يُمثلُ فيصل درّاج النموذجَ للمثقف العربي الذي رفض واقعَه الذي وجَدَ نفسَه فيه، لأنّه اكتشف أنّ هذا الواقعَ العربيَ يفتقدُ لأهمّ عنصرَيْن يجبُ تَوفُّرُهُما ليكونَ المجتمعُ مقبولا، وله وجودُه وتأثيرُه ومُشاركتُه مع غيره من المجتمعات الحضارية التي تُقاسمُه الوجودَ على سطح الكرة الأرضيّة، وهما الحداثةُ والتّنوير، ممّا أدّى إلى تراجع الأمّة العربية وهزيمتِها حضاريّا. وقد انحصرت مَقولاتُ الحداثةِ والتّنوير في الثقافة العربية في أشخاص مُنفردين أبرزهم كان طه حسين، لكنّ صراخاتِه وآراءَه، لم تكن تَلْقى غيرَ الإهمال والتّجاهل في مجتمع يرى في الحداثة تَخَلّفا، وفي التقدّم تَراجعا على حدّ قول فيصل دراج.
تميّز فيصل درّاج عن غيره من الأكاديميين العرب بأنّه رفضَ العملَ في المؤسّسة الأكاديميّة، أو تَبَوُّأَ أيِّ مَنصبٍ، وكرّسَ حياتَه للكتابةِ ومُحاولة تأويلِ العالم من خلال التّفْكير النّقديّ بالأدب والسياسة والمُجتمع. وتتلخّصُ حياةُ ومواقفُ فيصل دراج كما يراها الناقدُ فهمي الجدعان في شخصية بعض أبطال تشيخوف: "يستحيلُ الرّضا بالأمر الواقع مثلما يستحيلُ عَدَمُ الرّضا بهذا الواقع. لا مكانَ للحلّ الوسط. وليس على المرء بالتّالي إلّا أنْ يتمرّغَ على أرْضيّة بيته ويصرخَ ويضربَها برأسه".
ويرى فيصل درّاج أنّ دَوْرَ المثقّف، ليس بمعنى نَشْرِ القراءةِ والكتابةِ والحديثِ عن الأيدولوجيّات، إنّما على المثقف في زمنِ القَباحة أنْ يُدافعَ عن الجَمال، وفي زمن التزوير أنْ يُدافعَ عن الحقيقة، وفي زمن سقوط الأخْلاقيّ أنْ يُدافعَ عن الأخلاق. فالثقافةُ هي نَمَطٌ من الحياة، ونمَطٌ من السلوك، ونمَطٌ من الكرامة، ومن الأخلاق ونمَطٌ من الدّفاع عن الوطنِ والحريّةِ والتاريخ. وفي النهاية هي مُمارسَةٌ أخْلاقيّةٌ لخدمة البشر، وليس كلماتٍ وكتبا ونظريّات". (حارس الحكايات. الأهلية -عمان 2021 ص 79)
موقفُ فيصل درّاج من الرواية العربية ومآخذُه الكثيرة
كان الدكتور عبد المحسن طه بدر قد تناول في دراسته القيّمة "تطوّرُ الرواية العربية الحديثة" قضيةَ ظهور الرواية الفنيّة في الغرب وأنّها نتيجةٌ لضَعف المجتمع الإقطاعيّ وتَكوّنِ المجتمع المَدَني العُماليّ الصّناعي في المدن بشكل خاص وعُلوّ مكانةِ الفرد، وهذا استتبعَ تَغَيُّراتٍ في الفكر صاحبت التغيّرَ الاجتماعي وسيادةَ النّظرة الواقعيّة. ولم يختلف موقفُ الدكتور فيصل درّاج فهو يقول:
- "اتكأت الروايةُ الأوروبية في زمن صعودها، على أطروحتين أساسيّتين: لا تاريخَ دون حاضرٍ تَحَرّرَ من ماضيه، ولا روايةَ دون فَرْديّةٍ دنيويّة تضعُ المستقبلَ في الحاضر.
كان في مَرجع الرواية الأوروبيّة علاقاتٌ اجتماعيّة أنتجتها برجوازيّةٌ منتصرة وهي تُنتجُ ذاتَها، طبقةٌ قائدةٌ مُسَيْطرةٌ مُهَيْمنةٌ. تكشّفّتْ هذه العلاقاتُ الحَداثيّةُ في مجموع منَ المَقولات يتّسع لـ: المفردُ الذي أصلُه فيه، الحاضرُ الذي هيّأ ذاتَه مَرْجعا للأزمنة، المجتمعُ الحواري الذي اسْتَوْلدته المُساواة، الدولةُ القوميّة التي تُوحّدُ المجتمعَ لغة وثقافة، تعدّديّةُ المعارف المُتحاورةِ المُتجدّدة ، الاحتفاءُ بالواقع المُتحرّرِ وأسئلتُه الدنيويّة، المُتَخيَّلُ الذي يُخاصمُ المفردَ ويَخْلقُ مجتمعا بصيغة الجَمْع، الشعورُ بالزّمن والتّعاملُ مع العارض والمُتغيّرِ وسريعِ الزّوال، العقلُ الطليقُ الذي فارقه اليقين، الاحتفالُ بالنسبيّ والمُتعدّدِ والمَجزوء، اللغاتُ الاجتماعيّةُ التي لا مَركزَ لها، القارئُ الذي أنتجته المدرسةُ والمؤسساتُ والسّوقُ الثقافيّة.
وبالمقابل، كما يقول فيصل درّاج: وُلدت الروايةُ العربيةُ وحمَلَتْ معها آثارَ زمَنها، رأت النّورَ في حَقْل ثقافي تلقينيّ مُسيطر، قوامُه سلطةُ النصّ الديني، وسلطةُ البلاغةِ المُؤَوّلةِ دينيّا. تُعَيّنُ النصّ الديني مَرجعا شموليّا للعالم، يحكمُ بلا حوار، الأيديولوجيّاتُ النّظريةُ والعَمَليّةُ في آن، وينظر إلى المَعارف ويقف فوقها، فاصلا بين "المَعارف النبيلة" و "المعارف الدّنيئة" وواضعا الفرقَ بين المُحَلَّل والمُحَرّم والمَقبول والمَكروه. ولأنّ شكلَ الفكر هو شكلُ اللغة التي يتجلّى فيها، فقد احتضن النصُّ الديني بلاغةً لغويّةً خاصّةً به، واعتبر ما عَداها هرطقاتٍ لغويّةً، تُعبّر عن العَوام أو عن كُتّاب مارقين. (فيصل دراج. نظرية الرواية ص 148)
وكان من الطبيعي أنْ بقيَ الزمنُ العربي في (مكانه) يبحث عن أفْقٍ أضاعَه، أو عن أفق لم يلتق به بعد. فأجهضَتْ هذه (العالَميّةُ) الأوروبية، وجَوْهرُها السّيطرةُ والإخضاعُ، حداثةً عربية مُحتمَلة، واستولدت أخرى هَجينة، تمَسّ ظواهرَ الأشياء وتتركُ البنيةَ الاجتماعيةَ التقليديّة على حالها. بسبب ذلك لم تظفر الروايةُ العربية في زمن ولادتها الأولى، بمَرجع خارجيّ يُصَيّرُها رواية، ولم تتمتّع بمَرجعٍ داخليّ يُعالن باتّساق داخلي.
ولهذا كما يقول فيصل درّاج: لم تعثر الروايةُ العربيّة الوليدةُ على شروط صُعودها، ولم يجد الروائي في ثقافته العربية ما يشرحُ الكتابةَ الروائيّة. فبينما كان الروائي الأوروبي لا يتحرّكُ إلّا في اتّجاه المستقبل، كان الروائي العربي يتمسّك بالأصل البعيد. (فيصل دراج. الرواية وتأويل التاريخ ص 35) ويُقرّرُ أنّ الروايةَ العربيةَ وُلدَتْ مُزوّدةً بإعاقة مزدوجة، فهي أثرٌ مُتأخّرٌ لـ"الأدب العالمي" الذي هو صورةٌ أخرى عن "الزّمن الأوروبي" (الرواية وتأويل التاريخ ص 39)
فالروايةُ تنتمي إلى زمن الحَداثة الاجتماعيّة، الذي يُحدّدُ القارئُ والكاتبُ عَلاقتين مُجتمعتين ينقل العلاقاتِ الاجتماعيّةَ من الواحد إلى المُتعدّد، ومن المُتجانس إلى المُختلف ومن الثّابت المُقدّس إلى مُتَحوّل لا قَداسة فيه. وتتعاملُ الروايةُ مع إنسان مُحدّدِ الاسم، جاء من الناس وينتمي إليهم، وبَحثَ عن مَصيره مُفردا، أو مع بشر يُقاسمونه المصيرَ ولا يختلسون من فرديّته شيئا. ويرى أنّ الديمقراطيّة والروايةَ ترتبطان ربطا لا انْفصامَ فيه "فلا ديمقراطيةٌ بدون رواية، ولا رواية دون ديمقراطية، أيْ توجدُ الروايةُ حيث لا يسود الحكمُ التيوقراطي، ولا وجودَ للرواية حيث يسود الحكمُ التيوقراطي. (نظرية الرواية ص 144)
وقد عارض الناقدُ محمد برادة موقفَ فيصل درّاج قائلا "في موقف درّاج هذا إغفالٌ لخصوصيّة الرواية الفنيّة، واستنكارٌ لجماليّتها الخاصة ولم يعد مَقبولا تعليلُ ضَعفِ الروايةِ العربية بانعدام مُجتمعٍ برجوازيّ عربيّ يُيَسّرُ لها شروطَ الوجود، وشرعيّةَ الميلاد، فالشرطُ الأعمقُ والأهمُّ هو قُدرةُ الروائيين على فَهْم طبيعةِ التّشكيل المُجتَمعي، على تجسيد مُكَوّناته تجسيدا اجتماعيا عضويا وفنيّا يجعلُ من الرواية مُلتقى للأضداد واللغات المُتصارعة." ويؤكد بأنّ الرواية العربية اليوم في مَدارِ الرواية العالميّة على الرّغم من شروط تُعاكسُ صُعودَها إلى الطبقات العليا من مركز الإشعاع الكَوْنيّ، خاصّة بعد نكبة 1967 حيث انفتحت الروايةُ العربية على مَحاورَ جديدة، تحتفي بالهامش والمَعيش، وتُصَوّرُ التّيهَ والضّياع الذي يعيشُه الإنسانُ العربي، الذي توالدَتْ لديه النّكباتُ وتواترات هزائمُه وفجائعُه." (محمد برادة، الرواية العربية ورهان التجديد ص37) (حارس الروايات ص 154-155)
كذلك رفض الدكتور جابر عصفور "الذي توفي قبل أسبوعين يوم 31.12.2021" موقفَ فيصل درّاج بقوله "ليس بالضّرورة أنْ تنطلقَ الروايةُ من أرْضيّةٍ صلبة تُؤَمِّنُ لها ظروفا مُؤاتية، بل قد توكِلُ لنفسها مُهمّةَ خَلقِ هذه الأرضيّةِ وهذه الظروف؟" جابر عصفور. زمن الرواية ص 15-16" (حارس الروايات ص 155) وعارضه أيضا الناقدُ عبد الله إبراهيم بقوله "لقد انتقى لنا الفكرُ الاستعماري نمَطا من الأدب يستجيبُ للمفهوم الغربي للأدب، وكلُّ ظاهرة أدبيّة لا تَمتثلُ لهذا المفهوم تُعتَبَرُ بدائيّةً ومُعيبة، وليس لها أهميّة. وطبقا للأخْذِ بهذا المَفهوم، فكلّ ظاهرة لا تنطبقُ عليها قواعدُ الروايةِ الغربية، ليست سَرْدا وينبغي أنْ تُسْتَبعد" (المحاورات ص42) (حارس الحكايات ص 157). كذلك يرى عبد الرحمن منيف "أنّ الرواية ليس شرطُها الديمقراطية، وإنّما هدفُها الديمقراطيّة، وهي تحاولُ أنْ تعتبرَ هذا الهدفَ هاجسَها الأولَ تبحثُ عنه وتسعى إليه"(الكاتب والمنفى ص274" (حارس الحكايات ص 161)
ونتيجة لمتابعة فيصل دراج للروايةَ العربيةَ في المَراحل التالية لنشأتها مُتّكئةٌ على مُتخَيّلٍ طليق، وجد أنّها تمكّنت من التّمرّد على أُحاديّة النص المُسيطر، وراوَغَتْ إكراهاتِ السلطة المُستبدّة وضغوطَها، لتُحَقّقَ نفسَها. وتمثّلَ انفلاتُ الروائي العربي من هَيْمنة حَقْل ثقافي أحاديّ في عُنصرَين أساسيّين:
الأوّل: يتمثّل في عُزلة الروائي والكتابة الروائيّة، إذ الروائي يُنتجُ إبداعَه بعيدا عن مَدار السلطة المُهَيْمنة.
الثاني: يستند إلى فضيلة المُتخيّلِ وسُيولتِه. أي إلى "المَكر الروائي الهارب من الرّقابة وقبضةِ القرّاء المُتشنّجة، يُرَحّلُ الحاضرَ إلى الماضي ويُلْبِسُ الماضي زيَّ الحاضر، ويستنبتُ أمكنةً لم تُرَ، ويختزلُ الأمكنةَ المُتعدّدةَ إلى مكان وحيد، ويلهو بأسماءِ المدن ويعبثُ بأسماء البشر، وقد يخلطُ بين الحكاية والأُحْجية، أو يتركُ الحكايةَ عارية وقد كساها لغةً خادعة "الرواية وتأويل التاريخ ص 156"
يعترفُ فيصل درّاج أنّ قراءتَه للرواية العربية لم تنطلقْ من فراغ، وإنّما من الاعتمادِ على مَرجعيّة غربية ساعدته على ضَبْط مَفاهيمه النقديّة، وتوجيهِ رؤيتِهِ المَنهجيّة، وجعلته يُفْصح عن آرائه النّقديّة، بشيء من الثقة واليَقينيّة. ويَعْترفُ أنّ للمرجعيّة الماركسيّة من خلال فكرة الانْعكاس، وتَعني التّفسيرَ الاجتماعي للأدب حيثُ ظلّ يقرأ الآثارَ الأدبية في ضوء تفاعلاتها الاجتماعيّة الطبَقيّة. من منطلق فَهْمه أنّ الأدبَ هو في الحقيقة مُمارسَةٌ اجتماعيّةٌ بالدرجة الأولى. وقال: "تعلّمتُ من ماركس ألّا أقرأَ أيَّ ظاهرة أدبيّة، إلّا في عَلاقتها بجملة من الظواهر الاجتماعيّة، وتعلّمتُ منه ألّا أقرا أيّةَ ظاهرة إلّا إذا بحثتُ عن الأسباب التاريخيّة التي كوّنتْ هذه الظاهرة، وتعلّمتُ منه أنّ المَعرفةَ الفعّالةَ الحقيقيّة هي أساسُ أيّةِ قراءةٍ نظريّةٍ.."(حارس الحكايات ص 147).
فالمَرْجعيّةُ الاجتماعية هي الأساسُ لفَهم أيّةِ ظاهرة أدبية، باعتبار أنّ المجتمعَ هو الذي يصوغُ خطاباته وفْقَ تَحوّلاته وحاجيّاته الحضاريّة، وكلّ مُحاولة لدراسة الأدب العربي الحاضر، وأشكالِ النقدِ المُرتبطة به، تظلّ مُستحيلةً أو كاملةَ الهَشاشة، إنْ لم تنطلقْ من مَفهوم واضحٍ للعلاقات الاجتماعيّة، القائمةِ على نمطِ الإنتاج، شكلِ الدولة، وتَمايزِ الطبقات الاجتماعيّة. (فيصل دراج. الواقع والمثال ص204 و"حارس الحكايات ص 147)
بناء نظرية نقدية عربية أمَلٌ طالما راودَه ولم ينجح في تَجسيده:
كانت المدرسة الكلاسيكية النقديّة العربية هي المُهيمنةُ على كلّ النشاط النّقديّ الجامعي العربي، في الوقت الذي كانت البنيويةُ بمختلف مَدارسها هي الطاغيةُ على النقد في الغرب، إضافةً إلى المدرسة الشكلانية الروسية.
وفيصل دراج الذي درس في فرنسا النظرياتِ النقديّةَ الغربيةَ وقرأ كتاباتِ ميخائيل باختين النقديةَ التي تجْمَعُ بين نَصّيّةِ النّص والتّعدّديةِ الصَّوتيّة. كما ودرس لوسيان غولدمان صاحبَ البنيويةِ التّوليدية، ودرس النظريّةَ الماركسية وعرف مختلفَ النظرياتِ النقدية الأخرى؟ هذه المَعرفةُ المَوْسوعيّةُ العميقةُ دفعت بفيصل دراج لتأمّلِ حالةِ النقدِ الأدبي العربي المَحكوم بأفكارٍ تعود به إلى الوراء، ويقارنُه بما وجَدَ من حالة النقد المُتألقِ والمُتجدّد في الغرب، فانبهرَ وفكّر بأهميّة خَلْقِ نظرية نقديّة عربية.
دافِعٌ آخر كان، هو ما أبرزه الروائي الدكتور واسيني الأعرج، وهو سَيْطرةُ المصطلحاتِ النقدية والنظريّاتِ الغربيةِ على مُعظم النقاد والمفكرين العرب. هذه الترسانةُ مُصطلحية كما سمّاها لم تُراجَع ولم تُضْبَط، ضيّعت القارئَ كليّا، لدرجة أنْ أصبحَ لكلّ ناقد مصطلحاتٌ تنشأ في الأغلب الأعمّ على الفراغ، أو على فَهم خاطئ للنظريّات النّصيّة التي تُشكل مَرجَعا له.
هناك مَجموعةٌ من المُصطلحات، مُتداوَلةٌ اليوم، ولكنّ أساسَها، فهمٌ خاطئ أو مَحدودٌ في مَرجعها الأوروبي أو الأنجلوساكسوني.
ولا نستغربُ اليوم كما يقول واسيني الأعرج أنْ نجدَ جيلا نَقديّا ضائعا داخلَ أدْغال المُصطلحية، حيث الكثيرُ من الدراسات والأبحاث، يقوم بها الطلابُ، وحتى الأساتذة، تُبنى على مصطلحات مُرْتَبِكةٍ يعتبرونها حقائقَ مُطلقةٍ، تكاد تكونُ مُقَدّسةً، لن تُشيعَ في النهاية إلّا مَعرفةً مُزيّفة وعَطالةً نقديّةً حقيقيّة.
ويقول واسيني الأعرج: كم نحن بحاجة إلى أمثال الناقد الكبير تودوروف، الذي انتقد الرحلةَ النقديّةَ التي تفصلُ النّقدَ عن دَوائره الاجتماعيّة الطبيعيّة، التي كان وراءها هو وجيل أصدقائه البنيويين من الستينات حينما أدخلوا في النّقد الفرنسيّ تجربةَ الشكلانيين الروس. فقد طرح تودوروف في كتابه "الأدب في خطر" قضيّةً شديدةَ الأهميّة في مسألة الأدبيّة التي تُشكّلُ حجرَ الزاوية في أيّة معرفة نقديّة، وشدّد على أهميّة تَحْبيب النّص والقراءةَ لفَهم العالم، والابتعاد عن إرْهاق القارئ بالنّظريّة دون أنْ يكونَ لذلك أثرٌ على النّص. يجبُ تعليم القراءةِ الفعّالةِ التي ترتكزُ على المتعةِ ومَواطنِ جمال النّص، وليس على الآليّاتِ التي لا تهمّ القارئَ إلّا في حدود التّخصّص الضّيّق. علينا تعليم النظريّات لنمنحَ القارئَ الوسائلَ العلمية لقراءة نصّ من النصوص، وحبِّه والتأثّر بجماليّاته. ويجب الحَذَرَ من اعتماد شَكْليةَ النّص، وطريقةَ الكتابة، واللغةَ، على المحتوى الذي يُشكّل جزئيّا، مُبَرّرَ الأدب النّاجح والجيّد. ويحذرُ تودوروف من التّحليل الآليّ للأعمال الروائيّة، وفحصَها كأنّها جثثٌ مَخْبريّة، بالرجوع إلى السيميائيّات والبراغماتيّة وغيرها، بدلَ أنْ نفكّرَ في المَعنى العميق للأعمال الروائيّة.
ويحذّر تودوروف قائلا: لهذا فالخطرُ الكبيرُ ليس في موت الكتاب، أو اندثارِ القراءة، ولكن في خُسْران توصيل متعةِ القراءة والمَعرفةِ الفنيّة، وتَحَوّلِ النّقدِ إلى نظام من الرّموز والشفرات التي تحتاج إلى فكّها، وليس مَسْلكا مهمّا للمَعرفة وفَهم النصوص.
يقول فيصل دراج في حوار له نُشر في جريدة القدس العربي يوم 28 كانون أوّل 2014 "كنتُ مَسْكونا بحُلم وَضْعِ "نظريّة عربية في الرواية" قياسا بنظريّات قائمة شهيرة: حال نظريةِ الرواية عند لوكاتش ثم باختين، ورينيه جيرار. لكنّني وجدتُ أنّ النظريات كلّها مجرّدُ اجتهادات، لامعةٍ في بعض وجوهها، ومُتعسّفةٍ ناقصةٍ في وجوه أخرى. ووجدتُ أيضا أنّه لا وجودَ لنظريّة "عامّة" وأنّ نظريةً في الرواية العربية لا تستقيمُ إلّا بدراسة التّحوّلاتِ الثقافيّة الاجتماعيّةِ التي فَرضَت ظهورَ الروايةِ في فترة مُحَدّدة، إلى أنْ جاءت قضيّةُ "القارئ" ، إذ إنّ تحوّلَ الرواية إلى ظاهرة ثقافيّة اجتماعيّة يقضي بوجود "قارئ مُجتمعي" هو غير موجود عربيّا، الأمرُ الذي فرض الانتقالَ إلى مَسائلَ "غير روائيّة"، تبدأ بالمَناهج المَدرسيّة ومَعايير الإبداع، ولا تنتهي بالسلطة السياسيّةِ، ذلك أنّه لا وجودَ لرواية من دون ديمقراطية، ولا معنى لديمقراطيّة لا تُحَرّضُ على الإبداع وتَحضُّ عليه. ولهذا غادرني الحلمُ القديم، واكتفيتُ بمُتابعة الرواية العربية في إنجازاتها المُتعدّدة."
كما نَعرفُ، فيصل درّاج درس في فرنسا، واطّلع على النظريات الأدبية ودرسَها هناك، وقد اهتم بها. وأصول نظرية الرواية جاءت من هذه الطائفة من الفلاسفة والمفكرين ابتداء من هيجل ومرورا بجورج لوكاتش وميخائيل باختين ووصولا إلى لوسيان غولدمان ورينيه جيرار.
ولكنّ فيصل دراج، كما يقول الدكتور فهمي الجدعان: "اختلف عن النقّاد والمُفكرين العرب الذين اختاروا الامتثالَ والخضوعَ الكسولَ للنظريّات والمَذاهب النقديّة الغربية، ورأى أنّ على الناقد أنْ يستخرجَ مَعاييرَه النقديةَ من داخل النص وأنْ لا يكونَ عبدا للمناهج الغربية لإيمانه بأنّه لا يُمكنُ تأسيسَ نظرية نقديّة عربية إلّا بتمثّل واستلهام الإبداع العربي في فضاءات المَعرفة والنقد والثقافة".
ويقول الناقد محمد عبيد الله: رغم دراسةِ فيصل دراج للنظريات النقديةِ المختلفة وهَضمِه لها خلالَ دراسته في فرنسا، فهو لم يتفاعل مع البنيوية وتَفرّعاتها الشكلانية والتفكيكيّة والسيميائية رغم أنها كانت شديدةَ القُرب منه وذلك بسبب اهتماماتِه الفلسفيّةِ وخلفيّتِه الواقعيةِ التي يصْعُبُ أنْ تَقنعَ بالأدب خالصا من الموضوع، أو بَعيدا عن المعنى والرسالة، فظلّ أقربَ إلى مُنطلقات الماركسية التي تنطلقُ من الالتزام ومن مَفاهيم الصّراع الطبقي، ومنْ أنّ الأدبَ رسالةٌ قبل أنْ يكونَ شكلا فنيّا ولغويّا.
*نصّ الكلمة التي ألقيتها في نادي حيفا الثقافي يوم 6.1.2022 في أمسية تكريم الناقد الدكتور فيصل درّاج.