلا إلى بر الأمان ولم يعد عليه من خطر، إنني أكتب لمن يقرأ لا لأنال جائزة".

"ألمانيا السياسية والاقتصادية التي توثق صلاتها التجارية مع دول الخليج وتحافظ عليها هي نفسها التي تسكت على حرمان معارضين وحقوقيين في الخليج ومصر مثلا من حقوقهم والمضايقات التي يتعرضون لها وهذا يعبر عن ازدواجية الموقف، الرسمي والمثقف في الغرب كافة" - كما يكتب إبراهيم مشارة ويضيف: "... وبعد فليست الجائزة معيارا لتقييم أصالة المبدع وعبقريته فهي قد تخضع للاستقطاب وللمصالح الفئوية والنخبوية والسياسية والدعائية والتجارية كما قد تتخذ شكلا من أشكال التدخل في شؤون الآخرين كما في زمن الحرب الباردة وفي جوائز الاتحاد الأوروبي كالجائزة التي يمنحها البرلمان الأوروبي جائزة أندريه سخاروف مثلا حيث أن أوروبا برمتها داعمة للديكتاتوريات العربية ومتسترة عليها فأي نفاق سياسي أوروبي هذا!؟" ويكتب: "ألا يستحق أكثر من أديب عربي جائزة نوبل في عالمنا العربي؟ ألم يكن محمد ديب يستحق الجونكور في فرنسا أم أن ثلاثيته لا ترضي اللجنة لأنها تتحدث عن بشاعة الاستعمار وهي تريد من يقدم صورة هزلية للعالم العربي الإسلامي تغذي المخيال الغربي الذي لا يرى في الشرق غير القمع والشبق والاستبداد".

بقدر ما هلل المثقفون عندنا لرفض يورغن هابرماس 91 عاما لجائزة الشيخ زايد للكتاب ورأوا في ذلك إخلاصا للموقف التنويري ولنزاهة المثقف وترفعه عن كل أشكال التكريمات من قبل المؤسسات خاصة الموسومة بالقمعية وغير الديمقراطية والشفافة كما هو الحال في دول الخليج، أنحى مثقفون ألمان على هابرماس باللائمة وانتقدوه بشدة ولم يرحموه، فالكاتب الألماني شتيفان فايدنر يرى في ذلك استعلاء أخلاقيا لدى الغرب كما أنه ينسف جهود الحوار بين الشرق والغرب برفضه الجائزة التي قبلها مثقفون ألمان من قبل … وهناك صلات بين معرض أبوظبي للكتاب ومعرض فرانكفورت وبالتالي فذهاب الجائزة لهذا الفيلسوف ليس بدعا من الأعمال، هذه وجهة النظر الألمانية المنتقدة لموقف هابرماس. فبحسب شتيفان فايدنر دائما هناك تناقض في موقف هابرماس الذي ذهب في عام 2002 إلى إيران من أجل الحوار والتواصل، قبل الجائزة في البداية لكن بعد صدور مقال دير شبيغل الموسوم "يورغن هابرماس والدعاية الإماراتية" عاد ورفض الجائزة لأن المقال يتهم الجائزة بمحاولة استغلال الفيلسوف من أجل الدعاية السياسية، كما يكتب إبراهيم مشارة.

مقولة برنارد شو هذه تحليلها على الخلفية الإعلامية والدعائية والتجارية ففي كتاب اليد واللسان لعبد الله الغذامي يحلل الناقد السعودي قضية الجوائز هذه وارتباطها بالدعاية السياسية والإعلانية والتجارية في عالم رأسمالي يجري وراء الصور والدعاية والاستهلاك، وحتى الأدب غدا سلعة مثله مثل العطور والأجبان وسراويل الجينز.

جائزة كل عام مثل البوكر ثم المان بوكر مثلا أو الجونكور أو نوبل ورواج لاسم الكاتب وطبع للرواية بملايين النسخ وأرباح تدر على أصحاب دور الناشر ونقاد الصفحات  الثقافية في كبريات الصحف العالمية وسينمائيون يحولون الرواية إلى فيلم وإشهار وإعلانات وأرباح بملايين الدولارات ثم ينسى كل شيء وتبدأ حمى التنافس من جديد في دورة جديدة العام القادم دورة العرض والطلب وحمى الاستهلاك.

برنارد شو: "لن أغفر لنوبل اختراعه لجائزة نوبل"

وقد أثر عن برنارد شو قوله "إنني أغفر لنوبل اختراعه للديناميت ولكنني لن أغفر له اختراعه لجائزة نوبل". هذا القول من برنارد شو يحيلنا على خطورة الجوائز في التطويع والقولبة والتدجين وفي تلميع أسماء لا تستحق وطمس أسماء جديرة بالتنويه وبسياسة العقاب والحرمان من مؤسسات دولية ضد دول أخرى. ألا يستحق أكثر من أديب عربي جائزة نوبل في عالمنا العربي؟ ألم يكن محمد ديب يستحق الجونكور في فرنسا أم أن ثلاثيته لا ترضي اللجنة لأنها تتحدث عن بشاعة الاستعمار وهي تريد من يقدم صورة هزلية للعالم العربي الإسلامي تغذي المخيال الغربي الذي لا يرى في الشرق غير القمع والشبق والاستبداد.

إن الجوائز خاصة الموسومة بالعالمية تغدو في مجتمع  رأسمالي مثلا أداة مناورة وإخضاع لدولة اشتراكية، مثلا كما في حالة بوريس باسترناك  ففي عام 1958 أجبر الاتحاد السوفيتي باسترناك على رفض الجائزة عن رائعته "دكتور زيفاجو" وإلا تسحب منه الجنسية وتحت التهديد رفضها ثم منحت له عام 1989 بعد مجيء غورباتشوف إلى السلطة عام 1988. في عالمنا العربي فوجئ المثقفون العرب برفض خوان غويتيسولو لجائزة القذافي العالمية عام 2009 واعتذاره عن قبولها وقبول المبلغ المالي 150 ألف يورو ورأى في ذلك إضرارا بمصداقيته كأديب حر ومسؤول وشفاف ونزيه وديمقراطي لا يمكنه قبول الجائزة من مؤسسة لا يراها شرعية وشفافة وديمقراطية، والعجيب أن نفس الجائزة قبلها إبراهيم الكوني وروجيه جارودي!