ويظل جيل الستينيات، جيلا مميزا، سياسيا، وإبداعيا. وإن كان بعض هذا الجيل، قد حظى بالكثير من الأضواء، والكثير من المناصب، والكثير من التناول النقدي، إلا ان البعض الآخر لم يحظ بنصيب من كل ذلك، ويأتي على رأسهم محمد حافظ رجب، الذى لم يكتب كثيرا، إلا أن ما أبدعه فى مجال القصة القصيرة، حفر له اسما فى جدارية القصة المصرية القصيرة، وعلامة مميزة فى مسيرتها التى تخطت القرن من الزمان. وربما كان أحد المسببات لتجاهل ذلك الاسم طويلا، أنه لم يكن يحمل شعاراتالأيدولوجية التى وسمت الكثيرين من أبناء هذا الجيل، فلم يساير ذلك التيار، كشعار، فى الوقت الذى عاشه، وعاناه حياتيا، فكان إبداعه، ترجمة لحياته هو، لا لحياة الشعار والأيدولوجية.
وحيث كان ما انتهجه حافظ رجب، فى قصصه من تقطيع، للجمل، وتشتت فى الاتجاهات، أصاب قارئه أيضا بالتشتت فى القراءة. غير أنه بالقراءة المتمعنة، سنجد أنه خرج عن الإسلوبالتقليدى شكلا، بينما لم يخرج عنه مضمونا، حيث حافظ على وحدة الموضوع، والفترة الزمنية التى تحافظ على تقاليد القصة الكلاسيكية، فلا يتجاوز زمن القصة إلا واقعة وحيدة، أخرج فيها أعماقه، وظروفه النفسية، مغموسة، ومنخرطة فى واقعه المعاش، بمعنى أن محمد حافظ رجب.. لم يكن إلا نفسه، ولم يكتب إلا نفسه، ومن هنا، فإنه علينا ألا نبحث عن الدراما (الحركة) بقدر ما علينا أن نبحث عن الإحساس، عن صورة المعاناة، تلك الصورة المعنوية، التى تتحرك على أرض شعورية، مشحونة بالشاعرية، رغم قسوتها التى تصل إلى حد التشتت، فى بعض الأحيان. لذا يمكن تحديد معالم كتابة محمد حافظ رجب فى عناصر الألم، الحلم، والشاعرية. فنتلمس الألم فى تضافر ظروف المعيش (عامل فى مطعم – ثم موظف أرشيف). ثم الأب (الذى يريد أن يستبدله فى" مخلوقت براد الشاىالمغلى" ويقول عنه ف "رجل معلق فى دوسيه { قم وواجه القسوة.. .. غضبك أبوك.. قبرك جثمانك.. أنت ولى نفسك فى هذه اللحظات} وتخلى الأب عنه حين أراد أن يسترد زوجته فى"أصبع الشعر. وفى "ذراع النشوة المفقود" فقد الزوجة. وفى "أصابع الشعر" فقد الإبن. وكأن الشقاء والغربة عن الالم حاصرته وامتدت من قبل أن يبدأ:
{ هكذا خُلق أجداده وخلق أجداد أجداده وخلق الإبن من بعدهم.. على نفس الطريق ساروا وعلى نفس الطريق يسير. أبوه من قبلهكانصبى نقاش.. وصبى نجار وبائعا و(أبو أبوه) من قبل كان حمالا يحمل أمتعة المسافرين .. هؤلاء أنجبوه وإلى القسوة أودعوه}
وفى قصة "عظام فى الجرن" نقرأ {ولالضربات فوق الضربات.. فوق الخد.. فوق القلب..فوقالروح..والروح تترنح.. لم يعد هناك جدوى من صرخات الإنسان.. فليحمل الكدمات والعثرات والروح الممزقة والجسد المبعثر وليعاد المشى من جديد}. كما يمكن تلمس الحلم فى "يست من الشعر" حيث نقرأ {ابتاع الشئ المعتاد (بيوميته).. وضعه فوق حجر الجوزة.. دفنه فى المعسل اللزج .. وشد أنفاسا.. فقامت الأحلام متثائبة.. وشدت كتفيها المسترخيتين المقوستين.. .... ويندفع إلى مائدة فوقها كباب وحمام وبرقوق وعنب الشام.. ويقهقه من القلب.. القلب مات .. ومازال يقهقه من النظارات وأربطة العنق.... محروس رجل مثقوب .. ثقوبه يخرج منها الدخان ... فتتوقف الضحكات .. ويسحب القدمين ببطء لثقلهما.. وفوق رأسهصينية البوفيه.. فوقها تمدد صاحب البوفيه فىاسترخاء يصدر أوامره .. إلهث .. إلهث .. من أجل النظارات .. وأربطة العنق.. وأرجل المكاتب}
و {فى منتصف الليل إلى ساحر: يشعل النار فى المدفأة.. يحرق البخور والجاوة والمستكة.. ويستحضر مخلوقات من الجن يأمرها أن تفجر له براكين.. تجرى فيها قنوات من لهيب..ويمدفع إلى زجاجة الكازوزا.. ينزع غطاءها .ز يٌخرج مفسه من العتق.. ويمسك الزجاجة.. يهشمهما فى السقف.. ويلقى بالغطاء فى وجه العالم.. ووجه صاحب البوفيه}.
فإذا ما أردنا أن نرى كيف كانت قصص حافظ رجب، هى حياته، فقد يكون أكثر القصص تعبيرا عن حياته .. قصته " رجل معلق فىدوسيه" والتى يعنى العنوان أن الدوسيه هو المركز، بينما أصبح (الرجل) هو الهامش. كما أن ذكر "رجل" دون ألف ولام التعريف، سحقت وجود الإنسان فى تلك البيئة التى عاشها، حين غادر الأسكندرية، ليعمل فى أرشيف المجلس الأعلى للفنون والآداب" بالقاهرة. تلك التجربة التى لم يُعمر فيها طويلا، حيث رأى أن زملاءه (الموظفين) نبتت لهم أرجل خشب – من طول مكوثهم على المكاتب- فكان الانفصال بينه وبينهم، أو عدم التواءم بين الجميع، فنسمع أحدهم يقول، ردا على سؤاله كيف حدث لكم ذلك؟ {أنا كما أنا.. وأنت.. كما أنت.. هذا هو الغريب بيننا. المعترض على شكلنا وموضوعنا.. فلنبتعد عنه}. ولنلاحظ أن الآخر قال: فلنبتعد عنه، ولم يقل فليبتعد عنا. وهو ما يوحى ب(النبذ) أو التجنيب، وهو ما يُثقل من حولة الغربة التى عاشها طوال حياته. وتستمر حتى فى هذه التجربة الجديدة. ويؤكدها ما جاء بعدها {تركوه وانصرفوا.. وأدركته كمية زائدة من التعاسة .. فبكى} ثم يتجسد حجم التعاسة حين يستكمل {خرج مسرعا من جسم تعاسته وتلفع بغضبه وخلع حذاءه وجرى حافيا}. ويقرر{سأقطع أرجلى الزائدة.. لكى لا أصير مكتبا .. سأخلع قلبى وأدفنه لكى لا يصير ثقبا مفتاحه يدور فيه من الثامنة إلى الثانية}.ثم تكتمل القصة بالمزيد من التعاسة، لتنتهى بالالتصاق بأهله، ليس أبوه وأمه، وإنما تلك الفئات التى عاشها، وكأنه مسوق إلى قدره المنغرس فىالأسكندرية.فهذه تجربة عاشها، ونزفها حروفا عل الورق.
وفى قصة "ذراع النشوة المقطوع" من مجوعة "مخلوقات براد الشاىالمغلى"[1] على سبيل المثال، يظن السارد أن امرأته تخونه، يقطع ذراعها:
{أكرهك.. أمقتك .. تقولينها وأنا أغتصبك فى البيت وهم يغتصبوننىفى الشارع والدكان، انصتىهاهو يصعد درجات السلم.. يترنح .. يطرق أبواب الجيران.. يعبث بهم}.
ولا يتوقف الضغط النفسى على الشارع فقط، وإنما يأتى أيضا من أقرب الأقربين { فى الليل الثانى تلفت حوله.. وجد الكآبة سيدته وسيدة المكان.. أبوه ليس وحيدا مثله: له زوجته وأطفاله.. وصديق يخضع له إلى آخر حد والثمن باكو دخان}.
فنحن هنا أمامإحساس بالعجز عن تلبية إحتياجات الزوجة. فيتصور أنها تخونه لتلبية تلك الإحتياجات. فتتحول عملية معاشرته لزوجته إلى عملية إغتصاب، عملية عنف. لكنه العنف المبرر. فإذا كان هو يغتصبها، فلأنهم يغتصبونه فى الشارع، وفى الدكان. أى أن العنف قادم من الشارع، إنعكس على داخله، فخرج فى العنف عليها.
ثم يكشف عن أن شيئا من ذلك لم يحدث.. وما كان كل ذلك إلا هواجس، ورغبات مكبوتة حيث {انتهت المذبحة وجفت قنوات الدماء، ولم يسمع أحد صوت صرخات أحدهما. رقدت .. رقد.. نام ذراعها .. نامت هى.. نام الجرح وانسدت فجوة الفوهة المفتوحة .. ولم ينم}. فأصبحت (هى) الجرح الذى نام، بينما لم ينم (هو). ورغم هذا الإحساس المؤلم، والذى يؤرقه.. فلا زال احتياجه للحنان، وللألفة {لكن لا يمكنه البقاء بدونها لا يمكنه احتمال وحشته}.
وتستمر المعاناة من الوحدة، يؤرقه الشوق إليها {رائحتها فى السقف. تسلق الحائط وصعد إليها ومد يده قبضت على أسلاك النور.. وسرى التيار فصرخ. وهبط فوق الحائط ووقف أمام المائدة. المدية فوقها تتحداه أن يتناولها من جديد.. ويغرسها فى اللحم .... لاشئ قادر على انتشاله سوى الذراع المذبوح}.
ثم يستمر الحوار.. يطلب من أبيه أن يعيدها، أن يقابل الخال الذى بيده الحل والرط. لم يذهب الأب، ذهب صديق الأب، وتعلق هو فى ذراعه.. ليعود بالزوجة و{فى الليل عاد.. وجد ضوءً وامرأة تترقب: انحسرت عنه وحشته.. وبدأت فى تلك اللحظة عزلتها المميتة}. ليظل هو فى وحدته وعجزه، ويصبح هو مصدر الخلل، كإنعكاس لواقع معاش. وطبقا للقناعة بأن الإنسان/ المبدع، لايستطيع الابتعاد عن محيطه، حتى وإن حاول. فمن بيئته يستمد صلصال شخوصه، ومن حكاياتهم، يستمد مداد كلماته، ولم يكن محمد حافظ رجب، ليشرد عن تلك القاعدة. ففى كل قصصه، نستطيع تلمس عالمه الاجتماعى، أن نقرأ حياته من خلالها، وأن نعرف تلك الدائرة التى خلفت شخصيته التى أثمرت ذلك الإسلوب المهلهل، والمحتشد بالتقاطيع، والسخرية التى تبرز فى منح شخصياته صفات تنطق بعناصر البيئة، الزاحفة على الأرصفة، وهى التيمة التى جرت فى ذلك المجتمع- الذى يمكن تسميته (التحتى) إذ غالبا ما نجد لكل شخص أسم شهرة، وغالبا ما يكون صفة أكثر منه اسما-. وقد يتجلى هذا بصورة جلية فى قصته الأطول –مساحة كتابية- "مخلوقت براد الشاىالمغلى"، وإن احتفظت بذات عناصر القصة القصيرة، والتى مدد قماشتها (عرضيا) لتتسع للعديد من ناس الأرصفة، صفها الكاتب على إمتداد مساحتها – يوم أن كانت فىالشوارؤع أرصفة-.
فعلى رصيف الشارع جلس رواد المقهى، بائع ورق اليانصيب، وماسح الأحذية، وصبى الحلاق، وصاحب فاترينة بيع السجائر. كلهم فى ضيافة الرجل (السمين) صاحب المقهى (فانجلى)، وابنه الآتى على حصانه من نادىسبورتنج، حيث نستطيع قراءة شخصيتهم وصفاتهم، فضلا عما تحمله من رؤية (طبقية) يضعها الكاتب فى مواجهة المجتمع، منطلقا من حياته ومعيشته، جمعهم فى الإناء الحاضر فى المشهد، وهو براد الشاى. فهؤلاء هم (مخلوقات براد الشاى)أما الذى (يغلى) فهو أعماق السارد نفسه.
فإذا أزحنا أتربة الرصيف، وجلونا الرؤية لتلك الشخصيات،فى قصة "مخلوقات براد الشاىالمغلى" -التى منحت المجموعة اسمها- فسنتبين أن (السمين) صاحب المقهى، الأصلع بكلكيعة خلف رأسه، سنجده هو النموذج والمثل لتلك الشخصيات، خاصة لذلك السارد، الذى يقطن داخل علبة السجائر. حيثتبدأ القصة ب {أنا رجل تكتنفنى الغربة فى كل الأركان} لتفتتح القصة بذلك الإحساس النفسى، بالتيه، والتضاؤل، الذىيحتضن كل التفاصيل فيما بعدها. فعندما يحضر الرجل ال(سمين) {بعده بساعة أحضر وأنا القزم.. أفتح باب علبة سجائر.. أزيح ستائر نوافذها .. أتفقد مأواى .. وأخرج}.و {أترقبت من داخل علبتى حضور الزبائن لأسألهم عن سبب كراهيتى للمقهى}.و {استدرت إلى البحر.. وخلعت ملابسى .. وألقيتها على شاطئ (الشاطبى) أمس.. ونزلت إلى الماء. أعمى بلا مجدافين.. رغم أنى كنت ابنا لهذا البحر فوق ظهرى.. ومع ذلك لا أجيد السباحة!}.كل تلك التعبيرات، تفيض بالانسحاق، والتقزم، فى مواجهة عالم لا يرحم.
ثم يدخل رجل للمقهى، يحمل كثيرا من الملابس المستعملة{ يصفق للسقف .. ليفتح له طاقة يتساقط منها رجال عراة يكسوهم بما يحمله.. أنا الأخر فى حاجة إلى بعض ما يحمله}.
ويتجسد عالم السارد فى تلك الفقرة الجامعة{ياه.. الأعور.. وكوب الشاى المكسور.. وكوم الملابس المستعملة .. وعويس القزم سارق الورقة المالية الباهتة من اليونانية العجوز.. و"فانجلى" كرة اللحم فى مؤخرة الرأس الصلعاء.. هؤلاء مخلوقات لحظتى.. فى إمكانهم أن يستبدوا بى كما يشاءون.. والساعة الواحدة والأربعون تقترب.. تدق فوق أرضى.. وعظامى}. ثم يزيد السارد إلى عالم البؤس ذلك الرجل مقطوع الساق، المختبئ داخل أوراق اليانصيب، فيطمع (السارد) فى بعضها {وأشار إلى أوراق اليانصيب هيا بنا نعود إلى المقهى لأنقدك ثمن ورقتين}.
كل تلك الصور، اشعرت السارد بأنه خارج الزمان، وليس المكان فقط. فرحنا نقرأ عن أوقات خارج الإطار المعروف، فى عملية (إنزياح) مقصودة، وذات دلالة {خطوات الساعة الرابعة والأربعين تقترب تقترب.. لا تسمعها غير أذنى} فهو توقيت خاص بالسارد وحده، بل هو خارج التوقيت، مثلما نراه يعبر عن لحظاته التى لا تتجاوز (الفيمتو ثانية): {بجزء واحد من مليون جزء متفرقة من الانتياه .. راقبته}.
ويزيد الإحساس بالفقد، عندما يصبح الموت هو المهيمن على أفكاره، فتموت الأشياء، كما يموت الإنسان، فنقرأ { الساعة التاسعة والثلاثون .. احتضر الضجيج .. مات}. فلم يكن الوقت (المعتاد) وحد هو الذى مات، وإنما الأشياء أيضا ماتت، حتى الضجيج (مات). فلم يشأ السارد القول بإختفائه، أو هموده، لكنها النهاية، التى ترمى بحمولتها الشعورية على الشخصية، التى وصلت حد إنعدام الأمل، فيلجأ لأحلام اليقظة.
فهذا هو السارد..الذى يشعر بالتقزم وغدر الزمان، فَينْبُتُ بداخله الحلم. حيث تتجسد المآساة، والأمنية، حين يذهب إلى صاحب المقهى (فانجلى) بالسؤال {قل؟ هل تتبادل أنت وأبى مكانكما؟ وأصير أنا كرة اللحم فى رأسك الصلعاء.. ويصير ابنك أنا.. ويصير أبى صينية القهوة .. وتصير أنت أبى.. وأصير أنا .. أبى .. وتصير أنت . صرخ: كفى .. كفى أنت تهرف}. ليبرز ضلع جديد فىمآساة السارد، متمثلة فى والده الذى يوحى بانفصاله عنه، ولو نفسيا، فهو لم يكفه شر هذه المعيشة، وتركه نهبا للشارع، فراح يبحث عن والد غيره.
ولما يفشل ذلك الحلم، يعيش غيره، فى تلك المرأة اليونانية التى تتهم عويس ماسح الأحذية، حين صرخت بأن عويس سرقها، فيفلسف السارد المسألة {ورقة سقطت من حقيبتها تحت المائدة: سرها أن تتحرر من كبتها وولت هاربة إلى جيب القزم عويس ماسح الأحذية تحتمى به.. فانتشلها عويس من الخوف.. ووضعها فى علبة الورنيش.. تذوب فىداخله .. تجعل وجوه الأحذية لامعة} ثم يحلم بما تحمله اليونانية من نقود {غدا عندما تحملها العربة إلى مدافن الشاطبى سأقتحم أنا وعويس المقبرة ونهشم الصندوق ونحمل أوراق العملة الخضراء ونعود إلى المقهى .. فنطرد البراد والرأس الصلعاء ونبعثر علب اللفائف الباردة وندوس كل الأحذية التى تدوسنا.. وندفع إلى رمال البحر .. ونتمرغ فوقها حتى آخر يوم من عشر سنوات قادمة}.
ثم يدخل رجل للمقهى، يحمل كثيرا من الملابس المستعملة{ يصفق للسقف .. ليفتح له طاقة يتساقط منها رجال عراة يكسوهم بما يحمله.. أنا الأخر فى حاجة إلى بعض ما يحمله}.
ويتجسد عالم السارد فى تلك الفقرة الجامعة{ياه.. الأعور.. وكوب الشاى المكسور.. وكوم الملابس المستعملة .. وعويس القزم سارق الورقة المالية الباهتة من اليونانية العجوز.. و"فانجلى" كرة اللحم فى مؤخرة الرأس الصلعاء.. هؤلاء نخلوقاتلحظتى.. فى إمكانهم أن يستبدوا بى كما يشاءون.. والساعة الواحدة والأربعون تقترب.. ندق فوق أ{ضى.. وعظامى}. ثم يزيد السارد إلى عالم البؤس ذلك الرجل مقوع الساق، المختبئ داخل أوراق اليانصيب، فيطمع (السارد) فى بعضها {وأشار إلى أوراق اليانصيب هيا بنا نعود إلى المقهى لأنقدك ثمن ورقتين}.
ويتوالى الشوق للخروج من الكابوس والكآبة، فى قصة "عظام فى الجرن"، التى تبدأ بالرغبة المنهاه، والبهجة الضائعة {عندما توقف القطار فى محطة كفر الزيات.ز تلكأ فى مغادرته.. كان الطلبة ما زالوا فى العربة ينسجون شباك البهجة.. وود لو يبقى.. يحمل لأحدهم الطبلة.. يكون هو نفسه المزمار.. يظل فى حقيبة أحدهم لا يغادرها.. لكن القطار نا توقف.. كان القطار – حتما – سيقف فى محطة.. وصاحب الحقيقة سيحمله بداخلها.. ويفترق عن الآخرين.. وهنا ستموت البهجة ويكرهه}.فإذا ما تأملنا تلك الصورة التى بها يبحث عن البهجة، لأدركنا أن الشعور بالتقزم، والبحث عن البهجة المسروقة، لازال يسرى كالوريد فى جسد الإبداع الرجبى.
يأمل السرد هنا، ويحلم، بأن يكون له بيت، مجرد بيت هو غاية المراد من رب العباد، فتخيل نفسه يذهب إلى كفر الزيات ليعمل، وبعدها يعود إلى الأسكندرية، وهو يرفع رأسه وسط ناسها، فعنده (بيت) {وأقدامه تسير فوق الظلمة فى شوارع كفر الزيات طغى على هدير أعماقه صوت يردد ليقنعه: هنا ستعيش أيام عمرك الباقية تشتغل عاملا فى مصنع بذرة القطن.. تلبس البدلة الزرقاء.. وتموت وحدتك بين مئات العمال.. وتعود فىالخامسة .. وعاملان يسيران معك.. يبددان وحشة الطريق.. تمسح عرقك.. تأخذ دشا: لك بيت.. فيه الأمن.. البيت أمنك.. ليس لك بيت الآن.. البيت هدف حقيقى.. بيت موجود بعد الخامسة .. .. لن تعود إلى الأسكندرية إلا وأنت رجل يحمل للناس إبتسامة والبيت فى يمناه}. لكنا نفيق معه. على ارتطام عجلات القطارالعائد والمتجه إلى الأسكدرية من جديد، يغوص فى تلك الرحلة من بدايتها.إلى فرح العائدين من رحلة الأسكندرية.. فى تلك المقابلة غير المرُحِبة به فى بيت عمته. فى تلك الصنوف من المعاناة فى محل الفول والطعمية، قبل أن يطرده صاحب المحل، حيث {ولالضربات فوق الضربات.. فوق الخد.. فوق القلب..فوقالروح..والروح تترنح.. لم يعد هناك جدوى من صرخات الإنسان.. فليحمل الكدمات والعثرات والروح الممزقة والجسد المبعثر وليعاد المشى من جديد}. ويبحث عن الفرار من كل تلك المعاناة، تتصاعد الرؤية رأسية، نحو آبائه وأجداده { هكذا خُلق أجداده وخلق أجداد أجداده وخلق الإبن من بعدهم.. على نفس الطريق ساروا وعلى نفس الطريق يسير. أبوه من قبلهكانصبى نقاش.. وصبى نجار وبائعا و(أبو أبوه) من قبل كان حمالا يحمل أمتعة المسافرين .. هؤلاء أنجبوه وإلى القسوة أودعوه}.ولم يجد مفرا من العودة إلى محل الفول والطعمية من جديد. إلى (الجرن)[2].حيث يقول له صاحب الطعم:{ إلبس الفوطة.. وأدخل إلى الجحر لتدق العجينة يا جمل.. دخل.. بدأ يدق حبات الفول وقطعا من عظام مخه فى الجرن}.
فرغم إمتداد القصة التى تمتد لرحلة القطار ذهاب إلى كفلار الزيات، وعودة منها، واستقبال عمته وابنة عمته، وما قابله عندخم، وما عاناه فى مطعم الفول والطعمية، وعودته إليه من جديد، فتظل القصة محافظة على وحدة الزمن، التى تنحصر بداخله، حيث يتحول كل ذلك إلى رحلة داخلية، يمكن أن نسميها. رحلة السجن، سجن الموروث، وسجن النفس.فهى لحظة مع النفس المفتتة، أو الطلقة –التى أطلقها يوسف إدريس كتعريف للقصة القصيرة ، لتعلن عدم الحقيقة التىاشيع عن محمد حافظ رجب أنه أطلقها على جيله، بأنهم جيل بلا أساتذة – فتحولت القصة إلى طلقة أرست شظاياها فى كل إتجاه، وعادت لتتجمع فى بؤرتها المتقيحة.
وتتوالى صور البؤس فى قصة "أصابع الشعر"، حيث يستحضر صورة ذلك العامل فى البوفيه، والبؤس يغلفه، والشوق للخروج من تلك الحياة التعيسة يؤرقه، فتحقق أمنياته الأحلام {ابتاع الشئ المعتاد (بيوميته).. وضعه فوق حجر الجوزة.. دفنه فى المعسل اللزج .. وشد أنفاسا.. فقامت الأحلام متثائبة.. وشدت كتفيها المسترخيتين المقوستين.. .... ويندفع إلى مائدة فوقها كباب وحمام وبرقوق وعنب الشام.. ويقهقه من القلب.. القلب مات .. ومازال يقهقه من النظارات وأربطة العنق.... محروس رجل مثقوب .. ثقوبه يخرج منها الدخان ... فتتوقف الضحكات .. ويسحب القدمينببطء لثقلهما.. وفوق رأسهصينية البوفيه.. فوقها تمدد صاحب البوفيه فىاسترخاء يصدر أوامره .. إلهث .. إلهث .. من أجل النظارات .. وأربطة العنق.. وأرجل المكاتب} وتطير به الأحلام، ليستنجد بتلك المتحرقة شوقا للرجل.. (هنا) ويتصورها تحتويه، و{تخلع له قدميه.. تضعهما فى ماء وملح.. وتشرب قدماه الراحة لتستريح}.
وينفجر الغضب فى أعماقه، يود لو يحرق الدنيا {فى منتصف الليل إلى ساحر: يشعل النار فى المدفأة.. يحرق البخور والجاوة والمستكة.. ويستحضر مخلوقات من الجن يأمرها أن تفجر له براكين.. تجرى فيها قنواتمن لهيب..ويمدفع إلى زجاجة الكازوزا.. ينزع غطاءها .ز يٌخرج مفسه من العتق.. ويمسك الزجاجة.. يهشمهما فى السقف.. ويلقى بالغطاء فى وجه العالم.. ووجه صاحب البوفيه}. ولا ينسى –إلى جانب صاحب البوفيه- أن يجرى ‘اى مكتب ليجد مزظفا- ليستدعى فترة عمله كموظف[3]. فيحطم نظارة المموظف، وينتزع كرافته. ثم نتبين أن (هنا) زوجة محروس، ويعيشان مع "حربى" ابنهما الذى يعمل لدى خواجة وخزاجاية، يطلبان منه شراء زجاجتى بيرة، وفى الطريق، يدهسه الترام، ويحمل محروس العظام_ معنويا فوق رأسه ويطوفبها الشوارع. ويهجر زوجته.. وليعود إليها فى اليوم التالى:{بعلبة تواليت غالية الثمن فى داخلها نامت (هنا) فوق المخكلالبنفسجى}. لنجد أنفسنا من جديد أمام دائرية القصة الإدريسية، حيث تدور الحياة دورتها الممتدة، لكنها تعود لنقطة البداية، ولتنحصر كل التافصيل داخل السارد المشتت، والباحث عن معنى للحياة.
الصور الشعرية
غير أن الفنان داخل هذا الإنسان المعانى، خرج به عن دور نقل الواقع برمته، وإنما حضرت الصور الشعرية، التى تساعد فى تجسيم المآىساة، وبالتالى تضخيم الحمولة الشعورية لدى القارئ، فتحدث به الأثر المنشود من العمل الإبداعى. فحين الحديث عن صبى الحلاق الأصم –فى قصة براد الشاىالمغلى-: {صاح "فانجلى" فى أذنه: هات كوبك .. مد صبى الحلاق أذنه .. فسكب "فانجلى" كوب الشاى فيها.. وانصرف}. وكأن الإذن (فقط) اصبحت وسيلة الأصم بالحياة.
كما كان للانزياح الدلالى دوره فى صنع الأدبية للنص. فحين الحديث عن صبى الحلاق، نقرأ {اقتربت منه: أخبرنى من فضلك.. من مر داخل أذنك وسرق منك الترقب؟}. و {يقضم من جريدته سطرا بين كل رشفة}. و{مر داخلى "فانجلى" بشاربه الأبيض .. وجلس فوق ترحيبه به}. حيث تدعو كل تلك الصور، والخيالات، القارئ، لإعمال خياله، بجانب المتعة القرائية.
كما تسرى تلك الصور (الشعرية) فى كل قصص الكاتب، وتبرز بصورة واضحة فى قصة "أصابع الشعر"حيث ينسج الخيال صورا تذهب بالحدث إلى عوالم غير أرضية، وتحلق بالقارئ خارج الجاذبية الأرضية. فأن نقرأ {استلقت (هًنَا) فوق وسادة من المخمل البنفسجى.. داخل علبة تواليت ووضعت الغطاء فوقها.. تركت وراءها الباب موربا عن قصد ليجذب الرجل.. وتثاءبت. ليس من أجل النوم.. إنها تطرده.. بعد لحظات .. تسلل وراءها (الشعر). مدت (هنا) أصابعها.. عانقته.. ولفها الشعر.. غطاها .. صارت سجينة}. فإذا كان وجود المرأة شحيحا فى قصصه، ورأيناكيف أنها موجودة، وغير موجودة فى قصة "ذراع النشوة المقطوع"، فإنه هنا يستحضرها، لا لنفسه، وإنما يتصورها تتقلب على ذراع النشوة المفقودة، وكأنه يرسم صورة الرجل (هو) والمرأة (هى) - والتى أطلق عليها اسم (هنا) ليمعن فى تجسيد الهناء المفقود- كلاهما يتقلب ويتحرق للقاء بينهما محرم وممنوع. ف(هَنَا) هُنا تتوق لذلك المفقود. تتخيله وتتحرق للآستسلام بين ذراعيه. فتتصوره جاء.. وغطاها.. وأصبحت له سجينة. فالكاتب هنا لم يذكر ذلك صراحة، وإنما خلق الجو الذى يمكن معه تصور ذلك اللقاء، ليجسد به ، ويُضخم من عمق مأسة الجوع الروحى الذى يفتقده.
[1]- محمد حافظ رجب –مخلوقات براد الشاىالمغلى– دار ومطابع المستقبل بالفجالةوالأسكندرية– ط 1 1979.
[2]- حجر الطعمية
[3]- طلب حافظ رجب من يوسف السباعى عملا يتقوت منه. فعينه بأرشيف المجلس الأعلى للفنون والآداب، لكنه لا يلبث فيه طويلا.ز فهجره عائدا إلى الأسكندرية، بعد أن ضاق بضياع هوية الموظف، ولا واقعيته. لتعلن الواقعة عن الثورة المشتعلة بأعماقه وتوقه إلى الحرية والتحقق.