تقدم الباحثة الجزائرية دراسة سوسيو ثقافية لرواية الكاتب العراقي وارد بدر السالم، التي تتعامل مع أثر الحرب الدامي على جسد المرأة العراقية، وربما على جسد العراق نفسه، وقد اخترقته الشظايا، واستباحته عيون الغرباء. ففقد قدسيته ومِنعته، وبدد مع هذا الفقدان الكثير من استقراره وتقاليده الإنسانية الراسخة.

دراسة ثقافيّة

الحرب وتقويض نسق الحياء الأنثوي

في رواية «شظية في مكان حساس» لوارد بدر السالم

طانـية حطاب

 

بدءا لا بد من التأكيد أنّ الدراسات الثقافيّة مصطلحٌ حديثٌ يشيرُ إلى مقاربات متداخلة (Interdisciplinary) تبغي فهم النصوص، والظواهر الثقافيّة المعاصرة التي تعنى أساسا بالصلات المتبادلة بين إنشاءات إنسانيّة متنوّعة تسعى إلى تحليل الشروط التي تؤثّر في إنتاج أنماط المؤسّسات، والممارسات، والمنتجات الثقافيّة، واستقبالها، وأهميّتها بهدف تحديد الأداء الوظيفي للقوى الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والثقافيّة، والسياسيّة، وبنى السلطة التي تنتج الأشكال المتنوّعة للظواهر الثقافية([1]). وقد ظهرت ممارساتها  حين عَبَرَت الحدود الفاصلة بين العلوم المختلفة والفنون بهدف اللجوء إلى التكامل المعرفي الأكثر جذريّة([2])، فهي دراسات حديثة تعتمد تحليلا يلتزم ثلاثة معان؛ الأول: أنّها دراسات ليست حياديّة بمعنى أنّها ملتزمة بسياسة نقديّة معروفة، والثاني: أنّها تهدف إلى تعزيز التجارب الثقافيّة والاحتفاء بها من خلال تحليل الصيغ الثقافيّة ودعاماتها الاجتماعيّة. أمّا الثالث فيتلخّص في أنّها تهدف إلى التعامل مع الثقافة بوصفها جزءا من الحياة([3])، وتنفتح (الدراسات الثقافيّة) على عدد غير قليل من مجالات القراءة الخاصة في الأيديولوجيّات، والعنف، والهوية، والجنون، والأعراق ، والجنس والجنوسة/ الجندر([4])، والجسد وسلطة الذكورة، والأنا والآخر، وصراع الهويات، وثقافة العنف([5])، وهو ما وجدت في الرواية قيد البحث.

إنّ شغف الإنسان بالسيطرة ، وحبّه للقوة جعلاه وعلى مرّ العصور والأزمان يتوسّل بالحرب آلة للدمار والخراب والحكم، متناسيا تداعياتها السلبية على ما دونه من البشر والمخلوقات، مكتفيا بما تحققه له من غلبة وانتصار على أعدائه ومنافسيه. والحرب أبدا لم ولن تكون في صالح الإنسانية، لما تلحقه وتسببه من خوف ورعب في قلوب الناس، وشتات أسرهم، وفقد أحبابهم. وغير خاف، أنّ قضية الحرب وتأثيرها على الإنسان قضية قد استدعت الكثير من الدرس والبحث من النقاد والكتاب والمبدعين عامة كونهم أكثر البشر حساسية لها وأشدهم نبذا لها، فهم لا يجدون فيها إلاّ دمارا عاما وخرابا مطلقا، مهما حاول الإنسان إصلاحه فهو عبث لا محالة.

لطالما كان للحرب صلة وثيقة بالفن، وتمتد هذه الصلة منذ العهود القديمة للبشر حين كان الإنسان البدائي يصور تفاصيل صراعاته مع الطبيعة على الحجارة وجدران الكهوف والمغارات القديمة. وفي وقت لاحق جسّدت الإلياذة والأوديسا لهوميروس حروب اليونان ومعاركهم الشهيرة كمعركة طروادة، لتخلّد انتصاراتهم وتبجّل أبطالهم. وظلّت الحروب تؤجج جذوة الفن والأدب وخُلق فن وأدب مناهضان للحرب جاءا نتيجة حتمية لكل الكوارث والخسائر البشرية التي خلفتها الحروب والصراعات الدولية. وكان للرواية الحظ الأوفر في طرح قضايا الحرب وتأثيرها على الإنسان، إن كان ذلك على المستوى العالمي أو القومي العربي.

وقد عمد الروائيون العرب إلى كتابة رواية الحرب ليواجهوا بها تفتت أوطانهم وتشتت شعوبهم، وكذا النزاعات الطائفية والدينية الطاحنة رفضا منهم للحرب بكل أشكالها وأسبابها، وظهر فريق آخر منهم أكثر جرأة وتمرّدا على القرارات السياسية والدينية التي ترفض نقل حقائق الحروب وحقيقة الجرائم الدولية في حق الإنسانية، ليكتبوا المسكوت عنه والهامشي أو المهمّش، ويلامسوا بنصوصهم الجرح الإنساني والألم الأبدي، ويكشفوا تسلّط النظم وهشاشة المجتمعات أمام آلة الحرب. يأتي تمرّدهم هذا إيمانا منهم بوظيفة فنّهم الروائي والفن عموما، إذ " نجد أن الوظيفة الدائمة للفن هي أن يخلق لكل فرد وكتجربة خاصة به، تلك الأشياء غير المتوفرة فيه، والتي تمكّنه من احتواء الإنسانية بأسرها. ويتمثّل سحر الفن في أنه يبيّن- من خلال عملية إعادة الخلق هذه- أنّ الواقع يمكن أن يتحوّل ويتبدّل، وأن يخضع لسيطرة الإنسان."([6] )

رواية الحرب نسق فني لن ينتهي أو يتوقف ما دام الإنسان في صراع دائم مع الآخر، يعتدي ويظلم ويقتل من أجل السيطرة والغلبة. إنه إنسان محكوم بشهوة الدم والهيمنة حتى الرمق الأخير. والرواية إذ ذاك وبما أنها أكثر الأجناس الأدبية تلقيا وانتشارا، فهي محكومة أيضا بأن تحمل الإنسان وتعبر به إلى الطرف الآخر حتى يتجاوز هذا الطوفان. وهنا نستحضر مقولة أنطونيو نيغري الشهيرة: "لا حاجة لنا للبكاء على كل الكوارث التي وقعت للإنسانية الحالية تحت راية الحداثة. فكل ما وقع هو الحقيقة عينها. أمّا المطلوب منّا فهو تحديدا أن نحيا هذا الواقع الميّت. هذا العبور المجنون. إننا مطالبون بالرقص على هذا الركح الجديد من " ما بعد الطوفان" من "ما بعد الحياة" من" ما بعد الإنساني" أي " ما بعد الحداثة". لقد اكتملت حريتنا لأنها صارت في حجم تعاستنا، لذلك صار الخيال لدينا قادرا على مواجهة الفراغ الذي يهدّد العالم بالسقوط فيه."([7])

الرواية اليوم مطالبة لا بتصوير الواقع وكل ما فيه من خراب بطريقة تقريرية، بل بملامسة الوجع الإنساني في العمق، والكشف عن تصدعات الذاكرة وهشاشة المجتمع، وزرع الأمل في أعماق الإنسان بمستقبل أفضل، وواقع أجمل يصلح للحياة. هي ملزمة بمصالحة الإنسان مع نفسه وماضيه وقدره، وإعطائه طاقة إيجابية للتغلب على كل هذا القدر من الألم والسواد.

تأتي رواية (شظية في مكان حساس- انفجار آخر مفخخة في بغداد) لكاتبها وارد بدر السالم ردا على أصحاب العقول المنغلقة والفِكَر المتطرفة الذين يقتلون الناس الأبرياء جزافا دون رحمة. تجار الدم والدين. هي نص متمرد على الحرب، يأتي كاشفا عن تداعياتها الخطيرة ولكن من منظار آخر مخالف تماما لكل ما كتب قبله من روايات حول الحرب. رواية يمكن الاصطلاح عليها برواية "ما بعد الحرب".

تمرّد الكاتب في النص واضح بداية من العنوان "شظية في مكان حسّاس"، عنوان له الكثير من إيحاءات الجنسية التي تنبئ بمتن النص حيث يتوهم القارئ أنها رواية جنسية جريئة، ولكن يفاجئنا الكاتب بعنوان فرعي "انفجار آخر مفخخة في بغداد" ليحطم أفق توقعاتنا ويحصر الموضوع في الحرب ضد العراق، فيحدد بذلك الإطار الزماني والمكاني للأحداث، ويتناول تفصيلا صغيرا جدا حجم الشظية ليجعله محور عمله الروائي وبؤرته الرئيسية. فتتحول الرواية إذ ذاك من رواية جنسية بورنوغرافية إلى رواية ما بعد الجنس. نص يغري بالقراءة والغوص في متنه من عتبه الأولى. بطل الرواية شظية تخترق أمن وسلام أسرة بغدادية جميلة تتكوّن من الزوج (وهو الراوي) والزوجة "نور" وابنتيهما، الكبرى "لبنى" طالبة جامعية، والصغرى "ميس" رضيعة لم تتجاوز العام. وقد استطاع وارد بدر السالم أن يلوّن روايته بمزيج عجيب غريب من العطر والحب والمعاناة والرقص والشهوة والجمال والألم.

دمار الأنثى/ دمار الحياة:
كيف لا يمكن لنور أن تتدمّر وهي ضحية هذه الحرب التي أصابت العراق وشتتت العراقيين؟ كانت زوجة رائعة وأمّا حنونة، كل همها إرضاء زوجها وحب ابنتيها، ولكن تتغيّر حياتها إلى جحيم حين تخترق شظية صغيرة بحجم الدبوس جسدها الطاهر لتدمر حياتها وزواجها وأمومتها، وتحوّلها إلى شتات أنثى." كانت شظية صغيرة جدا لا تقتل حتى عصفورا هي ما يشغلني الآن، وقد غطّت على أحداث العالم بشكل صريح."([8]) يقول زوج نور، "وربما كانت تلك آخر سيارة مفخخة في بغداد اقتصّت من زوجتي، وبعدها لم نسمع أخبارا عن انفجار مفخخة لا سيما بعد الأمن الذي استتبّ في العاصمة على نحو واضح."([9])

وكأنّ القدر كان يقتصّ من سعادة نور وأسرتها حين تمكّن الأطباء وعلى مدى ستة أشهر من إزالة كل الشظايا الحديدية والزجاجية والخشبية التي شوّهت جسدها إلاّ شظية واحدة صغيرة جدا وناعمة ظلّت عالقة في مكانها الحساس، وظنوا جميعا أنها ستزول مع الوقت. فتتألّم نور ألما لا يوصف ولا يحتمل، ويتألم زوجها لأنه عاجز أمام هذه المعاناة. "وأصابع تضغط على روحي -يقول الزوج- لمّا أتخيلها ترقص في غرفتها وحيدة لتنتزع حشرة الحديد الناعمة لاهثة، دائخة الرأس، متكسّرة الروح، وهي تصارع الشظية المتحركة في مكانها الحساس لعلها تنزلق فجأة وينتهي الألم الغريب الذي اجتاحها منذ ستة أشهر."([10])

هي الحرب من فعل هذا بنور، هي الحرب التي جعلت ابنتها لبنى تتحوّل من طالبة جامعية إلى أمّ في سن مبكرة لأختها ميس. هي الحرب التي جعلت الزوج يعاني ويتألم وكأن الشظية بداخله هو، لأنّ زوجته انهارت من شدة الوجع. هي الحرب التي جعلت نور تتوسل بالرقص طريقة لتخفيف ألم الشظية، كلما تحركت من مكانها فهيّجتها وأثارتها إلى حد لا يحتمل. فحين ترقص نور تتحوّل إلى طاقة رقص، وتتحرّر من الألم. فالحرب ترمز للألم والأسر، والرقص يرمز للمتعة والحرية، وقد اجتمع الضدان اللذان لا يلتقيان عند نور حين حوّلت الرقص من حركات جسدية إلى لغة جسدية توصل ما بها من دمار جسدي وشتات نفسي. الرقص الذي منحها انفتاحا عظيما، وجعلها تتحرّر من آلام جسدها، لتنطلق روحها في الفضاء شفافة نقية. "نور تعيد الحياة إلى زمن الرقص السعيد في غرفتها وقتا طويلا لكي تتخلص من الألم والشبق والمعاناة الغريبة التي لم تحدث لامرأة غيرها."([11]) وهنا يتساءل الزوج "الرقص فرح الجسد أم ألمه؟"([12])

لا أحد على الإطلاق يمكنه تصوّر كيف واجهت نور الحرب وتداعياتها على روحها وجسدها، فالحروب مآس عظيمة وما تخلفه من دمار معروف منذ القدم، خسائر بشرية وخسائر مادية وخسائر حضارية. ولكن ماذا عن خسائر الأنثى إثر الحرب؟ يورد وارد بدر السالم مقاطع مؤلمة جدا تصوّر دمار نور الذي يعني بصورة أخرى دمار الحياة. حتى اختياره لاسم نور لم يكن عبثا، بل هي نور بكل ما فيها من نقاء وبراءة وجمال، ولكن الحرب أطفأت هذا النور بداخلها. وأخمدت جذوة الحياة بها. شظية واحدة كانت كافية لدمار نور ودمار الأسرة ودمار الحياة بأكملها. وكم أجده ذكيا هذا الكاتب حين لم يدن الحرب بشكل خطابي، بل التفت لتفصيل صغير جدا أحدثته هذه الحرب، لم يعره غيره أي اهتمام حين جعل الشظية تخترق جسد نور وتستوطن مكانها الحساس، وصوّر أثر ذلك الخراب على المرأة والأسرة والإنسانية ككل.

الحرب ونسق الشهوة المتأججة:
"الشظية المتبقية هي الحرب بالنسبة لها."([13]) هكذا يصف زوج نور معاناة زوجته التي تحوّلت بفعل الشظية إلى امرأة أخرى لم يعرفها من قبل. امرأة ترقص طول الوقت أو تمارس الجنس طول الوقت." كأنني وجدت جسدا لم أفهمه طوال عشرين سنة من الزواج والحب، وعثرت على رائحة نسيتها عبر تكرار الوسادة والليل والشهوة الطبيعية التي تجمعنا سابقا."([14]) هكذا قال زوج نور ولكن الوضع تغيّر ولم تعد شهوتها طبيعية مثلما كانت طيلة العشرين عاما الماضية. بل صارت أقوى وأقوى وكلما جامعها زادت شهوتها، فبعدما "تمكّنتْ من أن تثق بجسدها، تنهض، وتمشي، وتستحم، وتمارس الحياة الطبيعية في البيت-يقول الزوج- غير أن انفراج ساقيها هو ما ظلّ يلفت نظري بعد زوال المحنة، كما لو أنها تخفي شيئا بين فخذيها. وكنت أعرف ذلك المخفي الطائش الدقيق الذي حوّل نور إلى امرأة ثانية كما لو أنها تحمل الحرب كلها في لحمة غير مرئية بحجم رأس الإصبع الصغير."([15])

هي الحرب من دمر حياة نور، والشظية من دمرت حياة زوجها، وكأنها لم تجد مكانا تستقر به إلاّ بظرها. أكثر الأمكنة حساسية وسترا في المرأة. كلّما تحركت الشظية كلّما انثارت نور وأصبحت أكثر شهوانية. هي تريد الجنس للتخلص من الألم، من الحكة، من الرغبة، وزوجها لم يعد قادرا على تلبية رغباتها التي لا تتوقف. يقول: "فاجأتني تلك الرغبة الحميمية الثانية. لم أتوقع أن تكون بهذه الجرأة وبهذا الوقت القصير، وبرغبة تكاد توازي الرغبة الأولى في السخونة واللهفة، فخطفني شعور سريع من أنها لا تعي حالتها الآن (...) وكنت في حالة مرتبكة غير قادر على أن أكون غيرها في وقت قصير. أحتاج معه إلى وقت مضاف يماثله في أقل تقدير، إذ يصعب انتصابي وتهيئة عقلي وجسدي معا لأكون في لحظة حميمية مشتركة ثانية."([16])

ولكن نور ظلّت تطلب المزيد من زوجها. المزيد من الجنس، فتحوّلت إلى كائن شبقي لا يشبع ولا يرتوي من الجماع. وأخذ زوجها ينهار وهو يلهث وراء المقويات والمنشطات الجنسية التي كان يسمع عنها دون أن يجربها يوما. وهو الآن يبحث عن أحسنها وأسرعها بلهفة، ولكن دون جدوى. لم تزد المنشطات إلاّ ضعفا وعجزا أما شهوة نور الشبقية. يقول: "كنت أفقد الكثير من شخصيتي أمامها، فيعتورني الخجل حينما أجد نفسي غير قادر على الانتصاب مع هذا الإلحاح المميت، وكنت أتضاءل حينما أجد نور تلجأ إلى ممارسة الإثارة الذاتية، وتصرخ حينما تجدني غير منتصب بما يكفي لإروائها في الفراش، حتى ظننت بأنها ليست زوجتي الهادئة والخجولة. من هذه التفاصيل الجسدية السرية التي قضيت معها سنوات طويلة على سرير واحد. لم أتصوّر ولا مرة واحدة أنها تمارس العادة السرية وأسفلها مبلل دائما بشكل بدت فيه هذه اللزوجة مقرفة إلى حد أوجعت فيه روحي."([17])

ففي حين يشتكي جميع الرجال من برودة زوجاتهم جنسيا بعد سن الأربعين، أصبح زوج نور يشتكي من سخونتها الدائمة وشهوتها اللامتناهية وكأنها فوهة بركان لا يمكن سدّها. ولأنّ زوجها لم يعد قادرا على إشباعها جنسيا أصبحت نور تمارس العادة السرية خلسة في غرفتها حتى تتخلص من الحكة الشديدة التي تسببها لها الشظية. وحتى هذا الأمر لم يجد معها نفعا، فلجأت إلى الكلب وصارت تداعبه في الحمام وتمارس الجنس معه، وهو ما أثار خوف ابنتها لبنى حين لاحظت اضطراب أمها وسلوكها الجنسي الشاذ. قالت لبنى لأبيها:

"أحيانا تذهب إلى الحديقة وتراقص الكلب.. وتلاعبه فترة طويلة.. حتى. سكتت وكمّشت أصابعها بقوة: حتى أنّ مرتين أدخلته معها إلى الحمام. وسارعت للتوضيح: قالت إنها تحمّمه.. الجوّ لا يطاق.. وقالت إنّ الكلاب أرواح."([18])

حينها أدرك الزوج الشذوذ الجنسي المخيف الذي يعتري نور، وأنها مستعدة لفعل أي شيء في سبيل الخلاص من الشظية، والحد من الألم والوجع. ووعى المشكلة الحقيقية، ولامس عجزه التام أمامها. يقول: "لست قادرا على تلبية رغبتك على مدار اليوم. لست آلة. وجسدك أيضا سيمرض بهذه الطريقة الملحة. سنعالج أمر الشظية من جديد، ولو أنها في مكان حساس جراحيا."([19])  ثمّ يتذمر ويقنط من حياته الزوجية التي تحوّلت بفعل الحرب والشظية إلى جحيم قائلا: "فالأمر خرج عن لياقته كثيرا كما أحسب، وتحوّلت حياتنا الشخصية إلى قضيب وفرج ولهاث وعرق وتعب وظلام وملل وتكرار وشظية وخيط دم باهت."([20])

هي الحرب تفعل ما تشاء بالإنسان، ولكن قدر الزوجين كان شظية في المكان الحساس حوّلت حياتهما إلى جحيم حقيقي، لا الألم زال، ولا الشهوة قلّت، ولا الجسد ارتاح، ولا الروح هدأت. لعنة جعلت الرجل يتحوّل من زوج إلى ممارس جنس لا أكثر.

الحرب ونسق الحياء الأنثوي:
هل يمكن أن نحافظ على حيائنا ونحن نواجه الحرب؟ سؤال لم يكن ليخطر يوما ببال نور ولا ببال زوجها. ولكن الحرب تجردنا من كل شيء حتى من الحياء."كان جسدها اجتماعيا ومقدّسا لأنه جسد سريّ- يقول الزوج-. والمرأة أكثر من الرجل تحافظ على هذا السّر، لكنه تبعثر في الانفجار وانسلخ عنه الحياء قسرا في الفحوصات والمعالجات والإسعافات والأدوية والخياطة والترميم والترقيع. فأزالوا عنه الحشمة كثيرا أو قليلا، ففقد استقلاليته ليموت مؤقتا. لهذا تناضل المدام ليبقى جسدها حيّا، مهما كان الثمن لأنها امرأة تعي حالتها بطريقتها الاجتماعية، لكنها لا تعي فداحة الأضرار التي تسبّب بها جسدها المشاع، وهذه نصف المشكلة يا أخي."([21])

فقدسية الجسد تتأتى من سريّته، ويفقدها لما يصبح مُشاعا بين الناس. الرجل – خاصة الشرقي – الذي ورث ثقافة أسلافه البطريركيين لا يريد جسدا مشاعا أو مستهلكا من قبل، حتى لو كان ذلك من قبل الأطباء والممرضين. وكأنّ سرّ تعلق الرجل بالمرأة هو اكتناز جسدها بالأسرار والخبايا. الحشمة والحياء جزء من تكوين الجسد الأنثوي وهويته، ومتى ما فقدتهما المرأة فقدت شغف الرجل وتعلقه بها. ولهذا، لو رجعنا لما هو مخبوء في ثقافة المجتمع الشرقي/ العربي منذ عهود طويلة لوجدنا أنّ العذرية تمثل جزءا كبيرا من السّر الخفي الذي يلهث لكشفه الرجل الشرقي. أما الأرملة أو المطلقة فجسدهما قد استهلك من قبل، وفقد الكثير من قدسيته، ولذا فهو جسد مباح للجميع في التصوّر الذكوري، حتى لو كانت المرأة حرّة أبية لا تقبل إلاّ بذكر من كان زوجا لها.

لقد ظلّت نور بعد الانفجار تعالج طويلا لترمم جسدها من الحروق وحفر الشظايا الكثيرة، وهو ما لم يجد له الزوج مفرا. يقول: "وقتها كانت نور تعرض جسدها على الأطباء في سابقة عري غير معهودة أو مقبولة، حتى كنت أفكر بأن هذه الزوجة الخجولة – حتى مني – كيف استوعبت كل فضيحة العري مع عيون الأطباء والجراحين حينما استخرجوا شظايا كثيرة من جسدها وفتيت حصى وألواح زجاج صغيرة ورؤوس معادن وأخشاب متنافرة، حتى من ثديها وسرّتها ومؤخرتها. إلاّ هذه الشظية الصغيرة الناعمة التي نبتت في مكانها الحساس."([22]) فزوجها لم يقبل أن تعرض نور جسدها أمام الأطباء والجراحين حتى وإن كان يعلم يقينا أنه رغما عنها، لأنها تتألم وعلى الرغم من عشقه لها، إلاّ أنّ تربيته الذكورية الشرقية كانت أقوى منه. "كنت أحب حياءها القروي – يول زوجها – وأزداد عشقا لجمال فطرتها وقوة المعاشرة معها. لم تدعني يوما أرى جسدها كله. حياء مبالغ فيه ولا معنى له في اللحظات الحميمة التي كانت تجمعنا دائما.

-نور أنا زوجك.

-ولو."([23])

فعلى الرغم من عشقه الكبير لها ووفائه إلاّ أنّ الأنساق الثقافية الذكورية المترسخة في عقله الباطن هي التي ظلّت تتحكّم به وبتصرفاته. ولم يستطع أن يتقبل فكرة عري جسد زوجته نور أمام الأطباء بغرض المعالجة والتخلص من الألم، وكأنّ جسد زوجته فقد كل قدسيته في نظره، وفقد جماله وسرّ طهارته. يقول: "أعتقد تماما أنّ جسد نور خرج من قرويته المحصّنة والمقدّسة إلى الملأ، حينما تناوبت عليه أيدي وعيون الجراحين والمضمدين في أكثر المناطق سرية وعفة وخجلا، وانتهكت أخلاقه السرية، لأنني ببساطة أعرف أن الجسد هو الأخلاق. وهذه نشأة طبيعية لا أفلسفها بقدر ما أنتمي إليها بغريزة اجتماعية، لا يمكن أن أتجاوزها. ولعل نور كامرأة أكثر مني تحفظا وتشبثا بهذه القيمة وهذه الهوية الشخصية. لكن تبدّد كل شيء وانفسح الجسد كالمياه الفائضة."([24])

هو اعتراف صريح من زوج تؤرقه أفكاره الشرقية وكل تلك الأنساق الذكورية المضمرة التي تجرّعها في صغره حين لقنه أبوه وأجداده أنّ المرأة هي جسد، والجسد الأنثوي رهين القيد والأسر، لا يمكن له أن يشاع ولا يستهلك، وأنه كرجل ينبغي أن يكون الفارس الأول الذي يخترق عذرية ذلك الجسد. ثقافة تربى عليها زوج نور ولم يستطع تجاوزها ولا التحرّر من أنساقها المضمرة. إرث ثقافي كبير أثقل فكر الزوج وجعله بين خيارين أحلاهما مرّ: إمّا أن يخضع لأنساق تربيته الشرقية ويتخلّى عن نور، وإمّا أن يتمسّك بنور ويؤازرها في محنتها ويتحرّر من أفكاره. فيصوّره الكاتب قلقا مرتبكا يحاول إيجاد الأعذار لزوجته رغم عدم تقبله الوضع." كنت أقول لنفسي ربما الحرب أظهرت عريها أمام الناس ورأوه ولمسوه في غفلة الجروح الكثيرة التي انتشرت في جسدها، وبالتالي فصلت عنها روح الخجل الفطري الذي كانت تحافظ عليه. لعل هذا ما حدث. فالحرب عارية لا شرف لها في الأحوال كلها."([25])

فعري الجسد الأنثوي وسقوط الحياء الفطري عنه هو معادل ثقافي للحرب وتداعياتها الكثيرة على المرأة والإنسانية ككل. وكم نجد وارد بدر السالم حذقا ومبدعا حين طرح القضية من الداخل، فالتفت إلى تفصيل صغير جدا كالشظية وصوّر حجم المعاناة والدمار الذين لحقا بنور وزوجها وابنتيها. وممّا زاد الطرح عمقا وواقعية أنّ الكاتب جعل يصور ذلك من داخل عيادة الطبيبة تمارا، الطبيبة النفسية التي لجأ إليها الزوجان بعد يأسهما من كل الطرق العلاجية والجنسية الطبيعية والشاذة التي جرّباها. فرأى الزوج إفرازات الحرب على غير زوجته. يقول: "بقيت أنظر مرتبكا وأنا أرى الأشياء هنا تجري بعكسها تماما، فالحرب تصنع مساحة كبيرة للضحك وبلا حدود حدود، كما الجنس بلا حدود، مثلما الأطفال يشخرون كالعجائز بلا حدود، وتلك هي المفارقة التي تدهشني مثلما تخيفني، وتفتح الأسئلة الصعبة التي لا أجيد إجاباتها. سوى أنني أعاني مع زوجتي من شظية ناعمة تسبب الهيجان والفورات الجنسية التي لا تنتهي، حتى بدت لي العيادة كأنها إفرازات الحرب المختلفة تلك التي لا نراها بارزة ولا نتلمس وضوحها كما الآن، فأيقنت بشكل مبدئي أنّ الحقائق هي في عيادات الأطباء وليست في قاعات المحاكم."([26])

وكأنه كان لابدّ للزوج من الذهاب مع زوجته إلى عيادة الطبيبة النفسية تمارا لكي يقتنع ولو بشكل مبدئي أنّ الحرب أقوى من إرثه الثقافي، وأن ألم زوجته ووجعها النفسي أشدّ من وفائه لتربيته الذكورية، فقد وجد عينات من ضحايا الحرب. زوجته وما تعانيه من الشظية، الشابة التي تضحك كلما خافت أو فزعت بشكل هستيري، الطفل الذي يشخر كعجوز نتيجة انفجار صاروخ أمريكي قرب بيتهم. وغيرهم كثير من الضحايا. كان موقفا دراميا حادا لابدّ أن يعيشه زوج نور لتلخّص له الطبيبة تمارا معنى الحرب نفسيا فتقول: "هذه هي الحرب. تعرينا حينما لا نكون مستعدين للعري، وتنزع الخجل منّا لنكشف عن بعض ما لا يجب أن ينكشف فينا، فتجعلنا نرى في الجمال قبحا كثيرا."([27])

كانت نور امرأة جميلة جدا، وكان خجلها القروي يزيدها جمالا، ولكن الحرب استباحت جسدها وملأته حفرا وشظايا، وأسقطت خجلها الذي كان يستر جسدها، بعد أن مرّت عليه أصابع وعيون الأطباء والممرضين. وكيف لرجل شرقي أن يتقبل كل هذا ويتحرّر من قيود ثقافته الذكورية التي جعلت من المرأة جسدا مليئا بالغواية والشهوة ولا ينبغي له أن يظلّ حرّا أبدا، بل هو رهين ما يريده الرجل ويقرّره. رغم الألم والأنين والصراخ، ورغم الحب والوفاء، لم يكن زوج نور قادرا على تحمّل نظرات الأطباء إلى جسد زوجته، ولم تكن نور بدورها قادرة على الإفصاح عن سبب ألمها وعذابها، ولا البوح بمكان الشظية التي استوطنت بظرها. ولئن كان وارد بدر السالم قد أبدع حين طرح مشكلة نور في إشاعة خبر إصابتها بالمنطقة الحساسة، وتصوير جرحها الاجتماعي من ذلك، وهي مشكلة سوسيوثقافية عويصة جدا، فإنه لم يدن الحرب التي كانت سببا في عذاب نور وأسرتها بشكل مباشر وخطابي، بل جعلنا كقراء ندينها بملء فينا لأنه جعلنا نلمس الدمار الذي طال نور كما يمكن له أن يطال أي امرأة في العالم، ونعيش صرخاتها المكبوتة كلما تحركت الشظية داخلها فأثارتها وحوّلتها إلى امرأة شهوانية حدّ الشبق أو أكثر، وحين كانت نور ترقص ساعات وساعات حتى يغمى عليها تعبا في سبيل أن تتخلص من الوجع وتنسى أمر الشظية ولو للحظات. مأساة اجتماعية كبيرة جدا خلفتها الحرب، ومأساة ثقافية عميقة جدا خلفتها الأنساق الذكورية المضمرة المتحكمة في المجتمع. فالمجتمع يقبل عذاب المرأة ووجعها، ولكنه لا يقبل أن تكشف جسدها للمعالجة ولا يقبل أن تبوح بحقيقة مرضها إن كان في مناطق حساسة.

وتنتهي رحلة العذاب بختان نور، فجاء الختان ليكون طقسا آخر من طقوس العنف ضد المرأة، وحدّا من حريتها الجنسية، وكبتا لرغبتها في الحياة في مجتمع لا يرضى بخدش الحياء، ولكنه يرضى بالألم. نهاية غير موفقة لأنها تلجم أفق المتلقي بنمطيتها، ولا تمنحه فرصة التأويل والاجتهاد. فلو كانت النهاية مفتوحة لجعلت المتلقي يتخيّل رؤى لحلول مفترضة متعددة الاحتمالات والتصورات والأفكار، ولأصبح مشاركا للمؤلف في البحث عن حيرة الحل ولاسيما أنّ الختان غير شائع في العراق مثلما هو في مصر أو بعض الدول الإفريقية، وربما لو كانت النهاية انتحار الشخصية مثلا لكانت أكثر مأساوية لامرأة تربّت على الحياء والتربية المحافظة. فالنهاية المفتوحة نراها هي الحل الأمثل لحدث بهذا التأثير.

الخاتمة:

تكشف رواية وارد بدر السالم عن وجع إنساني عميق جدا خلّفته الحرب وتداعياتها على الإنسان العراقي، وتطرح قضيّة سوسيوثقافية حسّاسة من خلال اختراق شظية لجسد نور الطاهر ليصبح جسدا مشاعا فاقدا لقدسيته. لم يدن الكاتب الحرب بطريقة خطابية مباشرة، بل التفت إلى تفصيل صغير من تفاصيلها الكثيرة، وجعل منه البؤرة التي تدور حولها كل الأحداث، ولكنه اختار حلا نراه غير مناسب لطبيعة المجتمع العراقي حين جعل الختان نهاية لعذاب نور. وعلى الرغم من ذلك، تبقى هذه الرواية بالذات رواية جريئة ومفارقة لروايات الحرب في العراق والوطن العربي.

 

جامعة عبد الحميد بن باديس بمستغانم/ الجزائر.

البريد الإلكتروني: thattab@yahoo.fr

 

المصادر والمراجع

1/ المراجع العربية:

- الخليل (سمير) وحطاب (طانية): دراسات ثقافيّة: الجسد الأنثوي- الآخر-السرد الثقافي، دار ضفاف للنشر، الشارقة، 2018.

- السالم ( وارد بدر): شظية في مكان حسّاس- انفجار آخر مفخخة في بغداد-، مؤسسة ثائر العصامي للطباعة والنشر، بغداد، 2019.

- مجموعة من الباحثين والأكاديميين العرب: مؤانسات في الجماليات- نظريات، تجارب، رهانات-، دار ضفاف ودار الاختلاف، لبنان/ الجزائر، 2015.

2/ المراجع المترجمة:

- ديورنغ (سايمون): الدراسات الثقافية -مقدمة نقدية-، ترجمة: ممدوح يوسف عمران، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978.

- رايان (مايكل) وآخرون: الدراسات الثقافيّة مدخل تطبيقي، برات إنكرام وحنا موسيول، ترجمة وتحقيق وتقديم: خالد سهر، دار بغداد، العراق، 2016.

- فيشر (آرنست): ضرورة الفن، ترجمة أسعد الحليم، مركز الشارقة للإبداع الفكري، الإمارات، (د.ت).

3/ الدوريات:

 - اسطيف (عبد النبي): ما النقد الثقافي؟ ولماذا؟، (مجلة فصول)، مصر، عدد خاص بالنقد الثقافي، م25/3 ع 99 ربيع 2017.

 

 

([1]) عبد النبي اسطيف: ما النقد الثقافي؟ ولماذا؟، (مجلة فصول)، مصر، العدد 99، ربيع 2017، ص 22- 23.

([2])  المرجع نفسه، ص 22.

 ([3] ) ينظر، سايمون ديورنغ: الدراسات الثقافية- مقدمة نقدية، الكويت، 1978، ص 14- 15.

 ([4] ) ينظر، مايكل رايان: الدراسات الثقافية مدخل تطبيقي، العراق، 2016، ص 23.

 ([5] ) ينظر، سميرالخليل وطانية حطاب: دراسات ثقافية، الشارقة، 2018، ص 5.

([6] ) آرنست فيشر: ضرورة الفن، الإمارات، (د.ت)، ص 341.

 ([7]) ينظر، مجموعة من الباحثين: مؤانسات في الجماليات، لبنان/ الجزائر، 2015، ص 665.

([8]) وارد بدرالسالم: شظية في مكان حساس، بغداد، 2019، ص 64.

([9] ) المصدر نفسه، ص 20.

([10] ) نفسه، ص 9.

([11] ) وارد بدر السالم: شظية في مكان حساس، ص 9.

([12] ) المصدر نفسه، ص 9.

([13] ) وارد بدرالسالم: شظية في مكان حساس، ص 133.

([14] ) المصدر نفسه، ص 52.

([15] ) وارد بدر السالم: شظية في مكان حساس، ص 21.

([16] ) المصدر نفسه، ص 34.

([17] ) وارد بدر السالم: شظية في مكان حساس، ص 92- 93.

([18] ) وارد بدر السالم: شظية في مكان حساس، ص 100.

([19] ) المصدر نفسه، ص 95.

([20] ) نفسه، ص 101.

([21] ) وارد بدر السالم: شظية في مكان حساس، ص 13.

([22] ) وارد بدر السالم: شظية في مكان حساس، ص 48.

([23] ) وارد بدر السالم: شظية في مكان حساس، ص 50.

([24] ) المصدر نفسه، ص 145.

([25] ) وارد بدر السالم: شظية في مكان حساس، ص 50.

([26] ) وارد بدر السالم: شظية في مكان حساس، ص 137- 138.

([27] ) المصدر نفسه، ص 175.