يختار الشاعر المغربي كتابة البداهة المستعصية حيث تبدو الأشياء مرتبة كما هي لكنها تنبني على المفارقة المرة واللااحتمال، هنا عين الشاعر وهي ترتب تفاصيل الأشياء وأسمى ما في الوجود تمسي الرؤى غرق في نقيض البداهة والتي نخالها هي الحقيقة والأصل، إذ لا حقيقة لبعض التفاصيل إلا في ما تحدثه من أثر وبعض من الكلمات لترتيب المعنى.

أمواج تغرق

مصطفى ملح

 

أَنْ تَعْشَقَ نَجْماً،

لَيْسَ ضَرورِيّاً أَنْ تَلْمَسَهُ، بَلْ يَكْفي أَنْ تَتَأَمَّلَهُ!

لِتُحِبَّ نُجومَ اللهِ كَثيراً،

يَلْزَمُ رُؤْيَتُها في عُزْلَتِها،

عَيْبٌ إِشْراكُ الآخَرِ في تَقْشيرِ النّورِ،

وعَيْبٌ أَنْ تَتَعَرّى النَّجْمَةُ في مَلَكوتِ الآخَرِ..

كُنْ أَرْضاً تَكُنِ النَّجْماتُ سَماءَكَ.

لَيْسَ ضَرورِيّاً لَمْسُ الأَفْكارِ؛

تَأَمُّلُها يُدْنيها مِنْكَ،

وكُلُّ مُغامَرَةٍ هِيَ تَحْنيطٌ لِوُجودٍ ضَوْئِيٍّ،

فَاحْذَرْ أَنْ تُصْبِحَ تابوتاً لِنُجومِ اللهْ!

كَيْ تَنْجَحَ تَجْرِبَةٌ،

تَحْتاجُ الحاسَّةُ تَمْريناً أَوْ أَكْثَرَ،

صَعْبٌ أَنْ يَتَشَكَّلَ مِنْ صَخْرٍ فَنٌّ،

تَحْتاجُ يَدُ النَّحّاتِ خَيالاً..

صَعْبٌ أَنْ يَتَحَوَّلَ رَمْلُ الشَّطِّ بِناياتٍ،

تَحْتاجُ يَدي تَرْويضَ مِزاجِ المَوْجَةِ..

صَعْبٌ تَحْويلُ الأَغْصانِ الجافَّةِ تابوتاً..

نَحْتاجُ إلى فَتَيَيْنِ اثْنَيْنِ:

فَتىً نَجّارٌ مُحْتَرِفٌ.. وفَتىً لِيَموتْ!

شَفَةُ المومْياءِ إِذا كُسِرَتْ يَوْماً،

لا يَلْزَمُها نَحّاتٌ.. بَلْ قُبَلٌ!

لا يَحْتاجُ الأَعْمى وَطَناً، بَلْ عَيْناً..

لا يَحْتاجُ مَلائِكَةٌ غُرَفاً في أَرْضٍ، بَلْ مَلَكوتاً..

لا يَحْتاجُ البَحْرُ مِياهاً، بَلْ عَطَشاً..

لا يَحْتاجُ الفَمُ غَيْرَ فَمٍ ثانٍ لِتَعيشَ القُبْلَةُ أَكْثَرَ..

لا تَحْتاجُ يَدُ امْرَأَةٍ حِنّاءً، بَلْ شَفَتَيْ رَجُلٍ..

لا يَحْتاجُ التِّلْميذُ سِوى طُبْشورٍ كَيْ يَصْطادَ خَيالاً..

لا أَحْتاجُ أَنا إلاّ كَلِماتٍ،

كَيْ أَتَعَلَّمَ كَيْفَ أَعيشْ!

إِنْ أَخْطَأَ صَيّادٌ في رَبْطِ الخَيْطِ،

فَيُمْكِنُ تَرْويضُ اليَدِ ضِدَّ هَواءِ البَحْرِ،

ولَكِنْ مَمْنوعٌ أَنْ يُخْطِئَ طُعْمٌ ما في إِغْراءِ الأَسْماكْ!

لا تَكْفي الصَّخْرَةُ والصَّنّارَةُ والأَمْواجُ لِيَحْدُثَ صَيْدٌ ما،

لَكِنْ نَحْتاجُ تَحَرُّشَ طُعْمٍ مَوْهوبٍ بِفَمِ السَّمَكَةْ!

لا يَكْفي مِنْديلٌ لِوَداعِ الحورِيّاتِ،

ولَكِنْ يَلْزَمُ إِقْناعُ العَجَلاتِ بِتَغْييرِ المَمْشى نَحْوَ البَحْرِ!

المَوْجَةُ تَغْرَقُ..

مُدَّ يَديْكَ لِتَسْحَبَها،

عَيْبٌ أَنْ تَحْيا يابِسَةٌ،

وتَموتَ المَوْجَةُ في سِنِّ الماءِ!

في آخِرِ عُمْري صارَ الكَوْكَبُ ظَمْآناً،

عَطَشٌ جَوْعانُ يَعُضُّ الوَرْدَةَ.

صِرْتُ المَوْجَةَ،

أَعْرِفُ أَنّي أَغْرَقُ في الغَدِ،

لَكِنّي أَحْمي الأَزْهارَ مِنَ العَطَشِ!

تَحْتاجُ المَرْأَةُ مِرْيَلَتَيْنِ:

بِواحِدَةٍ تَتَفادى لَمْسَ الضَوْءِ لِثَدْيَيْها،

أَمّا الأُخْرى،

فَلِصَدِّ غُبارِ المَطْبَخِ حينَ يُغازِلُها!

تَحْتاجُ البِئْرُ شِفاهاً عَطْشى تَلْمَسُها،

شَفَةٌ تَكْفي لِتَصُدَّ وُحوشَ العُزْلَةِ،

أَحْياناً يَتَحَوَّلُ ماءُ البِئْرِ إلى عَطَشٍ آخَرْ!

تَحْتاجُ مُعَلِّمَةُ الأَطْفالِ مَلائِكَةً،

وجَناحَيْ عَنْدَلَتَيْنِ مُسالِمَتَيْنِ،

وسِرْبَ مَجازٍ فَوْقَ سَماواتٍ،

وأَخيراً يُمْكِنُها أَنْ تَنْجَحَ في التَّمْرينْ!

لِمُواجَهَةِ التِّنّينِ عَلَيَّ إِخافَتُهُ،

تَخْويفُ الآخَرِ نِصْفُ هَزيمَتِهِ!

شَفَةُ التِّنّينِ تُخاطُ بِمَصْرَعِهِ،

يَتَحَوَّلُ تِمْثالاً في أَدْغالِ الأُسْطورَةِ،

ثُمَّ أَصيرُ أَنا بَطَلاً مِغْواراً،

لا تَعْنيني الامْبراطورِيّاتُ ولا التّيجانُ،

ولا الخُطَطُ الحَرْبِيَّةُ لاسْتيطانِ الآخَرِ،

يَكْفيني مَوْتُ التِّنّينِ،

وسَحْبُ الواقِعِ مِنْ شَفَةِ التّاريخِ الكاذِبِ،

يَكْفي ألاّ أُصْبِحَ تِنّيناً!

قَدْ نَمْشي زَحْفاً لَكِنْ لا نَتَوَقَّفُ كُلِّيّاً،

كالنَّبْلَةِ يَجْري الأَيِّلُ لَكِنْ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَسْقُطَ.

أَمّا في الجِهَةِ الأُخْرى بِجِوارِ المَنْطِقِ،

يَبْلُغُ غايَتَهُ، رَغْمَ الإِبْطاءِ، صَغيرُ سُلَحْفاةٍ!

لَوْ أَسْرَعَ ماءُ النَّهْرِ غَدا فَيَضاناً،

والقُبَلُ الوَلْهى تَتَحَوَّلُ عَضّاتٍ،

والنّاياتُ المَعْشوقَةُ تَغْدو سِرْبَ نِبالٍ،

والشَّعْرُ المُتَشائِمُ يُصْبِحُ مِشْنَقَةَ!

ما كُنْتُ الأَيِّلَ في الغاباتِ،

ولا الفَهْدَ الوَثّابَ بِمَرْجٍ شَوْكِيٍّ،

سَأَكونُ صَغيرَ سُلَحْفاةٍ وأَسيرُ على بَطْني!

لا يَلْزَمُني أَنْ أُشْبِهَ شَمْسَ اللهِ،

عَلَيَّ فَقَطْ أَنْ أُشْرِقَ يَوْمِيّاً،

فإِذا فانوسي كانَ صَغيراً جِدّاً،

حَسْبي أَنَّ فَراشاتٍ سَتُحيطُ بِهِ!

إِنْ شاءَ اللهُ بأَلاّ تُبْعَثَ مِثْلَ نَبِيٍّ،

فاحْلُمْ أَنْ تُخْتارَ حَوارِيّاً..

إِنْ فاتَ المَرْءَ مَحَبَّةُ شَمْسٍ فَوْقَ سَماءٍ،

فَلْيَمْنَحْ لِشُموعِ الأَرْضِ مَحَبَّتَهُ!

ضَوْءٌ أَرْضِيٌّ..

أَفْضَلُ مِنْ لا ضَوءْ!