يجري الانسان نحو الكارثة، لكنه يرفض أن يرى أنه يجري نحو الكارثة. [1] وحتى تنجح في بناء المستقبل الذي تأمله، على مجتمعاتنا – فيما يصرح جان بيير دوبي Jean-Pierre Dupuy - أن تعيد ابداع المقدس. دوبي رجل الأمل، حتى وان اعتبره البعض نذير شؤم. وهو على مشارف السبعين، يتساءل خريج مدرسة المهندسين هذا الذي عبر نحو الفلسفة حول مستقبل البشرية. المستقبل الذي يتهدده الاحترار المناخي وانتشار السلاح النووي، المستقبل الذي لم تعد البشرية قادرة على التفكير فيه. لأن الكارثة أصبحت ممكنة جدا، خصوصا، فيما يشرح دوبي، وأن لا المخاوف التي تنتابنا نحو مستجدات العالم ولا الاحتياطات التي نتخذها لمواجهتها يستطيعان ابعادها، أو على الأٌقل كسر سيف ديموقليس المسلط علينا. لا مجال اذن للاستسلام للقدر. يستحضر فيلسوف العلوم الموسوعي كل المباحث – اقتصاد، استراتيجية عسكرية، ولكن أيضا السينما والأفلام البوليسية الميتافيزيقية- لبناء دفاعه عن "نزعة كارثوية متنورة" catastrophisme éclairé. يكشف في مؤلفه الأخير عن بعد غير قابل للتجاوز، هو بعد "مقدس" ربما تسرعنا في اعدامه.
سؤال: في قلب كل أعمالك توجد كلمة مركزية هي كلمة "كارثة". ما هو المعنى الذي تمنحه لهذه الكلمة؟.
جواب: الكارثة هي الحدث الذي ينهي مسرحية ما ويغير في الغالب من معناها في اللحظة الأخيرة. انها لحظة تنوير تضيء أشياء لا نراها، نحن الذين نكون مركزين على اليومي. باختصار، انها تأتي لنا ب"نبوءة"، كما في البولارات الميتافيزيقية لبورخيس، شسترتون أو ادغار ألان بو، أو أيضا في فلم "الدوّامة" Vertigo لألفريد هتشكوك، الذي أخصص له الفصل الأخير من كتابي.
سؤال: بالنسبة لك الكارثة ليست هي النهاية؟.
جواب: إذا كانت الكارثة هي النهاية، فلن تكون بالتأكيد هي التفجر العظيم ولا انطفاء البشرية. في مقدمة كتابي نحو نزعة كارثية متنورة Vers un catastrophisme éclairé، أستشهد بالأبيات الأخيرة في قصة س. اليوط، The Hollow Men: "هكذا ينتهي العالم/ ليس على ايقاع الانفجار، ولكن كتذمر". ان ما يتغير، مع ذلك، مقارنة بالقصص الأسطورية أو الأناجيل، هو أنه في هذه النصوص تقدم الكارثة أو نهاية العالم كما لو أنها انتقام إلاهي، علما أن الكارثة، في العالم الحديث، هي بلا أدنى شك ثمرة لما نفعله نحن البشر. وهذا يفرض علينا إعادة التفكير في مصير البشرية.
سؤال: تشير دراسات عديدة الى إمكانية حدوث كارثة ايكولوجية في العقود القادمة. ومع ذلك لدينا شعور بأن القرارات، الراديكالية الضرورية، تتأخر في المجيء؟ لماذا هذه الترددات؟.
جواب: لننطلق، إذا ما سمحتم، من التعبير الانكلوساكسوني tipping point، مما يمكن ترجمته ب "نقطة التحول/ القفز" (basculement). تقربون قلمكم من حد الطاولة ثم تلاحظون بأنه ما ان يتم تجاوز نقطة القفز/ التحول هاته حتى يسقط. انه نفس ما يحدث مع المناخ: فنحن نعلم ورغم كل الشكوك أن هناك نقاط تحول، أن هناك حدودا إذا ما تم خرقها فان ظواهر خطيرة، وخصوصا لا رجعة فيها، لن تتردد في التفجر.
سؤال: مثلا؟.
جواب: ذوبان أقصى شمال القطب الشمالي جراء الاحترار المناخي. يضم هذا الجزء من الكوكب ملايير أطنان الغازات الاحترارية، وتحديدا غاز الميثان. والنتيجة أن الاحتباس يسرع من أسباب الاحتباس. الأحداث ستتسارع ما ان نتجاوز نقطة ما. ليس من مصلحتنا، اذن، أن نقترب من نقاط التحول أكثر من اللازم. لكن هناك مشكل: نحن لا نعرف بالضبط أين توجد هذه النقاط والطريقة الوحيدة لنعرفها هي أن ... نتجاوزها. أي بعد أن يكون قد فات الأوان. اذن، أن نكون حذرين هو ألا نبحث عن معرفة أين توجد.
سؤال: أنت تقارب هذه المسائل كفيلسوف لا كعالم، ويبدو أنك تشك في قدرة العلم على أن يقدم يوما ما حلولا لهذه المشاكل التي ساهم هو نفسه فيها.
جواب: قبل 6 غشت من عام 1945 (يوم القاء القنبلة على هيروشيما)، لم يكن المهندسان تايلر وأوبنهايمر، اللذان صنعا القنبلة الذرية، يقصيان إمكانية أن يقود صنيعهما هذا الى انهاء الحياة فوق الأرض. وهذا لم يمنعهما من لعب دور من يتدرب على أعمال السحر!. بالنسبة للفيلسوف كنتر أندرس، الذي أستشهد به بكثرة في كتبي، هيروشيما هي تحديدا واحدة من نقاط التحول التي عرت البشرية أمام نفسها: ان قدرتنا على أن ندمر أنفسنا تتغير، بالفعل، من معنى الوجود، بل انها تتغير، عندما نلقي نظرة استرجاعية، كل تاريخ البشرية. نحن نلج هنا مجال الميتافيزيقا، أي المسائل التي لا يمكن لا للعلم ولا للفلسفة أن يجيبا عنها، الأسئلة التي لا يمكن أن نمنع أنفسنا من طرحها: ما هو الزمن؟ من هو "الأنا"؟ هل الله موجود؟
سؤال: يمكن مع ذلك أن نعترض عليك بالقول بأن الانسان سيكون قادرا – ما ان يعي الأخطار التي تتهدده – على أن يختار من بين كل الأفاق الممكنة الأفق الذي يمثل أقل الأخطار على البشرية؟.
جواب: في كل الثقافات اتخذت الإجابة على هذا السؤال شكل محكي. في العالم الغربي، كان هذا المحكي عند لايبنتز هو "أفضل العوالم الممكنة": فالله يتوفر، مثلما تصور الفيلسوف، على مجموعة من الممكنات انتهى باختيار أفضلها. اننا نتحرك، بشكل لاواعي، في قلب نفس المحكي، عندما نتخيل مستقبلنا كمجموعة من الممكنات سنختار بكامل ارادتنا أفضلها. هنا يكمن المشكل، لأنه ما دمنا سننظر الى المستقبل ك "ممكن" – وفقط ك "ممكن"- فلن ننجح في أن نعتبره خطيرا بما فيه الكفاية حتى نبدأ في تفعيل ما يلزم لتفادي الكارثة. للكارثة، بالفعل، هذا الجانب الرهيب، وهو أننا ليس فقط لا نعتقد أنها ستقع، ولكن ما ان تقع حتى تظهر باعتبارها تنتمي الى السجل العادي للأمور. من هنا كل تردداتنا.
سؤال: ماهي الأمثلة التي يمكن أن نجدها لهذا الموقف في التاريخ؟.
جواب: الفيلسوف هنري برغسون هو الذي يمنح أفضل مثال هنا؛ وهو يتكلم عن الحرب الكبرى: "قبل 1914، فيما يحكي هنري، اعتبرنا أصدقائي وأنا أن الحرب آتية لاريب فيها، أو على الأقل كانت هناك حظوظ كبرى لتتفجر ... وفي الوقت ذاته كنا نعتبر حدوثها شيئا مستحيلا". كما ترون، يمكن لليقيني والمستحيل أن يحضرا معا جنبا الى جنب. لم تصبح الحرب الكبرى ممكنة الا وهي تحدث!. قرن بعد ذلك لا زلنا نستمر في التفكير بنفس الطريقة: نحن "نعلم" أن الكارثة الايكولوجية في طريقها الى التفجر، - بل ان أعمال مجموعة الخبراء بين الحكوميين حول تطور المناخ (Giec) تبين بأننا قريبون جدا من "نقطة القفز" – ولكننا لا نومن بحدوث الأمر بما فيه الكفاية حتى نمر نحو اتخاذ الإجراءات الحازمة. يتمثل المنهج الذي أقترح تحت اسم "النزعة الكارثوية المتنورة" في النظر نحو الكارثة بكل الجدية عبر اعتبارها كارثة آتية بلا أي شك. ومع ذلك عندما أنظر الى هذه الحتمية، لا أموقع نفسي قبل نقطة التحول، ولكن بعدها، عندما "ستكون الكارثة قد حلت"، ثم ألقي نظرة استرجاعية حول عصرنا.
سؤال: أليست حيلة العقل هاته مفبركة؟.
جواب: نعثر على هذه الحيلة بشكل طبيعي جدا لدى ناس عاديين جدا. أصلي من لاشالوس، في الجنوب الغربي الفرنسي، وهي منطقة كانت، وقت طفولتي، فقيرة تماما على المستوى الثقافي. وهناك لاحظت أن القرويين (ومنهم ناس من عائلتي)، يعتقدون عفويا، عندما يحدث شيء ما تراجيدي في حياتهم، بأنه ما دام أن الحادث وقع، فلم يكن بالإمكان عدم حدوثه. انه "القدر"، مثلما يقال. ومع ذلك فان نفس القرويين يعتقدون أيضا أنه قبل أن يقع الحدث، كان من الممكن جدا ألا يقع أبدا. نحن أمام نفس "الحاجة الاسترجاعية" كما تحدث عنها برغسون قبل الحرب الكبرى. لا زلنا نعثر على أثار هذه القدرية في الفادو، تلك الموسيقى القادمة من البرتغال التي اكتشفتها في البرازيل، حيث عشت طويلا: ان الفادو هو التعبير ذاته عن هذا القدر الخاص الى حد ما، الذي من الممكن تماما ألا يضرب، حتى وان كان "مكتوبا".
سؤال: كيف يمكن لهذه "الحيلة" أن تسمح لنا بتغيير سلوكنا؟.
جواب: يمكنها ذلك وهي تلزمنا بأن نبقى مركزين تماما على السيناريو الأسوأ. سيجعلنا هذا نتفادى، مثلا، القيام بمثل ما يقوم به هؤلاء القادة السياسيين القلقين من نفاذ الموارد الأحفورية. لاستهلاك البترول أثار كارثية على التغير المناخي وعلى مستقبل البشرية. القول بأننا لا نتوفر على ما يكفي من الاحتياطات البترولية هو العبث عينه: هذه الاحتياطات هي للأسف ضخمة أكثر من اللازم!. لنكن واقعيين: للحصول على رد فعل، يجب ضرب الجيب أو المشاعر. لقد مس أل غور، بفلمه "الحقيقة المزعجة" Une vérité qui dérange، الكثير من القلوب. أما تقرير شترن، الذي بين أن اقتصاداتنا ستؤدي فاتورة عالية جدا ان لم نفعل شيئا فيما يخص التغير المناخي، فلقد زعزع العقول. يذهب التقرير حد التنبؤ باختفاء الرأسمالية ان لم نقلص من انبعاثات الغاز الاحتراري. هل كان هذا كافيا؟ لا. أكرر: نحن نعرف، ومع ذلك لا نريد أن "نعتقد" بأن ذلك ممكن الحدوث.
سؤال: في كتابك الأخير تطرح هذه القضايا من منظور جديد: من جهة، مثلما تقول، قامت الحداثة بطرد الديني. ومع ذلك، ومثلما تلح، يوجد «المقدس» في كل مكان: في العلم، في التكنولوجيات، في الردع النووي، بل وحتى في الاقتصاد. أليس الأمر متناقضا؟.
جواب: لقد قام العقل، ومنذ فولتير، بسحق الديني. عندما يحاور العقل الديني )بفتح الياء الأخيرة(، فانه يزعم القيام بذلك من موقع خارجي، "صافي" من أي ايحاء مقدس. أعتقد أن العقل هنا يتصرف بنوع من الغرور، لأن بقايا المقدس في كل مكان. أقصد ب"المقدس" نوعا من التعالي الذاتي يرتفع عبره الانسان فوق شرطه الوجودي. كل المجموعات البشرية، باستثناء مجتمعنا الحديث، منحت لنفسها آلهة– أو "القضاء"، أو "القدر"، باختصار نقطة خارجية – اعتبرت أنها تحقق استقرارها بها، منها. تقلب الأزمة الحديثة المنظور وهي تصرح بأن الآلهة البشر هم من خلقوها. لكن المقدس لم يختف، هو فقط غيّر من شكله. أفضل استعاراتي هي استعارة بارون مونشاوسن، الرجل القادر، مثلما نقرأ في مغامراته، على أن يخرج نفسه بنفسه من المستنقع، عبر جر نفسه بنفسه من شعره أو بشرائط حذائه. ان الاقتصاد، ومن جهات عدة، يعمل بالطريقة نفسها.
سؤال: كيف ذلك؟.
جواب: لنأخذ صورة التسلق في الجبال: تغرسون فأسكم في الحائط الجليدي، تتكؤون عليه، ثم تقومون بسحب أنفسكم نحو الأعلى. ان هذا بالضبط ما تقوم به الاقتصادات – ما عدا أنه في حالة الاقتصادات لا وجود لجدار صلب: ان الجدار هو المستقبل. يشتغل اقتصاد جيدا عندما يبني لنفسه صورة حول هذا المستقبل تكون تفاؤلية بما فيه الكفاية حتى تثير انتباهنا، وقابلة للتصديق بما فيه الكفاية لتمنحنا الطاقة الضرورية لننزلها على الأرض. هذا المستقبل لم يوجد بعد على مستوى الوقائع، لكننا "نوجده" حتى ندفع، نرمي بأنفسنا نحوه.
سؤال: حتى في الأزمة المالية التي نمر منها؟.
جواب: تذكرني الأزمة بهؤلاء الشخوص في الرسوم المتحركة الذين يستمرون في المشي في الفراغ مع أنهم تجاوزوا حد الحافة. ثم، وما ان يكتشفوا أن ليس لهم أي سند تحت أرجلهم، - وفقط في تلك اللحظة- حتى يبدؤوا في التساقط. نفس الشيء حصل مع الأزمة: ناس صعدوا الواحد فوق الأخر باستعمال السلم القصير. وما ان أدرك أحدهم أن الأول في السلسلة لم تكن رجلاه مثبتة على الأرض، حتى انهار كل شيء.
سؤال: أنت لا تخفي غضبك من اقتصاد رأسمالي يريد أن يقنعنا بأن تنظيما جيدا للمبادلات بين البشر كافٍ للقضاء على العنف بينهم.
جواب: ارث كامل، ومنه ما ترك ماركس، ربط الاقتصاد الى العنف. تقليد أخر، يبدأ من مونتسكيو حتى معاهدة روما، نظر الى الاقتصاد، على العكس من ذلك، باعتباره أداة لمحاصرة، لصد ذلكم العنف. كلا الموقفين على صواب: يجب التفكير في الاقتصاد باعتباره "محتويا" للعنف بالمعنيين لكلمة "الاحتواء". هناك عنف في الاقتصاد، لأنه أيضا ما يمنع من تفجر العنف بين البشر. هنا نعثر على المقدس الذي أتبناه من منظور لائكي/ علماني: على الانسان أن يفرض على نفسه حدودا، لأن لا الطبيعة، التي نتحكم فيها من الأن فصاعدا، ولا الديني، الذي طردناه من العالم، يدفعان نحو القيام بذلك. الحل يوجد بطبيعة الحال على المستوى السياسي، لكن السياسي يقتصر على تدبير الاقتصادي – وأسوأ من ذلك، تدبير كل شيء بإخضاعه للاقتصادي.
سؤال: في النهاية، نحن لا نعرف كيف ننظر اليك، هل بوصفك رجل أمل؟ أم باعتبارك نبي شؤم؟
جواب: أنا أومن بالمعجزات – لكن بالمعجزات البشرية، لا بالمعجزات الالاهية. انتخاب أوباما مثلا: في الولايات المتحدة حيث أدرس، حتى أولئك الذين لم يصوتوا عليه يعتبرون أن حدثا استثنائيا وقع مع انتخابه. بإمكان هذه "الفقاعة" من الأمل أن تتفجر، مثلما تفجرت "المخططات" الأولى لباولسن Paulson. كانت البورصات تواصل انهيارها بقدر ما كنا نضيف مليارات الدولارات الى الصندوق. لماذا؟. لأن الأسواق لم تومن بصلابة "نقطة اعتماد" في ظل إدارة بوش. لقد كانت البورصات تنظر أسفل أرجلها، فكانت لا تجد شيئا. في حين أن باراك أوباما كانت له تلك القدرة الخارقة على أن يعيد لأمريكا صورة للمستقبل كانت قد فقدتها – صورة بإمكانها أن تخرجها، تماما كبارون مونشاوسن، من المستنقع الذي توجد فيه.
[1] مجلة Télérama، بتاريخ 1-5-2009. من إصدارات جون بيير دوبي: La guerre qui ne peut pas avoir lieu