ثمّة رغبةٌ لا تخبو؛ أن يعاود المرءُ النظر في سني حياته، وأن يُعيد قراءتها من أجل أن يُسبغ عليها معنى ينسجم، بنحو ما، مع ما بلغه، وألقى رحاله عنده. وقد يفسّر أشياء مضت بضوء ممّا هو راهن؛ فإذا كان المرء كاتباً سرّه أن يروي، وأن يدوّن. لكنّه وهو يروي ما وقع له، ويُعيد قراءته؛ يقف موقفَ المنتقي؛ فيُضيء بعض الوقائع، ويدفع بأخرى إلى العَتَمة! وهو إنّما يُدني ويُبعد محكوماً بما يُنشئ معنى يرضاه!
ويتفاوت الكتّاب، الذين كتبوا في شؤون حيواتهم، في ما يبوحون به فمنهم من لا يكاد يُخفي شيئاً كمثل جان جاك روسّو في اعترافاته، ومحمّد شكري في خبزه الحافي، ومنهم من يقتصد؛ فلا يكتب إلّا وعين الرقيب مسلطة على حروفه، ومنهم من يقع بين هذا وذاك؛ فيسعى أن يُقيم ميزاناً عدلاً بين البوح والإخفاء! وكلٌّ ميسّر لما جُبل عليه!
وقد كان إبراهيم السامرّائي رجلاً جليلاً من رجال العلم في العراق؛ قام على اللغة في قديمها وحديثها كأحسن ما يكون القيام فألّف، وحقّق، ونشر، وكتب بقلم الأديب المبين، وتخرّجت به أجيال من طلبة العلم؛ حتّى إذا تقدّمت به السن، واختلفت عليه الحالات، ورأى ما يسرّ، وما يسوء؛ لجأ إلى صحف يودعها شيئاً من سيرته متخفّفاً من عبء لا يفتأ يُثقل كاهله منذ أن أدرك الحياة في شؤونها وشجونها؛ لكنّه ليس في مقام من يُرخي الزمام، ويرفع الحجب؛ بل هو لا يريد من هذه الصحف إلّا أن تحمل عنه حديث الكتب وما يتّصل بها؛ يقول: (وأريد أن أُنبّه القارئ إلى أنّي رميتُ أن أُثبتَ، في أثناء السيرة، الكثيرَ من حديث الكتب وما يتّصل بالناس، وابتعدتُ عمّا لدى كثير من أصحاب هذا الأدب، كأن يكون في السيرة شيء من " اعترافات " مستفيدين ذلك ممّا أُثر من اعترافات الكتّاب الغربيين القدامى والمحدثين.) غير أنّ حديث الكتب متّصل، في بدئه وختامه، بحديث النفس، وكلّما مضى الكاتب مع الكتب وحديثها ردّته الحوادث إلى أشياء في نفسه؛ بعضها قديم، وبعضها ناشئ مستحدث. وحين تتامّت تلك الصحف أصدرها، في سنة 1998، بكتاب عنوانه: (حديث السنين سيرة ذاتيّة)، ثمّ تتامّت صحف أخرى تستدرك ما فات من حديث السنين فأصدرها، في سنة 2002 بكتاب عنوانه: (فوات ما فات من حديث السنين).
وكلا الكتابين لم يُبنَ على صيغة السرد المتتابع، وإنّما بُني كلاهما على المحاورة بين الكاتب وصوت آخر منبثق من نفسه؛ دعاه بصاحبه؛ من أجل أن (يكون الرأي، ويكون النقد للرأي.) حتّى يستوعب هذا المنحى في الكتابة أفكار الكاتب، ويصوّر حالاته على نحو أتمّ.
رجع مع حوادث حياته إلى زمنها الأوّل؛ في الطفولة والنشأة، وربّما عاد إلى ما قبلهما حين انحدر جدّه من سامرّاء، مع أُسر سامرّائيّة أخرى، إلى مدينة العمارة، واستقرّ فيها؛ يعمل بما له من خبرة في صنوف الأعمال، ويمدّ الأواصر مع من حوله فيأْلف، ويُؤلف، ويضرب بجذوره في الأرض.
ويقف عند البيت الكبير الذي ضمّ أبويه، وأعمامه، ويصوّر ما كانوا عليه من فقر موجع يُثقل الأسرة كلّها، ويدفع بها إلى غوائل المرض حتّى يُعجلَ بالأب والأمّ إلى الموت، ويُصيب الأخت بداء لا يلبث، من بعد، أن يودي بها؛ فيذوق الفتى الناشئ مرارة اليُتم، ويطوي جوانحه على جروح لا شفاء له منها؛ ستصحبه في حلّه وترحاله، وتتراءى له في يقظته ومنامه. لكنّه، على ذلك كلّه، كان يقظ الفؤاد، قوي الذهن، سريع الحفظ، لا يعرف من دنياه إلّا درسه، والإقبال عليه؛ صحبه الجدُّ والاجتهادُ والمثابرة في كلّ شأن من شؤون دراسته حتّى أتمّها محرزاً رفيع المراتب. وإذ فقد الفتى الناشئ أمّه وأباه؛ بسطتْ خالته رعايتها عليه، وقامت منه ومن أخته مقام الأمّ الرؤوم.
أجرى السامرّائي الحديث عن الكتاب والدرس، وما يتّصل بهما، وكأنّه يريد أن يقول إنّ حياته إنّما هي حياة كتاب ودرس، وكلّ ما عداهما فإنّما يقع على طرفها؛ فقد أقبل وهو في باريس على دراسة العربيّة في آثارها القديمة، وتزوّد من فقه المنهج الصحيح، ورأى أن لا بدّ له من معرفة أخوات العربيّة؛ السريانيّة، والعبريّة؛ لكي يعرف العربيّة معرفة صحيحة متماسكة تردّ الفروع إلى الأصول؛ وقد أنفق في ذلك جهداً ووقتاً ومالاً حتّى استقامت له معرفة قويمة بالساميّات أفادته في أن يكتب كتابة رصينة في فقه اللغة المقارن.
وفي حديثه، من بعد، فوائد كثيرة تنبئ عن نمط التعليم في مطالع القرن العشرين، وعن طرائقه، وأشياء تنبئ عن رعاية رجال الدولة لشأن العلم وطلّابه؛ وهي صفحات تتّسم بالصدق، والوضوح، وحسن تقدير الحال.
غير أنّ الرياح ما عوّدته أن تجري رخاء، وأنّ الصفو لا يأتيه إلّا مشوباً بالكدر، وأنّ المكاره لا تكفّ عن الكمون له في ثنيّات الطريق! فقد كان من شأن عمله في كليّة الآداب بجامعة بغداد، بعد نيله شهادة الدكتوراه من فرنسا في سنة 1956، أن جرت الأمور في نصابها؛ يدرّس النحو، وفقه اللغة، واللغة العبريّة في قسم اللغة العربيّة، ويدرّس اللغة السريانيّة في قسم الآثار؛ ومع ذلك تأليفٌ، وتحقيقٌ، وإقبالٌ على القديم والحديث معاً، وحسنُ رعاية لطلبته على اختلاف مشاربهم، ونظمٌ للشعر في معان شديدة الاتّصال به. وهو في كلّ شؤونه متحرّز متأبٍّ، ينأى بنفسه عمّا يمسّ كرامته، "يعتدّ الصيانة مغنما". وحين استحدثت الدراسات العليا في كليّة الآداب كان له خطّ، ونهج، وطلبة يحملون علمه؛ لكنّ الرياح لا تجري رخيّة في كلّ حين، وأنّ الصفو مشوب بالكدر، والمكاره مبثوثةٌ في جنبات الدرب؛ فلقد تقلّبت الأحوال على البلد، فاضطربت قيم، واختلّت موازين، وولي مِن الأمر مَن ليس أهله، وطغى بالناس أدناهم. يقول السامرّائي في بيان جانب من الأمر: (لقد شعرتُ أنا وجملة من أصحابي يومئذ، في مطلع سنة 1980 أنّ البقاء حيث أنا في كليّة الآداب أمر عسير، ذلك أنّ الكليّة قد تحكّم فيها غيرُ أهل العلم. كان العميد ذلك الذي استطال فيها وعلا وتجبّر، لمكانه في الحكم، وأنّه أحاط نفسه بأعوانه فتقوّى بخيله ورَجله... لقد جاء أوّل تسميته "عميداً" بشرٍّ ابتدعه، لقد شرع باجتماعات خاصّة مع أساتذة كلّ قسم، لم يستمع إليهم، ولكن ليلقي عليهم، أو ليصبّ زواجر وعظه، ونواشز لفظه، ينال منهم، ويحطّ من منزلتهم، فمنهم من يردّ عليه، وهذا قليل، ومنهم من يفِرّ من بين يديه. يُنحي باللائمة عليهم ويتّهمهم بالتقصير، وأنّهم لا يقومون بما كُلّفوا به من واجبات.) كان هذا العميد قد ولي أمر كليّة الآداب منذ سنة 1975 فأدارها على غير ما يقتضيه المنهج الأكاديمي في الإدارة؛ فقرّب وبعّد، وقدّم وأخّر حتّى ضاق السامرّائي، وأمثاله، وشعر ألّا مكان له فتعجّل الإحالة على التقاعد. وقد قال لي ذات يوم من تلك السنوات، وهو آخذ بيدي في ممر كليّة الآداب لا يُخفي أساه: صار الأستاذ قصير اليد!
وما أن تمّ له أمر التقاعد حتّى شرع بتهيئة أسباب الرحيل من البلد، وهو ينطوي على شجن خفيّ، وحسرة بين الضلوع؛ يقول: (وفي التهيّؤ للرحيل إثارة لأسى لا أطيقه.)، ويقول: (وأعود إلى مأساة الرحيل التي شعرتُ فيها أنّي أقصد التيه، وسيكون لي وجود آخر... والغريب عن أهله مجاهد مغبون.) لتبدأ معه غربة نائية لا عودة منها!
عمل أوّل الأمر في الجامعة الأردنيّة في عمّان، ثمّ عمل في جامعة صنعاء في اليمن، ثمّ عاد إلى الأردن؛ وهو، حيثُ حلّ، موضعُ حفاوة وتجلّة من عارفي فضله ؛ لكنّ ألم الغربة والخذلان شيء لا يبارحه؛ يطفو على قلمه في شعره ونثره ! فقد أمضّه أن يُضطر إلى مغادرة بلده، وأوجعه أن يلقى الإهمال من أولي الأمر، وعزّ عليه أن يكون عضواً في مجمع اللغة العربيّة بالقاهرة، وألّا يكون عضواً في المجمع العلمي العراقي! وساءه أن تحتفي به عمّان وتنساه بغداد!
لكنّه، مع بثّه ما يجد، لا يُطيل الشكاة؛ إذ سرعان ما يرجع إلى حديث الكتاب والدرس، ودروب المعرفة؛ بل إنّ بثّه وشكاته إنّما هما من الأدب الرفيع في الإلماح، والإشارة، والاقتباس من الذكر الحكيم بما ينسجم مع سياق القول، والتمثّل بأبيات من الشعر تصوّر الحال وتنبئ عن طويّة النفس كتمثّله بقول الشاعر، وهو في مقام التحنّن إلى بلده:
اقرأ على الوشل السلامَ وقل له... كلُّ المشارب مذ هُجرتَ ذميمُ
وكتمثّله بقول الآخر في المقام نفسه:
ذمّ المنــازلَ بـعد منزلة اللوى... والعيشَ بـــعد أولئـــك الأيّــامِ
كان إبراهيم السامرّائي قد ولد في سنة 1922 في مدينة العمارة، وتوفّي في سنة 2001 في مدينة عمّان، وبين التاريخين حياة كريمة حافلة بالجدّ والإخلاص والمثابرة، يزينها الصدق والإباء؛ لم توهن العقبات منها؛ حتّى إذا أفلَتْ وطُويتْ صفحتها كان في سجلّها ما يزيد على مئة كتاب بين تأليف وتحقيق، كلّها من عيون الآثار!
وبعد؛ فإنّ (حديث السنين) نمط فريد في السيرة يكتبها صاحبها مقتصداً في البوح، مفصّلاً في المعارف...!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سعيد عدنان، أكاديمي عراقيّ، وكاتب مقاليّ، درّس في عدّة جامعات عراقية، متخصص في الأدب العربيّ القديم، ويعنى بالمقالة العربية والعراقية المعاصرة، كتابة وبحثا علميّا. مما صدر له: (علي جواد الطاهر، الناقد المقالي) بطبعتين، و(أدب المقالة وأدباؤها) و (في أفق الأدب) و (مقالات في الأدب والثقافة).