- الصنميةُ القوميةُ والخشبيةُ الإسلاميةُ
انتهت أعمال المؤتمرين القومي العربي والقومي الإسلامي بعد أربعة أيامٍ شاقةٍ من العمل الجاد والحوار المسؤول، والأفكار العاصفة والاقتراحات المختلفة، سبقتها جهودٌ كبيرةٌ واستعداداتٌ كثيرة لضمان انعقاد المؤتمرين في وقتهما، ونجاحهما في تحقيق الأهداف المرجوة منهما، بعد انقطاعٍ دام أربع سنواتٍ بسبب جائحة كورونا، التي عطلت الكثير من الأنشطة، وجمدت اللقاءات والمؤتمرات، واستبدلتها بأشكال أخرى هجين من وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها لم تغنِ عن اللقاءات المباشرة، ولم ترقَ إلى الدرجة المرجوة من المؤتمرات التي تخلق العصف الذهني، وتفرض علاقات الرواق ولقاءات البهو واجتماعات الصالون، إلا أنها استطاعت رغم جمودها أن تجبر الكسر وأن تعوض الخلل، وأن تنتصر على الظروف وتنوب عن الغياب.
نجح المؤتمر القومي العربي في اختيار الأستاذ حمدين صباحي أميناً عاماً له، وانتخب أمانةً عامةً جديدةً تساعده وتعمل معه، في ظل أجواء هادئة من التوافق والتراضي، خلت من التنافس الحاد والاصطفاف الانتخابي، حيث لم يواجه الأستاذ حمدين منافساً له، وعُرضَ مرشحاً وحيداً، فنال ثقة المؤتمرين وصادقوا على انتخابه، وأعتقد أنه حظي برضا غالبية أعضاء المؤتمر، ولم يلقَ معارضةً تذكر، لما يتسم به من دماثةٍ وخلقٍ، ووسطيةٍ واعتدالٍ، واستنارةٍ ووعيٍ، وتاريخٍ مشرقٍ وماضيٍ مشرف، وكانت كلمته الأولى مبشرة وواعدة، عبر فيها عن أفكاره بهدوء، وكشف عن آماله وطموحاته بوضوحٍ.
كما توافق السادة المشاركون في المؤتمر القومي الإسلامي على التمديد للأستاذ خالد السفياني مدة سنتين إضافيتين منسقاً عاماً للمؤتمر، وتمديد عمل لجنة المتابعة للمدة نفسها، تمهيداً لعقد المؤتمر الثاني عشر، الذي سيشهد انتخاباتٍ جديدةً، لاختيار منسقٍ عامٍ جديدٍ، ولجنة متابعة جديدة، في ظل الآمال المعقودة بتطوير عمله، وتحسين أدائه، وتجديد أعضائه، وتوسيع تمثيله، ذلك أنه يعاني من تحدياتٍ كثيرةٍ، ويواجه صعاباً مختلفة، في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها منطقتنا العربية، وحالة الاصطفاف والفرز بين النخب والطاقات الفكرية، إبان فترة ما يسمى بــــ"الربيع العربي"، وما رافقها من أحداث ومواقف، واجتهاداتٍ وتحالفاتٍ، وسياساتٍ واتجاهاتٍ، عمقت الانقسامات، وجمدت الحوارات وعقدت التفاهمات.
رغم أن المؤتمرين عقدا تباعاً وفي نفس الفندق، وكان فيهما أعضاءٌ مشتركون من الاتجاهين القومي والإسلامي، إلا أن الأهداف المرجوة منهما لم تتحقق بالشكل المطلوب، فقد انغلق المؤتمران على نفسيهما، واكتفى الأعضاء من كل اتجاه بالحوار مع أنفسهم، فإن كان المؤتمر الأول منسجماً مع نفسه ومتصالحاً مع ذاته، كون أعضائه جميعاً من ذوي الميول القومية، أو لا يتناقضون معها، فقد خلت النقاشات والحوارات من الحدة والتصادم، وغابت عنها أجواء الاحتدام والاشتباك، وطغت الأفكار القومية والهموم العربية، والأماني والطموحات والآمال والغايات.
أما المؤتمر الثاني فقد عانى من بعض القصور والضعف، فقد غاب عنه القوميون بصورةٍ لافتةٍ، وإن حضر بعضهم وشارك قلةٌ منهم في الحوارات، إلا أن الأغلبية القومية غابت أو قاطعت، عرضاً أو قصداً، وقد بدا ذلك واضحاً حتى خلال جلسة الافتتاح الأولى، التي تحدث فيها أقطاب المقاومة العربية، حيث غص البهو ومقاهي الفندق بالمؤتمرين، بينما كانت الجلسة الصباحية منعقدة، والكلمات تنقل عبر الفضائيات على الهواء مباشرة، وهو الأمر الذي تكرر في الجلسات التالية، التي بدت باهتة ضعيفة، قليلة الحضور تنقصها الفعالية، مما جعل الحوار بين الإسلاميين فقط، وهو ما يتعارض مع أهداف المؤتمر التي انطلق من أجلها، وهي التقارب بين التيارين، والحوار بين اتباعهما، أملاً في الوحدة وتنسيق الجهود.
لم تسعف المصافحات الشكلية واللقاءات العابرة التي جمعت أعضاء المؤتمرين معاً، والتي جاء بعضها عرضاً أو جرى خجلاً، في رأب الصدع بينهما، أو تلطيف الخلافات التي تعصف بهما، وتسهيل اجتماعهما وتفعيل الحوار بينهما، إذ استعصم كل فريقٍ بركنه وتمسك برأيه، فهذا يتهم الإسلاميين بالخيانة والتفريط، والتخلف والرجعية، ويرى أن سياستهم منحرفة وتحالفاتهم مشبوهة، وأنهم لم يراجعوا تجربتهم ولم يحاسبوا أنفسهم، ولم يعترفوا بخطأهم أو يصححوا مسارهم.
وذاك يتهم القوميين بالتسلط والفوقية، والتفرد والهيمنة، وعدم الاعتراف بالشراكة أو القبول بالتعددية، والإصرار على إنكار الآخر وتجاهل وجوده، والاستئثار بالوطنية وحصرها بتيارهم وتجريد غيرهم منها، رغم جمهورهم الكبير وامتداهم الواسع وتأثيرهم الشديد، وبعضهم يقول بصوتٍ عالٍ وكلماتٍ خشنةٍ، أن الثقة فيهم معدومة، والتجربة معهم غير مأمونة، والاطمئنان إليهم جهالة، والعمل معهم مغامرة، ولا مجال للحوار معهم، ولا أمل يرتجى من اللقاء بهم والحديث معهم.
يخطئ أتباع التيارين خطأ فادحاً ويرتكبون جريمةً كبيرةً في حق شعوبهم وأوطانهم، ويدمرون مستقبل أجيالهم، ويشاركون في تمزيق الأمة وتعميق الشرخ بين مكوناتها، إن بقوا مصرين على موقفهم، جامدين في مواقفهم، معاندين في توجهاتهم، فالأمة العربية تقوم على قاعدتين عظيمتين، وأساسين متينين، هما العروبة والإسلام، فهما كالجناحين العظيمين لهذه الأمة، التي لا تستطيع أن تحلق بدونهما، وفي حال إجهاض أحدهما أو إضعافه، فإن الأمة تصبح مهيضة الجناح كسيرة، عاجزةً عن التحليق والطيران، ولن تتمكن من تحقيق أيٍ من أهدافها مهما حاولت واجتهدت.
لا مناص لهذه الأمة عن الاتفاق والتفاهم، والالتقاء والتحاور، فكلا الطرفين في حاجةٍ إلى الآخر، ولا غنى لأحدهما عن الآخر مهما سما وعلا، فقوة العرب هي في إسلامهم الحنيف، وقوة الإسلام في العروبة المستنيرة الواعية، وكلا الفكرين زاخرٌ بعوامل القوة ومقدرات الصمود، وفيهما من أسباب التقدم والتميز والوحدة والمنعة الكثير، ولا يستطيع أيٌ من التيارين أن يقود الأمة ويتفرد في ريادتها، وأن يستأثر بالرأي ويحاكم عليه، وعبثاً يحاولون الافتراق والطلاق، فالضاد يحفظها القرآن، والقرآن يحمله العرب، وعلينا أن ندرك يقيناً أن الصنمية الموروثة تيهٌ وضلال، وأن الخشبية العدمية تخلفٌ وانحطاطٌ.
- الضفةُ الغربيةُ تشبُ عن الطوقِ وتنتفضُ
أخطأ العدو حين فسر صمت المقاومة وقلة عملياتها، أنها ضعفت واستسلمت، وأنها وهنت وانتهت، وأنه تمكن منها وانتصر عليها، وأنه أَمِنَ واطمأنَ في القدس والضفة الغربية، واستقر فيها واستوطن، وثبتت فيها أقدامه وترسخت، وأنه انتصر على المقاومة وكسرها، وأطفأ نارها وأخمد جذوتها، وأنهى انتفاضتها وقضى على قدراتها، ونجح بسياساته وممارساته في تحقيق مخططاته والوصول إلى غاياته.
فقد وسع العدو في الضفة الغربية مستوطناته وزاد عددها وضاعف سكانها، وصادر المزيد من الأراضي من أهلها، وطردهم منها وأقصاهم عنها، وهَوَّد القدس وغَيَّرَ معالمها، واعتدى على المسجد الأقصى وانتهك حرماته، ولاحق وقتل وصفى وأعدم عشرات الفلسطينيين واعتقل المئات، وتوهم أنه بممارساته القمعية قد أخضع أهلها وتحكم في مصائرهم، واستلب قوتهم وانتزع منهم إرادتهم، وأنه بقوته استعلى وبجبروته استحكم، وأن الأرض أمامه قد أصبحت رخوة سهلةً، يسير فيها سيرَ السكين في الزبد الطري، وأن أهلها باتوا طيعين لينين، وأنه يستطيع أن يفعل بهم ما يشاء، ويمارس ضدهم ما يريد، وينتزع منهم ويسلخ عنهم ما يشاء، وأنه لن يجد منهم مقاومةً تذكر أو صموداً يمنع.
إلا أن العدو لم يهنأ طويلاً، فرياح القدس والضفة الغربية تهب دائماً عاصفةً بما لا يشتهي الاحتلال وبما لا يهوى السجان، فتفاجئه وتصدمه، وتباغته وتربكه، وتشل قدرته وتضعف إرادته، وهي وإن بدت ضعيفة فهي هوجٌ وعاصفة، وأنواءٌ وأعاصير متجددة، تشعلُ ناراً حول الاحتلال، وتزلزل الأرض تحت أقدامهم، وتميد بهم وتكاد تسقطهم وتغرقهم.
وهي وإن بدت قليلة أو متباعدة، فهي تنتقل من مكانٍ إلى آخر بسرعةٍ وقوةٍ، وخفةٍ وخبرةٍ، وتتعاضد مناطقها وتتضامن مدنها، وتتعاون قراها وتتكامل مخيماتها، وتهب لنصرة بعضها والتخفيف عن أهلها، فلا يستفرد العدو ببعضها، ولا يصب جام غضبه على جزءٍ منها ويعزل الآخرين عنها، محاولاً تكريس الفصل وتعميق العزل، ليتمكن من تنفيذ مخططاته بسهولةٍ، والسيطرة على الأرض والسكان دون كلفةٍ أو عناء.
فقد بات العدو الإسرائيلي يستفيق في كل يومٍ على عملياتٍ جديدةٍ يقوم بها فلسطينيو الضفة الغربية، تارةً في مدينة جنين ومخيمها، وأخرى في قراها وبلداتها، وفي محيطها وعلى الطرق المؤدية إلى المستوطنات، تكبده خسائر حقيقية، وتجبره على التراجع عن مخططاته، والكف عن ممارساته، والتوقف عن ملاحقاته وتضييقاته، فالكلفة التي بات يدفعها كبيرة وموجعة، وهي في ازدياد مستمرٍ وصيرورةٍ لا تنقطع.
لكن شعلة المقاومة لم تتوقف في جنين فقط، بل انتقلت إلى جبل النار نابلس، التي رسم أبطالها صوراً للمقاومة رائعة، وصفحاتٍ للبطولة مجيدة، وأطلق شهداؤها رسائل خالدة، وودعوا شعبهم والبندقية بين أيديهم بكلماتٍ صادقة ووصايا عظيمة، كان لها أثرها الكبير على شعبنا وأهلنا، وعلى أمتنا والمتضامنين معنا، وكان لذويهم دورٌ رائدٌ في وداعهم ورثائهم، وفي صبرهم واحتسابهم.
لم تقتصر المقاومة على نابلس المدينة، وإن كان رجالها قد انبروا للدفاع عن حرماتها وبيوتها، فتصدوا خارجها لفلول المستوطنين وردوهم، وكمنوا لهم وقنصوهم، وتصدوا لجيشهم وآذوهم، وكذا كانوا رجالاً في رام الله والخليل، وفي بيت لحم وقلقيلية، وفي طوباس وسلفيت، كما في القدس وبلداتها، وحول المسجد الأقصى وباحاته، وما زال أبناؤها الصِيدُ الكماةُ يرومون كما الأسود، ويخترقون الحدود ويتجاوزون الجدران، ويصلون إلى حيفا ويافا، وإلى تل أبيب والنقب، والعفولة والخضيرة، وينفذون أعظم العمليات فيها، ويمكثون فيها الساعات الطوال، يتجولون ويتحركون، ويجبرون المستوطنين على اللجوء والاختباء، والجيش على التراجع والانكفاء.
أمام صولة المقاومة وهبة القدس وثورة الضفة، لا تتوقف التقارير الأمنية الإسرائيلية تنذر بالأخطر وتبشر بالأسوأ، وتحذر حكومتها بأن الضفة الغربية لا تستكين على الخسف، ولا تنام على الظلم، ولا تقبل الضيم، وأن المزيد من الممارسات القمعية ضد الفلسطينيين، كسلب الأراضي ومصادرتها، وتوسيع المستوطنات وزيادتها، وملاحقة الفلسطينيين وقتلهم، والتضييق عليهم واعتقالهم، وهدم بيوتهم وخلع أشجارهم، وإتلاف محاصيلهم وحرق زيتونهم، واستباحة مدنهم وبلداتهم واجتياح قراهم ومخيماتهم، سيعجل في اندلاع انتفاضةٍ جديدةٍ، وسيخلق ثورةً واسعةً ومقاومةً شاملةً، تشارك فيها كل القوى، ويشترك في عملياتها كل الفلسطينيين.
يوماً بعد آخر تثبت الضفة الغربية أنها نارٌ تتقد، وجمرةٌ تلتهب، وشعلةٌ ينتقل أوارها من مدينةٍ إلى أخرى على امتداد بلداتها وقراها ومخيماتها، وأنها ليست رماداً سكنَ، ولا ثورةً خمدت، ولا شعباً رُوِّضَ، ولا مقاومة يئست، ولا أرضاً خضعت أو سلطةً سلمت، وأن الرهان على صمتها جهالةٌ، وتوقعَ استسلامها ضحالةٌ، وتحكمَ سلطات الاحتلال بها حلمٌ بعيدُ المنال، وعصيٌ على النوال، وأن الاعتراف بضعفها مستحيلٌ، والخضوع لميزان القوى مرفوضٌ، والإقرار بتفوق العدو غير ممكنٍ، مهما بغا وطغا، وظلم وقتل واعتدى، وقد جرب العدو فيها بأسه وجبروته، واستخدم ضدها كامل قوته ومختلف أساليبه، إلا أنه بقي أمامها ضعيفاً ومنها خائفاً.
3. غرفةُ العمليات المشتركة حاجةٌ شعبيةٌ وضرورةٌ وطنيةٌ
لعل من أعظم إنجازات المقاومة، وأجٍّل الأعمال التي قامت بها في السنوات الأخيرة، اتفاق فصائلها وتراضي تنظيماتها على تشكيل غرفة عمليات مشتركة للمقاومة، تكون بمثابة قيادة أركان المقاومة، وخلية إدارة ضباطها، وملتقى خبرائها، يطمئن إليها شعبها، ويركن إلى قوتها أهلها، ويطمئنون جميعاً، في الوطن والشتات، إلى يقظتها وحرصها، وجاهزيتها واستعداها، ومسؤوليتها وأمانتها، ووعيها وحكمتها، ووطنيتها واستقلالية قرارها، فيسلمون لها ويطمئنون إليها، ويأمنون معها ويشعرون بالعزة والكرامة في ظلالها.
إنها غرفةٌ حقيقيةٌ تجمع أطراف المقاومة، وتوحد جهودها، وتنسق فيما بينها، وتوزع الأدوار على بعضها، وتتبادل المهام وتتفق على العمليات المشتركة، وتضع الخطط العامة وتحدد الأهداف المرجوة، وتتخذ قرارات السلم والحرب، وتقرر في الاتفاقيات والهدن، يتساوى فيها أطرافها، وتتعادل داخلها أصواتهم، فلا يتغول طرفٌ على الآخرين، ولا يستبد بالرأي آخر، أو يستفرد بالقرار فريق، ولا يستخف بالآخرين فصيل، بل تكاملٌ وتنسيقٌ، وتنافسٌ على العمل شريف، إذ المركب واحدٌ والركاب جميعاً أهل، والمصالح كلها مشتركة، والأضرار التي قد تلحق بنا عامةٌ، فإن غرق المركب خسرنا، وإن قتل الركاب هلكنا.
غرفةٌ مشتركةٌ لها نظامها وعندها برنامجها، تتفق على المبادئ وتتلاقى على الثوابت، لا تستثني أحداً، ولا تقصي طرفاً، تتمسك بالحقوق ولا تقبل بالحلول، ترفض المساومة وتصر على المنازلة، وتؤمن بالمقاومة المسلحة وتتبناها خياراً أولاً لا تفرط فيه ولا تتنازل عنه.
غرفةٌ حقيقيةٌ غير وهميةٍ، مهنيةٌ غير شكليةٍ، تلتقي عملياً، وتنسق ميدانياً، وتناقش جدياً، وتتحمل مسؤولية القرارات وطنياً، وتظهر بوحدة أطرافها واجتماع كلمتها، وجدية اجتماعاتها، وحكمة قراراتها، وخبرة ضباطها، هيبة المقاومة وإرادة قيادتها، وعلو كعبها في الميدان وجسارتها في القتال، فيخافها العدو ويحسب حسابها، ويعتقد يقيناً بقدرة أركانها وقوة مكوناتها، وصلابة مواقفها، وجدية قراراتها.
غرفةٌ مقدرةٌ محترمةٌ، لها هيبتها وعندها إرادتها، تملك قرارها وتنفذ وعيدها، جادة ومسؤولة، ملتزمة وأمينة، تتابع اجتماعاتها، وتحترم أصول عملها، وتحافظ على سرية مهامها، فلا عشوائية ولا مزاجية، ولا انتقائية أو استنسابية، ولا غضب هائج ولا سلوك طائش، ولا عمليات غير منسقة أو صواريخ غير منظمة، وإنما ضبطٌ عسكري، وأداءٌ مهنيٌّ، والتزامٌ حديدي، يحفظ المقاومة، ويصون مقدراتها، ويحمي أبناءها، ويمنع التغول على أطرافها أو الاستفراد ببعضها.
غرفةٌ مجهزةٌ متطورةٌ، لديها الإمكانات وعندها القدرات، سريعة فاعلة، نشيطة حاضرة، تجمع المعلومات وتحلل البيانات، وتطور القدرات وتعلي من قدر الكفاءات، تدرب وتؤهل، وتصقل الخبرات وتنقل التجارب، وتسلح وتطور، وتبني وتحصن، وتحافظ على المقاومة وتحصنها، وتحمي صفوفها من الاختراق والتجسس، وتمنع العدو من التغلغل والسيطرة، وتجتهد في إحباط خططه وإفشال مؤامراته، بل وخسارته وهزيمته، وقطع يده وكسر ذراعه، ليعلو صراخه متألماً، ويرتفع صوته نادماً.
حاجتنا نحن الفلسطينيين إلى مثل هذه الغرفة حاجةٌ ملحةٌ، ولعلنا تأخرنا كثيراً في تشكيلها، وأهملنا طويلاً أهميتها، فاستفرد العدو بنا ونال منا، وحقق الكثير من الأهداف في غيابها، وتضررت مصالح الشعب وشؤون الوطن لعدم وجودها، ودفع أهلنا من دمائهم وأرواحهم أثماناً باهظة، وقد كان بالإمكان تجنبها أو التقليل منها، ولكن العمل الفردي غير المنسق، والتنافس الميداني غير الشريف أحياناً، وغرور القوة القاتل، وغطرسة التفوق المُهلك، كبد شعبنا الكثير من الخسائر، ومكن للعدو منا، وحقق له في أرضنا وعلينا الكثير من المكاسب.
غرفة العمليات المشتركة التي نتطلع إليها وفق المواصفات التي ذكرنا، لا ينبغي أن تكون غرفة عملياتٍ عسكريةٍ فقط، تنشط خلال عمليات القتال وأثناء العدوان، وتضع خطط الدفاع والهجوم، وتنكفئ إذا ما توقفت رحى الحروب وسكنت منصات الصواريخ، بل يلزمنا غرفة عمليات تعمل على مدى اليوم والساعة، أولاها عسكرية، تهتم بالشؤون الفنية والعمليات العسكرية للمقاومة، وأما الثانية فهي سياسية، وهي لا تقل أهميةً عن العسكرية، بل تتوفق عليها وتوجهها، وتسبقها وتحدد مهامها وترسم مسارها، وإلا كانت المقاومة ضرباً من ضروب العنف الأعمى والقتال العبثي، ما لم تكن قيادة سياسية ترشده، وغرفة عملياتٍ توجهه.
نحن في حاجةٍ حقيقيةٍ إلى غرفة عملياتٍ بشقيها العسكري والسياسي على مستوى الوطن كله، فالوطن كله مستهدف، وشعبنا أينما كان مقصودٌ بالقتل والترويع والتهجير، والعدو لا يتوقف عن الاعتداء علينا وتنفيذ برامجه وتحقيق أهدافه، ولا يصده شيء غير القوة، ولا ينغص عليه عمله غير الوحدة، وهذه كلها تحققها غرف العمليات السياسية والعسكرية الموحدة، التي هي في الحقيقة حاجة ماسة للشعب، وضرورة ملحة للمقاومة عموماً، ولا شيء مهما كان يبرر تأخيرها، أو يجيز تعطيلها، أو يمنع تشكيلها، اللهم إلا الاختلاف السياسي والتناقض الوطني.
العدو لا يريدنا صوتاً واحداً ولا إرادة مشتركة، ولا يريد أن يرانا متفقين متحدين، ومتجانسين متوافقين، بل يريدنا متفرقين سهلين، متنافسين متناحرين، وشركاء متنافرين، وهو يتطلع لأن يستفرد ببعضنا وأن ينال منا كلنا، فلا نمكنه بضعفنا، ولا نمنحه القوة بعدم جديتنا، ولنكن مسؤولين دائماً، ومخلصين أبداً، وعاملين حقاً، بذا نحقق أهدافنا، ونصل إلى غاياتنا، ونحفظ أرضنا ونصون وطننا، ونحمي شعبنا ونرفع الرأس عالياً مفاخرين الأمم، وما ذلك علينا بعزيز إن تلاقت عزائمنا، واتفقت نوايانا، وإلا فلا تنتظروا نصراً، ولا تعدوا شعبكم بالعودة، ولا تمنوا أنفسكم باستعادة القدس وصلاةٍ المسجد الأقصى المحرر.
4. معركةُ وحدة الساحات في ميزان الكسب والخسارة
تختلف معركة "وحدة الساحات" التي أطلق عليها العدو الصهيوني اسم "الفجر الصادق"، أو "بزوغ الفجر"، عن أي معركةٍ أو حربٍ أخرى شنها على قطاع غزة وقوى المقاومة الفلسطينية، فهي الحرب الأقصر زمنياً، إذ استغرق العدوان قرابة خمسة وخمسين ساعة لا أكثر، واستهدف العدو فئةً فلسطينية واحدةً، إذ قصر عدوانه على حركة الجهاد الإسلامي، واستهدف قيادته العسكرية ومنصاته الصاروخية، وخرج المدنيون الفلسطينيون "نسبياً" من دائرة الاستهداف، إذ لم يتعرضوا لغاراتٍ عنيفةٍ شاملةٍ كتلك التي اعتادوا عليها في الحروب السابقة، ولم تستهدف المباني السكنية والأبراج العالية، رغم أن العدو لاحق الشهيد خالد منصور داخل التجمعات السكنية المكتظة بالمدنيين.
بعد أن انتهت معركة "وحدة الساحات" وانطفأت محركات الطائرات المغيرة، وتوقفت أعمال القصف والتدمير، وجرائم القتل والاغتيال، وانتهت حالة الاستنفار العامة على جانبي السلك الزائل، وانكشف غبار المعركة عن نتائج متباينة، وأعدادٍ واحصائيات مختلفةٍ، أصبح من الممكن للمراقبين والمحللين، وأصحاب الشأن والمسؤولين، أن يحللوا الأحداث كلها بقلبٍ باردٍ وذهنٍ صافٍ، بعيداً عن ضغط العدوان وأصوات الغارات، وأعداد الشهداء والجرحى والمصابين، في ظل أجواءٍ من الأمن النسبي والاطمئنان الحذر.
رغم أنه من الصعب جداً في مقالٍ واحدٍ قصيرٍ، وقراءةٍ أحاديةٍ قاصرةٍ، وفي ظل غياب المعلومات الدقيقة والشفافية المطلوبة، إجراء مراجعة نقدية علمية جادة ومسؤولة تطال مختلف جوانب العدوان، وتحيط شمولاً بآثاره النفسية ونتائجه المادية، وتداعياته الاقتصادية وانعكاساته على المقاومة العسكرية، وعلى البنية الوطنية الداخلية، وما أحدثته من تصدعاتٍ وشروخٍ لا يمكننا إهمالها أو التقليل منها، رغم محاولات ترميمها وتجاوزها، والإفادة منها ومحاولة تجنبها.
إلا أنني سأحاول في ست نقاطٍ لا أكثر، وكلماتٍ محدودةٍ معدودةٍ، افترضها كعناوين ومفاتيح بحثٍ، واستنتاجاتٍ وقراءاتٍ سريعةٍ، أن أضع تقديراً عاماً لنتائج المعركة، علماً أن كل عنوانٍ مما سأذكر ليس مطلقاً ولا مغلقاً، ويلزمه حوار وإعادة دراسةٍ وتقييم، وقد يكون محل خلافٍ وموضع انتقادٍ، إذ قد لا يقبل بما خلصت به الجميع، خاصةَ من الحزبيين الموالين، المتعصبين للتنظيم والمخلصين للانتماء، ممن يرفضون المعارضة ويرهبون النقد، ويرون فعلهم هو الأصوب وقرارهم هو الأدق والأكثر حكمةً ومنطقيةً، إلا أنني أرى أن ذلك تعصب أعمى وتبعية تضر ولا تنفع، فالحق أولى بالاتباع أياً كان قائله، والصواب أجدر بالتبني أياً كان مصدره.
أرى أن حركة الجهاد الإسلامي قد كسبت، وأن حركة حماس قد تضررت وتأذت، وأن المقاومة قد استعلت واطمأنت، وتعززت وتعمقت، وأن العدو بشخص رئيس حكومته يائير لابيد قد كسب نسبياً، وأن مستوطنيه قد قلقوا كثيراً، وأن جمهور المقاومة وحلفاءها قد صدموا وحزنوا، وقلقوا وخافوا، وأن الشعب قد نجا وتجنب الدمار الذي اعتاد عليه وكان يتوقعه ويتحسب منه.
لا أريد هنا الخوض في نقاش وتحليل العناوين الستة التي ذكرتها أعلاه، علماً أنني أظلم البحث العلمي باختصارها المخل، وتقييدها المستفز، لكنني أرى أنها خلاصة التقييم وقراءة النتائج، وهي شاملة رغم اختصارها، ودقيقة رغم عمومها، ولعلني أستطيع إعادة طرحها مفصلة، وبيان وجهة نظري في كل منها، وتعزيزها بما لدي من معلومات وآراء، مع التأكيد أنني لا أتمسك برأيي إن وجدت ما يفنده، ولا أصر على موقفي إن رأيت أن غيره أصوب منه وأدق.
ستبقى هذه المعركة مختلفة عن سابقاتها، وإن كان قد جرى مثلها في العام 2019، إثر جريمة اغتيال الشهيد بهاء أبو العطا، إلا أنها تتميز عنها وتختلف، وتفرض نفسها كحالة جديدة وتجربة فريدة، تفرض على جميع الفرقاء التوقف عندها طويلاً، والاستفادة منها للبناء على ايجابياتها وتجنب سلبياتها.
وهي بلا شك قد أوجعت العدو وأقلقته، وستدفعه يقيناً إلى مراجعة حساباته وتغيير مخططاته، وربما التخلي عن الكثير من أحلامه، علماً أننا نحن الفلسطينيين قد بتنا بعد هذه المعركة وقبلها، نراكم القوة، ونزداد خبرة، ونجدد أسلحتنا، ونشحذ هممنا، ونؤمن بعزمنا، ونثق بقدراتنا، ونعتقد أن نصر الله عز وجل قادمٌ، وأن وعده لنا آتٍ، ولا محالة أنه سيتحقق وهذه بوادره، وأن الكيان الغاصب سيتفكك ويزول وهذه دلائله.
5. السورُ الواقي في نسختِه الجديدة وطبعتِه الثانية
أمام سيل عمليات المقاومة الفلسطينية، الشعبية والفصائلية، التي باتت تزداد أعدادها وترتفع وتيرتها، ويتنوع منفذوها، وتتشكل أسلحتها وتتطور أدواتها، ويتوسع إطارها من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها ووسطها، ويسقط فيها قتلى إسرائيليون وجرحى، وتضطرب الحياة وترتبك الحركة، ويشيع بين المستوطنين القلق ويسود في صفوفهم الخوف، وتعلن الأجهزة الأمنية عجزها عن السيطرة وتراجع قدراتها على الضبط وحفظ الأمن، ويحار المسؤولون الإسرائيليون عن وصف ما يجري وتفسير ما يقع.
تهدد حكومة يائير لابيد السلطة الفلسطينية بأنها ستنفذ في الضفة الغربية عمليةً عسكريةً جديدة، تشبه عمليتها الأولى التي نفذها أرئيل شارون عام 2002، وأطلق عليها اسم السوار الواقي، وفيها أعاد احتلال مدن الضفة الغربية، وبسط جيشه السيطرة الأمنية الكاملة على المنطقة المصنفة "A"، فضلاً عن سيطرته التامة على المنطقتين "B" و "C"، وأخضع الضفة الغربية بكاملها لإجراءاته الأمنية وسياساته العسكرية، وأصبح الجيش يجتاح متى يشاء أي منطقةٍ فيها، فيلاحق ويقتل ويعتقل، ويقتحم ويدمر ويخرب.
يهدد جيش الاحتلال المهزوزة صورته، والراحلة قيادته، والجديدة أركانه، في ظل تهديداتٍ متصاعدة شمالاً من لبنان وسوريا، وجنوباً من غزة ومقاومتها المتربصة، ونووياً من إيران ومشروعها، بأنه سينفذ المهمة العسكرية بنفسه، وسيجلب الأمن لمستوطنيه بيده، وسيفرض الاستقرار والهدوء في الضفة الغربية، في عمليةٍ جديدةٍ يطلق عليها اسم "السور الواقي 2"، وكأنه قبل اليوم لم ينفذ عملياتٍ عسكريةٍ قاسيةٍ لم تنته، فجيشه يجتاح ويقتحم، وأجهزته الأمنية تنفذ عملياتٍ نوعيةٍ، وفرقه المستعربة تقوم بعمليات إعدامٍ وتصفيةٍ علنيةٍ في الشوارع والطرقات، ويقوم الجيش بتأمين دخولهم وضمان خروجهم سالمين من مناطق المهمات الخاصة.
رغم هذه التهديدات المتصاعدة والتصريحات الإسرائيلية اللاهبة، التي لا يلتفت إليها الفلسطينيون ولا يعبأون بها، فهم يقولون للعدو "أعلى ما في خيلك اركب"، إذ لن يصيبهم أكثر أو أسوأ مما أصابهم، ولسان حالهم يقول "أنا الغريق فما خوفي من البلل".
فالعدو لم يوقف في تاريخه حملاته العسكرية والأمنية عليهم، وما زالوا حتى اليوم يواجهون عمليته المستمرة المسماة "كاسر الأمواج"، التي لم تحقق شيئاً من أهدافهم، ولم تمكن رؤساء حكوماتهم من تسجيل نقاط كسبٍ لصالحهم، بل عكس ذلك أصابهم، إذ زادت عمليات المقاومة الفلسطينية حدة، وإن كانت أعداد شهدائهم في ازدياد، إذ لا يجد العدو سبيلاً لمواجهتهم إلا المزيد من القتل والاعتقال، وهذا سبيلٌ سلكه من قبل ولم يتوقف عنه، ولم يستفد منه أو ينجح فيه، وقد ذاق مرارته الفلسطينيون ولم يهزموا أمامه أو ينكسروا له ويخضعوا، ولم يخافوا منه ويجبنوا.
يبدو أن عيون العدو مفتوحة على جنين، محافظةً ومدينةً ومخيماً، ويريد أن ينفذ فيها، رغم خسارته المؤلمة وخزيه الشديد، ما نفذه ضد مخيمها عام 2002، فجنين توجعه وتؤلمه، وتواجهه وتتحداه، وتهزأ به وتتهكم عليه، وتحرجه وتستخف به، وتصمد في وجهه وتبزه، ورجالها يجوبون الآفاق يلاحقون جنوده ومستوطنيه، وينفذون في عمق المدن "الإسرائيلية" أكبر العمليات، ويسطرون بشجاعتهم أعظم الملاحم، وقد أعيته هذه المدينة التي يرتبط اسمها باسم عز الدين القسام، فتزداد بالنسب قوةً، ويتعاظم دورها بالأمل المعقود عليها عملاً، ويخشاها العدو ورجالها فعلاً.
إلا أن جنين لم تعد وحدها، فهذه نابلس تتنافس معها، وتتقدم عليها وتدعمها، ويخوض أبناؤها إلى جانب أبطال جنين عملياتٍ مشرفةٍ، يرسلون من خلالها رسائل عديدة، أولاها إلى العدو أن الضفة الغربية لن تخمد جمرتها، وأن مدينة جبل النار لن ينطفئ أوارها، وأن المقاومة مستمرة، والصمود باق، وأن التضحيات تزيدها قوة ولا تقعدها، وتجدد ثورتها وتضخ دماءً جديدةً في مقاومتها.
أما أخوات نابلس وجنين، فهن ضواري مثلهن، ويتربصن كشقيقاتهن، ويتهيأ أبناؤها لأن يكون لهم دورٌ في الصدارة، وسهمٌ في المقاومة، فهم يعلمون أن "وفي هذا فليتنافس المتنافسون"، وقد قرروا المنافسة، وأعدوا عدة المواجهة، وأياً كانت خطة العدو وعمليته، كاسر الأمواج كانت أو سوراً واقياً كررت، فإن المقاومة كفيلةٌ أن تنسي العدو برجالها وساوس السيطرة، وأحلام الهيمنة، وأماني الأمن ورجاء الاستقرار.
الضفة الغربية كما غزة وعموم فلسطين، يقولون بالدم والنار أنه لن يهنأ في فلسطين عدوٌ غازي، ولن يستقر في بلادنا وافدٌ مستوطنٌ، وعِبَرُ الزمان حاضرة ودروس التاريخ ماثلة، وكما سادوا وبادوا، وسُبُوا وطردوا، وأصبحوا ممالك سابقة وهياكل ساقطة، فإن التاريخ سيتكرر، والطرد سيتحقق، والسبي الجديد سيكون، والحق المشروع لشعب فلسطين سيعود، والنصر المكين لهذه الأمة سيتحقق، وحينها سيعلم الذين ظلموا عاقبة جريمتهم وخاتمة عدوانهم.
6. تدويرُ صواريخ المقاومة وإعادةُ تصنيعها واجبٌ وطنيٌ وتكليفٌ دينيٌ
لم يعد خافياً على العدو والصديق، أن قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية، باتت تمتلك أسلحة صاروخية مختلفة الدقة والمديات والقدرات التدميرية، وأنها تخزن فوق الأرض وتحتها آلاف الصواريخ المحلية الصنع وغيرها، وتخفي بعيداً عن الأضواء الكثير من الأسرار التي لا يعرفها العدو ويصدم بها، ويتفاجأ بها الشعب ويفرح لها، وهي تعدها وتجهزها لتستخدمها ضد العدو لتحرير أرضها وفي أي حربٍ يشنها عليهم.
وهي لا تتردد في إطلاقها على العمق الإسرائيلي في سبيل تحقيق أهدافها الوطنية المشروعة، ورغم أن جيش العدو وقادة أركانه، يعلنون في كل عدوانٍ على المقاومة، عزمهم على نزع أسلحتها، وتفكيك بنيتها، وتدمير منصاتها وصواريخها، إلا أنه لم ولا يحقق شيئاً من أهدافه، وفي كل مرةٍ ينهي عدوانه صاغراً، ويلتزم بوقف إطلاق النار مرغماً، بل ويخضع لشروط المقاومة ويلتزم بها، وإن كان يعود إلى خرقها والنكث بها.
من المعلوم أن الصواريخ التي تتسلح بها قوى المقاومة الفلسطينية، وتحمل أسماءً مختلفة، بعضها يخلد قادتها الشهداء، ويربط أسماءها بمصنعيها، وأخرى تحمل معاني خاصة ترتبط بموروث الأمة وتاريخها، قديمةٌ وجديدةٌ، وبدائية ومتطورة، وعشوائية ودقيقة، وقصيرة المدى وبعيدة المدى، وذات قدرات تدميرية محدودة، وأخرى ذات قدرات تدميرية عالية، وبعضها محلية الصنع محدودة القدرة، وغيرها إيرانية أو صينية وروسية بمواصفاتٍ أفضل ومميزاتٍ أخطر، وهي على أجيال مختلفة وأنواع متعددة.
وقد جربت المقاومة مختلف أنواع الصواريخ التي تملكها، وتمكنت من فرض معادلاتها الجديدة، وباتت ترساناتها الصاروخية تنذر العدو بأمطار صاروخية غزيرة، لا تقوى قبتهم الفولاذية، ولا منظوماتهم الصاروخية المضادة على اعتراضها وإسقاطها، خاصةً أن المقاومة تعتمد استراتيجية خاصة في إطلاق الصواريخ من أكثر من موقعٍ واتجاه، وبغزارةٍ صادمةٍ وبدفعاتٍ متزامنة، الأمر الذي يربك منظومات العدو المضادة، ويتسبب لها في فوضى دفاعية تعود بالضرر عليهم، لكثرة الصواريخ المضادة التي ينعكس أثرها السلبي على المستوطنين أنفسهم، وسكان المدن والبلدات الإسرائيلية.
لكننا نعترف أننا خلال مسيرتنا الوطنية في برنامج التسليح وبناء القدرات، قد واجهنا صعاباً كثيرة، وتحدياتٍ خطيرة، وانتصرنا على سياساتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ صعبة، وتجاوزنا عقباتٍ كبيرة، واستطعنا أن نصنع من العدم قوة، ومن الحصار تحدياً وإرادةً، وخلال ذلك نجحنا وفشلنا، وانطلقنا وتعثرنا، وكسبنا وخسرنا، وحققنا انجازاتٍ كبيرة، وتكبدنا خسائر كثيرة، وسقط منا شهداء خلال عمليات التصنيع وأثناء إجراء التجارب، وسقط ضحايا آخرون بسبب قصورٍ فيها وخللٍ في صناعتها جراء سقوطها في المناطق الفلسطينية، وعدم وصولها إلى أهدافها المرسومة لها داخل الكيان الصهيوني.
أما الآن وقد قطعت المقاومة شوطاً كبيراً في الخبرة والتجربة والنجاح والتميز، والتفوق النوعي "دون مبالغة أو تهويل" بالنسبة لها كقوى مقاومة، فقد بات لزاماً عليها أن تعيد النظر في ترسانتها الصاروخية، فتفكك القديم منها، وتتلف الضار منها، وتدورها كأي منتجٍ آخر، فتستفيد من حديدها، وتعيد استخدام حشواتها التفجيرية، وتعيد تصنيعها من جديد، بما تراكم لديها من خبرةٍ وتجربةٍ، وتدخل فيها التقنيات الحديثة التي توصلت إليها، وتلك التي تحقق جانباً كبيراً من الأمان، وتضيق هامش الخطورة إلى أقل قدرٍ ممكن.
لعل هذه المهمة مسؤولية وطنية وأمانة شعبية وتكليفٌ دينيٌ واجبٌ، تقع على عاتق جميع القوى الفلسطينية المقاومة، تلتزم بها جميعاً التزاماً حديدياً، وفرضاً وطنياً ودينياً، لا يجوز الإهمال فيه أو التقصير، ولا الإرجاء والتسويف، وينبغي على غرفة العمليات المشتركة لقوى المقاومة أن تشرف على هذه المهمة، وأن تشكل لجاناً خاصةً للمتابعة والتدقيق، والمسائلة والمحاسبة، ولن يكون هناك ثمة مبرر لأي خطأ أو تقصير، اللهم إلا في الحدود الدنيا المعمول بها والمعترف بها في مثل هذه الحالات.
هذه المهمة هي جزءٌ أصيلٌ من مهام المقاومة، وعملٌ لا ينفك عن دورها وواجبها، وبها نرضي شعبنا ونساعده في الصمود معنا والثبات قبلنا، فهو الذي يدفع أكثر من غيره ثمن هذه الأخطاء، التي أراها غير مقصودة سابقاً، وخارجة عن السيطرة قديماً، أما اليوم فأراها غير ذلك أبداً، إذ بات تجنبها ممكناً، وتصحيحها سهلاً، ولعل المقاومة في سبيل ذلك تستطيع تحديث ترسانتها، والتخلص من أعباء القديم الفاسد وعديم الجدوى منها، وهذا يحسن أداءها، ويضاعف أثرها، ويزيد في بأسها.
نعتز ونفخر بما حققته مقاومتنا الأبية، ونتطلع إلى امتلاك المزيد والجديد من الصواريخ الرادعة والموجعة للعدو، ونأمل أن تكون صواريخنا حديثة ومتطورة، وفعالة ومؤثرة، ونريد أن ننزع من عدونا السلاح الذي يشهره في وجوهنا، ويشهر به فينا أمام شعبناً وأمتنا والمجتمع الدولي، ويشوه به مقاومتنا، علماً أنه كاذبٌ ومدعي، وظالمٌ ومعتدي، فهو الذي يقتل ويبطش، ويعتدي ويدمر، وصواريخه هي التي تفتك بشعبنا وتقتل أطفالنا ونساءنا، وبإذن الله عز وجل نعدل مسارنا، ونحسن أداءنا، ونطور سلاحنا، ونُحَدِّثُ صواريخنا بما يوجع العدو ويؤلمه، ويسوء وجهه ويعمق جرحه، وبما يفرح شعبنا ويسره، ويثلج قلبه ويرضي نفسه ويسعده.
العينُ تناطحُ المخرزَ والمعدةُ تنتصرُ على السجانِ
أثبت الأسير خليل العواودة من جديد، كما كل إخوانه الأسرى والمعتقلين، الذين سبقوه بالإضراب عن الطعام، والإصرار على مواصلته، والثبات أمام أوجاعه، والصبر على آلامه، والمضي فيه حتى نهايته، شهادةً أو نصراً، وحريةً أو قيداً، أن الحق أقوى، وأن الإرادة أجدى، وأن السجان أوهى، وأن الاحتلال أقنى، وأن الفجر مهما تأخر نوره فسيطلع، ومهما ادلهم ليله فسينير، وشمسه في الصباح الجديد ستسطع، وستنشر خيوطها الذهبية من علياء سمائها إلى الأرض، وسينعم بدفئها الأبطال، وسيفرح بنورها الصابرون، كفرح المؤمنين بنصر الله الذي يتنزل عليهم.
أثبت خليل العواودة وإخوانه الأسرى أن الشعب الفلسطيني ليس ضعيفاً أو خائراً، ولا مستسلماً أو عاجزاً، ولا يائساً أو قانطاً، وإنما هو قويٌ بعد توكله على الله عز وجل، بإرادته الصلبة، وعزيمته الفولاذية، ويقينه الراسخ، وإيمانه الكبير، وتضحياته الواعدة، وزادت قوته وتعاظم بأسه بصبر أهله معه، وصمود شعبه إلى جانبه، ودعمهم له ومساندتهم لقضيته وإخوانه، إذ لم يتركوه وحيداً، ولم يتخلوا عنه ضعيفاً، وأصروا على الوقوف معه، ورفع صوره ونقل معاناته، وتسليط الضوء على حقوقه وفضح ظروفه، حتى تتحقق حريته، ويفرج عنه وإخوانه، ويغلق ملفه وتنتهي سياسة الأحكام الإدارية الظالمة.
ها هو خليل يترجل من على سرير المستشفى بطلاً، فارساً منتصراً، أسيراً محرراً، بعد أن قارب إضرابه عن الطعان الستة أشهر، وقد كان مصراً على المواصلة لو عاند الاحتلال، صامداً على موقفه وثابتاً على حاله ولو كانت فيها منيته، وقد رفض مناورات سلطات السجون، وفضح مماطلتهم، وصمم على مواجهتهم وهو يعلم أنه قد أصبح بقايا جسد، وشيئاً من الهيكل العظمي، وأن جسمه يتآكل ويتضاءل، وأن عضلاته قد ذابت، إلا أن عقله بقي يقظاً يعمل، وناشطاً يعي، وحافظ رغم الحرمان على ذهنه صافياً، وتفكيره متزناً، وموقفه راشداً، وحملت كلماته القليلة، وصوته الخافت، أعظم الرسائل إلى الأمة، وأسرعها وصولاً إليها، وأكثرها تأثيراً فيها، فبشرها بأن الذي نصره سينصرهم، وأن الذي مَنَّ عليه بالحرية سيكرمهم.
راهن العدو على خليل كما راهن على من سبقه أن يضعف ويركع، وأن ينهار ويخضع، وأن ينهي إضرابه ويخنع، وأن تنكسر إرادته فيتراجع عن مطالبه، وأن تخور قواه فينكفئ على ما انطلق من أجله، لكنه ما علم أن الشعب الفلسطيني يقاتل بكل ما يملك، وأنه يضحي بحياته ليستعيد أرضه ويحرر وطنه، وأنه في سبيل ذلك لا يتأخر في التضحية والفداء، وفي البذل والعطاء، ويقينه أن عيونه الضعيفة قادرة على الانتصار على المخرز المدبب، وأن أمعاءه الخاوية ومعداته الفارغة قادرة على هزيمة السجان وكسر إرادة الاحتلال، وأن النصر صبر ساعة، وهو حليف المضحين وعاقبة العاملين.
ما إن احتسى خليل العواودة أول فنجان شايٍ له بعد 172 يوماً من الصبر والصمود، حتى أعلن 1200 أسيراً فلسطينياً في مختلف السجون الإسرائيلية، عزمهم على خوض إضرابٍ مفتوحٍ عن الطعام، احتجاجاً على سوء أوضاعهم المعيشية، ورفضاً لممارسات سلطات السجون القمعية، وتمسكاً بالحقوق التي انتزعوها في السنوات الماضية، التي حرمتهم منها مصلحة السجون، وهي التي نالوها بالجوع والدم، وحققوها بالصبر والاحتمال، وأصدروا بيانهم الأول الذي أكدوا فيه عزمهم وإصرارهم، وأنهم لن يتراجعوا عن خطوتهم، ولن يوقفوا إضرابهم حتى يستعيدوا حقوقهم الاعتقالية المسلوبة.
ساعاتٌ قليلةٌ مضت قبل أن تعلن سلطات مصلحة السجون، والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، إعادتها لكامل الحقوق التي تم سحبها من الأسرى والمعتقلين، واستجابتها لكامل المطالب التي تقدموا بها، والالتزام بكافة الاتفاقيات التي تم التوصل إليها سابقاً معهم، مقابل تراجعهم عن إضرابهم، والامتناع عن القيام بأي خطواتٍ تصعيدية في السجون وخارجها، والإيعاز إلى شعبهم وفصائلهم أنهم استعادوا حقوقهم، وفكوا إضرابهم، وامتنعوا عن أي تصعيدٍ احتجاجي، خوفاً من حراك الشارع وعمليات المقاومة، وبهذا تحقق لأسرانا البواسل ما كانوا يتطلعون إليه، وحققوا أهدافهم التي كانوا سيضحون بحياتهم في سبيلها.
إنه نصرٌ جَرَّ نصراً، وعزةٌ استدعت عزةً وكرامةً، بدأها خليلٌ وتبعه إخوانه، وهم الذين ناصروه وأيدوه، وساندوه وساعدوه، فهنيئاً لخليل نصره، وطوبى له نجاحه، وسَعِدَ به أهله، وفرح له شعبه، وباهت به أمته، وافتخر به من سانده وأيده، ومن نصره وساعده، فما حققه في مواجهة العدو رسالة له صريحة وواضحة، قوية ومباشرة، أنه يخطئ إن ظن أنه بسلاحه أقوى، وأنه بجبروته قادرٌ على أن يخضع الشعب الفلسطيني ويركعه، وأنه بممارساته القمعية ضدهم يستطيع أن يفرض عليهم ما يريد، وينال منهم ما يتمنى، فهذا الشعب سيبقى عصياً عليه، متمرداً على عصا الاحتلال وإن غلظت، ومصمماً على الانتصار عليه والوقوف في وجه وإن ظن أنه الأقوى والأقدر، فسلام الله عليك خليل، أنتم السابقون، وإخوانك من بعدك اللاحقون.
7. الفلسطيني في وطنه علامةُ وجودٍ وثباته نصرٌ موعود
لا شيء أعظم مقاومةً في فلسطين المحتلة، وأدعى إلى النصر والتحرير، وأقرب إلى العودة والتمكين، وأكثر ألماً للعدو ووجعاً له، وأشد خوفاً على مصيره وقلقاً على وجوده، من ثبات الفلسطينيين في أرضهم، وتمسكهم بحقوقهم، وصمودهم أمام ممارسات العدو وسياساته، وإصرارهم على مواجهته، وتحديهم لجبروته، وإذلالهم لجيشه، وصبرهم على معاناتهم، ويقينهم بانتصارهم، وثقتهم بمقاومتهم، واطمئنانهم إلى حتمية انتصارهم وزوال الاحتلال ورحيله، وطي صفحته وتفكيكه.
الفلسطينيون الباقون في وطنهم بقاء جبالها وسهولها، وبحرها وسمائها، والمتجذرون في عمقها تجذر أشجار زيتونها، والمنتشرون فيها انتشار زعترها وعوسجها، والمتضوعون عطراً في أرجائها عبق ياسمينها وأريج زنبقها، سيبقون أبداً شوكةً في حلق الاحتلال حتى يرحل، وصخرةً في وجهه حتى يتفكك، وسداً منيعاً يفشل مشاريعهم، ويبدد أحلامهم، ويحبط آمالهم، وينهي وجودهم مهما كانت قوتهم وعظمت قدراتهم تفوقت أسلحتهم، وأياً كان حلفاؤهم ورعاتهم ومؤيدوهم ومناصروهم.
الفلسطينيون باقون في حيفا ويافا، وفي عكا والناصرة، وفي الخضيرة والعفولة، وفي اللد والرملة، وفي القدس والنقب، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي المثلث ووادي عارة، وفي كل مكانٍ في فلسطين سيبقون، وفي كل بقعةٍ من أرضها سيكونون، وفي جنباتها سينتشرون، ولن يوقف امتدادهم عدو، ولن يحول دون بقائهم في أرضهم عسفٌ أو ظلمٌ، ولن يقوى متطرفٌ صهيوني أو يمينيٌ إسرائيلي من طردهم وترحيلهم، وسيتبدد حلمهم في قطار الترحيل، وسيموت مشروع "الترانسفير"، وسيولد مكانه حق الفلسطينيين في أرضهم وحدهم، وحينها سيخلق مشروع الترحيل المضاد و"الترانسفير" المعاكس، الذي سيكون يهودي الوجه صهيوني الهوية.
تراقب الإدارة المدنية الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة أعداد المواليد الفلسطينيين، وترفع تقاريرها اليومية إلى حكومتها وسلطاتها الحاكمة، وتكشف لهم عن عمق قلقها وشديد استغرابها من المتوالية الهندسية في أعداد المواليد الفلسطينيين، ويزيد في قلقها عدد المواليد الذكور الذين يفوقون بصورةٍ لافتة أعداد المواليد الإناث، وتذكر تقاريرهم أن هذه الظاهرة تشير إلى ظاهرةٍ عامةٍ وليست خاصة، وأنها حالة دائمة ومتجددة وليست طارئة أو عابرة، وأن أعداد الفلسطينيين في "مناطق الصراع" ستتجاوز في السنوات القليلة القادمة أعداد "اليهود" عموماً في فلسطين المحتلة.
أما عين وزارة داخلية الاحتلال فهي مفتوحة كلياً على الفلسطينيين القابضين على الجمر في الأرض المحتلة عام 1948، فهؤلاء لا يقلون خطراً عن فلسطينيي العام 1967، بل إنهم أشد خطراً على كيانهم، وأعدادهم المتزايدة كماً ونوعاً تقلقهم أكثر، فهم يمثلون اليوم نسبةً تتجاوز ألــــــ 10% من سكان الكيان، ولهم ممثلون وطنيون عنهم في "الكنيست الإسرائيلي"، وقد يصل عدد نوابهم إلى أكثر من 13 نائباً، وهم كبقية شعبهم في فلسطين التاريخية، يتزوجون مبكراً، وينجبون أكثر، ويعتزون بعدد أولادهم وزيادة نسلهم، ويفتخرون بكثرة أنسبائهم وسواد عشائرهم.
الهوية الوطنية الفلسطينية اليوم في فلسطين كلها تتشكل بقوةٍ كما لم تكن في أي وقتٍ مضى، وتتعمق في الأرض كما لم تكن في تاريخها، وعياً وفهماً وعقيدةً وانتماءً، فهم يصبغون أرضهم ويلونون بلادهم، وينغرسون فيها عميقاً، وينتشرون فيها بعيداً، وسحناتهم تتقدم، وأزياؤهم الوطنية تسود، ولغتهم العربية تعلو، ودينهم الإسلامي والمسيحي يسمو، ولا يفت في عضدهم جرائم القتل اليومية التي يمارسها العدو ضدهم، ولا عمليات التصفية والإعدام، أو قرارات التوقيف والاعتقال، والطرد والإبعاد، ولسان حالهم يقول أن الشهيد يعوض بألف طفلٍ وطفلٍ، والأسير من خلف الجدران ومن زنازين العزل يهرب نطفه ويرسل بعضه، فينجب من سجنه أطفالاً يحملون رسالته، ويرثون هويته، ويثبتون حقه، ويقارعون العدو بقوةٍ وبسالةٍ أكثر منه.
ظن العدو أن ثقافة اللجوء عند الفلسطينيين باقية، وأن سياسة النزوح عندهم موجودة، وأنهم عند كل حربٍ أو معركة، أو خلال أي عدوانٍ أو اجتياح، يهربون من بلادهم، ويتخلون عن دورهم، وأنهم سيكررون من جديد تجربتي اللجوء والنزوح كما في حربي النكبة والنكسة، وما علموا أن الفلسطينيين قد شطبوا من حساباتهم وأخرجوا من دائرة تفكيرهم مثل هذه الأفكار.
فهم لن يكرروا أبداً تاريخهم، ولن يعيدوا أخطاءهم، وسيبقون في أرضهم ولو زلزلها العدو تحت أقدامهم بسلاحه، أو أحرقها ودمر بنيانها بصواريخه، ولعل العدو قد أيقن تماماً أنه لن يتمكن من طرد الفلسطينيين مجدداً من أرضهم، ولن ينعم بتحقيق حلمه القديم "أرضٌ أكثر وسكانٌ أقل"، فهذا الشعب سيبقى، وأرضهم ستعود، وشعبهم إليها سيعود، ودولتهم فيها ستعلن، وعلمهم في سمائها سيرفع، وأذانهم في أقصاها سيصدح، كما أجراس كنائسها فيها ستقرع.