لأسباب كثيرة خارج العملية الإبداعية، تحول الكثير من الشعراء إلى كتابة الرواية، بينما لم يكن بذات التدفق، التحول من الشعر إلى القصة القصيرة، وقد يرجع ذلك – فى تصورنا- إلى أن الحوافز لم تكن واحدة فى الحالين، إلا ان جوهر الشاعر الذى كانه الكاتب فى الحالتين، ظل مضمرا فى الأعماق. وإن كان ظهوره فى القصة القصيرة أبرز، عنه فى الرواية، ربما – أيضا- للعلاقة الوثيقة، والتقارب الكبير بين الشعر والقصة القصيرة، فكان إدراك الشاعرية فى هذه الحالة أيسر، وأوضح، وهو ما لا نجد صعوبة فى تلمسه فى القصة القصيرة عند الشاعر والناقد عايدى على جمعة، من خلال مجموعتيه "جنية الحقول"[1] و" السلام عليكم"[2]، حيث نجد التشبث بعناصر الطبيعة، والظروف الجغرافية الأقٌرب للرومانسية التى هى وقود الشعر، فى شكله الراسخ فى الأذهان. حيث نجد التمسك بجو الريف، وهدوئه، وطباع ناسه، التى لاتتجانس بسهولة مع طباع المدينة وناسها، وهو ما عبر عنه إهداء المجموعة { إلى قرية الجواشنة، وأهلها المطمئنين} فاستخدام لفظ الاطمئنان، يعبر عن رؤية الكاتب للمنطقة وناسها. كما يوضحه- أيضا- العنوان الرئيس للمجموعتين. ف "جنية الحقول" تجمع بين الخيال، والحواديت، وحديث الجدات، وكل ما يمثل التكوين الأولى للبشر، جمعها الكاتب فى "جنية". ثم كان الشق الثانى من العنوان "الحقول" حيث هى مجمع العناصر المكونة لوجود البشر فى تلك البقعة من الأرض، وهو ما يعنى البشر. لتنفتح الرؤية وتتسع إلى مداها، مكانيا وزمنيا، للبشر العائشين فى ذلك الحيز. وهو ما نستطيع تلمسه فى الغالبية من قصص المجموعة، والتى جاءت عناوينها الفرعية، تحمل أسماء البشر، وليصبحوا هم العمود الفقرى للمجموعة ككل. وحتى عنوان المجموعة الثانية "السلام عليكم" يحمل السلام والمحبة والوئام السائد بين بشر، ذلك موطنهم. وإن كان التغير والتحول قد أصاب كل شئ، إلا انها رؤية الكاتب، لما كان، وما يرجوه أن يكون، فكانت صورة الماضى، برؤية المُحب، وكان انتقاد الحاضر، بعين المُحب أيضا، أملا فى رؤية المستقبل، وفق ما يتمناه المُحب.
شاعرية الرؤية
وتتجلى صور الشاعرية فى شعرية الرؤية، وما نراها فى قصة "الجنية" حيث ينغمس الكاتب فى الجو الريفى، وصفا للصفاء والهدوء، الذى ينعكس على نفوس البشر. لنجد الفتى فى نزهة بين الحقول. يشاهد (جنديا) مُغطى بالحديد، يراه عفريتا، فيصرخ عائدا للبيت ليجد جده، الذى يهدئ من روعه، ويخبره ألا عفريت هناك، ليكتشف بعد ذلك أن ما رآه ليس إلا شيخ البلد المجاور لبلدتهم، راكبا حماره القوى، وقد تعمم بشال أبيض وطاقية بيضاء، هو ذاته من تصوره "عفريت". ورغم بساطة الحكاية، المغلفة بالكثير من اللغة الشعرية {حيث يختلط ضوء النجوم مع عبير الزرع الفائح، ويتهادى مركب القمر بين أمواج السحب البيضاء، حاملا أميرة المساء التى تركت ضفائر شعرها، وهى تبحث عن حبيبها المختبئ منها بين طيات السحاب المتراكم، وتأتى أنفاسها بردا وسلاما على وجه أهل الأرض}. إلا ان الكاتب يقدم بعض المفاتيح، او المؤشرات التى تقودنا إلى داخل النص، مثل، وصف الجندى – فى ذهن الفتى- { جنديا عملاقا مغطى بالحديد وعليه خوذة كأنه من العصور الوسطى} وصورة نفس الشخص الذى تصوره عفريت، ولكن بعد أن تكشفت حقيقته { شاهد شيخ البلد للقرية المجاورة راكبا حماره القوى، وقد تعمم بشال أبيض وطاقية بيضاء}. لنتأمل المقابلة بين الرؤى، قبل وبعد، من زاوية رؤية الفتى، لذات الشخصية. ففى الرؤية الأولى نجد الشر والسلاح والحديد... والخوف. بينما فى بعد، سنجد الحمار القوى، ونجد الشال الأبيض والطاقية البيضا. أى نجد السكينة والسلام (يحرسها القوة). ولنتأمل كيف كانت رؤية العربى لإسرائيل، قبل السلام، وكيف هى بعده. فضلا عما يمكن أن تمثله تلك المقابلة (الشعورية)، حيث يمكن أن تمثل مقابلة الجد للواقعة بأنها نظرة الجيل الأكبر، أو نظرة الآباء، بما يمكن أن تحمله من مرارة تجربة الحرب، ومن الرؤية المتعقلة للأمور. بينما رؤية الفتى يمكن أن تعبر عن رؤية الجيل الحالى، أو التالى، وهى الرؤية الثورية، الاندفاعية، أو التى لا تحمل مرارة التجربة. وهو ما قد يعكس رؤية المجتمع لقضية الصلح مع إسرائيل، فبينما الجيل السابق يرى العقل والمصلحة مع الصلح، وإنهاء حالة الحرب التى عانوا منها طويلا، بلا فائدة، فى الوقت الذى يرى فيه الشباب غير ذلك. فقد تحول الحدث من الخيال، بأوهامه، إلى واقع بحقيقته. وهنا لا نستطيع أن نحاسب الكاتب على رؤيته للأشياء، حيث قد يرفض البعض تلك الرؤية، غير أنها بالفعل ليست رؤية الكاتب، وإنما هى أولا: رؤية التحول العربى من الرفض إلى القبول، للوجود الإسرائيلى. وثانيا: هذا تأويل ما كتب الكاتب، وما يعنيه التأويل من وجود تأويلات مخالفة، قد تصل حد التناقض.
ولنلاحظ هنا أن شعرية اللغة، التى تصور بساط الريح يتهادى على أذرع النسيم، مستضيئا بونس ضوء النجمات الحارسة فى السماء. لم تأت للوقوف بها عند اللغة الشاعرة، الناعسة، كحلية تُعلن عن وجود شاعر، وإنما جاءت لتلعب دورا حيويا فى تأسيس شاعرية الرؤية. فإذا كانت اللغة هى حاملة هودج صاحبنا السائر فى ليل القرية، متنعما بسكونها واطمئنانها، ولتطبيق (بضدها تتبين الأشياء) فلنا أن نتصور وقع الصدمة التى يمكن أن ينتقل بها الفتى، من تلك الحالة، إلى مشاهدة عفريت. هنا نستطيع أن نلمح التلاحم الشكلى والموضوعى، والتضافر بينهما ليصنعا لحظة فارقة، كاشفة، تنم عن رؤية أوسع مما يحمله ظاهر الكلام.
كما تتجسد رؤية الكاتب فى الريف فى قصة "الخطوبة" وحيث لا يزال الريف يلعب دور الحاضنة الأولى لكثير من الأعمال الإبداعية، والذى تضافر مع فترة الصبى، لتشكيل رؤية المبدع للحياة والبشر، وهو ما نجده فى العديد من قصص المجموعة، حيث جسده فى الرؤية الخلفية لقصة "الخطوبة" والتى يرى فيها الفتى الريفى، تلك الفتيات الزائرات لأقربائهن من المنصورة، فيقرر خطبة إحداهن، وتتم الزيارة التى تُقابل بالترحاب، ويؤجل البت فى مسألة الخطوبة لما بعد، حيث تأتى فيما بعد بالرفض. وفى زيارة عابرة للفتى بالمنصورة، يفاجأ بفتاته فى صحبة أخرى، وهى تحكى لها عن المُعيد الذى اشترى فدان أرض من جدها، وجاء لخطبتها، لكنها رفضت. وليقرر الفتى رفض الفكرة للنهاية. إلا أن الريف هنا يلعب الدور الرئيس فى القصة. من خلال المقابلة –أيضا- بين استقبال أهل الفتاة للفتى – فى البداية-، وحديث الفتاة لصديقتها- فى النهاية-. حيث نجد الصدق والبشاشة، فى مقابل الكذب والغش، فى النهاية. ومن خلال المقابلة، تتجسد الرؤية، التى تُلصق الحالة الأولى بالريف، وصفائه، وتُلصق الحالة الثانية بالمدينة ودهاليزها التى تتبين من كيفية العودة للقرية من المنصورة { وفى طريق العودة حين كان سائرا فى أحد شوارع المنصورة كى يستقل الحافلة إلى مركز السنبلاوين، ومنه إلى ديرب نجم، ثم إلى قريته}. وإن كانت النظرة المباشرة لتلك الرحلة لا ترى ضرورتها، أو أهميتها فى القصة الموزون كلماتها. إلا ان النظرة المتأملة تستخرج منها بُعد المسافة، ومشاقها، بين كل من الريف والحضر. فضلا عن بداية القصة، والتى تؤكد أن صاحبنا لم يكن قد استقر على من سيخطبها، رغم رغبته فى الزواج { كانت لديه رغبة عارمة فى الزواج، لكنه فى هذه الفترة لم يكن مستقرا على واحدة بعينها يتخذها زوجة له، وحين رأى ثلاث أخوات يسرن على مصرف القرية، وقد بدا من هندامهن أنهن من البندر}. إذن فالدافع للزواج، أو الارتباط هنا، هو أنهن من البندر. أو هى رغبة الريفى الذى يريد أن يرتبط بالبندر. وهى نظرة دونية يشعرها الريفى. فى الوقت الذى تنتهى فيه القصة بالنظرة الاستعلائية من ابنة البندر، لابن الريف، فكانت {: لقد تقدم لى معيد فى الجامعة، ولديه فدان أرض اشتراها من جدى، لكننى رفضت}.وكأنها تضع نفسها فى مستوى أعلى من مستوى الريفي، إذ أنه رغم أنه (مُعيد) إلا أن أباه اشترى فدان أرض من جدها. ولنا أن نتصور حجم الألم النفسى- على المستوى الفردى- لما يشعر به الفتى جراء هذه الخدعة التى توهمها حبا. فكان الرفض، رفض للخديعة، ورفض للاستعلاء. غير أن الرؤيا هنا تخرج من الحيز الضيق، الحيز الفردى، إلى الفضاء الأوسع. فكان المعنى المخفى، وكانت الشاعرية.
وإذا كانت هذه الخطوبة لم تتم، فإن خطوبة أخرى- أيضا – لم تتم، فى قصة "الخطوبة"-أبضا- ولكن فى المجموعة الأخرى للكاتب "السلام عليكم". حيث نعيش أيضا- تحت نفس العنوان- وهو ما يعنى أن الرؤية مستقرة فى باطن الكاتب، طوال المرحلة البينية، وتُلح عليه. فنقرأ عن ذلك الذى يعيش بالقاهرة، ويقع فى حب ابنة عمته، التى تصغره بعشر سنوات كاملة، فاتنة المحيا. يتولى الآباء خطبتهما، وهما لا يدريان أنها تحب شخصا آخر فى مدينتها بورسعيد. فتتأرجح الخطبة بعد وافاة والد الخطيبة، وكأنها إيذان بانفضاض العقد. ثم تعود بالموافقة، وينتهى الأمر بفسخ الخطوبة. وحيث تتبدل المواقف، ففى خطوبة "جنية الحقول" كانت الفتاة هى الواردة، والشاب هو المقيم، أما فى خطوبة "السلام عليكم" فالفتاة هى المقيمة، وإن لم يكن فى الريف، ولكن فى الهامش بورسعيد، بينما الفتى من المركز، من القاهرة. وإذا كان الفتى هو من رفض الخطبة فى الأولى ، فإن الفتاة هى من رفض الخطبة فى الثانية، أى أن الهامش - فى الحالتين- هو من رفض المركز، رفض العاصمة، لا كعاصمة، بقدر ما هى عادات وتقاليد. تلك التى حافظت عليها – فى البداية، عندما لم ترفض الخطبة، إحتراما لارتباط الكبير، والدها. المهم أنه لم يصلح التزاوج بين الطرفين، بين المركز والهامش، أو بين العاصمة، والأقاليم. لتتفق الرؤية فى الحالين. فإذا ما تأملنا مطلع القصة سنقرأ {الطرقة الواسعة في المستشفى الحكومي بمدينة بورسعيد تبدو شديدة الطول والاتساع وهو يزرعها جيئة وذهابا وقد خيم الحزن الرهيب على محياه، وبدا كاهله وهو يئن أنينا مفجوعا من ضخامة ما يحمله. وكان ما يحمله رهيبا حقا، فخطيبته ذات الحسن الفائق والتي تصغره بعشرة أعوام كاملة اعترفت له بأنها تحب شخصا غيره حبا لا يعرفه أمثاله}. وهو ما يبين لنا، اولا البراح والسعة التى تبدو من وصف المستشفى، و المعبرة فى ذات الوقت عن المكان الأوسع، فى المنصورة أو الهامش ، فإنها تعكس الإحساس النفسى الذى يعانيه الفنى، من اتساع المكان، الذى يُشعره بضآلته بالنسبة له. وفى المقابل نستنبط رؤية الفتى لفتاته، وخوفه من وفاة والدها، وكأنه الرابط الذى حقق له حلمه، فكان حزنه كبيرا { مفجوعا من ضخامة ما يحمله. وكان ما يحمله رهيبا حقا}. ثم نظرته، أو رؤيته للفتاة { فخطيبته ذات الحسن الفائق والتي تصغره بعشرة أعوام كاملة}. أى أن الشعور بالدونية موجود هنا من جانبه، فى الوقت الذى ندرك النظرة الفوقية للفتاة فى { اعترفت له بأنها تحب شخصا غيره حبا لا يعرفه أمثاله}. فاستعمال لفظ (أمثاله) تلقى بحمولتها الاستعلائية. مضافا إليها ذلك المنولوج الذى تتحدث به الفتاة فى النهاية، مناجية حبيبها { لن أتنازل عن حبي أبدا إنها مسألة وقت وأفسخ هذه الخطبة أنا لا أطيقه. تصرفاته لاتنزل لي من زور. طريقته في الكلام طريقته في الأكل طريقته في التقرب مني كل ذلك يصيبني بقشعريرة. لا أحبه لا أحبه}. فكانت النتيجة الحتمية، عدم الإلتقاء، وفشل التزاوج بين الطرفين، المركز.. والهامش.
كما يمكن أيضا أن نجد الريف يحتل الخلفية المُحركة للفعل، وللأشخاص فى قصة "البنطلون". تلك الرؤية التى وصلنا إليها فى قصة "الخطوبة"، وهى الصراع أو المقابلة بين الريف والحضر. لتعتصر طفولة الطفل بينهما، ذلك الطفل الذى أحضرت له خالته {بنطلونا متينا جدا}. إلا أنه وأثناء لعب الطفل بالمياه السارية إلى (غيطهم)، يشتبك مسمار الطمبوشة بالبنطلون المتين جدا، فيمزقه، وتسيل دماء الطفل مع المياه التى فى طريقها إلى الغيط. لتتوقف الحكاية عند هذا الحد، لنعود إلى القصة، فنقرأ الصور الشعرية شاحنة الكلمات/ المفاتيح، لتسيل حبا ووصفا لذلك الريف، الذى رفض الشكل الخارجى للطفل، رفض البنطلون، فمزقه، وتشرب الأرض الدماء مع الماء، لينبت الزرع، ويزدهر الريف، رافضا ذلك الوارد من الأسكندرية، المتين جدا. فإذا ما تأملنا البداية فى هذه القصة، فسنقرأ{ جاءت خالتى من مدينة الإسكندرية إلى قريتنا جلبت لى معها بنطلونا متينا جدا} فسنجد أولا أن الكاتب استخد (جلبت) ولم يقل أحضرت أو أتتنى ب، على سبيل المثال، حيث يستدعى اللفظ المستخدم (جلب)، ذلك االتعبير الشائع "جلب الحبيب" والمرتبط بالسحر، اى الإتيان بشئ مستعص، أو غير يسير، وكأن الخالة اضطرت أن (تجلب) ذلك البنطلون. ثم إضافة كلمتى (المتين جدا) واللتان توحيان بالاستعلاء على الريف، فلم يكن البنطلون جميل مثلا، او لونه كذا، أو خامته كيت، أما استخدام المتانة تحديدا فهى تعنى أن الشئ الذاهب إلى القرية، لابد أن يكون متين –بصرف النظر عن باقى المواصفات- كى يتحمل طبيعة هذا المكان الذى يتطلب مواصفات خاصة غير تلك التى بالمدينة(الأسكندرية). كما أن الخالة، لم يُذكر اسمها، أو تمت الإشارة إليها إلا فى هذه الجملة، فقط، وكأنها أدت مهمتها، أو تخلصت من عبئ كبير، وكأنها عادت أدراجها إلى الأسكندرية، ولم تطق البقاء فى القرية. هذا فى الوقت الذى يتغنى الطفل فيه بمحاسن القرية وجوها{كنت أسير خلف أبى على حافة المصرف الملئ بأشجار اللبلاب، مستمتعا بجو الصباح الساحر بين الحقول، والنبات الأخضر الذى يمتد لمسافات بعيدة، وقد انتثرت على الطرقات بين الحقول الماشية ذات الصوت المبهج}.الأمر الذى يصنع المفارقة بين القرية (الهامش) والبندر، بكل صوره. وما يؤكده أيضا، عدم إكتراث الأب بتقطيع البنطلون المتين جدا { ذهبت إلى أبى فى الحقل بغير البنطلون المتين، وآثار الدماء على ساقى. مر الموقف} فلم يُثر الأمر فى الأب أى إهتمام، وكأنه التسليم بالنتيجة المتوقعة، بعدم القدرة على التعايش بين الطرفين، وأن الفراق بينهما.. حتمى.
فإن كانت الكثير من الروايات، والقصص التى تحدثت عن معاناة الريفى فى المدينة، فإن عايدى أتى بالمدينة إلى الريف، ليؤكد إختلاف كل منهما عن الآخر، وإن تعددت أوجه الخلاف.
ويمكن أن تتفق الرؤية فى قصة "البنطلون" مع قصة "حمادة" – من ذات المجموعة "جنية الحقول" الأقرب للبورتريه، حيث يرسم الكاتب كل الصفات الطيبة التى اتسم بها "حمادة" وعطفه على والديه، وجدته وجده { كان يذهب مبكرا إلى الحقل مع أبيه، ساحبا الجاموسة، سائرا على قدميه فى هدوء واطمئنان ورثه من آلاف السنين عن أجداده المصريين}، حيث يؤصل الكاتب لطبيعة الريف المتأصلة من الأجداد "الاطمئنان"، إلى جانب مواصلة الكاتب الحنو على القرية وما تحمله من صفات طيبة { حين كان أبوه يركب حمارته الهادئة، ويتنفس الجميع جو القرية النابض بعبق الأرض وزرعها ومائها وطينها وأصوات حيواناتها}. وفى المقابل، نرى أن حمادة يذهب للعمل فى المدينة الصناعية "العاشر من رمضان" للعمل فى المعمار{ وفى يوم ذهب حمادة إلى العمل الشاق الذى لا يجد غيره، وصعد إلى سقف البناية فى الدور الخامس فسقط به السقف من شاهق، وفارق الحياة} حيث يقف "حمادة" بكل تلك الصفات الطيبة، إلى جانب القرية، بكل هدوئها وطيبتها، فى مقابل المدينة (الصناعية)، ليظهر الغش، ليس فى المبانى وحسب، وإنما فى قتل البراءة والطيبة والشهامة، قتل حمادة.
وإن اختلفت التجارب التى يمر بها الفتى/ الطفل فى مجموع الأقاصيص، إلا ان روحا واحدة تسرى بها، وكأنها العلامة المائية التى بها تحدد بصمة الكاتب، وهو الطفل، والريف. حيث يُعمق رؤية الريف، فى مرآته، ليرى أنه والفطرة صنوان، متلازمان. حيث يبدو ذلك فى قصة "الملعقة" التى تأتى الأم فيها للطفل، بحليب مدسوس فيه بعض الخبز الملدن، فتأتى الجدة، لتأكل معه، لكنه يغضب ويقذف الجدة بالملعقة، فتصيب كتلة لحمية تحت عينها، كان الطبيب قد رفض استئصالها، لما يمكن أن تسببه من متاعب صحية لها. غير أن الملعقة، تُفرغ الكتلة اللحمية دون أى عواقب. ومن خلال المعطيات، نسترجع حديث الإسراء، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [أُتِيتُ بالبُراقِ، وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ بإناءٍ مِن خَمْرٍ، وإناءٍ مِن لَبَنٍ، فاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فقالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: اخْتَرْتَ الفِطْرَةَ]. ليصبح هذا الحديث هو الكاشف عن تلك الرؤية المستبطنة فى القصة. ولنرى أن الفطرة هى جوهر الريف، بخيراته البكر ، النظيفة، الخالية من السموم، لذا فهى الوقاية، ولتنتصر الفطرة على العلم، تتنتصر عشوائية الطفل على رؤية الطبيب.
ويواصل الكاتب الغوص فى ترعة الحياة الريفية، فيرسم لنا صورة تلك الحياة فى الريف فى قصة "الشيخ صالح"، بدخان قوالحها، وتجمع أهلها، ووضع حامل القرآن بين ناسها. ومن بينها تخرج صورة الطفل،الذى سمع أن الموتى سيُبعثون يوم الخميس، فيأمل فى عودة الشيخ صالح، والذى جاء اسمه، اسما على مسمى، فيذهب الطفل إلى القبور لمشاهدة الشيخ صالح، حين عودته للحياة، لكن الرؤية هنا تَبرز المفارقة من جديد. بين رؤية الطفل، رؤية المستقبل، رؤية الحياة، ورؤية الحاضر، فيما هو كائن، رؤية الموت، ولم يعد الشيخ صالح، بكل ما يلقيه اسمه من دلالة{ كنت أسير فى شارع القرية الواسع الذى يؤدى إلى المقابر فى انتظار عودة الشيخ صالح، لكنى وجدت نسوة متشحات بالسواد يحملن الرحمة للموتى، ويذهبن إلى المقابر، ولم يُبعث الموتى، ولم يرجع لنا الشيخ صالح}. وإن كانت نزعة الكاتب هنا، نزعة إنتقادية لبعض عادات الريف، والمتمسكة بتقاليد الموت، وكأنها ما خُلقت إلا للموت. بينما المستقبل(الطفل) يبحث عن الحياة، يبحث عن الشيخ (الصالح)، عن الشيخ الذى يحمل الناس بالدين لفعل الخير، فى الحياة الدنيا، وتعميرها. ولوسائل النقل والترحال وجود ملحوظ فى قصص د عايدى، حيث نجد السيارة، الأتوبيس، الميكروباص، وكذلك " القطار" حيث تحتل هذه الوسائل عناوين القصص، أى أنها تلعب دورا رئيسا فى رؤية القص. وإن كان لذلك من دلالة، فإنها قد تُشير إلى حالة الترحال، التى لم ولن تنقطع بين القرية والمدينة، إن ذهابا أو إيابا. وكأنها العلاقة الأبدية، والتى لا مناص. ففى قصة "القطار"، وفضلا عن رمزية القطار، فى التنقل المكانى، فإنه أيضا يمكن أن يرمز إلى التنقل الزمانى، او التنقل الفكرى، أو الوجدانى. المهم أنه يرمز إلى الانتقال، او التحول. فأن يعنون الكاتب إحدى قصصه ب"القطار" فلا بد انه – وهو الشاعر الذى يعى اكتناز الكلمة، وتعبئتها بالشحنة الدلالية، فإذا كان السارد هنا، آت من الأقاليم، ساعيا الوصول إلى القاهرة، او العاصمة، او مركز النور، أو التخلص من عادات القرية المرفوضة، فإن تلك الرحلة لم تكن، ولن تكون باليسر الذى يتصوره بركوب القطار والوصول، إلا ن هذه الرحلة ليست بتلك البساطة، ولكنها لن تتم إلا بالمغامرة، وركوب المصاعب، مثلما عانى السارد بالتشعلق فى نافذة القطار اليسرى، وتعرضه للكثير من المخاطر. إلا انه بعد هذه المخاطر والمغامرة.. وهى مايتطلبه السعى للتغيير، تغيير حياة الريف بما تحمله من عادات مرفوضة، فإنه –فى النهاية- سوف يصل بسلام، وتستقر الأمور.
ثم يخرج الكاتب من محدودية المساحة الكتابية، لتطول القصة –نسبيا- فى قصة "السعيد". حيث تتمدد المساحة الكتابية للقصة قليلا، ولكن لازال الكاتب يعيش، ونعيش معه عالم القرية، أجواءها وناسها. بل .. وجهلها، وكثرة ذرية الأبناء فيها. وكأنه يحاول لملمة الأسباب التى اضطر معها لاقتحام سوءات القرية، بعد تغنيه بها، وبكبارها فيما مضى من قصص. فالسارد هو أحد الأبناء السبعة، وكأن الكاتب يعدد أسباب التخلف فيها. حيث تستدعى القصة حياة عميد الأدب العربى طه حسين، وكيف أن الجهل قاده إلى فقد البصر، غير أن السارد هنا هو البديل لطه حسين، فهو المتفوق فى الدراسة، ومن يلتهم الكتب، حتى بات هو الوحيد الذى يقرأ فى القرية، ليصور مدى تفشى الجهل فى القرية. لكن السعيد – الأخ الأصغر للسارد- يمرض، فلا يجد حلاق الصحة أو أى من أهل السعيد ما يضر أن يعطيه حقنة منتهية الصلاحية، متبقية من تلك التى كان يعطيها لزوجته التى توفيت منذ فترة، فتؤدى لموته. ولتصرخ الأم { أنا التى أتيت به من خلف زكيبة الغلة بيدىّ هاتين، ليت يدى قُطعت قبل أن أجئ به من خلف زكيبة الغلة، ثم تسترسل فى بكاء متصل}. وكأنها تضع المسؤولية فى رقبة الجيل السابق، الذى بجهله، قضى على الجيل اللاحق.
من يقرأ مجموعة "جنية الحقول" (2015) ثم يقرأ مجموعة "السلام عليكم" (2022) دون أن يقرأ اسم الكاتب على الغلافين، قد يختلط عليه الأمر كثيرا فى من كتب الأولى ومن كتب الثانية، للاختلاف الواسع بينهما. وإذا لم يعرف تواريخ النشر، فسيتصور أن الثانية هى التى صدرت أولا، أيضا لاتساع الرؤية فى النظر إلى القصة القصيرة، خاصة والكاتب ناقد بالدرجة الأولى. أن النظرة الأولى ستخبرنا بأن "جنية الحقول" تعتمد الصيغة الأقرب مما يسمى بالقصة القصيرة جدا، بينما تنزع الثانية لما يمكن أن نصفه بالقصة القصيرة الكلاسيكية، وهو ما يعنى – فى النظرة السريعة أيضا- أن الزمن يسير بالكاتب إلى الوراء.
غير أن ملاحظة أن الكاتب عنون الكثير من قصص مجموعتيه، باسماء أشخاص، والتى يمكن قراءتها على أن ذلك قناعة بأن التغيرات المجتمعية، يظهر أثرها بالدرجة الأولى على الأشخاص، وهو ما يؤكد أن رؤية الكاتب فى المجموعتين، لم تتغير، بل تعمقت تلك الرؤية، وسارت معه طوال هذه السنوات الفاصلة، والتى معها يمكن الربط بين أولى قصص المجموعة الثانية، ورؤية المجموعة الأولى، حيث المواجهة الزمكانية، حاضرة فى هذه المجموعة أيضا.
فإذا ما تأملنا قصة "علاء الدين" من المجموعة الثانية، والتى تعتمد (الشخص) أيضا هو ما يمكن أن نسميه بطل القصة، والتى اعتمدت السرد بضمير الغائب، وكأن الكاتب يتبرأ منه، فانفصل عنه. حيث احتشدت القصة بالكثير من الوقائع والتفاصيل، وامتد الزمن فيها ليشمل ربما أكثر من جيل من البشر، إلا انه لم يتغافل طبيعة القصة القصيرة، والقائمة على الفترة الزمنية القصيرة، فيلقى الكاتب بجملة إفتتاحية{ حين جلس في شرفته بمنزله الذي أصبح مختفيا تماما بعد أن قامت أمامه بيوت شاهقة، وسدت عنه الهواء والأفق نظر إلى هذه البيوت الشاهقة بعين الأسى}. فنحن هنا أمام حسرة الكاتب على ما آل إليه حال القرية، التى كان – فى المجموعة الأولى- قد بدأ يتعرض لبعض المآخذ عليها، فيطوف بنا، فى عملية استرجاع، لنتعرف على تاريخ الوالد، الذى كان حريصا على الأرض والمال، حد الوقوف بالمرصاد للطيور والحيوانات أن تقترب من أرضه، حتى أنه استولى على ميراث الأخوة، وهو الذى لم يُنجب سوى صاحبنا، الذى تعرف على فتاة عبر وسائل الاتصال الحديث، فدعته إلى زيارة بيتها، وهناك فاجأه أربعة من الأشداء، وتحت التهديد، كتب إيصالا بثلاثة ملايين جنيه، وتنازل –بالبيع على الورق- عن سيارته المركونة بعيدا عن البيت. ثم تولى هؤلاء الأغراب شراء الأرض والبناء عليها، بما استولوا عليه بالخديعة، وتعالت بناياتهم حتى سدت عليه منافذ البيت، ومنعت عنه الضوء {وبمرور الزمن ولد أبناؤهم متتابعين في قريتنا فأصبحوا أبناءها وصرنا نحن غرباء فيها،أما علاء الدين {فقد أعطى كل هذا المال لهؤلاء الأربعة نظير وصل الأمانة الذي كتبه على نفسه، وفوجئ هو نفسه بأن هؤلاء الأربعة أصبحوا من سكان قريتنا ومن ذوي الوجاهة والمكانة فيها، بل أصبحوا هم أهل الحل والعقد فيها}. لتأخذ القصة الشكل الدائرى، لتعود إلى حيث كانت البداية، وكأن النهاية كانت هى خبر المبتدأ. وإن كانت القصة قد أخذت شكل القصة التقليدية، بالاستغراق فى التفاصيل، والسير على استقامة الزمن، إلا ان عملية الاسترجاع التى تعمدها الكاتب { وجاءه من الماضي صوت والده وهو يصيح: هِشْ هِشْ هِشْ امشِ}، أن تكون شبه مخفية، إلى جانب الكثير من التفاصيل، وامتداد الزمن،الأمر الذى قد ينسى معه القارئ تلك البداية، وكأن الكاتب يلعب مع القارئ، فيوهمه بأن الزمن فى (الحكاية) طويل يسمح بكل هذا التغيير، فى طباع البشر، وفى جغرافية القرية التى كانت، لكنها أصبحت، وكأن الزمن مر سريعا، فكان زمن (القصة) ما يلائم زمن القصة القصيرة. لا لتقف القصة عند الرؤية المباشرة، وإنما لتتسع الدائرة لتشمل المواجهة بين زمنين مختلفين، وبين الريف بطبيعته المحافظة، والمُجَمِعة، والوافد عليه بالخدعة والسرقة.
وتظل القرية منبع السحر والخيال، الذى منه اكتنز الكاتب الكم الكثير من تلك الحكايات التى، رواها الآباء والأجداد، ولم ينفها الأبناء والأحفاد. فنقرأ فى قصة "السلام عليكم" من المجموعة الحاملة لذات العنوان، ذلك الكم الكبير من حكاياتهم، والتى تنم فى مجملها عن انتصار الخير، مهما بلغ الشر من قدرة على الجذب، ومقدرة على تزيين الطمع. كما أن الريف بما يملكه من اتساع مساحة الليل بظلامه، وتكاثف شجيرات الزرع، وسكون حقوله، ما يخلق التصورات والخيالات التى تخلق عوالم خلفية، أو غيبية، يعجز العقل عن إيجاد المبرر، أو الدليل المنطقى، لزواج الإنسى من الجنية، أو تصور حدوث المعجزات، التى تحيل الفقير والمعدوم إلى، شيخ وولى، يصبح مزار العامة، وملجأ المحتاج. فيعيش أهله فى رضا وسكون نفسى، مقتنعين بأن مشكلتهم فى طريقها للحل، فقد ألقوا بالحمل على أكتاف (سيدنا الشيخ المبروك).
شاعرية اللغة:
تواجهنا شاعرية اللغة منذ السطر الأول من مجموعة"جنية الحقول". ففى قصة "العفريت"، نطالع {كان من عادته أن يتجول بين الحقول فى ليالى الشتاء، حيث يختلط ضوء النجوم مع عبير الزرع الفائح، ويتهادى مركب القمر بين أمواج السحب البيضاء}. حيث يرسم الكاتب، دون إفصاح عن الظروف المناخية، والنفسية التى تؤدى لذلك التصور الذى ارتسم فى ذهن الفتى، ذلك الذى (تعود) على السير(فى ليالى الشتاء) وحيث يطغى ضوء النجوم على ضوء القمر(حيث يختلط ضوء النجوم ..... و... القمر بين أمواج السحب البيضاء).لينطبع المشهد فى مخيلة القارئ، حيث ليل الشتاء ، وضعف الأضواء، إلا من خيالات، وهو الجو المناسب لمولد الخيالات، التى يشكلها السائر فيها، وفق شخصيته المتأثرة بالنشأة والتكوين والثقافة. فكان منطقيا أن يولد مثل هذا التصور، الظاهر، ليبطن فيه – الكاتب- رؤيته الضمنية، وغير المباح بها، فتجسدت القرية لتصبح وجودا فاعلا، لا مجرد مسرح للأحداث. فضلا عن الصور الخيالية التى يخلقها الشاعر الكامن وراء السرد.
وفى قصة "الخطوبة" بالمجموعة الثانية "السلام عليكم" ينفذ الكاتب إلى أحد عناصر الثقافة الشعبية المترسخة فى الوجدان، تلك التى تستمع لايات القرآن الكريم، كعبادة مقدسة [ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ][3]. حيث نعلم أن والد الخطيبة يحتضر، فتتحول نظراته إلى كشف للغيب- تصديقا للآية- مكتوب على صفحة وجهه، يقرأها الفتى ، وكأنه يقرأ الغد الذى ينتظره من موت الرجل { وهنا رأى صاحبنا في وجهه صورته وخطيبته وهما يواجهان أعنف المواقف التي تؤدي إلى فسخ الخطبة، ثم انقلب وجهه إلى صفحة أخرى في كتاب الغيب، وإذا بحالة التشنج تظهر أيضا على أعنف مايكون، وقد رأى صاحبنا خطيبته في هذه الصفحة وهي تتلقى ضربات القدر بلا رحمة، ثم انتقل وجهه إلى صفحة ثالثة من صفحات كتاب الغيب رأى صاحبنا في هذه الصفحة أيضا وجه خطيبته البريئة وهي تتلقى معاول القدر الضاربة. ثم انتقل الوجه الواهن المتشنج إلى صفحة رابعة من كتاب الغيب وإذا بعلامات الارتياح والرضا التام تظهر على هذا الوجه}. حيث تساهم تلك الرؤية فى تعميق البعد الإنسانى، وتأثره بالبيئة الحاضنة، وكأن الكاتب يحفر فى طين الأرض ليستخرج جذور الإنسان منها.
وفى قصة "البنطلون" تلعب اللغة الشاعرة دورا فاعلا فى تشكيل الرؤية، فلا تتوقف الكلمات عند حد الوصف المجانى، ولكنها تضفى الحب والعشق على المكان، ليصبح المكان ذا وجود حقيقى، وفاعل، ليشخص فى مواجهة الجانب الآخر من الصورة، المدينة، أو البندر، فنجد المكان فى هذه الكلمات، يكاد ينطق، او يتغنى بمحاسنه، حيث تتحول أشعة الشمس إلى الهمس، تتبادل الحب مع قطرات الندى، وتدفع للتفاؤل{ كانت الجميزة العجوز على حافة الترعة تستقبل أشعة الشمس الهامسة، وتهمس بالحب الناعم لقطرات الندى التى كللتها، وتلقى على جسدى الصغير ظلالها وهمساتها، وتفرج لى عن بعض حزم ضوء الشمس المتفائلة بهذا الصباح}. بينما غاب الوصف تماما عن الجانب الآخر، الأسكندرية، وكأنه لا وجود لها، إلا كرمز، خال من الحياة. فتصبح المقابلة، هنا حياة، وهناك لا حياة. وهو ما يؤكد رؤية الكاتب فى القصة.
وفى قصة "السلام عليكم" من المجموعة الحاملة لذات العنوان، ينطلق الخيال الشاعر، ليجعل من الشمس فارسا يمتطى عربته الملكية الذهبية، تجرها الخيول، لتجسد حركة الزمن، ولتتوافق مع روح القصة، التى تبحث حكمة دوران الزمن، ولتتضافر الصورة، مع الرؤية، فنقرأ تلك الصور الشعرية، المعبرة عن رحلة الزمان، عبر المكان، والتى توحى باثرهما الجوهرى فى صنع القصة، وحيث تذهب الشمس فى رحلتها اليومية، ليتغير بها الزمان، على ذات المكان{سار صاحبنا عبر الحقول الممتدة وقد بدا قرص الشمس موضوعا بعناية في عربته الذهبية التي تجرها الخيول السريعة لينطلق من بوابة السماء الشرقية ليقوم برحلته عبر الفضاء الممتد على مدار نهار كامل بعدها يدخل بوابة السماء الغربية تاركا العالم لستائر الظلام المنسدلة عليه، ليعود في اليوم التالي لإزالتها بأضوائه الباهرة. وهكذا عبر الدهور والأزمان}. فيشعر الكاتب وكأنه يركب براق الزمن، بصحبة الشمس، فيتعرف على كيفية دوران الزمان، والنظر إلى المكان من عل. خاصة وأن القصة تتناول، حديث الزمن وتقلباته، ماضيه وحاضره. وليصبح الوصف عنصر فاعل فى بناء القصة، لا مجرد حلية لغوية.
الصراع الزمكانى
سنلاحظ فى قصص هذه المجموعة المتجاوزة فى عددها، أن كل قصة تقع فى نحو الصفحة. وكل قصة تتناول واقعة قد تبدو عادية، بل يحرص الكاتب أن يجعلها عادية، من خلال استقبال الغير لها. وإن كان هذا الغير-على سبيل المثال- هو الجد فى:العفريت" { وحينما وصل لاهثا إلى البيت وجد جده مغطى بالأغطية الكثيرة حذر البرد، ولكنه كان مستيقظا، فقال لجده : لقد رأيت عفريتا! فقال له جده:لا عليك نم مطمئنا، وألقى عليه الأغطية الكثيفة}. والجدة فى "الخطوبة" {وحينما دخلوا إلى بيت الجدة استقبلتهما بترحاب كعادتها دائما}. والأب فى "البنطلون" { ذهبت إلى أبى فى الحقل بغير البنطلون المتين، وآثار الدماء على ساقى. مر الموقف، لكن مازالت آثار تلك الحادثة بارزة فى ساقى حتى الآن}. وفى قصة "ملعقة" حيث نقرأ { الموقف مر بسلام، ولم يعاقبنى أحد من أسرتى، لكنى تعرضت لعقاب قاس من ضميرى الذى ظل يؤلمنى بشدة، وكان ذلك بداية خضوع تام لجدتى، وتلبية كل ما تطلبه منى، فكانت تحبنى أكثر من الجميع}. حيث استقبل كل هؤلاء -وغيرهم- الواقائع بعدم إكتراث، أو ربما بعادية. لتخلق مواجهة جيلية جديدة، بين رؤية الأجيال السابقة، والجيل اللاحق، والذى يمثله الطفل فى "العفريت" و"البنطاون" و "الملعقة" والشاب فى "الخطوبة". لنصبح أمام نوعين من المقابلة، أو المواجهة، مواجهة مكانية، بين الريف والحضر، ومواجهة زمانية بين الجيل السابق، المتسم بالهدوء والسلام. والجيل التالى، المتسم بالعنف والثورة والاندفاع. كما توجد المفارقة أيضا فى قصة "الشيخ صالح" بين رؤية الطفل، وأمله فى عودة الشيخ صالح من الحياة الأخرى، بكل حمولته الدلالية، وبين رؤية أهل القرية، الذين يلبسون السواد، ويحملون الرحمة، للموتى. فكأن الطفل يبحث عن الحياة، بينما الكبار يسعون نحو الموت. إلا أن الكاتب عمد فى غالبية الأحيان إلى إضفاء الكثير من الوصف، سواء للأجواء ، أو البيئة ليتضافرا معا فى خل الصورة التى تحرك ذلك الصراع من الداخل. وكأنه يدعو قارئه بعدم الوقوف عند السطح.
النوع الأدبى
قد تُثير قصص مجموعة "جنية الحقول" قضية النوع الأدبى، نظرا لاقتصار القصص على المساحة الكتابية المحدودة – الصفحة الواحدة أو أقل- وهو ما سيتدعى التساؤل عما إذا كانت هذه القصص تخضع لما يسمى بالقصة القصيرة جدا ( ق ق ج)، أم أنها قصة قصيرة وفقط؟ ولكنى أقطع بالرأى الثانى، حيث تتوافر كل عناصر القصة القصيرة، والتى تحتوى أهم تلك الحجج التى يسوقها أنصار ما يسمى بال (ق ق ج). من مساحة كتابية قصيرة، لتناسب ظروف العصر، فكما أشرنا تقع القصص كلها فيما لا يزيد – إن لم تنقص- عن الصفحة الواحد’ ، وهو ما يُبرز أهم خصائص القصة القصيرة "التكثيف". حيث أن الكاتب من خلال تلك المساحة الصغيرة، استطاع أن يقدم لنا عالم الريف، وعالم الطفولة،، والصراع المكانى والزمانى، من خلال مشهد أو موقف عابر، قد لا يلفت نظر الكثيرين، إلا ان قدرة الكاتب المبدع، والشاعر، استطاع أن ينفذ من ذلك المشهد، أو ذاك الموقف، عالما خلفيا، يحمل وجدان القارئ إلى ما يمكن أن يغير من حياته، ويُحدث الأثر المرجو من الإبداع.
فإذا أخذنا – على سبيل المثال - قصة "الشيخ صالح"، والتى تبدو فى الظاهر أنها مجرد وصف خارجى، وأن أحلام الطفل ما هى إلا احلام أى طفل. فما الذى يجعلنا نرى قصة قصيرة وفقط؟.
استخدم الكاتب وصف الحياة والبشر فى الريف، فجسد ذلك المشهد وجعله شاخصا، ليحقق وجوده، ويؤكد دوره، فى خلق الحدث بالقصة، ذلك الذى يتمثل فى تحرك الطفل، بعد صلاة العصر إلى المقابر، يوم الخميس، وهى العادة المتأصلة، والراسخة فى الريف المصرى، وليلعبا معا (الوصف والفعل) فى خلق الرؤية الكلية المستترة خلف المشهد (العادى) وهو سعى الطفل، برؤية المستقبل، وبفطرة الطفولة، نحو الحياة – انتظار عودة الشيخ صالح إلى الحياة-، بينما الماضى (الكبار) يشدون الرحال إلى المقابر، وكأنهم يسعون إلى الموت، وهى الرؤية التى تتجاوز القرية، لتشمل الوطن كله، منذ الأجداد الفراعنة، بأهراماتهم، وبرهم الغربى للنيل. لا لتقف القصة عند حدود القرية، وإنما بتلك الصياغة الشعرية، أستطاع الكاتب أن يوسع من فضاء الكلمات القليلة، لتشمل المساحة الكبيرة.
وفى قصة "القطار" والتى ربما لا تتعدى سوى المشهد، تعلق السارد بشباك القطار، إلا أن (الحركة) أو الفعل أو الحدث، يتمثل فى الحركة الزمكانية التى يعبر عنها جملة، قد تبدو شيئا عاديا ، نعلمه جيدا{وقد بدت القضبان الحديدية المتوازية أمامى وهى تسرع بشدة مخيفة عكس ما نمضى} وإن كان توازى (القضبان) يعنى ألا تلاقيا، إلا ان التلاقى يتم عبر حركة القطار ذاتها، وحيث تعنى هنا المغادرة للمكان،وللزمان، وتبيان مدى المعاناة التى يعانيها الساعى للتغيير، حيث يسير عكس التيار، ثم وقوف القطار فجأة { لكن القطار توقف فجأة على غير توقع، فنزلت بهدوء وركبت فى العربة مطمئنا} وهو ما يمنح الحركة، إذ توحى بالوصول بعد المجهود، أى الانتقال من حالة التعب إلى حالة الراحة. على عكس ذلك السكون الذى يغلف القصة القصيرة جدا، دون خلق أى انتقال، او تطور فى الحدث، وهى الصفة الأساسية التى معها تصبح القصة .. قصة.
فى أحد الآراء التى تسعى لتعريف الأدب، حيث يراه البعض من النقاد أنه صياغة لغوية لتجربة إنسانية. وإذا كانت هذه الصفة قد تواجدت فى معظم قصص المجموعة، إلا اننا نفتقدها فى بعض المحاولات، الشديدة صغر المساحة الكتابية، والتى تقترب من صيغة ما عُرف ب (ق ق ج) والتى نفتقد فيها المتعة القرائية، بل نفتقد فيها القصة التى تعنى الحركة، أو الفعل، وتتوقف عند مجرد الصورة الثابتة، التى تمنح الحكمة، أو العظة. وهو ما نجده فى قصة "السعيد ظمآن" والتى لاتتجاوز السطور السبعة. إلا ان ذلك ليس وحده ما يضعها فى إطار القصيرة جدا، وإنما لغياب الفعل فيها، فتحدد – القصة - واحدة من العادات- غير المنطقية- أو الغيبية التى تتحكم فى سلوك أهل القرية، وهى عدم شرب الماء قبل صلاة الجمعة، لترك الماء للأخ المتوفى، حتى أصبح طقسا يسرى على الكبير قبل الصغير. فالرؤية هنا رؤية عقلية، فخلت القصة من الوصف والحوار والحدث، حتى باتت قصة بدون قصة، ولا يخرج القارئ منها إلا بفكرة، تخاطب المنطق والعقل، ولا تخاطب الوجدان الذى هو المُرسَل إليه فى العملية الإبداعية.
وهو ما يمكن القول به أيضا فى قصة "الزوجة" التى لا تحمل غير الحكمة، المغموسة فى خيانة المرأة لزوجها، واكتنازها أمواله حتى أصبحت مليونيرة، بينما يعيش هو عيشة المستورين. فلا تملك القصة ما يمنح المتعة، رغم ما تحمله من دعوة للتفكر فى أحوال الدنيا، وهى العبرة التى يمكن مشاهدتها فى كل ما حولنا، وتفتقد به الأدبية، وفى قصة "اللقاء" و "المكتبة" رغم امتداد مساحتها الكتابية، وغيرها.
وعلى العكس من ذلك، ما جاءت عليه قصص المجموعة الثانية للكاتب "السلام عليكم"، والتى استفاض– فى قصصها- وجاء بأكثر من بؤرة يمكن أن تنطلق منها القصة –بمفهومها الحديث- .إلا ان الشاعر و الناقد الذى يؤمن بالتراث، يأبى أن يغادره، ويأبى فى ذات الآن أن يستسلم له كما هو. فإن كانت القصص تأخذ –ظاهريا- الشكل التقليدى للقصة، الحاوية لأكثر من مركز سردى، والتى تتطلب امتدادات زمنية تتجاوز زمن القصة، فإن الكاتب قد (حزمها) بإطار زمنى يتوافق وزمن القصة الحديثة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، اعتمد على الرؤية الكلية، التى يمكن تجميعها لتمنح القارئ رؤية جمعية، تتضافر الوحدات فى خلقها.
ففى هذه القصة -"السلام عليكم"-، تتوالد الحكايات، كما تتوالد فى ألف ليلة وليلة، فتدور فى البداية كحوار بين الجيلين، جيل الآباء، والجيل الجديد، يتولى فيه الجديد سؤال السابق عن تلك الأمور التى تبدو غامضة، أو غير منطقية، فى رؤية الجديد. فيتشعب الحديث، وتتشعب القصص، لتمنح القارئ فى النهاية، رؤية حول طبيعة، وشخصية الريف، بعد أن تكون قد منحته متعة الحكى، ومتعة القراءة، مغموسة بالكثير من الشاعرية التى يطيب لها نفس القارئ، فينجح فى الإمساك به، رغم النقلات والمحطات المتعددة.
فإذا كان الشاعر قد قرر الترحال من الشعر إلى القصة القصيرة، عبر مجموعتيه، فإنه لم يترك متاعه، ليؤسس سكنا جديدا، وإنما حمل معه بطاقة الهوية، ليثبت بها ذاته، وشخصيته. كى يقتصر المسافة بين الحالتين، ويدمجهما معا، مسلحا بالنقد الذى هو عمله الأساسى، ليصبح الشاعر القاص عايدى على جمعة.
شوقى عبد الحميد يحيي