يقول الكاتب البريطاني ألكسندر سميث، الذي نشأ في زيمبابوي ورحل بعدها إلى بريطانيا في سن الـ17، «لكل امرئ خريطة لبلده في فؤاده. لن يسمح لك قلبك بنسيان هذه الخريطة». هكذا كان حال عبد الرزاق قُرنح الفائز بجائزة نوبل للآداب 2021، الذي شاءت الصدف أن يصل إلى بريطانيا لاجئا أيضا في سن الـ17. ظلت ذكريات الماضي والمنفى وما تحمله الهجرة عن الأوطان من مصاعب ومخاطر وأوجاع وإشكاليات الهوية، تلاحقه منعكسة في كتاباته التراجيدية المؤثرة. يتجلّى ذلك بامتياز في رواية «الهدية الأخيرة» الصادرة عن دار نشر بلومزبري عام 2011.
حياة شبه خيالية
يتعرف عباس – بطل الرواية – على مريم في مدينة إكستر الإنكليزية، التي ينزل فيها زائرا.. «رأته لأول مرة في محل (بوتس) في إكستر، في حياة شبه خيالية. كانا يقفان في طابور وابتسم. لم يكن من عادة الناس دائما أن يبتسموا لها على هذا النحو، أو لم تعتقد أنهم كانوا يفعلون ذلك على أي حال». مريم بنت لقيطة، تم العثور عليها خارج أحد المستشفيات، وتبناها زوجان من المهاجرين الهنود. «كانت تعيش مع فيروز وفيجاي حينها، وما انفكت تلك الحياة تزداد صعوبة» فمع مرور الزمن، صارا يعاملانها كما لو كانت عبدا. كانت تحترق رغبة في مغادرة ذلك المنزل، لكن صعوبة الحياة حالت دون ذلك، «اعتقدت أنها ستستطيع أن تكسب مرتبا كافيا يمكنها من مغادرة شقة فيروز وفيجاي، والعيش مع إحدى صديقاتها في العمل. لكن الأجر لم يكن جيدا وكان العمل شاقا». علاقتها الجديدة مع عباس لم تُرضِ والديها، اللذين سعيا بشتى الطرق لصرفها عنها. فاضطر العاشقان إلى الهروب وبناء حياة زوجية سعيدة وأنجبا فيها طفلين: حنا وجمال. لم يكن عباس حبيب القلب وحسب، بل أيضا المخلّص الذي أنقذها من حياة أشبه بالعبودية، فقد «شعرت بالإثارة وهي تمضي رفقته دون توقف أو تفكير، وبلا عودة إلى الحياة المهينة التي اعتادت العيش فيها».
تحتفظ بأسرارها
اللافت للانتباه في كتابات عبد الرزاق قُرنح احتواؤها على أسرار تثير اهتمام القارئ منذ البداية، وترافقه عبر فصول الرواية إلى النهاية، محلقةً به بعيدا في عوالم الإثارة والتشويق. إنها الذاكرة التي تصمد في وجه الزمان، وترفض الاندثار في بحر النسيان، رغم كل التغييرات والصدمات والمحن. وهي بذلك أشبه بالصندوق الأسود الحافظ لأسرار الطائرة، المقاوم للصدمات، والناجي من الحوادث والنكبات. نلمس ذلك في رواية «قلب من حصى» الصادرة عام 2017، وهو ما نشهده في روايته الثامنة هذه. لم تندم مريم أبدا على قرارها الفرار مع عباس، كان لها زوجا صالحا وأبا حنونا حرص على رعاية أسرته وإسعادها، لكنه فاجأها بصمته الغريب كلما سألته عن ماضيه وظروف رحيله عن وطنه، ظل هذا الصمت لغزا محيرا لها ولطفليها. لكنّ تعرضه في وقت لاحق لسكتة دماغية ألزمته الفراش حمله على تغيير موقفه والإفشاء بسر عمره 43 سنة لأفراد أسرته.
سنوات الضياع والحرمان
ترحل بنا الرواية إلى خمسينيات القرن الماضي، مستحضرة سنوات الطفولة القاسية الضائعة في شرق افريقيا. القصة شاهد على العصر يدوِّن من خلالها المؤلف تجارب البسطاء والفقراء والمهزومين والمقهورين، الذين لم يسجل التاريخ حكاياتهم في دفاتره الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، يجسده أطفال محرومون من أبسط حقوقهم كحقهم المشروع في الدراسة. وها هو فجر التغيير يلوح في الأفق، فتمنحهم الحكومة حق التعلم، «كان هذا عام 1947. تحدث مسؤول الحكومة مطولا عن فوائد التعليم، مشجعا الناس جميعا على إرسال أطفالهم إلى المدرسة مع بداية السنة الجديدة، التي كانت على الأبواب». لكن هذه البرامج كانت تلقى معارضة من بعض أفراد المجتمع المصرين على حرمان أطفالهم من مثل هذه الفرص كوالد عباس، «في المساء، قال قاسم أمام الأسرة بأكملها أنه من واجب عباس الالتحاق بالمدرسة. فهدد والدهم وتوعَّد، فخرّوا جميعهم صامتين، لكن قاسم لم يستسلم. فقد جادل وتوسّل وتشكّى. كان يكفي أن يرزح جميعهم تحت وطأة الجهل، لكن إذا دعت الحكومة الشباب إلى المدرسة، ليس من حق الأولياء منعهم. وما الضرر في ذلك؟».
وبدلا من الدراسة، ها هو الطفل يوجه للعمل في سن مبكرة لإعالة الأسرة، «حمله والده على العمل لإزالة الأعشاب الضارة والتعبئة، أو أي شيء آخر يستطيع القيام به في سنه، فيتأتى لوالدهم عثمان البخيل التفاخر أمام أطفاله بأن جميع أفراد العائلة يعمل لكسب لقمة العيش».
مأساة المنفى
رواية «الهدية الأخيرة» تمثيلٌ صادق لسيرة الذات، ووصف دقيق مستفيض لواقعين متباينين عاشهما الكاتب في بيئتين مختلفتين، المملكة المتحدة وافريقيا. ففي بريطانيا عايش أحداثا لا تخفى على كل من عاش في بريطانيا كأحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وتداعياتها وردود أفعال الجاليات فيها، وهو ما يستحق أن نعود إليه في مقالة منفصلة لتشعب الأحداث. وقد عايش الكاتب أيضا موجات الهجرة المتدفقة على الجزر البريطانية بالقوارب تدفق الأمواج العاتية، وهي ظاهرة ما فتئت تزداد حدة في زماننا، إذ يكفي أن نقول إنّ عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى المملكة المتحدة بالقوارب هذا العام تعدّى ثلاثة أضعاف العدد الإجمالي لعام 2020! تتجلى مأساتها في وجوه اللاجئين البائسة المثيرة للأسئلة «من أين أنت؟ هل قطعت مسافة طويلة؟ كيف يمكنك أن تتحمل كل هذا البعد؟ هل كان الأمر صعبا لا يطاق هناك؟ هو بلا ريب كذلك، وكيف لا وقد اخترت الحياة في هذه المدينة الشمالية البائسة. كيف كانت الأحوال هناك طيلة هذه السنوات؟ وكيف استطعت النجاة؟ كان يعرف الإجابة على بعض هذه الأسئلة من خلال دراسته «اتجاهات الهجرة وسياساتها في الاتحاد الأوروبي». كان في وسعه وصف الأنماط، وتقديم السياق التاريخي، وتحديد موقع هذه الموجة المقبلة من المغرب العربي ووجهتها، وتلك المقبلة من زيمبابوي وما نبع عنها من شتات».
قساوة الحياة في الغربة تثير جملة من الأسئلة يطرح بعضها عبدالرزاق قُرنح في هذه الرواية. فما الذي يحمل شخصا ما على ترك وطنه وأهله وأحبته والمجازفة بحياته، ليعيش بعد ذلك في أحد الأحياء الفقيرة واحتمال ألم البعد عن الأوطان؟ كان الكاتب ـ وهو لاجئ أيضا ـ «يعلم ذلك من الوجوه التي رآها في الشوارع ومن الفراغات الصامتة في التقارير التي يقرأها».
جدلية الدين والعقل:
الرواية تعيد إلى الواجهة جدلية الدين والعقل، القائمة منذ قديم الزمان وخاض فيها كثيرون أمثال أرسطو وابن رشد وتوما الأكويني، وبريطانيون أمثال سلمان رشدي وطارق علي. ترصد لنا الرواية الصراع المحتدم في المجتمعات الغربية بشكل عام وبريطانيا بشكل خاص بين أسر عربية ومسلمة محافظة وأبناء الجاليات، الذين يجدون أنفسهم منقسمين بين ثقافات متباينة، تجسدها صورة منذر المتدين المحافظ، الذي يسعى للتأثير في جمال الذي كان يسكن معه، بالضغط عليه لمصاحبته إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة. كان رد جمال أنه في حاجة إلى مزيد من المعرفة والفهم للدين، فيصاب منذر بخيبة أمل، لكنه يستمر في الإلحاح، «ليس التعلم هو الذي يأتي أولاً، لكن الاعتراف بوحدانية الله وكماله. نحن مسلمون. لقد فضلنا الله بأن وهبنا هذه المعرفة ووعدنا بأشياء رائعة. وفي المقابل، يطلب منا طاعته والخضوع له». عادة ما يلجأ المتشددون إلى التوبيخ والتهديد والتعنيف مثل منذر، الذي يقول لجمال وقد فرغ صبره، «لم تكن مطيعا ولا خاشعا لرحمة ربك. يكاد ينتهي الوقت. خطاياك تتصاعد منذ سنوات، والجهل ليس عذرا. عليك أن تعجل بتصحيح حسابك، وإلا حرمت من كل الأشياء الجميلة التي وعدنا بها الله».
راوٍ بامتياز:
عبد الرزاق راو بامتياز يصور لنا هموم الصبا والهجرة، وألم العيش بعيدا عن الأوطان بتفاصيل دقيقة. ولا يكتفي بذلك، إذ يوظف أبطال رواةَ قصصٍ بامتياز، يسردون حكاياتهم معبرين عن أفراحهم، وأتراحهم، وآلامهم، وآمالهم، وهمومهم، وتطلعاتهم إلى حياة كريمة كبقية البشر. والرواية تجسيدٌ لأحداث وظواهر مختلفة يطغى عليها حرص الكاتب على استذكار حياة ضائعة في زنجبار والمنفى والصراع اليومي للتأقلم والحياة في بيئة جديدة مختلفة في جميع جوانبها.
عبد الرزاق قُرنح يؤكد من خلال فصول القصة قدرته الفائقة على التحكم في أسلوب النقلات الزمنية في النص الروائي، فقد أحسن توظيف تقنية الاسترجاع منطلقا بنا من حياته في بريطانيا، وما تحمله من سمات ومتغيرات، والعودة بنا إلى سنوات الطفولة والطواف بنا بين أروقة الماضي في افريقيا على ضفاف المحيط الهندي. وباحتوائها على سرّ لا يدركه القارئ إلا في خاتمتها. «الهدية الأخيرة» أيقونة أخرى في عالم التشويق يتحفنا بها المؤلف ضمن أدب مهجري من سماته، الحنين إلى مهد الصبا والحياة الشاقة في المنفى. وما نستقيه من هذه التجربة أنه مهما سعينا لقتل الماضي ونسيانه فإن الماضي سيبقى حيا فينا، وجزءاً لا يتجزأ من حياتنا. ونحن بذلك أشبه بالأشجار التي مهما كبرت وارتفعت في السماء، ستبقى مرتبطة بالتراب الذي خرجت منه.
المثير للانتباه في مؤلفات عبد الرزاق اهتمامه المفرط بقضايا الهجرة التي تشهد تدفق أعداد متزايدة من اللاجئين على بريطانيا مؤخرا، ما يجعلنا نتطلع بفضول إلى كتاباته المستقبلية والتساؤل عما سيتضمنه جديده المقبل؟
«قلب من حصى»: تصوير صادق لعالمين متباينين:
كانت أمنية عبد الرزاق قُرنح الكبرى كسب المزيد من القراء. وهو ما كشفه إثر فوزه بجائزة نوبل للأدب هذه السنة عندما قال، «كنتُ في حاجة إلى مزيد من القراء». فبعد مشوار أدبي طويل وحافل بدأه في ثمانينيات القرن الماضي برواية «ذاكرة الرحيل» 1987 وكلِّل بنشر عشر روايات كاملة، لم ينل عبد الرزاق قُرنح حظه من الشهرة بعد – لا في بلده الأصلي تنزانيا، ولا في بريطانيا. شاءت الأقدار أن ينتظر إلى غاية 2021 لتتحقق أمنيته أخيرا بإقبال الجماهير المذهل على مؤلفاته، ما أدى إلى نفادها في الأسواق والمكتبات.
من الروايات المفقودة لكثرة الطلب عليها «قلب من حصى» الصادرة عام 2017 التي لم أحصل على نسخة منها إلا بعد حجزها وانتظار أسابيع لاستلامها في إحدى مكتبات لندن.
ثورة جزر زنجبار:
تحط بنا «قلب من حصى» مع بدايتها في جزر زنجبار في أعقاب الحكم البريطاني وما حلّ بها من اضطرابات وعنف وقمع على أيدي الثوار والنظام الجديد. وقد اختار المؤلف في هذه الرواية سردا يستخدم تقنية الراوي بضمير الأنا، متمثلا في البطل سليم، الطفل البالغ من العمر 7 سنوات. ويطبع الرواية نسق زمني كلاسيكي متنامي ومتسلسل في تطوره السردي والكرونولوجي في كامل أطوار القصة، انطلاقا من سنوات الثورة (1964-1975) التي أعقبت انهيار الحكم البريطاني والتي وصفتها عالمة الأنثروبولوجيا ماري أود فوري، من المعهد الفرنسي للأبحاث في افريقيا، بـ«السنوات المظلمة». «كانوا يشاهدون ضباط الشرطة البريطانية وهم يتجولون مجردين من السلطة والنفوذ. فخروج القوى الغاصبة وعملائها كان أمرا لا مفر منه».
معاناة بعد خروج البريطانيين:
هلل كثيرون لانتصار الثوار وخروج البريطانيين وهم لا يدرون ما ينتظرهم في منعطف الطريق، «قالت والدتي: لا يمكنك أن تتخيل الوضع في ذلك الزمن! لا يمكنك أن تتخيل ما عاشه المواطن من رعب، واعتقالات، وموت، وإذلال». فبينما احترم البريطانيون حق الملكية العقارية، ها هم الثوار يستولون عليها قسرا. «تمت مصادرة أرض الأسرة ومنزلها ليكونا ممتلكات الدولة، ويتم تسليمهما لمتعصب أو مسؤول بالثورة أو لعشيقته أو ابن عمه. وجاء الإعلان عن المصادرة عبر الإذاعة، والتعليمات بإخلاء جميع المنازل المصادرة على الفور. فانتقلوا للعيش مع جدتهم، تاركين وراءهم كل شيء باستثناء ما يمكنهم حمله في حقائبهم». ومن ممارسات الثوار المرعبة عمليات الاختطاف، «اختطف الثوار والدهم فلم يروه مرة أخرى، ولم يتم إرجاع جثته، ولم يتم الإعلان عن وفاته».
وهكذا عاش المواطنون في ذعر لم يعرفوه من قبل، في وطن يرضخ للاستبداد والقمع، فلا مفر من أن «يفعلوا جميعا ما في وسعهم ليظهروا للرجال المسلحين أنهم مطيعون وغير مؤذيين ومثيرون للشفقة، لا يعرفون التحدي أو التمرد».
المعاناة من الحرمان:
تستحضر «قلب من حصى» زمن وطن مغتصب وطفولة مغتصبة يعيشها سليم الذي يحرم من حنان والده بعد انفصاله عن والدته، ومغادرته البيت دون عودة، «لم أدرك معنى غياب والدي، حتى بدأت أخيرا أفهم أنه لم يعد يعيش معنا بعد الآن». غياب الوالد الطويل أثار اهتمام الصبي الذي راح يستفسر، «عندما سألتُ والدتي عن بابا في الأيام التالية، أخبرتني مرارا وتكرارا، أنه غادر لبضعة أيام. وعندما انتهت الأيام القليلة قالت إن والدي لم يعد يريدنا». ظلّ الطفل متعلقا بوالده، ولما علم بمكانه، زاره يحمل له طعاما، ففوجئ ببرودة قلبه وجفائه، «حتى في وقت لاحق، عندما قمت بتسليمه سلة طعامه، لم يتحدث معي ولم يسألني شيئا عما كنت أفعله أو كيف أشعر». كانت أمنية الطفل أن يدرك سبب انفصال والديه، لكنهما احتفظا بالسر، فصار مع مرّ الزمن لغزا يطارده في كل مكان.
الرحيل إلى بريطانيا:
وبينما تخلى عنه والده، ها هو خاله المقيم في لندن يرأف به ويمنحه فرصة لبناء المستقبل في بريطانيا، «عندما أنهيت دراستي وأبلغتني والدتي بفرصة الذهاب إلى لندن، سألتها لماذا يفعل الخال أمير هذا، فقالت لأنك مثل ابنه». عيب خاله أنه كان متملكا، أراد أن يرسم له مستقبله حسب مزاجه، دون استشارته. أراده أن يدرس للحصول على وظيفة في مجال الأعمال، بينما كانت أمنية الطفل التخصص في الأدب. ولما صارحه بذلك، ثارت ثائرته، فأهانه وطرده من منزله، صارخا فيه، «أغرب عن وجهي… لن أدعمك. لا أريدك هنا بعد الآن!». خرج الصبي من منزله الفخم في أحد الشوارع الراقية لينتقل بعد ذلك من غرفة إلى أخرى في أحياء لندن الفقيرة.
الحياة في عالمين متناقضين:
يسعى المؤلف من خلال هذه الرواية إلى إبراز الواقع المصطبغ بالسواد في أوطان متحررة من الاحتلال، وإماطة اللثام عن التناقضات بين بيئتين أمضى في كلتيهما شطرا من حياته. فحِرْص الخال على أخذه إلى بريطانيا، يُترجم بخوفه على مستقبله في مجتمعات لا تراعي الشباب ولا تقدّر المواهب. «قال الخال أمير إنه سيأخذني إلى لندن لأني كنت فتى مجتهدا وذكيا، وسيكون من المؤسف إضاعة تلك الموهبة». سليم نفسه يكتشف مدى تخلف مجتمعه بعد حلوله في المجتمع البريطاني المتقدم، «عندما جئت إلى لندن، أدركت مدى هشاشة أوراق الاعتماد التي كسبتها من قبل، ومقدار الكتب التي أحتاج إلى قراءتها، ومقدار الجهد الذي أحتاج إلى بذله لتدارك النقص». تفوُّق بريطانيا لا يكمن في العلوم والمعارف واستغلال المواهب وحسب، بل أيضا في معايير النظافة والصحة العالية التي لا تتوفر في مجتمعات تؤمن بأنّ النظافة من الإيمان، ويغسل أفرادها وجوههم عدة مرات في النهار. فترى المغتربين في حيرة من أمرهم عند عودتهم لأوطانهم أمثال أحد شخوص الرواية الذي يعبر عن قلقه، «هل المياه آمنة للشرب؟ هذه الدجاجة قاسية جدا، لا يمكنني أن أكل هذا الخبز، ليس لدينا ذباب كهذا في لندن».
بريطانيا التعايش:
غادر سليم زنجبار بينما كان الثوار يشنون حملة تطهير عرقي أدت إلى هلاك خمسين ألف شخصا، أغلبهم من العرب وترحيل آسيويين وأجانب آخرين. فألفى نفسه في مجتمع معروف بتعدد أجناسه وألوانه وثقافته المشتركة منذ العهد الأنكلوساكسوني وهو ما أثار اهتمامه، «لندن مليئة بالناس من كل مكان في العالم. لم أكن أتوقع أن أرى ذلك، هنودا وعربا وأفارقة وصينيين، ولا أعرف من أين يأتي كل الأوروبيين، لكنهم ليسوا كلهم إنكليز». صار سليم ينفق وقته بين الدراسة والعمل والبحث عن المتعة، فتعرَّف على أشخاص من أجناس مختلفة، وكانت له علاقات مع نساء متعددات، «كان لديّ الكثير من العلاقات القصيرة مع النساء اللواتي التقيت بهن وتعرفت عليهن، اللائي أردن أيضا أن يعشن حياة مليئة بعلاقات غير معقدة». وفي بريطانيا عاش قصة حب واحدة حقيقية مع امرأة تدعى بيلي رحلت عنه في يوم ما وتركته في عذاب، «لقد أحببت امرأة قبل فترة تدعى بيلي، لكنني فقدتها بعد أن ثبط أهلها عزيمته، أو لعلها لم تحبني في المقابل بقدر الكفاية».
تصوير صادق للعواطف:
«قلب من حصى» ليست أول رواية تتناول مسائل الحرمان والهجرة والحياة في المنفى. تناولها عبد الرزاق قُرنح نفسه من قبل في روايته السادسة «عن طريق البحر» إصدارات 2001. وسبقه إلى ذلك كثيرون – بعضهم بريطانيون من أصل أجنبي – أمثال الروائية الإنكليزية الجامايكية أندريا ليفي على منوال رواية «جزيرة صغيرة» الصادرة عام 2004 وتدور أحداثها في عام 1948 وتروي قصة مهاجرين جامايكيين فروا من قساوة الحياة في جزيرتهم الصغيرة، واستقروا في إنكلترا. بيد أنّ رواية قُرنح اتسمت بقدرته المميزة على وصف عالمين مختلفين وصفا حيا بحكم حياته في البيئتين معا، وتصوير الأحداث والعواطف تصويرا طبيعيا دقيقا صادقا. الرواية تبرز أيضا قدرته على رصد المحيط المجتمعي، والتعبير عن المعاناة والحرمان بحرفية وفنية عالية وبأسلوب مؤثر. يضاف إلى ذلك أسلوب التشويق بإدراج لغز محير عن انفصال الوالدين، وتفكك الأسرة في الصفحات الأولى للقصة، يرافق القارئ عبر فصول الرواية المؤلفة من 261 صفحة، ما يغذي في المتلقي نهم القراءة وشغف الترقب.
العودة إلى الوطن الأم:
الرواية أيضا تصوير للحب اللاعقلاني مجسد في حب الابن لأب لا يعرفه حق المعرفة، وحب الأب لزوجة غير مرغوب فيها، وعودة الابن إلى وطن لم يعد متعلقا به. فبعد سنوات طويلة في المهجر، يسافر سليم إلى زنجبار، لا لأجل البقاء فيها كما كان يأمل بعض أفراد أسرته، وإنما لزيارة قبر والدته التي كانت تجمعه بها علاقة وثيقة واستمر في مراسلتها من بريطانيا إلى حين وفاتها. يلتقي في رحلته القصيرة بوالده الذي يطلعه أخيرا على سرّ انفصاله ودمار عائلته. وقبل مغادرته، يسأله والده عن الدافع إلى عودته إلى بريطانيا قائلا، «ما الذي يجذبك إلى هناك؟ هل تحب شخصا هناك؟ هل ينتظرك شخص عند عودتك؟ فيرد الابن، «لا، لا ينتظرني أحد».
وهكذا يختار سليم العودة إلى بريطانيا التي أتاحت له فرص الاستقرار والدراسة والعمل والنجاح. صحيح أنه لم يكن ينتظره أحد مثلما أبلغ والده، لكن كان ينتظره في المقابل مجتمعٌ برمته ـ محيطٌ متعدد الأجناس والثقافات، متسامح ومنفتح على العالم، منحه من الاحترام والرعاية وحسن المعاملة ما لم يمنحه والده من لحمه ودمه، ورُبَّ غَرِيبٍ صَادِقٍ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ قَرِيبٍ مُنَافِق.
كاتب جزائري