يسعى الكاتب المغربي إلى التمييز بين أشكال النفاق المختلفة التي تستشري في المجتمع وتعد من أسباب تخلفه. ويميز هنا بين نوعين من النفاق، أحدهما وهو النفاق الاجتماعي الذي يعتبره أقل ضررا، أما الآخر وهو النفاق التقني الذي يتخفى وراء مظاهر من المعرفة أو الرزانة فهو الأشد ضررا.

النفاق التقني والنفاق الاجتماعي

محاولة فهم

حمزة الشافعي

 

يعد "النفاق التقني" أحد فروع النفاق بشكل عام. ويمكن تعريفه بذلك النفاق الذي يلجأ إليه (للضرورة)  أو يمارسه (عن اختيار) فرد أو مجموعة أفراد في سياق مهني معين أو في سياقات مهنية متداخلة. بمعنى، فالنفاق التقني يتطلب وجود سياق مهني كمجال احتضان وتفعيل وانتعاش وتفاعل، إلى جانب وجود أفراد لديهم مستوى ثقافي ومعرفي لا بأس به، إلى جانب تجربة في ذلك المجال المهني. فالنفاق التقني يستدعي من المنافق تقنيا (أو المنافقين تقنيا) تعبئة وتوجيه معارفه(م) وزبدة تجاربه(م) لخداع المجموعة المهنية بكاملها أو جزء منها أو فرد محدد فيها (الرئيس، القائد، الزعيم مثلا) مع تخطيط مسبق وغايات متنوعة، علاوة على خاصية تعايش المجموعة المهنية مع كل أشكال وتجليات النفاق التقني في حالة الانكشاف المبكر والمتأخر، كتقنية أكثر "نفاقا" و "نفاقية" تتقبلها المجموعة ككلية أو القائد كعضو مؤثر ومسؤول، لضمان استمرار سيرها وبلوغ الحد الأدنى من أهدافها، في إطار ما يمكن تسميته ب"النفاق النسقي".

يختلف النفاق التقني عن النفاق الاجتماعي باعتبار الصنف الأول نفاقا '"مدروسا" و"موجها"، ينبع من شخص واعٍ ومثقف أو على قدر من التجربة (أو هما معا)، في سياق مهني بسيط أو مركب/ متداخل، عن طريق التمويه والخداع والاستغباء، وقد تكون الغاية مادية كجني مصلحة ملموسة، أو معنوية كنيل رضا الرئيس المباشر، أو إعجاب أغلب أو بعض أفراد الوسط أو المجموعة المهني(ة). وقد يلجأ البعض إلى النفاق التقني كآلية لدرء الإحراج في وسطه المهني، لأن إبداء الرفض لمسألة مهنية مشتركة مثلا قد تتمخض عنه صراعات ومجابهات، أو قد يؤثر سلبا على صورة الفرد من منظور بقية أفراد المجموعة المهنية، لذلك يضطر "للنفاق" و"المنافقة" و"التنافق" تقنيا، وإن تعارض موقفه العلني المصرح به مع موقفه الخفي المكبوح داخليا.   

في حين، يمكن اعتبار النفاق الاجتماعي نفاقا "منفلتا" و"غير مؤطر"، أي أنه لا يشترط وجود وضعيات مهنية محددة، وإنما سياقات اجتماعية متجددة ومفتوحة (دكان الحي، المقاهي الشعبية، المساجد والمآتم والحفلات الاجتماعية، إلخ). ويمكن ممارسة النفاق الاجتماعي من طرف أي فرد في المجتمع دون قيود أو تخطيط (أي بعفوية وتلقائية)، ودون حيازة شروط ثقافية ومعرفية معينة أو الاحتكام الى التجارب السابقة. وتتجلى تلقائية وعفوية هذا الصنف من النفاق في عدم تعمد المنافق اجتماعيا توظيف استراتيجيات وتكتيكات مفكر فيها ومدروسة مسبقا. كما أن الغاية من النفاق الاجتماعي غالبا ما تكون غير محسوبة النتائج والعواقب، وقلما تحقق مكاسب مادية أو معنوية للمنافق اجتماعيا، بل قد تفرز نفورا أو صراعات وتشنجات مجانية غير محسوبة العواقب عند انكشاف وتعري الوجه الحقيقي للشخص المنافق اجتماعيا.

يلتقي النفاق التقني مع النفاق الاجتماعي في كونها حالة من التناقض حيث يتعارض ويختلف الموقف أو السلوك المعبر عنه صراحة مع الموقف أو السلوك الفعلي المخفي. كما أن هذين الصنفين من النفاق أثناء التعري والانكشاف، قد يعرضان ممارسهما لتهمة ازدواجية الشعور أو الرأي/ الموقف أو السلوك، مما قد يجعله معرضا للنبذ والتبغيض والنفور والمواجهة أو الاجتناب. فإذا كان النفاق التقني يتم عن وعي ومدارسة وتخطيط وتوجيه من طرف فرد أو مجموعة أفراد ذو مستوى معرفي-ثقافي محترم، وفي وسط مهني بسيط أو مركب، قصد نيل مكاسب مادية/ معنوية أو درء احراج/ صراع مجاني، فإن النفاق الاجتماعي قد يمارسه الأفراد بشكل تلقائي مع عدم توقع وتكهن افرازاته الآنية والمستقبلية. كما أن المنافق اجتماعيا قد لا يصل إلى نقطة إدراك كونه منافقا، إلا بعد التعرض لصدمات أو صراعات أو عنف رمزي كالنبذ، كما يصعب عليه الاقلاع عن النفاق لأنه مكتسب لديه على مراحل اجتماعية-نفسية طويلة حتى صار بمثابة إدمان يحتاج لجهد كبير ومواكبة مستمرة لعلاجه، وقبل ذلك قناعة فردية، بأضرار النفاق على المستوى الفردي والجماعي.

في مقابل ذلك، يظل النفاق التقني فعلا واعيا يتم اللجوء إليه في سياقات مهنية محددة وقد يتخلى عنه الفرد الذي يوظفه بانتفاء الوضعية التي أوجبته، مع إمكانية اللجوء إليه مجددا، بوعي وتحكم، كلما برزت شروط المنافقة المهنية. كما لا يحتاج إلى خطة علاجية، عكس النفاق الاجتماعي، وإنما إلى توفير أجواء الثقة المتبادلة التامة داخل المجموعة المهنية وتقديم كافة الضمانات القانونية لعدم تعريض فرد أو أفراد تلك المجموعة للعقوبة أو الإقصاء أو سوء المعاملة كلما أبدى موقفا معارضا أو طرح فكرة مغايرة لتوجه المجموعة وزعيمها. بمعنى، فتخليص المجموعات المهنية من النفاق التقني يقتضي تحرر وتحرير كافة أفراد تلك المجموعات من كافة الهواجس والمخاوف.

الرزانة المصطنعة كشكل من أشكال النفاق التقني:
تدل كلمة الرزانة في اللغة على معاني الوقار والحِلْم والثبات والسكون والثقل والاتزان والتُّؤَدَة والتَأَنّي، إلخ. وهي بذلك، أي الرزانة، صفة جميلة وخلق كريم إذا اتصف بها الإنسان، ذكرا كان أم أنثى. غير أن ما يفقد الرزانة جاذبيتها هي عندما يتخذها الفرد، في الاجتماعات والمجالس مثلا، كوسيلة فقط وكصفة ينتفي فيها الصدق والأصالة، في إطار "تبني غير مشروع" لصفة عظيمة، لإعطاء صورة خادعة للجمهور/ الحضور، حيث تكون حاجبة للحقيقية الفعلية الداخلية/ الدفينة للفرد. ويعد اتخاذ الرزانة وسيلة وتقنية لنيل ألقاب فرعية كالاتزان والرجاحة والأناة والحصافة والفهم والزماتة والأبهة في الاجتماعات المهنية والمجالس المختلفة أثناء النقاشات والتعبير عن الآراء وتبادل وجهات النظر، دون أصالة ذلك وتطابقه فعليا مع المخفي/ المكبوح داخليا من المشاعر والمواقف والآراء، ضربا من ضروب التصنع والتكلف والمراوغة، الذي لا يخرج عن دائرة "النفاق التقني.

في هذا الصدد، يمكن إذن الحديث عن "رزانة مصطنعة/ مفبركة" لا تعكس فعلا حقيقة ما يبطنه الفرد من مواقف وأراء ومشاعر، حيث يقوم بتسويق وإظهار صورة مغايرة تماما لواقعه النفسي/ المهني/ المادي/ الاجتماعي، وحتى الإيديولوجي. والغرض من الانسلاخ عن هويته الحقيقية وواقعه الفعلي المعاش، بكل الأبعاد السالفة الذكر، هو الرغبة في الظهور أمام المجتمعين/ الحضور بمظهر الإنسان المثقف، الواعي، المتزن، الراشد، الناضج. بيد أنه بمجرد التحرر من الحدود الزمنية والمكانية (إدارة، قاعة اجتماعات) والعلائقية (رئيس-مرؤوس) التي يفرضها سياق مهني معين (اجتماع أو مجلس أو لقاء رسمي)، فسرعان ما ينتفض الفرد الذي كان يرتدي رداء ناصعا بالرزانة والاتزان والأدب والروية والرشد، ويعلن تمرده على ما قيل في اللقاءات والاجتماعات، معاكسا كل مخرجاته ومنتقدا نتائجه ومشمئزا من مُسيّر ورئيس الاجتماع/ اللقاء ومن أعضاء التيار الموالي لهما ... إنها فعلا تجلي من تجليات "الرزانة المصطنعة" التي لا تخرج عن نطاق "النفاق التقني".

وللتوضيح أكثر، فالفرد الرزين أو المترزن "رزانة اصطناعية/ مفبركة"، قبل اجتماع/ لقاء رسمي، تجده يصرخ ويثور ويحذر ويعارض و"يردكل" (من الراديكالية/ الجذرية) أمام زملائه، كما يظهر بمظهر المقاوم الممانع الصامد الصلب الناقد الذكي الفيلسوف وحتى الفوضوي، وبصوت جهوري "أسدي". لكن وأثناء أطوار الاجتماعات والمجالس الرسمية ذات الطابع الهرمي hierarchical، يصير الصراخ والمواقف الجذرية وصخب ما قبل الاجتماع أدبا ملفتا، ورزانة عجيبة، ولباقة متميزة، ونضجا ظاهرا، وصوتا رقيقا شبيها بالثؤاج والمأمأة، وخفضا ورفعا متوازنين للرأس عند كل كلمة تقال من طرف المتحدثين، وابتسامة جذابة ومتكررة، ومشاركة بآراء ومقترحات تعزز وتدعم ما يقوله مترأس الاجتماع  بأبدع الأساليب وألطف العبارات، وتصفيقا من غير حاجة لأتفه المخرجات. وما إن ينتهي الاجتماع، وينصرف الجميع من القاعة، حتى يعم الصخب والضجيج والنقد والمقاومة والرفض لما قيل ونوقش وتقرر. في كشف رهيب للتناقضات الداخلية وازدواجية المشاعر والمواقف والسلوك. ببساطة، إنها "الرزانة المصطنعة" التي تشكل شكلا من أشكال "النفاق التقني" المتفشي في الأوساط والسياقات المهنية.

ولئن كانت "الرزانة المصطنعة/ المفبركة" صفة مذمومة لا تليق بالفرد المثقف في كل السياقات والوضعيات، فإن ذلك لا يعني أن كل أشكال الطيش والتسرع والخرق والرعونة والنزق والوقاحة والخفة والتهور والخلاعة مقبولة في الاجتماعات واللقاءات الرسمية وغير الرسمية. ويظل المطلوب والأجدر هو الحفاظ على التناسق بين الأفكار المضمرة قبل وبعد الاجتماعات/ المجالس، وأثناء انعقادها، لتحقيق الانسجام والتناسق والأصالة والتطابق في موقف وشعور وسلوك الفرد. بمعنى، فالمنهج الإيجابي والسوي للفرد، والمثري للنقاشات الجماعية، ليس "الرزانة المصطنعة/ المفبركة"، وإنما "الجرأة" في التعبير عن المواقف، والشجاعة في الإفصاح عن المشاعر، لكن بكل أدب واحترام وتسامح ونبذ للعنف اللفظي والرمزي والسلوكي. بمعنى، فالمقابل/البديل الشرعي والمنطقي للرزانة المصطنعة ليس كل أشكال الوقاحة والطيش والخفة، وإنما الجرأة والشجاعة في التعبير عن المواقف والآراء، وإن كانت مخالفة للتوجه العام، لكن "بكل رزانة ووقار".

 

تنغير/ المغرب