رسالة القاهرة
هنا القاهرة: مصادرات ومحاكمات وسجون
عادةً ما يشهد الوسط الثقافي في القاهرة حراكاً إيجابياً أو حتى سلبياً، يبدأُ من المركز ولا يتخطى حدود دائرة المهتمين بالأدب والثقافة والفنون، وغالباً ما يكون ذلك الحراك دليلاً على الوعي بطبيعة التنوع الذي يجب أن تنطوي عليه الثقافة، في مجتمع مر تكوينه الثقافي بمراحل متعددة شهدت نجاحات وإخفاقات وواجهت عقبات ومحفِّزات حتى وصل إلى ما هو عليه الآن من استيعاب للآراء المتعددة ووجهات النظر والرؤى المختلفة التي قد يصل تنوعها واختلافها حد التناقض والتضاد. لكن الأزمة التي تواجهها الثقافة العربية عموماً والمصرية على وجه الخصوص، لا تتمركز في ذلك التناقض الذي يعكسه حراك الوسط الثقافي بأحداثه ووقائعه، وإنما تتمركز الأزمة في تخطي ذلك الحراك حدود الدائرة الثقافية المنغلقة على نفسها (ولسنا بصدد تعليل ذلك الانغلاق) لتخرج القضايا إلى شارعٍ مزدحمٍ بالباحثين عن لقمة العيش وشربة الماء النظيفة، شارعٍ لا تشغله الثقافة ولا يعدّها بين عناصره، وإن كان هو من أولى شواغلها وعنصراً أساسياً في منتجاتها، ولا تتفاقم الأزمة أكثر وأكثر إلا حينما يحاول البعض إضفاء بُعد أخلاقي أو ديني على تلك القضايا الثقافية، فيبدأ رجل الشارع في التحرك دفاعاً عن آراء من يرشده، وليس دفاعاً عن يقينِ ما يعتقدُه، وحينئذٍ تصبح المصادمات محسومةٌ سلفاً لصالح تهدئة الرأي العام، التي لا تكلف كثيرا في مثل هذه الحالات، ويصبح الخاسر الوحيد هو الواقع الثقافي الذي يدفع يوماً بعد يوم ضرائب عن مشاريع لا تخصه بالأساس، لكنه مكلفٌ بحملها وواقعٌ تحت نيرها الثقيل. هكذا كان الحال فيما شهدته السنوات الأخيرة من أحداثٍ لم تبدأ بتصفية فرج فودة جسدياً واستهداف الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ، كما لم تختلف في وقائعها مع محاكمة الدكتور نصر حامد أبو زيد، وروايات "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر و "عزازيل" يوسف زيدان و "وداعاً أيتها السماء" لحامد عبد الصمد، ولم ولن تنتهي بما شهدته القاهرة طوال شهر أبريل الماضي من مصادرات وإلغاءات، تعلقت الأولى برواية مصريّة مصورة، وهي رواية "مترو" لمؤلفها مجدي الشافعي، والتي صدرت العام الماضي عن دار "ملامح للنشر والتوزيع" بالقاهرة لصاحبها محمد الشرقاوي، بينما استهدفت الثانية مجلة "إبداع" التي تصدرها وزارة الثقافة المصرية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وبينما كان إلغاء ترخيص المجلة فصلاً في روايةٍ بدأت أحداثها منذ أكثر من عامين ولم تنته بعد، فإن الأولى تعدُّ امتداداً لمسلسلٍ من المواجهات بين التجديد والجمود، يرفع فيه أنصار الأول رايات الحرية المطلقة، بينما يتمترس فيه أنصار الثاني بشعارات الالتزام وحماية المجتمع من مغبة التهتُّك والانحلال والضياع. إن رواية "مترو" التي تقع في خمسٍ وتسعين صفحة من القطع الكبير، تعدُّ أول روايةٍ مصريةٍ مصوّرة للكبار، رغم ظهور ذلك النوع الفني من الروايات على ساحة الإبداع العالمي منذ منتصف القرن الماضي، وتحكي الروايةُ أحداثها بالكلمات والصور، وتتناول قصةَ مبرمِجٍ شاب يواجه صعوبات مالية بسبب قوانين السوق الرأسمالية التي تتحيز لأصحاب الشركات الكبرى على حساب صغار المستثمرين، فيقرر وصديقٌ له سرقة أحد بنوك وسط القاهرة، وينجحان بالفعل في سرقة خمسة ملايين جنيه، ثم يقومان بالتحفظ عليها داخل إحدى محطات المترو بوسط العاصمة، وتتابع أحداث الرواية راصدةً محاولات المبرمِج وحبيبته الخروج بذلك المبلغ من أنفاق المترو، ليكتشف "شهاب" المبرمج أن صديقه قد خانه وهرب بالمبلغ إلى خارج الوطن كما يهرب الكثيرون، بينما يلجأ البنك إلى التغطية على أمر السرقة حفاظاً على مصلحة أحد رجال الأعمال، ويواكب تلك الأحداث عجز "شهاب" عن تنفيذ وصية أحد أصدقائه، الذي قُتِلَ على يد أحد الفاسدين الكبار. والرواية تتبنى في بعض أجزائها طابع السخرية من الأحداث الواقعية التي يعيشها المواطن المصري، بينما تتبنى في أجزاء أخرى رصد فجاجة ذلك الواقع وسوداويته، عامدةً إلى تعريته وفضحه سواءً في جانبه السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وقد أهدى الرسام والروائي مجدي الشافعي مؤلف هذا العمل روايتَهُ إلى المدونين المصريين، مشيراً إلى احترامه لهم ولبشارتهم وكتاباتهم التي تعلن دائماً أن الحياة سوف تعودُ يوماً ما إلى مسارها الطبيعي. إلى هنا لا يبدو للوهلة الأولى أن الرواية قد تخطت في الكثير من أجزائها حدوداً متعارفاً عليها بين المبدع والمتلقي والنظام، لكن ما حدث بعد ذلك أثار الكثير من التساؤلات حول هذا العمل الفن ـ أدبي ومقاصده، فقد داهمت مباحث الآداب بالقاهرة دار ملامح للنشر والتوزيع في منتصف شهر إبريل، وصادرت كافة نسخ الرواية، وطلبت من القائمين على العمل تسليم أية نسخ مرتجَعة من هذا العمل على وجه السرعة، وحينما تساءل القائمون عن أسباب ذلك الفعل، جاءهم الجواب بأن هذا العمل يتضمن عبارات ورسوم منافية للآداب العامة وخادشة للحياء ومحرضة على الفسق، وذلك لوجود صورة لنهدٍ عارٍ مرسوم بالقلم الأسود داخل إحدى صفحات الرواية، ومن ثم قررت النيابة العامة إحالة مؤلف الرواية وصاحب دار النشر إلى المحاكمة، التي أجلت النطق بالحكم إلى شهر مايو الحالي بعد طلب تشكيل لجنة من المجلس الأعلى للثقافة لتقدم رأيها في الرواية موضع الخلاف، وإضافة شهادات مكتوبة لعدد من المثقفين إلي ملف القضية. وقد شهدت قاعة المحكمة تواجد عدد من المثقفين بينهم الروائي صنع الله إبراهيم الذي حضر ليتقدم بشهادة ضد مصادرة العمل، وللدفاع عن المتهمين، وإلي جانبه كان أحمد اللباد متواجدا للشهادة، كما تضامن عدد من الكتاب الشباب بالحضور منهم أحمد العايدي، وحمدي الجزار، ومحمد علاء الدين، والشاعر أشرف يوسف، ورسام الكوميكس وائل سعد. وقد علّق كثيرٌ من المثقفين المصريين على هذه الأحداث الفنتازية التي تتعلق برواية (مترو)، ورأوا في ذلك المبرر الأخلاقي غير المنطقي الذي زعمته النيابة محاولةً للتغطية على السبب الحقيقي وراء المصادرة، فمحمد الشرقاوي صاحب دار ملامح يعدّ من أول المدونين المصريين الذين تمت ملاحقتهم أمنياً واعتقالهم لانتقاداتهم المستمرة لنظام الحكم ورموزه، كما أن الصورة التي عللت بها النيابة دافع المصادرة لم ير فيها معظم المتلقين خدشاً للحياء يناسب رد الفعل تجاهها، فالقنوات الفضائية المختلفة تعرض يومياً وباستمرار ما يحطم الحياء كلياً وليس يخدشه فقط، ويبدو أن الانتقادات التي تضمنتها الرواية، خاصةً حينما تبناها بالنشر ناشط سياسي كالشرقاوي، استفزت الأجهزة الأمنية إلى درجةٍ دفعت الضابط القائم على المداهمة إلى مصادرة الرواية دونما انتظار لقرار النيابة التي يحق لها وحدها استصدار مثل تلك القرارات، مما حدا بلجنة الدفاع عن الرواية ومؤلفها وناشرها إلى القول ببطلان الإجراءات، بل وتطورت طلبات الدفاع بطلب وزير الثقافة المصري للشهادة أمام هيئة المحكمة بوصفه فناناً تشكيلياً، وما يزال الوسط الثقافي منتظراً لما ستسفر عنه الأحداث من تطورات في الأسابيع المقبلة. وعلى جانبٍ آخر افتتح مسلسل مجلة إبداع الذي بدأ في إبريل عام 2007 حلقةً جديدة من حلقاته بأحداثٍ مفاجئة هذا الشهر، إذ أصدرت محكمة القضاء الإداري في الثامن من إبريل الحالي حكماً بإلغاء ترخيص المجلة التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، والتي يرأس تحريرها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وذلك على إثر نشر المجلة عام 2007 لقصيدة حلمي سالم "شرفة ليلى مراد"، والتي رأى فيها البعض مساساً بالذات الإلهية والمقدسات، مما دفع الشيخ يوسف البدري إلى مقاضاة حجازي وحلمي سالم، ومن ثمَّ تم سحب عدد المجلة من الأسواق ووقف توزيعها، لكن وزارة الثقافة ما لبثت أن منحت الشاعر حلمي سالم في نفس العام جائزة الدولة للتفوق؛ لتشتعل القضية مرةً أخرى، فيعاود البدري رفع دعوى بطلان الجائزة، مطالباً سحبها من الشاعر وإلزام وزير الثقافة إن أصر على المنح بدفع قيمة الجائزة من جيبه، "فهذه أموال الشعب ولا يجوز منحها لشاعر ملحد" على حد تعبير البدري، خاصةً وأن الأزهر كان قد أرسل تقريراً أثناء محاكمة القصيدة، اتهم فيه الشاعر حلمي سالم بالكفر والإلحاد، واستكمالاً لحلقات هذا المسلسل الممل قام المحامي سمير صبري برفع دعوى قضائية يطالب فيها بإلغاء ترخيص المجلة التي نشرت القصيدة المسيئة للذات الإلهية والعابثة بالمقدسات، لتصدر المحكمة قرارها بقبول الدعوى وإلغاء ترخيص المجلة، مستندةً في حيثيات حكمها إلى أنه: "ثبت لدى المحكمة أن قصيدة حلمي سالم المنشورة بمجلة إبداع ورد بها ألفاظ تسيء إلى رب العالمين وتضمنت بعض مقاطعها سبا للذات الإلهية تصوِّر الإله بأنه مأمور هو والأنبياء إذ يستدعيهم الشاعر بأسلوب خلا من الأدب، وبما أن هذا الفعل يباعد بين المجلة التي قامت بالنشر وبين رسالة الصحافة؛ فمن غير المعقول أن يكون هذا العمل قد نشر عبثاً دون أن يمر على القائم على هذه المجلة، الأمر الذي يؤكد أن بعضهم لديه القناعة والاستعداد لنشر مثل هذه الإسفافات المتطاولة على رب العالمين، لذا قررت هيئة المحكمة إلغاء ترخيص المجلة المذكورة". وقد جاء رد وزارة الثقافة حاسماً بالخصوص إذ صرح نائب رئيس الهيئة العامة للكتاب الدكتور وحيد عبد المجيد، أن الهيئة سوف تبدأ في إجراءات استئناف الحكم فوراً، مشيراً إلى احترامه للأحكام القضائية، ولكن القضايا الخاصة بحرية الرأي والتعبير تتطلب من القضاء أن يتعامل معها بحذر وحرص. وطالب الدكتور وحيد الجهات القضائية باستشارة المتخصصين فيما يخص الأدب والإبداع بشكل عام، بينما أعلن الكاتب الصحفي صلاح عيسى أن الحكم غير قانوني، ولا يوجد نص دستوري يبيح إلغاء تصريح مطبوعة حكومية، وأن الحكم سيُلغى في الاستئناف الذي تقوم به الهيئة حالياً، وأن المجلة سوف تعود قريباً للصدور مرةً أخرى. وحقيقة الأمر أن التفريق بين المجلة والقصيدة أمرٌ لا يختلف عليه الكثيرون، فالقصيدة رغم تجاوزها وسقطاتها الفنية قبل الدينية تخصُّ كاتبها بالأساس، بينما المجلة ملكٌ لجموع المثقفين الكتّاب، وفكرة الحسبة التي أصبحت سيفاً مشهراً في وجه الجميع، أضحت مستهجنةً ومشكوكاً في مصداقية أهدافها وغاياتها، بعد أن أُقحِمت في كل مناسبة بسببٍ وبدون سبب، كما أن فتح جبهات مواجَهَة بين المثقفين والمجتمع لا تصب في مصلحة أيٍ منهما، ولا تنتج في النهاية إلا استعداءً لفكرة الثقافة عند الجماهير، وانعزالا أكثر غلواً للمثقفين، ناهيكَ عن تحوير الأفكار المصاحبة لمثل هذه المواجهات، والذي ينتِجُ خللاً في كثيرٍ من المفاهيم التي يتبناها كلُّ فريق، إذ يصبح كلُّ مدافعٍ عن الحرية موصوماً بالدفاع عن التحرر السافر والانحلال، في مقابل تشويه صورة الالتزام فنياً كان أو دينياً، والذي يواجَهُ الداعي إليه بتهم الجمود والانغلاق والرجعية والتخلّف. وبين هذين الفريقين يقبعُ طرفٌ لا يجني أيما فائدة وليست له مصلحةٌ مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، لكنه وحدهُ يتكبد الخسائر سواءً باختلال مفاهيمه أو بفقدانه الثقةَ في أحد طرفي الصراع، أو في كليهما. أما ثالث أحداث هذا الشهر فلم يبتعدْ كثيراً في مفرداته عن سابقَيه، وإن اختلفَ عنهما في فعالياته ونواتجه، فبين المداهمات والمحاكمات التي عاشتها الثقافة القاهرية عقد مركز البحوث العربية والأفريقية ندوةً عن أدب السجون أهداها إلى الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم تقديرا لإسهامه في إثراء الرواية العربية، وامتدت فعاليات تلك الندوة ليومين متتاليين، وشهد مقر المركز بالجيزة ست جلسات متنوعة بين النقد والشهادات الأدبية، بالإضافة للجلسة الافتتاحية التي رأسها الدكتور سمير أمين، والتي ذكر فيها أنه من المؤمنين بأن الأدب أحد أهم المصادر التي يمكن اللجوء إليها للوصول إلي فهم أعمق لتحولات المجتمع، كما ذكر أن الدراسات المشاركة هي محاولةٌ لتشريح واقع المجتمع المصري في مرحلةٍ من أغنى مراحله الفكرية والسياسية. وقد تضمنت الندوة سبعة محاور هي: السمات البارزة التي طبعت أبطال أدب السجون، وأشكال المقاومة التي أبداها هذا الأدب، والأبعاد القهرية والقمعية التي ينطوي عليها الجلاد، ومذكرات وذكريات وسير ذاتية باعتبارها نوعا أو جنسا أدبيا مستقلا، وجدلية الضحية والجلاد، وخصوصية الرسائل المتبادلة بين السجين وذويه، والتطور الذي شهده أدب السجون على مدى العقود الماضية، بالإضافة إلى شهادات بعض الأدباء والمثقفين عن تجاربهم الشخصية. وقد شارك في الشهادات كل من جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم وفخري لبيب، بينما شارك بأوراق بحثية كل من ثناء أنس الوجود وسيد البحراوي وعمار علي حسن وصلاح السروي وحسام عقل وهيثم الحاج علي وأمينة زيدان وعمر شهريار، وقد تناولت الأوراق البحثية والدراسات ما يقرب من 35 عملاً أدبياً بين روايات ومذكرات وسير ذاتية ورسائل، منها على سبيل المثال: روايتي "فرج" و "أطياف" لرضوى عاشور، و "ابنة القومندان" لشريف حتاتة، و "حكاية تو" لفتحي غانم، و "العسكري الأسود" ليوسف إدريس، و "أوان القطاف" لمحمود الورداني، ومن المذكرات "أقدام عارية" لطاهر عبد الحكيم، و "شيوعيون وناصريون" لفتحي عبد الفتاح، و "في معتقل أبو زعبل" لإلهام سيف النصر، و "يوميات الواحات" لصنع الله إبراهيم. إضافة إلى رسائل عبد العظيم أنيس ومصطفى طيبة وفريدة النقاش وفوزي حبشي. وبدا لافتا في تلك المشاركات المتنوعة الجهد الكبير الذي قام به منسق الندوة الشاعر شعبان يوسف، سواءً في إعداد البرنامج أو اختيار الباحثين الذين جاءوا ممثلين لتيارات وأجيال مختلفة، الأمر الذي أضفي شكلاً من أشكال الحيوية والتنوع على الندوة ومحاورها. وقد لفت انتباه المتابعين والمهتمين أن الندوة اقتصرت علي مساهمات اليسار المصري، وأغفلت التيارات السياسية الأخرى وعلى رأسها تجربة جماعة الإخوان المسلمين، التي تشترك مع الحركة اليسارية في هذا المجال، لكن المنظمين برَّروا ذلك الإغفال بقولهم إن غالبية من سجلوا تجاربهم في السجن كانوا من كتاب وفناني اليسار المصري، وقد أضفوا على ذلك التسجيل طابعًا أدبيا وفنيا لم يتوافر بنفس القدر في كتابات الآخرين باستثناء بعض نصوص صافيناز كاظم وزينب الغزالي. كما غابت عن الدراسات مقاربة التجارب الأدبية لمناضلين عماليين، في شكلٍ من أشكال الانحياز الكامل لتجارب المثقفين دون غيرهم، على الرغم من وجود نصوص مهمة في هذا السياق أبرزها نص روائي بعنوان "الرحلة" كتبه العامل فكري الخولي. والجدير بالذكر أن هذه الندوة تأتي في سياق نشاط مركز البحوث العربية والإفريقية، وقد سبقتها منذ عشر سنوات ندوة مماثلة أهدت دورتها للكاتبة لطيفة الزيات، وقد اعتبر حلمي شعراوي مدير المركز أن مثل هذه الندوات تكمل عمل لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية التي تعمل في المركز بشكل تطوعي، والتي لا تستهدف إيقاظ صراعات قديمة بين ممثلي التيارات الوطنية، كما لا تستهدف تصفية الحساب مع أي نظام، وإنما هي وقفة للمراجعة والتقييم في ضوء قراءة الكتب والمؤلفات التي عالجت تجربة السجن أدبياً وإبداعيا. وفي نهاية فعاليات الندوة طالب المشاركون بإقامة متحف أرشيفي لكل ما يتعلق بالحركة اليسارية المصرية، بحيث يجمع ذلك المتحف كافة المنتجات الفكرية والأدبية والسياسية لتلك الحركة. هذا وسوف تحاول الكلمة في أعداد قادمة تقديم ملف كامل عن أدب السجون يشمل بعض الدراسات النقدية وبعضاً من الشهادات والنصوص الأدبية المشاركة على هامش ندوة مركز البحوث، ، ويبقى لنا التنويه بالحضور الجيد الذي واكب انعقاد ندوة أدب السجون في الجلسات كلها خاصةً جلستيْ صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني، على الرغم من التغطية الإعلامية الضعيفة والدعاية غير الكافية للملتقى وفعالياته. ويبدو أن الفترة القادمة التي سيعيشها الوسط الثقافي في القاهرة سوف تشهد تجارب سجنٍ جديدة، لكنها هذه المرة لن تكون ذات طابعٍ سياسي أو نضالي، وإنما ستأخذ منحىً أدبي وفني، ولننتظر جميعاً ما ستسفر عنه المحاكمات المؤجَّلة لرواية "مترو" ومجلة "إبداع"، وإن غداً لناظِرِهِ قريب، وربما عجيبٌ أيضاً.
عادةً ما يشهد الوسط الثقافي في القاهرة حراكاً إيجابياً أو حتى سلبياً، يبدأُ من المركز ولا يتخطى حدود دائرة المهتمين بالأدب والثقافة والفنون، وغالباً ما يكون ذلك الحراك دليلاً على الوعي بطبيعة التنوع الذي يجب أن تنطوي عليه الثقافة، في مجتمع مر تكوينه الثقافي بمراحل متعددة شهدت نجاحات وإخفاقات وواجهت عقبات ومحفِّزات حتى وصل إلى ما هو عليه الآن من استيعاب للآراء المتعددة ووجهات النظر والرؤى المختلفة التي قد يصل تنوعها واختلافها حد التناقض والتضاد. لكن الأزمة التي تواجهها الثقافة العربية عموماً والمصرية على وجه الخصوص، لا تتمركز في ذلك التناقض الذي يعكسه حراك الوسط الثقافي بأحداثه ووقائعه، وإنما تتمركز الأزمة في تخطي ذلك الحراك حدود الدائرة الثقافية المنغلقة على نفسها (ولسنا بصدد تعليل ذلك الانغلاق) لتخرج القضايا إلى شارعٍ مزدحمٍ بالباحثين عن لقمة العيش وشربة الماء النظيفة، شارعٍ لا تشغله الثقافة ولا يعدّها بين عناصره، وإن كان هو من أولى شواغلها وعنصراً أساسياً في منتجاتها، ولا تتفاقم الأزمة أكثر وأكثر إلا حينما يحاول البعض إضفاء بُعد أخلاقي أو ديني على تلك القضايا الثقافية، فيبدأ رجل الشارع في التحرك دفاعاً عن آراء من يرشده، وليس دفاعاً عن يقينِ ما يعتقدُه، وحينئذٍ تصبح المصادمات محسومةٌ سلفاً لصالح تهدئة الرأي العام، التي لا تكلف كثيرا في مثل هذه الحالات، ويصبح الخاسر الوحيد هو الواقع الثقافي الذي يدفع يوماً بعد يوم ضرائب عن مشاريع لا تخصه بالأساس، لكنه مكلفٌ بحملها وواقعٌ تحت نيرها الثقيل.
هكذا كان الحال فيما شهدته السنوات الأخيرة من أحداثٍ لم تبدأ بتصفية فرج فودة جسدياً واستهداف الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ، كما لم تختلف في وقائعها مع محاكمة الدكتور نصر حامد أبو زيد، وروايات "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر و "عزازيل" يوسف زيدان و "وداعاً أيتها السماء" لحامد عبد الصمد، ولم ولن تنتهي بما شهدته القاهرة طوال شهر أبريل الماضي من مصادرات وإلغاءات، تعلقت الأولى برواية مصريّة مصورة، وهي رواية "مترو" لمؤلفها مجدي الشافعي، والتي صدرت العام الماضي عن دار "ملامح للنشر والتوزيع" بالقاهرة لصاحبها محمد الشرقاوي، بينما استهدفت الثانية مجلة "إبداع" التي تصدرها وزارة الثقافة المصرية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وبينما كان إلغاء ترخيص المجلة فصلاً في روايةٍ بدأت أحداثها منذ أكثر من عامين ولم تنته بعد، فإن الأولى تعدُّ امتداداً لمسلسلٍ من المواجهات بين التجديد والجمود، يرفع فيه أنصار الأول رايات الحرية المطلقة، بينما يتمترس فيه أنصار الثاني بشعارات الالتزام وحماية المجتمع من مغبة التهتُّك والانحلال والضياع.
إن رواية "مترو" التي تقع في خمسٍ وتسعين صفحة من القطع الكبير، تعدُّ أول روايةٍ مصريةٍ مصوّرة للكبار، رغم ظهور ذلك النوع الفني من الروايات على ساحة الإبداع العالمي منذ منتصف القرن الماضي، وتحكي الروايةُ أحداثها بالكلمات والصور، وتتناول قصةَ مبرمِجٍ شاب يواجه صعوبات مالية بسبب قوانين السوق الرأسمالية التي تتحيز لأصحاب الشركات الكبرى على حساب صغار المستثمرين، فيقرر وصديقٌ له سرقة أحد بنوك وسط القاهرة، وينجحان بالفعل في سرقة خمسة ملايين جنيه، ثم يقومان بالتحفظ عليها داخل إحدى محطات المترو بوسط العاصمة، وتتابع أحداث الرواية راصدةً محاولات المبرمِج وحبيبته الخروج بذلك المبلغ من أنفاق المترو، ليكتشف "شهاب" المبرمج أن صديقه قد خانه وهرب بالمبلغ إلى خارج الوطن كما يهرب الكثيرون، بينما يلجأ البنك إلى التغطية على أمر السرقة حفاظاً على مصلحة أحد رجال الأعمال، ويواكب تلك الأحداث عجز "شهاب" عن تنفيذ وصية أحد أصدقائه، الذي قُتِلَ على يد أحد الفاسدين الكبار. والرواية تتبنى في بعض أجزائها طابع السخرية من الأحداث الواقعية التي يعيشها المواطن المصري، بينما تتبنى في أجزاء أخرى رصد فجاجة ذلك الواقع وسوداويته، عامدةً إلى تعريته وفضحه سواءً في جانبه السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وقد أهدى الرسام والروائي مجدي الشافعي مؤلف هذا العمل روايتَهُ إلى المدونين المصريين، مشيراً إلى احترامه لهم ولبشارتهم وكتاباتهم التي تعلن دائماً أن الحياة سوف تعودُ يوماً ما إلى مسارها الطبيعي.
إلى هنا لا يبدو للوهلة الأولى أن الرواية قد تخطت في الكثير من أجزائها حدوداً متعارفاً عليها بين المبدع والمتلقي والنظام، لكن ما حدث بعد ذلك أثار الكثير من التساؤلات حول هذا العمل الفن ـ أدبي ومقاصده، فقد داهمت مباحث الآداب بالقاهرة دار ملامح للنشر والتوزيع في منتصف شهر إبريل، وصادرت كافة نسخ الرواية، وطلبت من القائمين على العمل تسليم أية نسخ مرتجَعة من هذا العمل على وجه السرعة، وحينما تساءل القائمون عن أسباب ذلك الفعل، جاءهم الجواب بأن هذا العمل يتضمن عبارات ورسوم منافية للآداب العامة وخادشة للحياء ومحرضة على الفسق، وذلك لوجود صورة لنهدٍ عارٍ مرسوم بالقلم الأسود داخل إحدى صفحات الرواية، ومن ثم قررت النيابة العامة إحالة مؤلف الرواية وصاحب دار النشر إلى المحاكمة، التي أجلت النطق بالحكم إلى شهر مايو الحالي بعد طلب تشكيل لجنة من المجلس الأعلى للثقافة لتقدم رأيها في الرواية موضع الخلاف، وإضافة شهادات مكتوبة لعدد من المثقفين إلي ملف القضية. وقد شهدت قاعة المحكمة تواجد عدد من المثقفين بينهم الروائي صنع الله إبراهيم الذي حضر ليتقدم بشهادة ضد مصادرة العمل، وللدفاع عن المتهمين، وإلي جانبه كان أحمد اللباد متواجدا للشهادة، كما تضامن عدد من الكتاب الشباب بالحضور منهم أحمد العايدي، وحمدي الجزار، ومحمد علاء الدين، والشاعر أشرف يوسف، ورسام الكوميكس وائل سعد.
وقد علّق كثيرٌ من المثقفين المصريين على هذه الأحداث الفنتازية التي تتعلق برواية (مترو)، ورأوا في ذلك المبرر الأخلاقي غير المنطقي الذي زعمته النيابة محاولةً للتغطية على السبب الحقيقي وراء المصادرة، فمحمد الشرقاوي صاحب دار ملامح يعدّ من أول المدونين المصريين الذين تمت ملاحقتهم أمنياً واعتقالهم لانتقاداتهم المستمرة لنظام الحكم ورموزه، كما أن الصورة التي عللت بها النيابة دافع المصادرة لم ير فيها معظم المتلقين خدشاً للحياء يناسب رد الفعل تجاهها، فالقنوات الفضائية المختلفة تعرض يومياً وباستمرار ما يحطم الحياء كلياً وليس يخدشه فقط، ويبدو أن الانتقادات التي تضمنتها الرواية، خاصةً حينما تبناها بالنشر ناشط سياسي كالشرقاوي، استفزت الأجهزة الأمنية إلى درجةٍ دفعت الضابط القائم على المداهمة إلى مصادرة الرواية دونما انتظار لقرار النيابة التي يحق لها وحدها استصدار مثل تلك القرارات، مما حدا بلجنة الدفاع عن الرواية ومؤلفها وناشرها إلى القول ببطلان الإجراءات، بل وتطورت طلبات الدفاع بطلب وزير الثقافة المصري للشهادة أمام هيئة المحكمة بوصفه فناناً تشكيلياً، وما يزال الوسط الثقافي منتظراً لما ستسفر عنه الأحداث من تطورات في الأسابيع المقبلة.
وعلى جانبٍ آخر افتتح مسلسل مجلة إبداع الذي بدأ في إبريل عام 2007 حلقةً جديدة من حلقاته بأحداثٍ مفاجئة هذا الشهر، إذ أصدرت محكمة القضاء الإداري في الثامن من إبريل الحالي حكماً بإلغاء ترخيص المجلة التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، والتي يرأس تحريرها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وذلك على إثر نشر المجلة عام 2007 لقصيدة حلمي سالم "شرفة ليلى مراد"، والتي رأى فيها البعض مساساً بالذات الإلهية والمقدسات، مما دفع الشيخ يوسف البدري إلى مقاضاة حجازي وحلمي سالم، ومن ثمَّ تم سحب عدد المجلة من الأسواق ووقف توزيعها، لكن وزارة الثقافة ما لبثت أن منحت الشاعر حلمي سالم في نفس العام جائزة الدولة للتفوق؛ لتشتعل القضية مرةً أخرى، فيعاود البدري رفع دعوى بطلان الجائزة، مطالباً سحبها من الشاعر وإلزام وزير الثقافة إن أصر على المنح بدفع قيمة الجائزة من جيبه، "فهذه أموال الشعب ولا يجوز منحها لشاعر ملحد" على حد تعبير البدري، خاصةً وأن الأزهر كان قد أرسل تقريراً أثناء محاكمة القصيدة، اتهم فيه الشاعر حلمي سالم بالكفر والإلحاد، واستكمالاً لحلقات هذا المسلسل الممل قام المحامي سمير صبري برفع دعوى قضائية يطالب فيها بإلغاء ترخيص المجلة التي نشرت القصيدة المسيئة للذات الإلهية والعابثة بالمقدسات، لتصدر المحكمة قرارها بقبول الدعوى وإلغاء ترخيص المجلة، مستندةً في حيثيات حكمها إلى أنه: "ثبت لدى المحكمة أن قصيدة حلمي سالم المنشورة بمجلة إبداع ورد بها ألفاظ تسيء إلى رب العالمين وتضمنت بعض مقاطعها سبا للذات الإلهية تصوِّر الإله بأنه مأمور هو والأنبياء إذ يستدعيهم الشاعر بأسلوب خلا من الأدب، وبما أن هذا الفعل يباعد بين المجلة التي قامت بالنشر وبين رسالة الصحافة؛ فمن غير المعقول أن يكون هذا العمل قد نشر عبثاً دون أن يمر على القائم على هذه المجلة، الأمر الذي يؤكد أن بعضهم لديه القناعة والاستعداد لنشر مثل هذه الإسفافات المتطاولة على رب العالمين، لذا قررت هيئة المحكمة إلغاء ترخيص المجلة المذكورة".
وقد جاء رد وزارة الثقافة حاسماً بالخصوص إذ صرح نائب رئيس الهيئة العامة للكتاب الدكتور وحيد عبد المجيد، أن الهيئة سوف تبدأ في إجراءات استئناف الحكم فوراً، مشيراً إلى احترامه للأحكام القضائية، ولكن القضايا الخاصة بحرية الرأي والتعبير تتطلب من القضاء أن يتعامل معها بحذر وحرص. وطالب الدكتور وحيد الجهات القضائية باستشارة المتخصصين فيما يخص الأدب والإبداع بشكل عام، بينما أعلن الكاتب الصحفي صلاح عيسى أن الحكم غير قانوني، ولا يوجد نص دستوري يبيح إلغاء تصريح مطبوعة حكومية، وأن الحكم سيُلغى في الاستئناف الذي تقوم به الهيئة حالياً، وأن المجلة سوف تعود قريباً للصدور مرةً أخرى.
وحقيقة الأمر أن التفريق بين المجلة والقصيدة أمرٌ لا يختلف عليه الكثيرون، فالقصيدة رغم تجاوزها وسقطاتها الفنية قبل الدينية تخصُّ كاتبها بالأساس، بينما المجلة ملكٌ لجموع المثقفين الكتّاب، وفكرة الحسبة التي أصبحت سيفاً مشهراً في وجه الجميع، أضحت مستهجنةً ومشكوكاً في مصداقية أهدافها وغاياتها، بعد أن أُقحِمت في كل مناسبة بسببٍ وبدون سبب، كما أن فتح جبهات مواجَهَة بين المثقفين والمجتمع لا تصب في مصلحة أيٍ منهما، ولا تنتج في النهاية إلا استعداءً لفكرة الثقافة عند الجماهير، وانعزالا أكثر غلواً للمثقفين، ناهيكَ عن تحوير الأفكار المصاحبة لمثل هذه المواجهات، والذي ينتِجُ خللاً في كثيرٍ من المفاهيم التي يتبناها كلُّ فريق، إذ يصبح كلُّ مدافعٍ عن الحرية موصوماً بالدفاع عن التحرر السافر والانحلال، في مقابل تشويه صورة الالتزام فنياً كان أو دينياً، والذي يواجَهُ الداعي إليه بتهم الجمود والانغلاق والرجعية والتخلّف. وبين هذين الفريقين يقبعُ طرفٌ لا يجني أيما فائدة وليست له مصلحةٌ مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، لكنه وحدهُ يتكبد الخسائر سواءً باختلال مفاهيمه أو بفقدانه الثقةَ في أحد طرفي الصراع، أو في كليهما.
أما ثالث أحداث هذا الشهر فلم يبتعدْ كثيراً في مفرداته عن سابقَيه، وإن اختلفَ عنهما في فعالياته ونواتجه، فبين المداهمات والمحاكمات التي عاشتها الثقافة القاهرية عقد مركز البحوث العربية والأفريقية ندوةً عن أدب السجون أهداها إلى الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم تقديرا لإسهامه في إثراء الرواية العربية، وامتدت فعاليات تلك الندوة ليومين متتاليين، وشهد مقر المركز بالجيزة ست جلسات متنوعة بين النقد والشهادات الأدبية، بالإضافة للجلسة الافتتاحية التي رأسها الدكتور سمير أمين، والتي ذكر فيها أنه من المؤمنين بأن الأدب أحد أهم المصادر التي يمكن اللجوء إليها للوصول إلي فهم أعمق لتحولات المجتمع، كما ذكر أن الدراسات المشاركة هي محاولةٌ لتشريح واقع المجتمع المصري في مرحلةٍ من أغنى مراحله الفكرية والسياسية. وقد تضمنت الندوة سبعة محاور هي: السمات البارزة التي طبعت أبطال أدب السجون، وأشكال المقاومة التي أبداها هذا الأدب، والأبعاد القهرية والقمعية التي ينطوي عليها الجلاد، ومذكرات وذكريات وسير ذاتية باعتبارها نوعا أو جنسا أدبيا مستقلا، وجدلية الضحية والجلاد، وخصوصية الرسائل المتبادلة بين السجين وذويه، والتطور الذي شهده أدب السجون على مدى العقود الماضية، بالإضافة إلى شهادات بعض الأدباء والمثقفين عن تجاربهم الشخصية.
وقد شارك في الشهادات كل من جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم وفخري لبيب، بينما شارك بأوراق بحثية كل من ثناء أنس الوجود وسيد البحراوي وعمار علي حسن وصلاح السروي وحسام عقل وهيثم الحاج علي وأمينة زيدان وعمر شهريار، وقد تناولت الأوراق البحثية والدراسات ما يقرب من 35 عملاً أدبياً بين روايات ومذكرات وسير ذاتية ورسائل، منها على سبيل المثال: روايتي "فرج" و "أطياف" لرضوى عاشور، و "ابنة القومندان" لشريف حتاتة، و "حكاية تو" لفتحي غانم، و "العسكري الأسود" ليوسف إدريس، و "أوان القطاف" لمحمود الورداني، ومن المذكرات "أقدام عارية" لطاهر عبد الحكيم، و "شيوعيون وناصريون" لفتحي عبد الفتاح، و "في معتقل أبو زعبل" لإلهام سيف النصر، و "يوميات الواحات" لصنع الله إبراهيم. إضافة إلى رسائل عبد العظيم أنيس ومصطفى طيبة وفريدة النقاش وفوزي حبشي. وبدا لافتا في تلك المشاركات المتنوعة الجهد الكبير الذي قام به منسق الندوة الشاعر شعبان يوسف، سواءً في إعداد البرنامج أو اختيار الباحثين الذين جاءوا ممثلين لتيارات وأجيال مختلفة، الأمر الذي أضفي شكلاً من أشكال الحيوية والتنوع على الندوة ومحاورها.
وقد لفت انتباه المتابعين والمهتمين أن الندوة اقتصرت علي مساهمات اليسار المصري، وأغفلت التيارات السياسية الأخرى وعلى رأسها تجربة جماعة الإخوان المسلمين، التي تشترك مع الحركة اليسارية في هذا المجال، لكن المنظمين برَّروا ذلك الإغفال بقولهم إن غالبية من سجلوا تجاربهم في السجن كانوا من كتاب وفناني اليسار المصري، وقد أضفوا على ذلك التسجيل طابعًا أدبيا وفنيا لم يتوافر بنفس القدر في كتابات الآخرين باستثناء بعض نصوص صافيناز كاظم وزينب الغزالي. كما غابت عن الدراسات مقاربة التجارب الأدبية لمناضلين عماليين، في شكلٍ من أشكال الانحياز الكامل لتجارب المثقفين دون غيرهم، على الرغم من وجود نصوص مهمة في هذا السياق أبرزها نص روائي بعنوان "الرحلة" كتبه العامل فكري الخولي.
والجدير بالذكر أن هذه الندوة تأتي في سياق نشاط مركز البحوث العربية والإفريقية، وقد سبقتها منذ عشر سنوات ندوة مماثلة أهدت دورتها للكاتبة لطيفة الزيات، وقد اعتبر حلمي شعراوي مدير المركز أن مثل هذه الندوات تكمل عمل لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية التي تعمل في المركز بشكل تطوعي، والتي لا تستهدف إيقاظ صراعات قديمة بين ممثلي التيارات الوطنية، كما لا تستهدف تصفية الحساب مع أي نظام، وإنما هي وقفة للمراجعة والتقييم في ضوء قراءة الكتب والمؤلفات التي عالجت تجربة السجن أدبياً وإبداعيا. وفي نهاية فعاليات الندوة طالب المشاركون بإقامة متحف أرشيفي لكل ما يتعلق بالحركة اليسارية المصرية، بحيث يجمع ذلك المتحف كافة المنتجات الفكرية والأدبية والسياسية لتلك الحركة.
هذا وسوف تحاول الكلمة في أعداد قادمة تقديم ملف كامل عن أدب السجون يشمل بعض الدراسات النقدية وبعضاً من الشهادات والنصوص الأدبية المشاركة على هامش ندوة مركز البحوث، ، ويبقى لنا التنويه بالحضور الجيد الذي واكب انعقاد ندوة أدب السجون في الجلسات كلها خاصةً جلستيْ صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني، على الرغم من التغطية الإعلامية الضعيفة والدعاية غير الكافية للملتقى وفعالياته. ويبدو أن الفترة القادمة التي سيعيشها الوسط الثقافي في القاهرة سوف تشهد تجارب سجنٍ جديدة، لكنها هذه المرة لن تكون ذات طابعٍ سياسي أو نضالي، وإنما ستأخذ منحىً أدبي وفني، ولننتظر جميعاً ما ستسفر عنه المحاكمات المؤجَّلة لرواية "مترو" ومجلة "إبداع"، وإن غداً لناظِرِهِ قريب، وربما عجيبٌ أيضاً.