رسالة السودان
مهرجان عزة للكتاب، وراهن النقد الأدبي في السودان
لعل أهم ما شهدته الخرطوم في شهر ابريل مهرجان الكتاب الذي أقامته مكتبة عزة للنشر بالتعاون مع اتحاد الكتّاب السودانيين ووزارة الثقافة ولاية الخرطوم والذي يُختتم أمسية الرابع من مايو؛فالمهرجان الذي شاركت به مجموعة من دور النشر العربية من مصر وسوريا،أعاد سؤال "النشر الثقافي" مرة ثانية إلي الساحة الثقافية السودانيّة بعد أن بدا وكأنه ذهب بلا رجعة، خاصة مع الخيارات الجديدة التي أتيحت للكتّاب السودانيين عبر شبكة الانترنت حيث بات بمقدورهم إرسال مخطوطاتهم إلي دور نشر كبيرة لتُنشر بصفة أكثر جودة ودقة وتوزع علي نطاق أكبر بدلاً من إضاعتها في أضابير دور النشر المحلية، والتي يغلب علي شغلها،البطء،وسوء التصحيح والإخراج! الكلمة التي ألقاها مدير دار عزة نور الهدي في افتتاحيّة المهرجان أثارت نسبة كبيرة من الكتّاب، قال نور الهدي انه يشكر وبكل فخر وإعزاز كتّاب الوطن (لأنهم لم يأخذوا منا ولا فلساً لقاء حقوقهم ككتاب) وما ظنه نور الهدي امتناناً رأي فيه بعض الكتّاب إقرارا معلناً بهضمه لحقوقهم وقد تم تناول هذا الأمر علي مستوي الملاحق الثقافية طيلة أيام المهرجان المنقضية! ضد الملاحق الثقافية الساحة الثقافية السودانيّة كانت شهدت في 15 ابريل 2008 صدور بيان من أسماء إبداعية عديدة بينها عالم عباس رئيس اتحاد الكتاب، وعبد العزيز بركة ساكن، أبكر ادم إسماعيل، عثمان شنقر، د. هاشم ميرغني، منصور الصويم، إيمان ادم، رانيا مأمون.. جاء فيه: (درجت الصحف علي نشر أعمالنا في الملاحق الثقافية قصص، شعر، روايات، تشكيل، دراسات نقدية ـ مسرحيات ـ ترجمة) دون دفع مقابلا ماديا،ومن واقع تقديرنا لذواتنا ولما ننتج من أدب وفكر،وما تعارف عليه العالم وما نصت عليه منظمة "الوايبو" فيما يعرف بحقوق الملكية الفكرية علي إيفاء الوسائط الإعلامية للحق المادي المقابل للحق الأدبي الأصيل،فإننا نحن الموقعين أدناه نرفض نشر أعمالنا دون مقابل مالي في أية صحيفة، وحفاظاً علي العلائق الطيبة بيننا فإننا نرجو من القائمين علي إدارات هذه الصحف الالتزام بما جاء أعلاه) ولقد خلّف هذا البيان أصداء واسعة،عُقدت ندوات ومؤتمرات صحفية في أثره بدفع من محرري الملاحق الثقافية ومن بين ما طُرح حينها ان الملاحق الثقافية بالصحف تعاني إشكاليات عدة ليس اقلها ضعف حرص المؤسسات الصحفية علي وجودها خاصة ان اغلب الصحف هي سياسية أو رياضية،وانها ظلت تلعب دورا مهماً في ترسيخ المادة الثقافية مع غياب الدوريات والمجلات المعنية بالأدب والثقافة. موقف الكتّاب لم يتغير لكن الملاحق الثقافيّة في نحو 9 صحيفة سياسيّة تصدر بصفة يوميّة لم تتوقف عن عادتها وتحايلت علي الأمر بالاعتماد علي إبداعات الشباب والمواد التحريرية "الحوارات والتقارير.." وما يُنشر في الانترنت، تجاوزاً للمشكلة! عادت اذن مسألة استحقاقات الكتّاب لتطرح وبقوة هذه المرة ومما هي أشبه بمواجهة بين الكتّاب والملاحق الثقافيّة بالصحف دخلت في الخط "دور النشر" أيضا،ويبدو ان دور النشر جاءت متأخرة نتيجة لتركيز الكتّاب مع الملاحق الثقافية التي ظلت تتحمل عبء غياب المجلة الثقافية منذ أواخر الثمانينيات أو عقب توقف مجلات "الخرطوم، الثقافة السودانية" وغيرها من إصدارات كانت ترعاها وزارة الثقافة. بصورة عامة لا يمكن القول ان علاقة الكتاب السودانيين بدور النشر المحلية جيدة؛ فغير ان هذه الدور هي في الغالب مشتغلة بمطبوعات لا صلة لها بالإنتاج الأدبي ونسبة قليلة فقط منها تهتم بالنشر الثقافي، غير ذلك هذه الدور تضع شروطا غير منصفة في تعاقدها مع الكتّاب تلزمهم بتحمل نفقات قد تزيد عن الـ (600) دولارا مقابل الطباعة والنقل، وتُطبع الأعمال في نسبة محدودة لا تتجاوز ألف نسخة قد يشارك الناشر في قسمتها ومع غياب أو ندرة نوافذ البيع فان هذه النسبة القليلة مرشحة لان تبقي علي الرف لوقت ليس بالقصير. هذا إضافة إلي المشكلات الفنية المتصلة بالتنضيد والتصحيح والألوان وغير ذلك مما تحتاجه طباعة الكتب، ولا يغيب عن البال في هذا السياق دور الرقابة وتطرفها في الحكم علي النشر الثقافي المحلي، لكل هذه الأسباب وغيرها صار الكاتب السوداني ميالا إلي الدفع بكتبه، متى ما عرف لذلك سبيلا، إلي دور نشر في القاهرة وبيروت ودمشق، لكن هذا التوجه إلي الخارج يغلب وسط بعض الأسماء الأدبية المعروفة فيما تعّقد كثيراً وضع الكتّاب الشباب وما عاد في مقدورهم إلا الرضوخ لشروط دور النشر المتعسفة أو الاكتفاء بالنشر في الملاحق الثقافية حتى ترسخ أسمائهم وفي كل حال بالمجان! المؤسسات الثقافية الأهلية مع مطالع الألفية بدأت بعض المراكز الثقافية الأهلية تنشط في مجال النشر، مثل مركز الدراسات السودانيّة الذي أسسه د.حيدر إبراهيم وبدأ نشاطه بالقاهرة طارحاً كتابه غير الدوري "كتابات سودانية" كما نشر عدة روايات ومجاميع شعرية وقصصية لمبدعين سودانيين في غالبيتهم من المهاجرين وقد نقل المركز نشاطه إلي الخرطوم وواصل نشاطه مرافقاً مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي وهو من بين المؤسسات الأهلية الأكثر نشاطاً في الخرطوم وقد أحدث في العام 2003 مسابقة الطيب صالح للإبداع الروائي، والتي استقدمت العديد من الأسماء الروائية الجديدة، لكن الأكثر أهمية في هذا السياق ان المركز اصدر كل الروايات الفائزة في طبعات أنيقة ومدققة لا تقل جودة عما تنشره دور النشر العالمية إضافة إلي ذلك طبع العديد من السجلات والمدونات من حقبة الاستعمار وما قبلها فضلاً عن عناوين في الاجتماع والتاريخ وغيرها من معارف لكن ما يجب ذكرها هنا هو ان فعاليّة هذه المراكز مشروطة بما يتوفر لها من دعم؛ فهي مرشحة للتوقف لضعف خزينتها وهي دائما في حال من المغالبة مع السلطات وآخر ما في هذا الباب القرار القاضي بمنع هذه المؤسسات الحصول علي أي منح مالية من الخارج دون الحصول علي موافقة رسميّة، وهو ما رأت فيه العديد من المؤسسات الثقافية الأهلية تعدياً علي خصوصيتها إلا ان الأمور في النهاية مضت كما رأت الدولة لا كما أرادت المؤسسات الثقافية الأهلية! اذن ضمن شروط صعبة تعمل بعض الجهات الأهلية لتفعيل الساحة الثقافية بعقد المؤتمرات والنشر والمسابقات اما وزارة الثقافة فقد ظلت تقول انها ترعي العمل الثقافي رعاية عامة ولا تنتجه ومع ضعف أو غياب الكيانات المُنظمة لعمل المبدعين بقيت فكرة الـ "الرعاية" ذاتها معلقة ولا انعكاس لها في الساحة الثقافية! مبادرة جماعة برانا تردي واقع النشر دفع مجموعة من الشباب في مارس 2007 إلي طرح مبادرة وسمت بـ "برانا" والكلمة من اللغة العامية وتعني بالفصحى "لوحدنا"، أي انهم لوحدهم، ودون الاعتماد علي المؤسسات، أهلية كانت أو رسمية، سيتولون أمر نشر إبداعاتهم وقد حدث بالفعل ودشنت الجماعة عملها بحفل توقيع لأولي منشوراتها ديوان الشاعرة نجلاء عثمان التوم "منزلة الرمق.. مذهب في كمال النحول" وقد جاء في بيان الجماعة انها تحاول أن تَمُدَّ يداً لصالح العمل الثقافي العام. وهو ما حدث بشكلٍ بديهيٍّ كَوَّنته لقاءات حياتية، وكان من الممكن لها أن تكون عابرة، ولكنها طَغَت وتسلَّطت لتخلق عُنفاً. هذا العنف الطبيعي؛ الناتج عن ما يُصيب العين من سخطٍ عندما تَقع على كتابٍ يحمل حياةً، لا تقل بشاعةً وجمالاً، عن عملية الخلق نفسها، كتابٌ شوَّهته يدُ السلوك المعهود، والسائد في الساحة الثقافية، وبمشروعية مطلقة هي: قِلَّة الحيلة، وطُغيَان الديكتاتوريات، وشحَّ الإنتاج. وهو زعمٌ مضحكٌ إذا ما قُورِن بما يُنتج الآن، وبما أُنْتِج من مشاريع، وبما دُفِن، وبما أُهْلِكَ صامتاً مكتَّف الأفق)! استطاعت هذه الجماعة الشابة بحساسيتها الشديدة في كل ما يتصل بجماليات النشر الثقافي،بحرصها الملحوظ علي الاختلاف مع السائد، استطاعت وفي فترة وجيزة ان تدفع بمجموعة من العناوين الأدبيّة في الشعر والرواية لكن ان كانت هذه الجماعة استطاعت ان تعالج مشكلة رداءة الطباعة والتصميم فانها لم تستطع ان تدفع مقابلا مادياً لمن نشرت لهم بل ان المشروع في أساسه قام علي فكرة ان تتعاون المجموعة وتشترك في دفع نفقات طباعة ونقل الكتب من القاهرة اما نفقة العمليات الفنية السابقة للطباعة فقد ارتضت الجماعة ان تقوم هي بهذه العمليات بالتالي تكفي نفسها شر الكلفة! ويبدو ان الجماعة لم تتهيأ جيدا لظروف العمل الثقافي في السودان إذ سرعان ما غابت سيرتها عن المشهد، بعد عام واحد من بدايتها، هكذا انطوت فجأة! الواقع ان تجربة هذه الجماعة تماثل تلك التي قام بها من قبل الشاعر المهاجر عاطف خيري أوائل التسعينيات؛ وكان الحال أكثر سوءاً، قام عاطف خيري بجمع وتنسيق العديد من المخطوطات الشعرية والروائية.. تولي كل التفاصيل السابقة لمكينة المطبعة لوحده وقامت احدي دور النشر بأمر النشر والتوزيع،مبادرة عاطف أنقذت العديد من العناوين ويمكن اعتبار تجربته الفردية أول مشروع للنشر الثقافي علي الصعيد المحلي، بعد حال من الركود عمّ كامل المشهد في أواخر الثمانينات.. لكن ثمة ظروف بينها هجرة صاحب المبادرة إلي استراليا أدت إلي توقفها أيضا. ونذكر ان العام 2005 شهد نشر وإعادة نشر العديد من الإصدارات الأدبية في إطار برنامج الخرطوم عاصمة للثقافة العربية إلا أن ثمة مشكلة في التوزيع واجهت هذه الإصدارات لضعف التخطيط وللطبيعة الطارئة للمناسبة أو لعدم أهلية من أوكل لهم أمر الفعالية. وراهن النقد الأدبي في السودان من الفعاليات التي شهدها مهرجان عزة للكتاب ندوة بعنوان "راهن النقد الأدبي في السودان" شارك بها د. مصطفي الصاوي ود. احمد الصادق، وقد أعقبتها ندوة ثانية حول حرية الصحافة وثالثة عن دور الملاحق الثقافية بالصحف.. ندوة النقد الأدبي والتي لم تحظ بحضور كبير من الجمهور ابتدرها د. احمد الصادق بمقدمة طويلة عرض خلالها لبدايات النقد في العهد الإغريقي ثم المراحل التالية وصولا إلي الوقت الراهن وتوقف عارضا لبعض المفاهيم الخاصة بمصطلحات بعض المناهج النقدية كالبنيوية والهرمونطيقا والتفكيكية كما تحدث عن التفاعلات التي تمت ما بين النقد والعلوم الإنسانية ومن بعد قام بتقديم الناقد د. مصطفي الصاوي الذي بدأ حديثه رادا الفضل في وجود حركة نقدية سودانية إلي حركة الترجمة والتواصل الذي حصل ما بين السودان وبلدان عربية كلبنان ومصر في مطالع القرن الماضي.. مشيرا الي انه سيتوقف عند بعض المراحل النقدية السابقة ربطاً للحديث عن راهن النقد. فجر الحركة النقدية في السودان بحسب د. مصطفي الصاوي فان فترة العشرينات من القرن الماضي شهدت نشاطاً نقدياً كلاسيكياً علي أسس معرفية ذات صلة باللغة وقد اهتم النقد وقتها بصحة العبارة وجزالة اللفظ والالتزام بعمود الشعر لتأثره بالنقد العربي القديم والذي كانت تُدرّس مصطلحاته في "المعهد العلمي" امدرمان، وفي حلقات المدارسة في المساجد. وذكر الصاوي ان هذه المرحلة طرحت أسماء نقدية عديدة مثل عبد الله عمر الأمين وعبد الرحمن شوقي واحمد محمد صالح وقد اشتغلت بتلك الصفة النقدية التقليدية في مقاربة النصوص خاصة الشعرية، اهتمت هذه الأسماء بإعلاء مرتبة الأداء اللغوي مأخوذة بالتراث الأدبي القديم وأشار الصاوي للتمثيل الي كتاب "العربية في السودان" لعبد الله عبد الرحمن الضرير، والذي يحتوي علي مباحث عديدة تؤكد نزعة العمل علي اللغة منها "الفلكور واللغة" و "علم اللغة" كما يقدم الكتاب فصلاً موسعاً عن "الأدب الشعبي" وقد ردّ الكاتب عبره اغلب عبارات اللغة العامية الي اصولها العربية، ويقول الصاوي ان الكتاب بصفته هذه يمثل ممارسة نقدية مبكرة تقع "في باب التأصيل والتفسير والنقد اللغوي" وان جزءاً من حساسيته يمكن ان يكشفها لنا نصه القائل: لعمرك إن الشعر اضحي مخنثا فوافيه من تحنانها تتأودُ واصبح غثا في الركاكة ضاربا بسهم ومما سنت العرب يبعدُ وامعن في لين ونجس مطالب كاد علي ايدي الشاعر يحمدُ تأثر صاحب كتاب "العربية في السودان" بالشيخ المرصفي صاحب "الوسيلة الأدبية" علي الأرجح ـ يقول الصاوي ـ ويتوقف من بعد عند تجربة كتاب "شعراء السودان" للأديب المصري "سعد مخائيل" الذي كان يعمل في جريدة "رائد السودان" التي كانت تصدر في الخرطوم في الفترة 1913/ 1918 هذا الكتاب الذي صدر في 1923 بالنسبة للصاوي يقع في باب "الاختيارات الشعرية" وان ما يلفت فيه انه اعتمد علي صيغة في الانتخاب لا تنقصها الأهمية إذ طلب من كل شاعر سوداني أن يرفق مع شعره صورة شمسية وبيتين من نظمه يعبر من خلالهما عن نفسيته ويري الصاوي في ذلك ما يشبه الاختبار النقدي، بل يمكن أن يُعتبر وثيقة يُستدل بها علي أجواء تلك المرحلة. مضت حركة نقد العشرينات في تطور لتشهد مع بدايات الثلاثينات إضافات نوعية مع تخرج الدفعات الأولي لكلية غردون وظهور مجلتي "الفجر" و "النهضة". طلاب كلية غردون تأثروا بالمناهج الغربية في المعرفة الأدبية كما تعرفوا علي حركة النقد في مصر ولبنان، ويقول الصاوي إن من ابرز ملامح تلك المرحلة الصراع الذي نشأ بين طلاب المعهد العلمي "الديني" وطلاب "كلية غردون" صراع الشيوخ والمتعلمين بالمناهج الغربية! ويذكر الصاوي هنا عرفات محمد عبد الله الذي اصدر مجلة الفجر ويشير إلي انه شُغل بنقد المسرح وبالدعوة للاستفادة من الآداب الأجنبية لاغناء التراث العربي وبعثه! كذلك توقف الصاوي عند تجربة محمد احمد المحجوب بوصفه من رواد الحركة النقدية في السودان مشيراً إلي انه الأول بين سائر السودانيين الذي قدم نقدا للأدب المصري خاصة علي أيام الدعوة إلي أدب قومي وأشار الصاوي كذلك إلي أن محمد احمد المحجوب تميز بحس نقدي لا تعوزه الجرأة وان من نظراته قوله عن الشعر انه لا يكون (إلا باجتماع الإلهام والصناعة لان الإلهام وحده لا يكفي أن يجعل صاحبه شاعراً؛فالشاعر يحتاج إلي دقة في التعبير واختيار اللفظ..) وغير انه عرف بانكبابه علي المصادر الأدبية العربية تميز المحجوب بانفتاحه علي المعارف الغربية ويقول الصاوي ان الغالب في كتابة المحجوب النقدية تركيزها علي العلاقة بين الأدب والمجتمع وان ذلك ربما دل علي تأثره بـ "هيوليت تين" في اشارته إلي أن "العنصر والزمن والبيئة تعد أسبابا واقعيّة تكمن خلف كل أدب عظيم". معاوية محمد نور (1909 ـ 1941) من بين أميز الأسماء النقدية التي نشطت في مرحلة الثلاثينات كذلك الناقد والقاص معاوية نور(1909 ـ 1941) الذي ارتبط اسمه بالحركة النقدية الرومانتيكية ـ في رأي الصاوي ـ وقد تميز بإسهامه المبكر في التعريف بالتيارات النقدية الغربية إضافة إلي مقاربته لمسرحيات احمد شوقي واعمال المنفلوطي كما كتب عن سرقات المازني، وكتب عن أصول كتابة القصة القصيرة متوقفاً عند تقنياتها كطريقة رسم الشخصية والتفريق بين الواقعي والتخيلي في القص، وكتب عن الوصف، الإيحاء، التحليل النفسي ودقة اختيار الكلمة ومناسبتها لموضعها! وأشار الصاوي إلي أن معاوية نور يمثل قطباً مهماً في حركة النقد "العربي" في الثلاثينيات لموهبته النقدية العالية مشيرا إلي انه نشط في المشهد الثقافي المصري وواجه أسماء أدبية مكرسة تصعب الكتابة عنها ما لم يكن المرء متسلحاً بالعلم. بعد ذلك توقف الصاوي عند كتاب حمزة الملك طمبل "الأدب السوداني وما ينبغي أن يكون عليه" مشيرا إلي أن تجربة طمبل النقدية تميزت بخصوصيتها في عقد الثلاثينيات لأنها قصدت التكريس لأدب سوداني يقاطع التركة التقليدية العربية ويؤسس لنفسه باستلهام الروح السوداني ومن بين ما دعا إليه طمبل في كتابه الاهتمام بالصدق الفني وتُنسب إليه العبارة المعروفة "يا شعراء السودان اصدقوا وكفي" ويقول الصاوي ان نقد طمبل يستند كذلك علي الخط الرومانتيكيِ الذي ساد في تلك الفترة. وأشار الصاوي كذلك إلي أن مطالعة مجلة الفجر توقف المرء علي العديد من المساهمات النقدية المهمة أسهمت بها اسماء مثل يوسف التني ومحمد عشري الصديق ويحي عبد القادر ومحمد إبراهيم النور وغيرهم. يوجز الصاوي ملامح النقد في فترة الثلاثينيات مشيرا إلي الحس التوثيقي لدي بعض نقاد المرحلة والاتجاه إلي إحياء التقاليد الكتابية القديمة وقال ان النقاد محمد احمد المحجوب،وعرفات محمد عبد الله ومعاوية نور وحمزة الملك طمبل والأمين علي مدني تفاعلوا مع الجهود النقدية في العالم من حولهم وان ثمة أصداء في كتاباتهم تدل علي تأثرهم بالتيارات العربية كمدرسة الديوان وابولو وكتاب لبنان المهجريين. النقد الأكاديمي لم يتوقف الصاوي كثيرا عند مرحلة الأربعينات ربما لأن الأمور لم تكن واضحة فيها إذ غلبت الصراعات السياسية علي أجواءها،لكنه أشار إلي ان الوعي النقدي الثلاثيني ظل موجوداً وصولاً إلي مرحلة الخمسينات وبالتحديد أواخرها حيث ظهرت جهود الاكاديمين العرب "من مصر وفلسطين" الذين حضروا إلي السودان كأساتذة وذكر منهم عز الدين إسماعيل وعبد المجيد عابدين وإحسان عباس ومحمد النويهي وهدارة ومحمد سلام زغلول وحليم اليازجي ولقد تفاعل هؤلاء مع الإنتاج الإبداعي السوداني وقدموا قراءات عديدة أغنت المكتبة السودانية والعربية. من السودانيين برز في الخمسينات عبد الله الطيب ويقول الصاوي انه وازن بين النقد الأوربي الحديث والنقد العربي القديم وألف العديد من الكتب النقدية المهمة مثل "المرشد إلي فهم أشعار العرب وصناعتها" و "الاتجاهات الحديثة في النثر العربي بالسودان" كما كتب عن أبي الطيب المتنبي، وأثارت مقالته "فتنة الشعراء العرب باليوت" أصداء واسعة بعد نشرها بمجلة الدوحة القطرية وقال الصاوي كان جهد عبد الله الطيب مقدمة قوية للنقد الأكاديمي وترافق مع جهود عز الدين الأمين ومحمد محمد علي وصلاح الدين المليك وبابكر الأمين ومحمد إبراهيم الشوش ومختار عجوبة ويضيف الصاوي ان هذه الجهود شكلت نقلة نوعية في تاريخ النقد الأدبي في السودان..نقد تفاعل عبر الترجمة والبعثات الدراسية مع احدث الاتجاهات النقدية الغربية وتواصل هذا الجهد إلي ان بلغ درجته الاعلي فترة الستينات التي شهدت نشاطا متصلا في جميع المجالات الثقافية كالمسرح والقصة والغناء خاصة في اعقاب الثورة الشعبية في 1964التي أطاحت بنظام الفريق عبود ويقول الصاوي ان هذه الفترة شهدت ظهور التيارات الغربية كالوجودية والماركسية واللامعقول، كما أشار إلي ان المرحلة شهدت "سجالات" فكرية عميقة حول الهوية الثقافية للسودان وتوقف الصاوي عند إسهامات النور عثمان أبكر وعبد الله علي إبراهيم وعبد الله جلاب ومحمد المهدي بشري وعيسي الحلو وعون الشريف قاسم وأوجز الصاوي ملامح النقد في هذه الفترة مشيرا إلي ان ظهور مجلات "الثقافة السودانية" و "الخرطوم" و "القلم" و "الثقافة الوطنية" إضافة إلي الملاحق الثقافية بصحف "الأيام" و "الصحافة" كان له أثره في تطور حركة النقد واستقراره وظهور أسماء عدة،كذلك خدمت الترجمة المجال النقدي إذ وفرت مناهج حديثة للمقاربة والتحليل وذكر الصاوي ان هذه الفترة التي امتدت إلي السبعينات غلب عليها النقد الواقعي ان ثمة تأثيرات ملحوظة للناقدين محمود أمين العالم وحسين مروة في كتابات يوسف عيدابي وصلاح احمد إبراهيم وعبد الهادي الصديق وطلحة الشفيع والملامح العامة لهذا الاتجاه النقدي انه كان يري الإبداع نتاجا للواقع. النقد المعاصر منذ أواخر الثمانينيات عرفت الحركة النقدية السودانية تواصلاً مع التيار البنيوي، ويربط الصاوي بين مجلة فصول المصرية وتأثر بعض النقاد السودانيين بالبنيوية والتيارات التي أعقبتها ويذكر الصاوي بعض العناوين النقدية المترجمة مثل البنيوية في الأدب لروبروت شولز والكتابة في درجة الصفر ونظام الخطاب لفوكو ويقول بتأثيرها علي الكتابات النقدية السودانية ويتوقف عند تجارب أسامة الخواض ومحمد خلف الله ومعاوية البلال وعبد اللطيف علي الفكي احمد طه امفريب ويشير إلي أنهم واجهوا معارضة شديدة واتهموا بالشكلانية والغموض وان كتاباتهم النقدية تحول الأدب إلي معادلات رياضية ورسومات وأرقام صماء. ويجمل الصاوي ملاحظاته حول راهن النقد قائلا ان من المظاهر اللافتة بالنسبة له ان الحركة النقدية السودانية لم تعرف تواصلا بين مراحلها ما أثر في تراكمها وان الصراعات النقدية التي تتجاوز الإبداعي الي الإيديولوجي أثرت سلبا علي فعالية المساهمة النقدية، ويقول الصاوي ان النقد الأكاديمي تراجع في الآونة الأخيرة وساد النقد الصحفي بطبعه المتسرع،وذكر الصاوي أيضا ان غياب الجمعيات والتنظيمات ذات الطبيعة العملية أثر هو الآخر وقلل من الجهود النقدية كما أدي الاتكاء علي المناهج النقدية الغربية وتطبيقها آلياً دون تمثلها والوعي بخلفياتها الفكرية إلي حال من الممارسة النقدية المُستلفة. إلي ذلك أشار الناقد مصطفي الصاوي إلي ان غياب المجلات والدوريات الثقافية كان سبباً في ضمور الحركة النقدية منذ أواخر الثمانينيات وصولا إلي اللحظة الراهنة. وفي ختام حديثه ذكر الصاوي ان الجهد النقدي يحتاج إلي ان توفر له المعينات متوقفاً عند الإشكاليات التي تحيط بمسألة الانتساب إلي تنظيم إبداعي في السودان في وجود العديد من الخلافات الإيديولوجية،وقال ان الوقت الراهن يشهد تراجعاً كبيرا علي الأصعدة المختلفة وان الغياب التام للحريات العامة والتضييق علي ابسط أشكال التعبير وسيادة ثقافة الإقصاء كلها أسباب لتدهور حركة النقد في الوقت الحاضر.
لعل أهم ما شهدته الخرطوم في شهر ابريل مهرجان الكتاب الذي أقامته مكتبة عزة للنشر بالتعاون مع اتحاد الكتّاب السودانيين ووزارة الثقافة ولاية الخرطوم والذي يُختتم أمسية الرابع من مايو؛فالمهرجان الذي شاركت به مجموعة من دور النشر العربية من مصر وسوريا،أعاد سؤال "النشر الثقافي" مرة ثانية إلي الساحة الثقافية السودانيّة بعد أن بدا وكأنه ذهب بلا رجعة، خاصة مع الخيارات الجديدة التي أتيحت للكتّاب السودانيين عبر شبكة الانترنت حيث بات بمقدورهم إرسال مخطوطاتهم إلي دور نشر كبيرة لتُنشر بصفة أكثر جودة ودقة وتوزع علي نطاق أكبر بدلاً من إضاعتها في أضابير دور النشر المحلية، والتي يغلب علي شغلها،البطء،وسوء التصحيح والإخراج! الكلمة التي ألقاها مدير دار عزة نور الهدي في افتتاحيّة المهرجان أثارت نسبة كبيرة من الكتّاب، قال نور الهدي انه يشكر وبكل فخر وإعزاز كتّاب الوطن (لأنهم لم يأخذوا منا ولا فلساً لقاء حقوقهم ككتاب) وما ظنه نور الهدي امتناناً رأي فيه بعض الكتّاب إقرارا معلناً بهضمه لحقوقهم وقد تم تناول هذا الأمر علي مستوي الملاحق الثقافية طيلة أيام المهرجان المنقضية!
ضد الملاحق الثقافية الساحة الثقافية السودانيّة كانت شهدت في 15 ابريل 2008 صدور بيان من أسماء إبداعية عديدة بينها عالم عباس رئيس اتحاد الكتاب، وعبد العزيز بركة ساكن، أبكر ادم إسماعيل، عثمان شنقر، د. هاشم ميرغني، منصور الصويم، إيمان ادم، رانيا مأمون.. جاء فيه: (درجت الصحف علي نشر أعمالنا في الملاحق الثقافية قصص، شعر، روايات، تشكيل، دراسات نقدية ـ مسرحيات ـ ترجمة) دون دفع مقابلا ماديا،ومن واقع تقديرنا لذواتنا ولما ننتج من أدب وفكر،وما تعارف عليه العالم وما نصت عليه منظمة "الوايبو" فيما يعرف بحقوق الملكية الفكرية علي إيفاء الوسائط الإعلامية للحق المادي المقابل للحق الأدبي الأصيل،فإننا نحن الموقعين أدناه نرفض نشر أعمالنا دون مقابل مالي في أية صحيفة، وحفاظاً علي العلائق الطيبة بيننا فإننا نرجو من القائمين علي إدارات هذه الصحف الالتزام بما جاء أعلاه) ولقد خلّف هذا البيان أصداء واسعة،عُقدت ندوات ومؤتمرات صحفية في أثره بدفع من محرري الملاحق الثقافية ومن بين ما طُرح حينها ان الملاحق الثقافية بالصحف تعاني إشكاليات عدة ليس اقلها ضعف حرص المؤسسات الصحفية علي وجودها خاصة ان اغلب الصحف هي سياسية أو رياضية،وانها ظلت تلعب دورا مهماً في ترسيخ المادة الثقافية مع غياب الدوريات والمجلات المعنية بالأدب والثقافة.
موقف الكتّاب لم يتغير لكن الملاحق الثقافيّة في نحو 9 صحيفة سياسيّة تصدر بصفة يوميّة لم تتوقف عن عادتها وتحايلت علي الأمر بالاعتماد علي إبداعات الشباب والمواد التحريرية "الحوارات والتقارير.." وما يُنشر في الانترنت، تجاوزاً للمشكلة! عادت اذن مسألة استحقاقات الكتّاب لتطرح وبقوة هذه المرة ومما هي أشبه بمواجهة بين الكتّاب والملاحق الثقافيّة بالصحف دخلت في الخط "دور النشر" أيضا،ويبدو ان دور النشر جاءت متأخرة نتيجة لتركيز الكتّاب مع الملاحق الثقافية التي ظلت تتحمل عبء غياب المجلة الثقافية منذ أواخر الثمانينيات أو عقب توقف مجلات "الخرطوم، الثقافة السودانية" وغيرها من إصدارات كانت ترعاها وزارة الثقافة.
بصورة عامة لا يمكن القول ان علاقة الكتاب السودانيين بدور النشر المحلية جيدة؛ فغير ان هذه الدور هي في الغالب مشتغلة بمطبوعات لا صلة لها بالإنتاج الأدبي ونسبة قليلة فقط منها تهتم بالنشر الثقافي، غير ذلك هذه الدور تضع شروطا غير منصفة في تعاقدها مع الكتّاب تلزمهم بتحمل نفقات قد تزيد عن الـ (600) دولارا مقابل الطباعة والنقل، وتُطبع الأعمال في نسبة محدودة لا تتجاوز ألف نسخة قد يشارك الناشر في قسمتها ومع غياب أو ندرة نوافذ البيع فان هذه النسبة القليلة مرشحة لان تبقي علي الرف لوقت ليس بالقصير.
هذا إضافة إلي المشكلات الفنية المتصلة بالتنضيد والتصحيح والألوان وغير ذلك مما تحتاجه طباعة الكتب، ولا يغيب عن البال في هذا السياق دور الرقابة وتطرفها في الحكم علي النشر الثقافي المحلي، لكل هذه الأسباب وغيرها صار الكاتب السوداني ميالا إلي الدفع بكتبه، متى ما عرف لذلك سبيلا، إلي دور نشر في القاهرة وبيروت ودمشق، لكن هذا التوجه إلي الخارج يغلب وسط بعض الأسماء الأدبية المعروفة فيما تعّقد كثيراً وضع الكتّاب الشباب وما عاد في مقدورهم إلا الرضوخ لشروط دور النشر المتعسفة أو الاكتفاء بالنشر في الملاحق الثقافية حتى ترسخ أسمائهم وفي كل حال بالمجان!
المؤسسات الثقافية الأهلية مع مطالع الألفية بدأت بعض المراكز الثقافية الأهلية تنشط في مجال النشر، مثل مركز الدراسات السودانيّة الذي أسسه د.حيدر إبراهيم وبدأ نشاطه بالقاهرة طارحاً كتابه غير الدوري "كتابات سودانية" كما نشر عدة روايات ومجاميع شعرية وقصصية لمبدعين سودانيين في غالبيتهم من المهاجرين وقد نقل المركز نشاطه إلي الخرطوم وواصل نشاطه مرافقاً مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي وهو من بين المؤسسات الأهلية الأكثر نشاطاً في الخرطوم وقد أحدث في العام 2003 مسابقة الطيب صالح للإبداع الروائي، والتي استقدمت العديد من الأسماء الروائية الجديدة، لكن الأكثر أهمية في هذا السياق ان المركز اصدر كل الروايات الفائزة في طبعات أنيقة ومدققة لا تقل جودة عما تنشره دور النشر العالمية إضافة إلي ذلك طبع العديد من السجلات والمدونات من حقبة الاستعمار وما قبلها فضلاً عن عناوين في الاجتماع والتاريخ وغيرها من معارف لكن ما يجب ذكرها هنا هو ان فعاليّة هذه المراكز مشروطة بما يتوفر لها من دعم؛ فهي مرشحة للتوقف لضعف خزينتها وهي دائما في حال من المغالبة مع السلطات وآخر ما في هذا الباب القرار القاضي بمنع هذه المؤسسات الحصول علي أي منح مالية من الخارج دون الحصول علي موافقة رسميّة، وهو ما رأت فيه العديد من المؤسسات الثقافية الأهلية تعدياً علي خصوصيتها إلا ان الأمور في النهاية مضت كما رأت الدولة لا كما أرادت المؤسسات الثقافية الأهلية!
اذن ضمن شروط صعبة تعمل بعض الجهات الأهلية لتفعيل الساحة الثقافية بعقد المؤتمرات والنشر والمسابقات اما وزارة الثقافة فقد ظلت تقول انها ترعي العمل الثقافي رعاية عامة ولا تنتجه ومع ضعف أو غياب الكيانات المُنظمة لعمل المبدعين بقيت فكرة الـ "الرعاية" ذاتها معلقة ولا انعكاس لها في الساحة الثقافية!
مبادرة جماعة برانا تردي واقع النشر دفع مجموعة من الشباب في مارس 2007 إلي طرح مبادرة وسمت بـ "برانا" والكلمة من اللغة العامية وتعني بالفصحى "لوحدنا"، أي انهم لوحدهم، ودون الاعتماد علي المؤسسات، أهلية كانت أو رسمية، سيتولون أمر نشر إبداعاتهم وقد حدث بالفعل ودشنت الجماعة عملها بحفل توقيع لأولي منشوراتها ديوان الشاعرة نجلاء عثمان التوم "منزلة الرمق.. مذهب في كمال النحول" وقد جاء في بيان الجماعة انها تحاول أن تَمُدَّ يداً لصالح العمل الثقافي العام. وهو ما حدث بشكلٍ بديهيٍّ كَوَّنته لقاءات حياتية، وكان من الممكن لها أن تكون عابرة، ولكنها طَغَت وتسلَّطت لتخلق عُنفاً. هذا العنف الطبيعي؛ الناتج عن ما يُصيب العين من سخطٍ عندما تَقع على كتابٍ يحمل حياةً، لا تقل بشاعةً وجمالاً، عن عملية الخلق نفسها، كتابٌ شوَّهته يدُ السلوك المعهود، والسائد في الساحة الثقافية، وبمشروعية مطلقة هي: قِلَّة الحيلة، وطُغيَان الديكتاتوريات، وشحَّ الإنتاج. وهو زعمٌ مضحكٌ إذا ما قُورِن بما يُنتج الآن، وبما أُنْتِج من مشاريع، وبما دُفِن، وبما أُهْلِكَ صامتاً مكتَّف الأفق)!
استطاعت هذه الجماعة الشابة بحساسيتها الشديدة في كل ما يتصل بجماليات النشر الثقافي،بحرصها الملحوظ علي الاختلاف مع السائد، استطاعت وفي فترة وجيزة ان تدفع بمجموعة من العناوين الأدبيّة في الشعر والرواية لكن ان كانت هذه الجماعة استطاعت ان تعالج مشكلة رداءة الطباعة والتصميم فانها لم تستطع ان تدفع مقابلا مادياً لمن نشرت لهم بل ان المشروع في أساسه قام علي فكرة ان تتعاون المجموعة وتشترك في دفع نفقات طباعة ونقل الكتب من القاهرة اما نفقة العمليات الفنية السابقة للطباعة فقد ارتضت الجماعة ان تقوم هي بهذه العمليات بالتالي تكفي نفسها شر الكلفة! ويبدو ان الجماعة لم تتهيأ جيدا لظروف العمل الثقافي في السودان إذ سرعان ما غابت سيرتها عن المشهد، بعد عام واحد من بدايتها، هكذا انطوت فجأة!
الواقع ان تجربة هذه الجماعة تماثل تلك التي قام بها من قبل الشاعر المهاجر عاطف خيري أوائل التسعينيات؛ وكان الحال أكثر سوءاً، قام عاطف خيري بجمع وتنسيق العديد من المخطوطات الشعرية والروائية.. تولي كل التفاصيل السابقة لمكينة المطبعة لوحده وقامت احدي دور النشر بأمر النشر والتوزيع،مبادرة عاطف أنقذت العديد من العناوين ويمكن اعتبار تجربته الفردية أول مشروع للنشر الثقافي علي الصعيد المحلي، بعد حال من الركود عمّ كامل المشهد في أواخر الثمانينات.. لكن ثمة ظروف بينها هجرة صاحب المبادرة إلي استراليا أدت إلي توقفها أيضا. ونذكر ان العام 2005 شهد نشر وإعادة نشر العديد من الإصدارات الأدبية في إطار برنامج الخرطوم عاصمة للثقافة العربية إلا أن ثمة مشكلة في التوزيع واجهت هذه الإصدارات لضعف التخطيط وللطبيعة الطارئة للمناسبة أو لعدم أهلية من أوكل لهم أمر الفعالية.
وراهن النقد الأدبي في السودان من الفعاليات التي شهدها مهرجان عزة للكتاب ندوة بعنوان "راهن النقد الأدبي في السودان" شارك بها د. مصطفي الصاوي ود. احمد الصادق، وقد أعقبتها ندوة ثانية حول حرية الصحافة وثالثة عن دور الملاحق الثقافية بالصحف.. ندوة النقد الأدبي والتي لم تحظ بحضور كبير من الجمهور ابتدرها د. احمد الصادق بمقدمة طويلة عرض خلالها لبدايات النقد في العهد الإغريقي ثم المراحل التالية وصولا إلي الوقت الراهن وتوقف عارضا لبعض المفاهيم الخاصة بمصطلحات بعض المناهج النقدية كالبنيوية والهرمونطيقا والتفكيكية كما تحدث عن التفاعلات التي تمت ما بين النقد والعلوم الإنسانية ومن بعد قام بتقديم الناقد د. مصطفي الصاوي الذي بدأ حديثه رادا الفضل في وجود حركة نقدية سودانية إلي حركة الترجمة والتواصل الذي حصل ما بين السودان وبلدان عربية كلبنان ومصر في مطالع القرن الماضي.. مشيرا الي انه سيتوقف عند بعض المراحل النقدية السابقة ربطاً للحديث عن راهن النقد.
فجر الحركة النقدية في السودان بحسب د. مصطفي الصاوي فان فترة العشرينات من القرن الماضي شهدت نشاطاً نقدياً كلاسيكياً علي أسس معرفية ذات صلة باللغة وقد اهتم النقد وقتها بصحة العبارة وجزالة اللفظ والالتزام بعمود الشعر لتأثره بالنقد العربي القديم والذي كانت تُدرّس مصطلحاته في "المعهد العلمي" امدرمان، وفي حلقات المدارسة في المساجد. وذكر الصاوي ان هذه المرحلة طرحت أسماء نقدية عديدة مثل عبد الله عمر الأمين وعبد الرحمن شوقي واحمد محمد صالح وقد اشتغلت بتلك الصفة النقدية التقليدية في مقاربة النصوص خاصة الشعرية، اهتمت هذه الأسماء بإعلاء مرتبة الأداء اللغوي مأخوذة بالتراث الأدبي القديم وأشار الصاوي للتمثيل الي كتاب "العربية في السودان" لعبد الله عبد الرحمن الضرير، والذي يحتوي علي مباحث عديدة تؤكد نزعة العمل علي اللغة منها "الفلكور واللغة" و "علم اللغة" كما يقدم الكتاب فصلاً موسعاً عن "الأدب الشعبي" وقد ردّ الكاتب عبره اغلب عبارات اللغة العامية الي اصولها العربية، ويقول الصاوي ان الكتاب بصفته هذه يمثل ممارسة نقدية مبكرة تقع "في باب التأصيل والتفسير والنقد اللغوي" وان جزءاً من حساسيته يمكن ان يكشفها لنا نصه القائل:
لعمرك إن الشعر اضحي مخنثا فوافيه من تحنانها تتأودُ واصبح غثا في الركاكة ضاربا بسهم ومما سنت العرب يبعدُ وامعن في لين ونجس مطالب كاد علي ايدي الشاعر يحمدُ
تأثر صاحب كتاب "العربية في السودان" بالشيخ المرصفي صاحب "الوسيلة الأدبية" علي الأرجح ـ يقول الصاوي ـ ويتوقف من بعد عند تجربة كتاب "شعراء السودان" للأديب المصري "سعد مخائيل" الذي كان يعمل في جريدة "رائد السودان" التي كانت تصدر في الخرطوم في الفترة 1913/ 1918 هذا الكتاب الذي صدر في 1923 بالنسبة للصاوي يقع في باب "الاختيارات الشعرية" وان ما يلفت فيه انه اعتمد علي صيغة في الانتخاب لا تنقصها الأهمية إذ طلب من كل شاعر سوداني أن يرفق مع شعره صورة شمسية وبيتين من نظمه يعبر من خلالهما عن نفسيته ويري الصاوي في ذلك ما يشبه الاختبار النقدي، بل يمكن أن يُعتبر وثيقة يُستدل بها علي أجواء تلك المرحلة.
مضت حركة نقد العشرينات في تطور لتشهد مع بدايات الثلاثينات إضافات نوعية مع تخرج الدفعات الأولي لكلية غردون وظهور مجلتي "الفجر" و "النهضة". طلاب كلية غردون تأثروا بالمناهج الغربية في المعرفة الأدبية كما تعرفوا علي حركة النقد في مصر ولبنان، ويقول الصاوي إن من ابرز ملامح تلك المرحلة الصراع الذي نشأ بين طلاب المعهد العلمي "الديني" وطلاب "كلية غردون" صراع الشيوخ والمتعلمين بالمناهج الغربية!
ويذكر الصاوي هنا عرفات محمد عبد الله الذي اصدر مجلة الفجر ويشير إلي انه شُغل بنقد المسرح وبالدعوة للاستفادة من الآداب الأجنبية لاغناء التراث العربي وبعثه!
كذلك توقف الصاوي عند تجربة محمد احمد المحجوب بوصفه من رواد الحركة النقدية في السودان مشيراً إلي انه الأول بين سائر السودانيين الذي قدم نقدا للأدب المصري خاصة علي أيام الدعوة إلي أدب قومي وأشار الصاوي كذلك إلي أن محمد احمد المحجوب تميز بحس نقدي لا تعوزه الجرأة وان من نظراته قوله عن الشعر انه لا يكون (إلا باجتماع الإلهام والصناعة لان الإلهام وحده لا يكفي أن يجعل صاحبه شاعراً؛فالشاعر يحتاج إلي دقة في التعبير واختيار اللفظ..) وغير انه عرف بانكبابه علي المصادر الأدبية العربية تميز المحجوب بانفتاحه علي المعارف الغربية ويقول الصاوي ان الغالب في كتابة المحجوب النقدية تركيزها علي العلاقة بين الأدب والمجتمع وان ذلك ربما دل علي تأثره بـ "هيوليت تين" في اشارته إلي أن "العنصر والزمن والبيئة تعد أسبابا واقعيّة تكمن خلف كل أدب عظيم".
معاوية محمد نور (1909 ـ 1941) من بين أميز الأسماء النقدية التي نشطت في مرحلة الثلاثينات كذلك الناقد والقاص معاوية نور(1909 ـ 1941) الذي ارتبط اسمه بالحركة النقدية الرومانتيكية ـ في رأي الصاوي ـ وقد تميز بإسهامه المبكر في التعريف بالتيارات النقدية الغربية إضافة إلي مقاربته لمسرحيات احمد شوقي واعمال المنفلوطي كما كتب عن سرقات المازني، وكتب عن أصول كتابة القصة القصيرة متوقفاً عند تقنياتها كطريقة رسم الشخصية والتفريق بين الواقعي والتخيلي في القص، وكتب عن الوصف، الإيحاء، التحليل النفسي ودقة اختيار الكلمة ومناسبتها لموضعها!
وأشار الصاوي إلي أن معاوية نور يمثل قطباً مهماً في حركة النقد "العربي" في الثلاثينيات لموهبته النقدية العالية مشيرا إلي انه نشط في المشهد الثقافي المصري وواجه أسماء أدبية مكرسة تصعب الكتابة عنها ما لم يكن المرء متسلحاً بالعلم.
بعد ذلك توقف الصاوي عند كتاب حمزة الملك طمبل "الأدب السوداني وما ينبغي أن يكون عليه" مشيرا إلي أن تجربة طمبل النقدية تميزت بخصوصيتها في عقد الثلاثينيات لأنها قصدت التكريس لأدب سوداني يقاطع التركة التقليدية العربية ويؤسس لنفسه باستلهام الروح السوداني ومن بين ما دعا إليه طمبل في كتابه الاهتمام بالصدق الفني وتُنسب إليه العبارة المعروفة "يا شعراء السودان اصدقوا وكفي" ويقول الصاوي ان نقد طمبل يستند كذلك علي الخط الرومانتيكيِ الذي ساد في تلك الفترة. وأشار الصاوي كذلك إلي أن مطالعة مجلة الفجر توقف المرء علي العديد من المساهمات النقدية المهمة أسهمت بها اسماء مثل يوسف التني ومحمد عشري الصديق ويحي عبد القادر ومحمد إبراهيم النور وغيرهم.
يوجز الصاوي ملامح النقد في فترة الثلاثينيات مشيرا إلي الحس التوثيقي لدي بعض نقاد المرحلة والاتجاه إلي إحياء التقاليد الكتابية القديمة وقال ان النقاد محمد احمد المحجوب،وعرفات محمد عبد الله ومعاوية نور وحمزة الملك طمبل والأمين علي مدني تفاعلوا مع الجهود النقدية في العالم من حولهم وان ثمة أصداء في كتاباتهم تدل علي تأثرهم بالتيارات العربية كمدرسة الديوان وابولو وكتاب لبنان المهجريين.
النقد الأكاديمي لم يتوقف الصاوي كثيرا عند مرحلة الأربعينات ربما لأن الأمور لم تكن واضحة فيها إذ غلبت الصراعات السياسية علي أجواءها،لكنه أشار إلي ان الوعي النقدي الثلاثيني ظل موجوداً وصولاً إلي مرحلة الخمسينات وبالتحديد أواخرها حيث ظهرت جهود الاكاديمين العرب "من مصر وفلسطين" الذين حضروا إلي السودان كأساتذة وذكر منهم عز الدين إسماعيل وعبد المجيد عابدين وإحسان عباس ومحمد النويهي وهدارة ومحمد سلام زغلول وحليم اليازجي ولقد تفاعل هؤلاء مع الإنتاج الإبداعي السوداني وقدموا قراءات عديدة أغنت المكتبة السودانية والعربية.
من السودانيين برز في الخمسينات عبد الله الطيب ويقول الصاوي انه وازن بين النقد الأوربي الحديث والنقد العربي القديم وألف العديد من الكتب النقدية المهمة مثل "المرشد إلي فهم أشعار العرب وصناعتها" و "الاتجاهات الحديثة في النثر العربي بالسودان" كما كتب عن أبي الطيب المتنبي، وأثارت مقالته "فتنة الشعراء العرب باليوت" أصداء واسعة بعد نشرها بمجلة الدوحة القطرية وقال الصاوي كان جهد عبد الله الطيب مقدمة قوية للنقد الأكاديمي وترافق مع جهود عز الدين الأمين ومحمد محمد علي وصلاح الدين المليك وبابكر الأمين ومحمد إبراهيم الشوش ومختار عجوبة ويضيف الصاوي ان هذه الجهود شكلت نقلة نوعية في تاريخ النقد الأدبي في السودان..نقد تفاعل عبر الترجمة والبعثات الدراسية مع احدث الاتجاهات النقدية الغربية وتواصل هذا الجهد إلي ان بلغ درجته الاعلي فترة الستينات التي شهدت نشاطا متصلا في جميع المجالات الثقافية كالمسرح والقصة والغناء خاصة في اعقاب الثورة الشعبية في 1964التي أطاحت بنظام الفريق عبود ويقول الصاوي ان هذه الفترة شهدت ظهور التيارات الغربية كالوجودية والماركسية واللامعقول، كما أشار إلي ان المرحلة شهدت "سجالات" فكرية عميقة حول الهوية الثقافية للسودان وتوقف الصاوي عند إسهامات النور عثمان أبكر وعبد الله علي إبراهيم وعبد الله جلاب ومحمد المهدي بشري وعيسي الحلو وعون الشريف قاسم وأوجز الصاوي ملامح النقد في هذه الفترة مشيرا إلي ان ظهور مجلات "الثقافة السودانية" و "الخرطوم" و "القلم" و "الثقافة الوطنية" إضافة إلي الملاحق الثقافية بصحف "الأيام" و "الصحافة" كان له أثره في تطور حركة النقد واستقراره وظهور أسماء عدة،كذلك خدمت الترجمة المجال النقدي إذ وفرت مناهج حديثة للمقاربة والتحليل وذكر الصاوي ان هذه الفترة التي امتدت إلي السبعينات غلب عليها النقد الواقعي ان ثمة تأثيرات ملحوظة للناقدين محمود أمين العالم وحسين مروة في كتابات يوسف عيدابي وصلاح احمد إبراهيم وعبد الهادي الصديق وطلحة الشفيع والملامح العامة لهذا الاتجاه النقدي انه كان يري الإبداع نتاجا للواقع.
النقد المعاصر منذ أواخر الثمانينيات عرفت الحركة النقدية السودانية تواصلاً مع التيار البنيوي، ويربط الصاوي بين مجلة فصول المصرية وتأثر بعض النقاد السودانيين بالبنيوية والتيارات التي أعقبتها ويذكر الصاوي بعض العناوين النقدية المترجمة مثل البنيوية في الأدب لروبروت شولز والكتابة في درجة الصفر ونظام الخطاب لفوكو ويقول بتأثيرها علي الكتابات النقدية السودانية ويتوقف عند تجارب أسامة الخواض ومحمد خلف الله ومعاوية البلال وعبد اللطيف علي الفكي احمد طه امفريب ويشير إلي أنهم واجهوا معارضة شديدة واتهموا بالشكلانية والغموض وان كتاباتهم النقدية تحول الأدب إلي معادلات رياضية ورسومات وأرقام صماء.
ويجمل الصاوي ملاحظاته حول راهن النقد قائلا ان من المظاهر اللافتة بالنسبة له ان الحركة النقدية السودانية لم تعرف تواصلا بين مراحلها ما أثر في تراكمها وان الصراعات النقدية التي تتجاوز الإبداعي الي الإيديولوجي أثرت سلبا علي فعالية المساهمة النقدية، ويقول الصاوي ان النقد الأكاديمي تراجع في الآونة الأخيرة وساد النقد الصحفي بطبعه المتسرع،وذكر الصاوي أيضا ان غياب الجمعيات والتنظيمات ذات الطبيعة العملية أثر هو الآخر وقلل من الجهود النقدية كما أدي الاتكاء علي المناهج النقدية الغربية وتطبيقها آلياً دون تمثلها والوعي بخلفياتها الفكرية إلي حال من الممارسة النقدية المُستلفة. إلي ذلك أشار الناقد مصطفي الصاوي إلي ان غياب المجلات والدوريات الثقافية كان سبباً في ضمور الحركة النقدية منذ أواخر الثمانينيات وصولا إلي اللحظة الراهنة.
وفي ختام حديثه ذكر الصاوي ان الجهد النقدي يحتاج إلي ان توفر له المعينات متوقفاً عند الإشكاليات التي تحيط بمسألة الانتساب إلي تنظيم إبداعي في السودان في وجود العديد من الخلافات الإيديولوجية،وقال ان الوقت الراهن يشهد تراجعاً كبيرا علي الأصعدة المختلفة وان الغياب التام للحريات العامة والتضييق علي ابسط أشكال التعبير وسيادة ثقافة الإقصاء كلها أسباب لتدهور حركة النقد في الوقت الحاضر.