يكشف الكاتب السوري المرموق هنا عن لوعة الفقد، وعن أهمية إنجاز الفقيد في الوقت نفسه، ويقدم لنا كيف كتب الذهبي منذ بداية مسيرته الأدبية رواية مغايرة، تسعى للاستفادة من تراث السرد العربي الكبير من ناحية ومن أحدث تقنيات الرواية الغربية من ناحية أخرى لتكتب رؤية الكاتب الحر لواقع بلاده.

خيري الذهبي كتب رواية التاريخ السوري بعين النقد

أحد مؤسسي الرواية الجديدة رحل عن 76 في المنفى الباريسي

نبيل سليمان

 

برحيل المبدع الصديق خيري الذهبي نطوي صفحة جديدة في كتاب المأساة السورية التي يبدو معها كتابٌ مثل "العرب وتجربة المأساة" لصدقي إسماعيل (1924 – 1972) رجْعاً باهتاً، وربما شائهاً، على الرغم من التماعاته في تشخيص المأساة ووعيها، قبل ستين سنة. وطالما رددت في فقد رمز ثقافي، صديقاً كان أم لا، أن وعي المأساة بفقده إنما يكون بقراءة - وإعادة قراءة - ما أودعنا، وبخاصة أن تكون القراءة نقدية. ولأن الجرح بفقد خيري الذهبي طريّ، فحسبي الآن أن أتأمله بين برزخ البداية، وهو رواية "ملكوت البسطاء" التي نشرها اتحاد الكتاب العرب عام 1976، وبين البرزخ الروائي الأكبر الذي تمثل في روايته "المكتبة السرية والجنرال" (2018).

بُعيد صدور "ملكوت البسطاء" كان لقاؤنا الأول، وكنت أعدّ العدّة لكتاب عن الرواية في سورية بين حربي 1967 و1973، ومن ذلك الإعداد كان سؤال عدد من الكتّاب عن مفهوم واحدهم للرواية. ولعل من الأهمية أن نقرأ اليوم جواب خيري الذهبي الذي كان في بداية الطريق، قد غادر الثلاثين للتو حاملاً روايته الأولى، وهذا المفهوم للرواية الذي ينمّ عن وعي نظري عميق، سوف يظل خيري مخلصاً له في كل ما أبدعه من الروايات. وقد ضمّ كتابي "حوارية الواقع والخطاب الروائي" جواب خيري، ومنه:

شهادة روائية:
"لا شك أن الرواية كجنس أدبي معاصر، وبالنظرة الأوروبية للرواية فن حديث الورود إلى سورية. وقد يستطيع الدارس الأدبي العودة إلى الثلاثينيات سعياً وراء رواية نشرت في ذلك الحين مثلاً، ولكن هذا لا يعني أنها قد رسخت جذورها، أو أنها قد بدأت العطاء على الأقل. أما الرواية لدارس التاريخ الأدبي بمجمله فلها جذورها الطويلة والمتشكلة في حينها، ولكننا ربما لم نسمها رواية حسب مقاييس الجنس الأدبي المعاصر، ولكننا لو نظرنا إلى مقامات الهمذاني مثلاً أو الحريري، وانطلقنا من منظور أن البطل وظروف المجتمع وتركيبته المتنوعة المختلفة، لعثرنا على شكل جديد – قديم من اشكال البناء الروائي. الأمر الذي أدركه الشدياق جيداً، فكتب رائعته المعروفة – الساق على الساق فيما هو الفارياق – ولكنه أثقل كتابه بالاستطرادات والاستعراضات اللغوية فأضعف من إحساسنا بالتوتر الدرامي في الرواية، ثم جاء أميل حبيبي فوضع روايته المعروفة – المتشائل – والتي نهل فيها من المقامة نهلاً واسعاً وخلاقاً. وهنالك أيضاً ألف ليلة وليلة رواية العرب الأولى والأجمل، وهذا شكل جديد ورائع من أشكال البناء الروائي، ثم هناك الملاحم الشعبية. كالملك الظاهر وسيف بن ذي يزن، وحمزة البهلوان إلى آخر هذه الملاحم الروايات.

كل هذه الأشكال من البناء الروائي – وخاصة حين تقدم الغرب فنقض ما بناه في القرنين الأخيرين من إحكام بناء المعمار الروائي، إن في استخدامه تيار الوعي والتداعيات كما لدى مسز وولف وجويس، أو في تحطيمه البناء نهائياً كما في ما يسمى بالأنتي رومان لدى ناتالي ساروت، وآلان روب غرييه، أو في استخدام ما يسمى بنسبية النظرة إلى الحياة في الأدب، كما لدى لورانس داريل في "رباعية الإسكندرية". كل هذه الأشكال تدعونا إلى محاولة البحث عن شكل أصيل للرواية في العربية، مستفيدين من الأشكال التي قدمها الأجداد، ومن العلوم التي قدمها الغرب المعاصر، من استخدام لعلم النفس، وعلم دراسة أصول الأجناس، هذا بالإضافة إلى سكب هذا كله في إطار رؤية سياسية مستقبلية وواضحة".

في البرزخ الأول رسمت رواية "ملكوت البسطاء" أجواء الحرب العالمية الأولى (السفر برلك) وسقوط العثمانية وقدوم الاستعمار الغربي. وكل ذلك عَبْر رسمٍ آسرٍ للشخصية الروائية، وعبر تلك اللعبة الروائية الحديثة التي كانت لا تزال في بداياتها، أعني لعبة تعدد الأصوات أو البوليفونية ، مما كانت قد قدمته رواية نجيب محفوظ "ميرامار" ( 1967) ورواية سليمان فياض "أصوات" (1972) ورواية "ثلج الصيف" ( 1973) لكاتب هذه السطور.

في "ملكوت البسطاء" كمنت لسنوات بذرة ثلاثية خيري الذهبي "التحولات". ومن البرزخ الأول انطلق مشروعه في ما أسميه الحفر الروائي في التاريخ، وليس الرواية التاريخية. وقد توّج البرزخ الأكبر في رواية "المكتبة السرية والجنرال" هذا المشروع. جاءت هذه الرواية/ البرزخ في بناء معقد يلوح لثلاثة بناءات روائية عربية وعالمية كبرى، هي: البناء الملحمي، والبناء الألف ليليّ – نسبةً إلى ألف ليلة وليلة – وبناء الواقعية السحرية الوثيق الصلة بالبنائين السابقين.

تشتبك الأزمنة في هذه الرواية منذ الجد الشيخ شمس الدين قبل قرون إلى الشيخ محي الدين في زماننا. وفي هذا الاشتباك يتعدد السرّاد ولكل امتيازه، وليس ابتداءً بالحفيد نوري ولا انتهاء بآخر زوجات الشيخ إلهام التي رطنت بالعامية.

قدرت بعض القراءات لهذه الرواية تحت وطأة الراهن السوري، أن ما كان فيها لكتاب "الجفر" هو الرهان الأكبر للرواية. لكن هذا الرهان ليس غير المكتبة الأسطورية بسراديبها وأنفاقها وأبوابها وطبقاتها وكنوزها. ولعل أحداً يقوم بالمقارنة بين مكتبة خيري السرية ومكتبة المصري إبراهيم الفرغلي السرية أيضاً، في روايته "معبد أنامل الحرير" (2015)، فلهذه الرواية مكتبتها الهائلة تحت الأرض، والتي تمور بالمعارضين للديكتاتور والديكتاتورية في الأعالي، ويتهيأون إلى يوم النشور.

أما مكتبة خيري الذهبي فليست لجمهرة إلا جمهرة خزائنها وكتبها التي تتحدى الديكتاتور والديكتاتورية: الجنرال مسعود الحسن. ويذكّر كتاب "الجفر" بمصحف فاطمة الذي تمحورت عليه الرواية البديعة لشهلا العجيلي "سجاد عجمي" (2011)، والتي تخاطب ما تفجر في سورية عام 2011، وإن كان زمنها يعود قروناً، ومكانها يتبأّر في مدينة الرقة. وكما خرجت شهلا العجيلي بمصحف فاطمة من الأسر الطائفي، خرج خيري الذهبي بكتاب الجفر إلى فضاء آخر ترامحت فيه العجائبية والإيروتيكية والأسئلة الروحية والفلسفية، وبدا خيري الذهبي كأنما يتلذذ بالسرد والتخييل، ولكن على إيقاع القنابل الفراغية التي تدمر أخيراً المكتبة، أي على إيقاع الاحتلال الروسي، وكذلك الإيراني. ولمن يتساءل عن الاحتلال التركي، يأتيه الجواب في البرزخ الأول (ملكوت البسطاء) كما يأتيه من مقالات سردية أخرى لخيري الذهبي، كما في كتابه "التدريب على الرعب" (2004).

بين برزخين تألقت روايات خيري الذهبي، وهو الذي لو لم يكتب إلا رواية "فخ الأسماء" لكفى. كما قدم الكثير في القصة والسيناريو والمقالة، وها هو أخيراً يفتح صفحته في كتاب المأساة السورية، فماذا لمثلي أن يقول: وداعاً يا خيري أم إلى اللقاء؟