في موسيقى صوفية إثيوبية، افتتان بعالم التصوف هربا من ركود الحضارة الغربية
قنطرة - ما الذي يجمع ما بين الشاعرة والموسيقيَّة النيويوركيَّة پاتِي سمِيث، والشاعر الفرنسي الراحل آرثَر رامبُو، والمؤلِّف الموسيقي فيليپغلاس، والموسيقي الإثيوبي مُولاتُو أَسْتاتكِيه وكذلك فرقة الشيخ إبراهيم الصوفيَّة؟ بعد الاستماع إلى ألبوم "حُبٌّ صامِت" من مجموعة "ساوندوُوك" الموسيقيَّة، قد يتمكن المُستَمِع من اكتشاف العامِل الذي يجمع ما بينهم. وتتكون النواة الأساسية لمجموعة ساوندووك الموسيقية من الأمريكيين سيمون ميرليو ستيقي نكراز نياسكي، واللذين يرافقهما في الأداء مجموعة دائمة التغيير من الفنانين، وفق كل مشروع من مشاريعهما المتنوعة.
يتم ذلك عبر مزج أساليبهم التأليفية في التلحين، والتي تدمج عوامل مختلفة، بدءًا من الأنثرُوبُولُوجيا (علم الإنسان)، وانتهاءً بمراقَبة الطبيعة والاستكشاف عبر التسجيلات – مستخدِمين مواد أوليَّة مرتبِطة بمنطقة مُحدَّدَة أو بشخص مُسَمَّى، لنحصُل على أعمال تنفُخ الروح في الزمان وفي المكان. لا ينطبق هذا على الجانب الموسيقي وحسب، بل سشمل الجانبين الروحي والعاطفي. أو على الأقل، هذا ما يكتشفه مُستَمِعي ألبوم "حُبٌّ صامِت" بأنفسهم. إذ يعمل الموسيقيُّون هنا ضمن مرحلة زمنيَّة ومكانيَّة تاريخيَّة معينة: تلك الفترة التي قضاها آرثَر رامبُو في مدينة هَرَر الإثيوبيّة ما بين 1880-1891. بعد أن توقَّف عن نَظم الشِّعر فيما بعد، اتجه رامبُو إلى التجارة، مستقِرًا في نهاية الأمر في مدينة هَرَر، حيث عمل هناك كتاجر في القهوة والسلاح.
كما ارتبط رامبُو بعلاقة صداقة مع حاكِم مدينة هَرَر، واس ماكُونِّن وُولدِه مِيكايِل، الذي أصبح فيما بعد إمبراطورًا لإثيوبيا ووالدًا لِهَيلا سِلاسِّي (آخِر أباطرة إثيوبيا). غير أن الجانب الأكثر صلة مع هذا العمل الموسيقي المُسجَّل هو أن مدينة هَرَر كانت آنذاك مركزًا للتصوُّف في إفريقيا. في الواقع، ما انفكَّت هذه المدينة محتفِظة بروابط قويَّة مع هذا المذهب الروحاني في الإسلام.
ألبُوم تصَوُّري بمعنى الكلمة
فيما تَم إنتاج ألبوم "حُبٌّ صامِت" كأي ألبوم آخَر عبر احتوائه مقطوعات منفرِدة، إلا أن هذا النوع من الأعمال المُسَجَّلة يتطلب الاستماع إليه ككَينونة واحِدة. فالألبوم بأكمله يُعتبر احتفالًا بافتِتان رامبُو بعالَم التصوُّف، وبإعراض الأخير عن العالَم المادِّي طمعًا في مقابِله الروحاني. يُخبرنا الكُتيِّب المُرافِق للألبوم أن رامبُو قد هَجَر فرنسا هربًا من ركود الحضارة الغربيَّة، حاله حال جيل حركة اﻟ "بِيتس" الأدبيَّة في الخمسينيات، وأنه قد ذهب لإفريقيا باحثًا عن نوع ما من الصَّحوة الذاتيَّة.
نستمِع في مقطوعة الافتتاحيَّة، "أَو أَبادِير"، إلى صوت منفرد يُغَنِّي دون أي مرافَقة، وبنَبرَة خافتة شجيَّة اللحن، استهلالًا لرحلتنا إلى مدينة هَرَر وإلى بقية الأماكن المختلِفة التي زارها رامبُو، وكذلك للأصوات التي من الممكن أن يكون قد سمعها أثناء إقامته هناك.
بعد هذه المُفاتَحة التمهيديَّة، نستمع إلى مقطوعة "مَنزِل رامبُو" لفيليپغلاس التي تستمر لعشر دقائق. فيما يلجأ غلاس إلى علامات موسيقيَّة محدودة لصياغة مختارات متقشِّفة الصوت، إلا أنه يتمكن من استحضار نوع من الترابُط الوجداني مع مقولته بطريقة تصعب على الكثير ممن قد يقومون بضِعف المجهود للوصول إلى النتيجة ذاتها.
تنهمر كل نُوطَة (علامة موسيقيَّة) كقطرات المَطَر على أُذن المستَمِع، إذ تتحرك بكل هدوء واستِرسال كالتموُّجات في بِرْكة مائيَّة صغيرة.
عادةً ما نشعر بالحيرة جَرّاء تعدُّد الأصوات الذي يَنتُج عن نَظم مجموعة متوالية من العلامات الموسيقيَّة، لدرجة أننا قد لا نتمكن من تذوُّق أي نُوطَة موسيقيَّة أو التدبُّر في جمالها الداخلي. لذا، تعكِس هذه القصيدة اللحنيَّة أهميَّة الكلمات، كل واحدة منهنّ على حِدَة، في أعمال رامبُو.
غير أن المقطوعة، كباقي مشاريع مجموعة "ساوندوُوك" الموسيقيَّة، تُبحِر بالمستمِع إلى أكثر من مَرسى. يمكننا أن نسمع في لحن غلاس أصواتًا متوالية خلف صوت البيانو، بحيث تعلو وتنخفض في حوار وغناء مستمِرّين. من خلال هذه الأنغام المُستَتِرَة، نتعرَّف إلى الأجواء التي عاشها رامبُو، مع كل شهيق وزفير يومي للحياة التي كانت في مدينة هَرَر.
العمل الثالث في الألبوم يحمل اسم قصيدة رامبُو المعروفة: "الأبديَّة". تجمع هذه القطعة في ألحانها ما بين غناء فرقة الشيخ إبراهيم الصوفيَّة، وموسيقى فيليپغلاس، وإلقاء پاتِي سمِيث للأبيات الأولى من القصيدة. يَحُوم إنشاد المجموعة الصوفيَّة وإلقاء سمِيث وعزف غلاس حول بعضهم البعض، ويُنتِج ثلاثتهم لوحة صوتيَّة تدريجيَّة وتجريديَّة يتعذَّر تمييز أحد المشارِكين فيها عن الآخَر.