هناك مقولة لأمين معلوف فحواها «الحديث عن سحر الكتب متداول، لكن لم يقل عنه ما فيه الكفاية كونه مزدوجا، فهناك سحر قراءتها وسحر الحديث عنها» ومؤلف كتاب «كهف القارئ» تذوق سحر الحديث عن الكتب، أو قابلية جذب القارئ للمضي في اقتفاء أثر عناوين ما زالت الأكثر تداولا بين القراء في العالم، وكونه يحفر بعمق في تركيبة الكتاب، ويحيط بتفاصيله غير المرئية أو تلك النقاط المظلمة، والفراغات التي يتركها الكاتب لصفوة من قرائه، وكه يلان محمد سلار اسم له حضور في المشهد الأدبي العراقي والعربي كمحرر ادبي وناقد روائي في العديد من الأقسام الثقافية في الصحف العربية، نشر الكثير من المقالات في شؤون الأدب، إضافة إلى إنجازه للحوارات الأدبية والفكرية و»كهف القارئ» مؤلفه الأول من إصدارات صفحة 7.
يتناول محمد في القسم الأول، الرواية حصرا كفن احتضنته البشرية قاطبة وخصوصيته وآلياته. أما القسم الثاني فهو دراسات لمجموعة من الروايات المعروفة الذائعة الصيت.
رمزية الكهف
بالنسبة لألبرتو مانغويل، القراءة كانت العذر المقبول لعزلته، وينفرد فعل القراءة بميزة الانزواء والنزوع إلى العزلة، وأي قارئ حين يختار السفر برفقة كتاب ما، فإن أول ما يقدم عليه، هو اختيار الأنسب لخلوته مع كتابه، والكهف من هذه الأمكنة التي تعتبر ملاذا للإنسان، ليس من الخطر حسب، كما ورد في قصة «أصحاب الكهف» التي ورد ذكرهم في النصوص المقدسة. إنما الملاذ الروحي والفكري والعقلي، الذي تتبلور فيه أفكار الإنسان ورؤاه، وهو ما كان يرمي إليه الكاتب باختيار مفردة الكهف، التي شكّلت عنصر جذب للقارئ، لاسيما أنها تأتي في سياق نيتشوي، حسب الكاتب في إحدى مقالاته المعنونة بـ»كهف الفلسفة» ففردريك نيتشه يراه طوق نجاة وحصانة من الوصاية، ومما يمليه القطيع، ومن الكهف تبدأ الفلسفة وتختمر الأفكار وتنضج، لتحطم قوالب التنميط والضحالة، وهو ما يناقض الرؤية الأفلاطونية حيث أن الفلسفة تبدأ في لحظة التخلص من الأصفاد، وسبر أغوار الكهف، وتتبع الضوء الذي يقوده إلي أبعد نقطة من سجن الكهف، ثم إن التاريخ يفصل في هذه المسألة، فجميع الأعمال الخالدة أنجزت في أجواء من العزلة والتكتم، سواء خوفا من السلطة المستبدة، أو ضجيج القطيع والدهماء والتلوث والمزاج المبتذل.
سحر الرواية وسطوتها
في كتابه «فن الرواية» يشير الأديب التشيكي ميلان كونديرا إلى أنه كان شاهدا على موت الرواية العنيف بفعل الضغط الأيديولوجي وأجهزة القمع والرقابة، إبان تغول الأنظمة الشمولية فهو يتقاسم، إلى حد ما، طرح فريق السيرياليين والمستقبليين الذين يستشهد بهم في تتمة طروحاته حول انتهاء عصر الرواية، وهم التيار الذي توقع اختفاء الرواية وزوالها ليحل محلها فن اخر مختلف تماما عنها، لكن معطيات التاريخ ورسوخ فن الرواية وتموقعه الفريد على خريطة الأجناس الأدبية، نسف توقعات الحركات الطليعية التي علت أصواتها في النصف الأول من القرن العشرين، وسلسلة المقالات التي تضمنها مؤلف كه يلان محمد، تُعدُ احتفاء فاخرا بالرواية، من خلال قراءات كاشفة ومتعددة، حيث يسلطُ الضوء علي الكثير من القضايا المُتشابكة مع هذا الفن، ففي أول مقالته يطلعنا على نقطة التلاقي بين الصحافة والرواية، وكيف أن مهنة المتاعب تغدو مصدرا أثيرا لكتابة نص روائي، خاصة حين يكون الكاتب في الأصل صحافيا مثل الأديب الأمريكي إرنست همنغواي، ومشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية، كمراسل حربي وتأثير ذلك في منحه المادة الخصبة واستفادته من فحوى تقاريره، التي كان ينجزها في الخنادق والمعارك لسبك الجملة البرقية، كذلك الأمر بالنسبة غابرييل غارسيا ماركيز، الذي صرّح في احد حوارته، بأن الصحافة هي مهنته الأولى، فقط شروط العمل فيها لم تكن متوافقة مع أفكاره، ولا يري فرقا كبيرا بين الصحافة وكتابة الرواية، دون أن نغفل دور الصحافة في إيصال صوت الأدب والنصوص السردية عبر صفحاتها، فجرجي زيدان مثلا نشر روايته التاريخية في مجلة «الهلال» وأيضا رواية «الفرسان الثلاثة» للأديب الفرنسي الكسندر دوما، التي عرفها القراء علي صفحات الجرائد. وفي مقال آخر يأخذنا الكاتب في مقاربة بين فن الرواية والسينما، والعلاقة الوثيقة التي تربط بينهما، وكيف أن السينما منحت الخلود والديمومة للكثير من النصوص الروائية، كروايات نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل» و»زقاق المدق المدق» و»الكرنك» وغيرها، بالإضافة إلى رواية «بيت الأرواح» لإيزابيل الليندي و»السيدة دالاوي» لفرجينيا وولف و»غاتسبي العظيم» و»القصة الغريبة لسيد بنجامين بيتون» لسكوت فيتزجيرالد، يفكك الكاتب خصائص اللغة الروائية والسينمائية، كما يقف عند نقطة تراجع السينما لتركيزها على الربح فقط، لا الأعمال الجادة، كما لفت أيضا إلى أثر العولمة والبيئة الافتراضية في انتشار الرواية، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، التي اتخذها الأدباء منصة لترويج أعمالهم، وهو ما يقوم به الروائي الجزائري ياسمينة خضرا عبر حسابه على فيسبوك، ومثله أيضا الروائي التونسي كمال الرياحي، والكاتبة الكويتية بثينة العيسي، والعراقي سنان انطون، والسورية ابتسام إبراهيم تريسي، وهذه الأجواء، رغم افتراضيتها ساهمت في انتعاش المقروئية ونزول الكتّاب من أبراجهم العاجية إلي الوسيط الذي يجمعهم بالقراء وجها لوجه.
رواية واحدة لا تكفي
لم يطمح الكاتب الفرنسي ستندال إلى خطب ود عدد كبير من جمهور القراء فيقول، أنا بالكاد أكتب لمئة قارئ، لكائنات تعيسة، محبة وفاتنة غير أخلاقية أو مرائية، يطيب لي أن أرضيها، أنا بالكاد أعرف واحدا أو اثنين «قد يتشارك رأي ستندال العديد من الكتاب، غير أنَ المشهد الثقافي وتمظهراته في الوسيط الرقمي يؤكدُ أن القارئ يلعبُ دوراً لافتاً من خلال مشاركة الآراء والتعليقات والمراجعات في دعم الحراك الإبداعي، لذلك لا يمكن للأديب تجاهل هذه الحقيقة. يخصصُ المؤلف قسم الإضاءات من الكتاب لتقديم رؤيته بشأن عدد من الروايات المترجمة، موضحاً مواصفاتها البارزة في الصياغة ومتنها الحكائي، ما يجدرُ بالذكر أن خيارات الكاتب في تحديد العناوين الروائية كانت متنوعة لا تفتقدُ البعد الإنساني والفلسفي، يقاربها بأسلوب تحليلي مفصل، يمنح المتلقي إشارة المضي في سبر غور النص، ومن الروايات الفلسفية «قطار الليل إلى لشبونة» للسويسري باسكال مرسسيه، وبطله ريموند الذي يعثر على كتاب باللغة البرتغالية، يغيرُ حياته كليا، يشدُ رحاله إلى البرتغال ووضع ذاته رهن المساءلة والبحث ومثلها رواية «قبلات نيتشه وعلاج شوبنهاور» لارفين د.بالوم يأخذنا أيضا إلى كتابات الحروب ومخلفاتها على الإنسان لأجيال وحقب متعددة بثلاثية الهنغارية أغوتا كريستوف، كما يرحل بنا نحو خطاب البسطاء ويومياتهم المجردة من التكلف وهي مسكونة بنبرة ساخرة وتلقائية في «أب سينمائي» لأنطونيو سكارميتا، ويشدُ الانتباه إلى سطوة المال وجشع الإنسان في «الناب الأبيض» لجاك لندن و«اللؤلؤة» لجون تشايتبنك.
كاتبة من الجزائر
عن جريدة (القدس العربي)