يتناول الناقد المصري هنا رواية «أم ميمي» وهي رواية كاتبها الأولى، ولكنها وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، وأثارت حولها بالتالي اهتماما ملحوظا. ويتناول خطابها السردي والعلاقة بينه وبين الحكاية المروية، وإشكاليات التبئير فيها ومنطلقات السرد، وكذلك لغتها – وهي لغة الواقع والشخصية – والتي يعتبرها صادمة.

قِنْطار خَشَب ودِرْهَم حَلاوة

قراءة في رواية «أم ميمي» لبلال فضل

إبراهيم منصـور

 

ظل بلال فضل (المولود عام ١٩٧٤م) يكتب للصحافة والسينما، ويقدم البرامج التليفزيونية، فهو كاتب موهوب، عمل في "جريدة الدستور" برئاسة تحرير إبراهيم عيسى، بعد تخرجه في الجامعة وأفردت له الصحيفة مساحة صفحتين كاملتين كل أسبوع، فكان له أسلوب مبني على السخرية والمفارقة، لكنه تحول بعد ثورة يناير ٢٠١١م إلى كتابة مقالات جادة تحمل صبغة التحليل السياسي، فنسي قراؤه تلك المقالات المسهبة المليئة بما لذ وطاب من ألفاظ بذيئة وأمثال عامية واستعارات، يستقيها من مصادر شتى. ثم نشر بلال فضل روايته الأولى "أم ميمي" (دار المدى ٢٠٢١) وقد تفاجأ، كما قال، إذ وجدها قد فازت بجائزة، حيث اختارتها لجنة جائزة "البوكر العربية" ضمن القائمة الطويلة للعام ٢٠٢٢م.

في كتاب "أم ميمي" يبدأ النص بعتبة ثانية بعد العنوان لافتة ساخرة، فيكتب منوها "جميع الشخصيات والأحداث والوقائع والأماكن والألفاظ الواردة في هذه الرواية لا علاقة لها بواقعنا الذي هو – كما نعلم- أرقى وأطهر وأجمل من أن ترد فيه مثل هذه الشخصيات والأحداث والوقائع والأماكن والألفاظ، لذا لزم التنويه!" ثم ما نلبث أن نرى في الصفحة الأولى سردا لوقائع تنتمي إلى السيرة الذاتية للكاتب بلال فضل الذي حصل على الثانوية العامة عام ١٩٩١م، والتحق بكلية الإعلام جامعة القاهرة، فما هذا التنويه إلا نوع من التلاعب، لأن النص على صلة وثيقة  بالسيرة الذاتية للكاتب، وبما كان يكتبه قديما عن شخصيات من مدينة القاهرة أصابها العوز وقلة الحيلة، وقد أصدر عام ٢٠٠٨م كتابا قصصيا بعنوان "ما فعله العيان بالميت، وقصص أخرى"

*****

الحكاية التي يرويها السارد في كتاب "أم ميمي" تقع بين شهر سبتمبر من عام ١٩٩١ وشهر مايو من العام التالي، أي خلال مدة زمنية لا تجاوز تسعة أشهر، حيث يبحث السارد عن مسكن يقيم فيه أثناء دراسته بجامعة القاهرة، وتساعده والدته في البحث عن هذا المسكن فتختار له الإقامة مع طلاب من جامعة الأزهر في مدينة نصر بالقاهرة، ثم يعود ويسكن في شقة صغيرة في شارع متفرع من شارع الهرم بالجيزة، ليكون أقرب إلى حرم الجامعة، ويلتقي السارد بصاحبة الشقة التي تعيش فيها هي وابنها، هي سيدة تدعى أم ميمي، و ميمي هو ابنها الثاني بعد أخته فاتن المتزوجة بالقرب من مسكن العائلة، أما الأب فهو حلّاق قاسي القلب ضرب امرأته وأهانها بل أحرق جسدها فطلبت الطلاق البائن وحصلت عليه.

يراقب السارد حياة أم ميمي وأسرتها، ثم ينغمس معهم فيما يقارفون من أمور الحياة اليومية مضطرا لا مختارا، وسبب انغماسه هذا أنه يسكن إليهم، فحجرته صغيرة بابها لا يغلق عليه، والحمام مشترك، وميمي وأمه لا يتركون له فرصة للاستقلال بحياته، ثم تحدث وقائع معتادة في الأحياء الشعبية مثل شجار بين الجيران، أو حتى بين الابن وأمه، ومرض أحد أفراد الأسرة وذهابه للمستشفى مصحوبا ببعض الجيران ومنهم السارد، لذلك يحاط السارد علما بطَرَف من سيرة الأسرة وخاصة تاريخ الزوجة مع زوجها، وبعض معالم حياة ابنتها فاتن مع زوجها وأبنائها، حين تصطحب أم ميمي الراوي لكي تقتضي بعض الدين من ابنتها وزوجها، وحين تمرض أم ميمي، وهي بطبيعة الحال مريضة، لأنها تعاني من سمنة مفرطة، تذهب إلى المستشفى القبطي فتدّعي لنفسها اسما قبطيا لكي تتلقى العلاج والنفحات من المستشفى ومن القائمين عليها، ومن رجال الدين. مع أن المستشفى لا يفرق بين المسلمين والأقباط في منح الرعاية الصحية والعلاج والمساعدات العينية والنقدية.

ثم تموت أم ميمي بعد أن كانت ظاهريا قد أبلّت من مرضها، وحين تحين ساعة الدفن يظهر زوجها السابق والد ميمي وفاتن واسمه "شعراوي" فيشارك في مراسم التوديع والدفن، وهنا يجب أن تنتهي قصة أم ميمي التي شغلت المؤلف/ السارد عن دراسته بعض الوقت، لكن شعراوي يذهب إلى الشقة ويقيم بها، بل يطرد ابنه ميمي منها، ويصبح شعراوي شريكا للسارد في حياته كما كانت أم ميمي، فهو ينظف الشقة ويطبخ الطعام ويسلّي السارد بحكايات وقصص حكيم، بل يحاول أن يفسر بعض الحكم المأثورة والأمثال المحفوظة على هواه، ليثبت أن النفاق لا فائدة منه، وأن الدنيا يجب أن تؤخذ غلابا، وأن الصدق يقتضي أن تسمى الأشياء بأسمائها مهما كانت فجاجة الألفاظ أو صدمة الحقيقة المؤسفة. ومما يذكي الحبكة بمزيد من حطب السرد أن شعراوي يشارك الجيران فيما انغمسوا فيه من أعمال وتسهيلات تتعلق بالزواج أو ما يشبهه من أعمال تسميها الحكاية "تعريصا."

وهذا الجانب من حياة شعراوي وجيرانه كان موضع أخذ ورد بين السارد وأم ميمي قبل وفاتها، ثم أصبح موضع أخذٍ ورَدّ بين السارد وشعراوي الذي أصبح مسيطرا على الشقة، حيث تظل التهم التي تبادلها كل من الزوج وطليقته الراحلة بلا إثبات أو نفي، سواء فيما اقترفا أو فيما اتهموا به جيرانهم، فالسارد لم يطلعنا أبدا من أفعال الشخصيات إلا على ما يسرده هو، اللهم إلا حفل زواج عند الجيران ظهرت فيه امرأة من ضيوف العرس ترقص، وقد همّت بخلع ملابسها كلية لكن النمرة لم تكتمل، فقد اعترض العريس السعودي على هذا المسلك الشائن. تنتهي الرواية بانتهاء العام الدراسي ومغادرة الطالب السارد/ المؤلف لشقة المرحومة "أم ميمي" التي احتلها مطلقها شعراوي.

لكن المؤلف الذي كان طوال الوقت لا يترك القارئ ينعم بالراحة بعيدا عنه، وعن وجهة نظره في كل شيء، يعود في الصفحة ٢٢١ قبل صفحة الفهرس ليخاطب القارئ عن خطته للعام القادم فيقول "سأحرص على أن أكون مستعدا  له هذه المرة، وحين ركبتُ أول ميكروباص صادفني متجها إلى جامعة القاهرة، كان ذلك آخر عهدي بشعراوي الزناوي، ومن معه ومن حوله، وبداية رحلتي نحو حارة سمكة التي سأنبئك بأخبارها إن عشنا وكان لنا عمر" فهذا وعد من الكاتب أن يكتب رواية جديدة يكون محل وقائعها في "حارة سمكة" وقد يكون هذا هو عنوان الرواية المنتظرة، ثم نقرأ في مقال كتبه الكاتب الصحفي الموهوب محمد أبو الغيط عن الرواية أن بلال فضل ينوي استكمال ثلاثية روائية عن الشقق المفروشة، بما يؤكد صحة قراءتنا لهذا المقطع الأخير من الرواية.

*****

الحكاية أو القصةstory  ليست كل شيء في النوع الأدبي السردي الحديث أي الرواية Novel وإلا وقعنا في شرك العقاد الذي كتب رواية وحيدة مهمة بعنوان "سارة" ومع ذلك كان يضع الرواية في رتبة متدنية بين الأنواع الأدبية، فالأستاذ العقاد (١٨٨٩- ١٩٦٤م) كان شاعرا، وناقدا ومفكرا، ولكن الرواية عنده لا تعدو أن تكون مثل ثمرة الخرّوب "قنطار خشب ودرهم حلاوة" رأي العقاد في الرواية يشبه رأي النقاد العرب القدماء، فقد كانوا يقولون عن بعض الشعر "إذا أنت فتشته لم تجده شيئا". فإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يجعل من حكاية ما رواية فنية؟ إنه الخطاب القصصي أو السرديNarrative Discourse  أي تلك الصياغة التي توضع فيها وقائع الحكاية وشخصياتها وأماكنها وحواراتها ومعانيها المضمرة جميعا. لذلك صح أننا يجب أن نعرّف القراء بما في خطاب "أم ميمي" من لغة وأسلوب وبلاغة سرد، حتى نقف على ما حملته اللغة مما هو وراء الحدوتة.

تحكي الرواية دائما شخصية حقيقية أو متخيلة، فإذا قامت شخصية واحدة بإخبارنا بجميع الوقائع البعيدة غير المعروفة، والمتوقعة أي المستقبلية، والحالّة أي التي تجري في الوقت الحاضر، أطلقنا على تلك الشخصية الراوي العليم، أي الذي لا يفوته شيء من الوقائع، وقد اختار بلال فضل هذا النوع من الرواة فجعل جميع الوقائع والأحداث تروى من وجهة نظر هذا الراوي العليم، وعلى لسانه هو، وقد اختار أيضا إن يجعل هذا الراوي يحدّث القارئ بضمير المتكلم، فيبدأ هكذا "تعودتُ حين أحكي الحكاية أن أقول إن ما أوصلني إلى العيش مع أم ميمي: ثديان بولنديان لهما حلمتان فريدتان رأيتُهما في فيلم للكبار فقط" فلم يكن الراوي إلا الشخصية الرئيسية التي تحدث لها ومنها وبها الأحداث، ولم يكن هذا الراوي منفصلا كثيرا عن شخصية الكاتب نفسه كما ذكرنا من قبل.

هذا الراوي العليم أو السارد، كان أنانيا جدا متشبثا بالحكاية ممسكا بخيوطها طوال الوقت، لا يترك فرصة لغيره لكي يتكلم، فلا نجد في الرواية إلا عبارات نادرة تفوهت بها أم ميمي أمامنا في حوار مع شخصية الراوي نفسه، فنحن نعلم بكلامها من الراوي، وكذلك الحال فيما يخص سائر الشخصيات: ميمي وفاتن وسامية  وأبو سامية ورحاب وعم سيد البقال وشعراوي وأمجد زميل الراوي، وهذا النوع من السرد يسمى "الخطاب غير المباشر"، فالكلام الملفوظ كله كلام ذلك الراوي الذي هو سارد القصة، وهو لا يعدو أن يكون هو خطاب المؤلف نفسه، حتى لو أخبرنا أن هذا ما تقوله الشخصية التي يخبرنا عنها، وأكثر من هذا أن الراوي قد تجاهل الوصف المشهدي، لأن السارد مشغول بوجهة نظره هو في الأحداث والأشياء، هناك وجهة نظر واحدة وعين واحدة، ومع ذلك فالرواية مسلّية، في جزئها الأول ومحتملة، لأن اللغة سهلة والألفاظ معتادة، والوقائع مضحكة والمفارقات كثيرة، إلى أن ماتت أم ميمي. فلم تعد هناك أحداث، فأخذ السارد يفترض حدثا فيحكيه، ثم يتبين أنه مجرد ظن منه، ثم يعود ويفترض حدثا آخر وهكذا دواليك.

*****

حين قرأت رأي رشيد العناني في رواية "أم ميمي" وجدت أن الرجل قد تحاشى أن يحكم على الكتاب إلا من ناحية واحدة هي لغة الرواية، واللغة هنا معناها الألفاظ أي المعجم الذي يمكن جمعه وتصنيفه من سطور القصة وعباراتها عبر الصفحات المائتين وواحد وعشرين، فوجدت أن هذا الناقد الكبير الذي يعيش في انجلترا ويكتب بالعربية والإنجليزية، قد قرر أنه "لو أن هناك جائزة لأفضل رواية في الابتذال والإسفاف والسوقية لفازت بها عن جدارة رواية "أم ميمي" وقد امتنع الناقد عن ذكر أية ألفاظ من النص، وعنده حق، برغم أنه يكتب على الفيس بوك، لكنني أيضا هنا لا أستطيع نقل أي لفظ من قاموس البذاءة الذي ورد في سائر صفحات الرواية وإلا لامتنعت الصحيفة عن نشر المقال.

لا يمكن أن تكون الألفاظ البذيئة وحدها علامة على واقعية الرواية وصدقها الفني، كما لا يمكن أن تكون بذاءة الألفاظ وحدها دليلا على سقوط الرواية وخلوها من المعنى، لذلك يجب أن ننظر في بعد آخر وهو المعنى الذي انطوت عليه حياة الشخصيات أو ما يمكن أن نسميه أيديولوجية الشخصيات في الرواية، هنا نجد الراوي قد نسج لنا نسيجا لغويا متماثلا، تظهر فيه الشخصيات كلها دناءة وخسة، ولا هدف لها في الحياة إلا التآمر والكذب والتلاعب والقوادة أيضا، فهي لم تكن أبدا شخصيات مغتربة مرفوضة من المجتمع أو رافضة له. ولم تكن شخصيات مجتهدة أصابها الإعياء والفشل لسوء الحظ ومعاندته، ولم تكن شخصيات لها رؤية مغايرة معارضة للسلطة ومن هنا يأتي عذابها وإحباطها، إنها فقط شخصيات "حقيرة" ألفاظها منحطة، ونواياها لا تستقيم مع القيم الاجتماعية ولا مع القيم الدينية.

النسيج اللغوي في الأدب، سواء في الشعر أو القصة، يأتي متنوعا فيه صنعة وإتقان، لا تتشابه فيه الجمل والعبارات، وهو يشبه الأنسجة الصوفية والقطنية والحريرية، هناك نسيج السجادة العجمي، ونسيج أقمشة الدانتيلا أو التخاريم، وهناك نسيج قلوع المراكب، كل من هذه الأنسجة له قيمة وله سعر، نسيج العمل الأدبي يشبه هذا في تنوعه، ولا يصح أن يكون نسيجا رخيصا كله تتشابه فيه الخيوط والغُرَز، وإلا لصار الأمر كما قال العقاد بحق  "كثرة في المادة و قلة في المحصول" أما رواية أم ميمي فليس فيها معنى، هي مثل نسيج شبكة صيد السمك، خيوط متصلة متشابهة من النسيج الرخيص، هذا النسيج المليء بالثغرات يغني بعضه عن بعض.

وفي نظر بعض النقاد، فإن رواية "أم ميمي"  قابلة لأن تقرأ ضمن أدب ما بعد الحداثة، حيث يكون السرد مقصودا لذاته، خاليا من المعنى، كما أن نقادا آخرين قد يقرؤونها على أنها سرد واقعي صادم يعرّي المجتمع بلا مواربة لكي يكشف عواره، ويفضح الظلم والتقصير في حق الفقراء، كما فعل محمد شكري في "الخبز الحافي" حيث الدعارة والانحطاط في المجتمع المغربي زمن الاستعمار، أو تشيخوف في روايته القصيرة "الفلاحون" حيث عبودية أقنان الأرض والأمراض والفقر المميت في روسيا القيصرية، أو إميل زولا في "جرمينال" حيث تؤثر الوراثة على الشخصيات وسلوكها المعيب، بين عمال مناجم الفحم في فرنسا الصناعية الرأسمالية، لكن الكاتب بلال فضل قد بنى عمله السردي "أم ميمي" على التقرير والتصوير، فكل عبارة فيها تداخل بين التصوير والتقرير، والتقرير أسوأ أنواع السرد، كما أن الرواية نسيج متصل من البذاءة المقصودة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

 

أستاذ النقد والأدب الحديث، جامعة دمياط