في الأعمال الثمانية والعشرين التي وضعها الكاتب والمفكر اللبناني علي حرب في مدى زمني يُقارب أربعين عاماً، وأحدثها "الإنسان على المحك" (الدار العربية للعلوم - ناشرون 2020) مسارٌ فكري لمفكر عربي شامل يسعى إلى التصدي لأهم المسائل والقضايا التي يتم تداولها بين جمهور المثقفين، أو تلك التي تفرض نفسها على جمهور القراء العرب، ولا سيما الأفراد المتنورين منهم. هذه الأعمال تتحرك بناءً على ثلاثة محاور كبيرة، هي:
المشهد العربي: الاستراتيجيات القاتلة، والهويات القاتلة، وغِنى المعطيات، وهشاشة الأفكار، والثورات العربية والدروس المستقاة منها، والتحديات التي ينبغي للمواطنين العرب مواجهتها في المقبل من الأعوام.
الاضطراب العالمي: التواطؤ والتخبط في ما تعانيه الشعوب، والتأزم والتوحش، والإمبريالية والأصولية، والصدام بين الحضارات، والمركزية البشرية، واعتبار أن الإنسان أصل المشكلة.
الحراك الكوكبي: ويعالج فيه مسألة الهجرات إلى الغرب وما أثارته من صدمات شعبوية، وبروز العصبية في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، والحراك العالمي من أجل كوكب الأرض، والحدث الكوني الأبرز أواخر العام الحالي، وعنيت جائحة كورونا، وآثارها المدمرة على اقتصادات البلدان المتقدمة والنامية، وظاهرة النرجسية البشرية ولزوم كسرها لصالح ديمومة الحياة.
بحثا عن المشكلة
إذاً، يطرح المفكر علي حرب، في توطئة الكتاب، وتحت عنوان "أين تكمن المشكلة؟"، مُسلّمة أن "المشكلة هي في الإنسان نفسه" (ص 9)، بمعنى أن الإنسان مصدر الشرور التي تصيب الاقتصاد والسياسة والبيئة والمجتمع والقيم وغيرها. وقبل أن يمضي إلى إثبات المُسلّمة بأمثلة مستمدة من العالم العربي والعالم، يعتبر أن المنطلق إلى النقاش في المشكلة السالف ذكرها هو الأزمة الحالية التي تكاد تتحول إلى معضلة، عصية على الحل، وعنيت بها أزمة وباء (أو جائحة) كورونا، وما كشفت عنه من فضائح مالية، وما تسببت به من اضطرابات واختلالات اجتماعية، وتصدع للبنى العائلية وازدياد عوامل الفقر والاستبداد والإرهاب وبروز العصبيات والتيارات اليمينية المتطرفة في الغرب، بحيث ظن الكثيرون أنها طُمست تماماً بمرور الزمن، وبانطواء حقبة النازية والفاشية، بُعيد الحرب العالمية الثانية. وإلى جانب هذه العوامل، كان ثمة عامل الفكر الأحادي الذي اتخذه الإنسان، في أواخر القرن التاسع عشر، وحتى يومنا هذا، ليمارس فيه "تألهه ووحدانيته" (ص 13)، ويواصل عبره إلقاء "النظرة الوحيدة الجانب على الظواهر الملتبسة والسيرورات المتحولة" (ص 13).
في المحور الأول، أي المشهد العربي، يتحدث علي حرب عن الهويات القاتلة، ويعني بها ارتداد الشعوب العربية، بدءاً من منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، إلى انتماءاتها الأولى، قبل انخراطها الجماعي في بنية الدولة الوطنية، فعادت جماعاتها إلى بنياتها البدائية، العشائرية والقبلية، والطائفية، والعرقية، والمناطقية حالما اصطدمت إرادة التغيير لدى النخب في بلدانها العربية "باستبداد الحاكم، وإفتاء الداعية وتكفيره، وتنظير المثقف وتبريره" (ص 23). ولا يستثني في ذلك موطنه لبنان، ذا الهوية العربية الملتبسة والهشة، وإنما يشمل جميع البلدان العربية، وقد استفحلت في تلك التي شهدت حروباً أهلية، وتدخلاً لدول كبرى مثل أميركا وروسيا وإيران وتركيا. وبناءً على ذلك، يفترض المؤلف علي حرب أن على مواطني البلاد العربية معاودة النظر ببعض المسائل: وهي إعادة النظر بمسألة الهوية الصافية، بل طرحها جانباً لبطلانها العلمي والإنساني، وإعادة الاعتبار للأصل المتعدد والمختلف. والمسألة الثانية هي التعويل على المجتمع الأهلي الذي ينمي صِلاته بالدولة ومؤسساتها بالتدريج، والثالثة هي أن لا وحدة عربية بالقوة، وإنما يحسن بالقائمين بها أن ينطلقوا من واقع الاختلاف بين الشعوب العربية حتى داخل الوطن الواحد.
أما الثورات العربية التي نشبت في بعض بلدان المشرق العربي (سوريا، والعراق، وتبعهما لبنان بثورة 17 تشرين)، وبعض بلدان المغرب العربي (تونس، ومصر، وليبيا، والسودان)، والتي انتهى بعضها إلى كارثة ماحقة، وأفاد البعض منها في تغيير نسبي، فإنها تستدعي من المعنيين – بحسب المؤلف - الأخذ بالعبر والدروس، وأهمها: اعتبار أن "الثورة ليست عُرساً" (ص 53-57)، وإنما يمكن أن تتحول إلى عمل إرهابي أعمى، وأن تصرف قادة الثورة بعقلية الانتقام والثأر يجهض مفاعيلها، وأن الثورات الساعية إلى تغيير الأنظمة غالباً ما تفشل؛ لأنها تمتنع عن تغيير البنى الثقافية، وتحويل سلوك الحكام الجدد حيال المواطنين، وتغض النظر عن ترسيخ القيم البديلة.
الإضطراب العالمي
وفي ما خص المحور الثاني المعنون "الاضطراب العالمي"، يجري المؤلف إحاطة بانورامية بواقع الصراع بين القوى الكبرى (أميركا، وروسيا، والصين) والقوى الإقليمية (إيران، تركيا) في تجلياته العسكرية داخل كل من سوريا والعراق. ويعرج على ظاهرة الإرهاب ومسؤولية القوى الكبرى، ولا سيما أميركا، في إطلاقه في البدء، وتقييده ومحاربته بعد ذلك. وفيما يخالج القارئ الظن بأن للمؤلف موقفاً سياسياً من الصراع الدائر في البلدان العربية، يتبين للمتأني أن الوقائع التي حرص على سردها إنما شاءها أدلة دامغة على "العقليات المفخخة والنفوس الموتورة، في الثقافة العدوانية، والهويات النرجسية" (ص 65)، ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الغربي بأقطابه كافة. ومثل ذلك استنتاجه بأن ثمة "نرجسية جعلت الغربيين يعتقدون أنهم مركز العالم ومقياس التقدم الحضاري" (ص 71) بعد تحليله مواقف الغرب حيال الشعوب العربية، وحيال تعثر الدول الناشئة، ومواقف إيران وروسيا الأقرب إلى الاستثمار في قضايا هذه الشعوب، لا الانتصار لقضاياها، على حد قوله.
ولا يزال المفكر حرب يستعرض الوقائع والواقعات الكبرى التي لا تزال البشرية تكتوي بنارها، حتى يعود إلى مُسلّمته الأولى، وهي أن "الإنسان أصل المشكلة" (ص 86-92)، وأن كل مظاهر التقدم العلمي والابتكارات في كل صعيد، لم تحسن تحرير الإنسان من نرجسيته وأحاديته، ولا روّضت فيه ميوله ونزوات التملك لديه والسيطرة والعدوانية حيال الإنسان الآخر وحيال الطبيعة وكائناتها، وبالتالي فقد أوجب على المثقف، أنّى كان، أن يكشف عن مساوئ كل مركزية وكل أشكال الزيف والاستغلال، وأن يعمل على توعية الأفراد والمواطنين والفاعلين في كل ميدان لحقوقهم ومسؤولياتهم.
وفي المحور الثالث والأخير كلام على الحراك الديموغرافي والهجرات إلى الغرب، وتنامي العصبية والعنصرية فيه، ومقالة عن كورونا باعتباره حدثاً كونياً فضح النرجسيات المحلية والتصنيفات الدينية والعرقية وغيرها.
وإن يكن الكتاب الجديد للمفكر اللبناني علي حرب نافذةً إضافية تُفتح أمام القراء العرب، بغضّ النظر عن اهتماماتهم العلمية، فإن الأسلوب الذي صيغ به يطرح تساؤلات عدة: هل يقتضي تبسيط الفكر الفلسفي من المفكر أن يستغني عن بعض المصطلحات في الفلسفات الأساسية التي يستقي منها المؤلف علي حرب بعضاً من أفكاره؟ وهل ثمة ما يحول دون ذكر أهم المراجع الفلسفية وأهم المفكرين، في "الفكر المركب"، أو المعقد، والعائد إلى إدغار مورين، والإحالة على فيلسوف الأرض ميشال سيرّ(M.Serres)، أحد الفلاسفة الجدد في فرنسا، والداعي إلى صوغ علاقات بنّاءة بين الإنسان وكائنات الطبيعة، على اختلافها.
حسبي أن الطرح العلمي والموضوعي يقتضي بسط النظريات من مصادرها لتمييز المواقف ووجهات النظر بين ناقل النظريات بكل أمانة ومتبنيها، أو الراسم سبيلاً نظرياً مختلفاً في بعض أوجهه من الفلاسفة الغربيين أو الشرقيين، ولا شك في أن المفكر حرب أدى الأمانة، وتكفل العودة إلى جذر أساس في النهضة الغربية الأولى، عنيت به الإنسان وأوليته.
عن (اندبندنت عربية)