يعدّ الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين (1942 ـ 2022)، الذي فارقنا يوم الأحد 11 سبتمبر/ أيلول، من التجارب الشعرية التي أثرت المشهد الثقافيّ اللبناني والعربيّ في آن، لما أبدعه من نصوص طبعت تجربته، وجعلته يفرض نفسه منذ سبعينيات القرن الماضي. هو من شعراء قرية بيت ياحون الواقعة في الجنوب اللبناني، الذي خرج منه شعراء منهم: إلياس لحود، وحسن عبد الله، وشوقي بزيع، وجودت فخر الدين، وغيرهم من المبدعين والفنّانين. تبدّت لدى الشاعر الراحل خصوصية الرؤيا التي بلورها من خلال استمراريّة تجربته، فكانت له قدرة العمل على تشكيل نصوصه، وبناء جماليّتها، كما أنّه كان متميّزًا، لغة ومضمونًا وتخييلًا. بالإضافة إلى ذلك كلّه، لا يمكننا أن ننسى أنّ شمس الدين كان شاعرًا مقاومًا ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ.
تمكّن الشاعر الذي يعدّ رمزًا من رموز الشعر اللبنانيّ، من القبض على اللحظة الشعريّة، فكتب أجمل النصوص التي أثّرت في قرّائه، وبلغت فهمهم، وحاكت عقولهم، وذلك من خلال قدرته على ابتكار المعاني والدلالات المكثّفة النابعة من رؤيا خاصّة، هو الذي لطالما كان يشتغل على أنساق اللغة من دون أن يفقد شعريّته، أو أن يصطنع نصوصه. وقد كانت لديه الحنكة في صياغة المعنى بتراكيب تشكّل إطارًا للأفكار والأخيلة، وهذا دليل على عمق التجربة، ومؤشر على فطنة الشاعر واحترافه في كتابة الشعر خصوصًا. تمتّع شمس الدين بروح إنسان شغوف للثقافة والمعرفة، وهو لم يتوقف عند الشعر والنثر الإبداعيّ فقط، بل كانت له مقالات في الصحف العربية واللبنانية.
هذا الشاعر الحائز على إجازة في الحقوق، ودكتوراة دولة في التاريخ، كان من المثقفين المقاومين، وقد طبعت تجربته الشعر العربي الحديث، واقتدى بمساره عدد من الشعراء الشباب، من أبناء هذا الجيل، فاشتغل على كتابة نصوص تشبهه، فنصوصه هي قصائد متينة ذات جودة إبداعية ظهرت منذ ديوانه الأول "قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا"، وصولًا إلى الدواوين الباقية التي احتوت منجزاته، وقد بدا جليًّا الاشتغال عليها.
من مؤلفاته نذكر هنا: "أما آن للرقص أن ينتهي"؛ "أمير الطيور"؛ "النازلون على الريح"؛ "كرسي على زبد". وقد صدر له عام 2021 "للصبابة للبلبل وللملكوت (قصائد في الحب)" عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، بالإضافة إلى دواوين أخرى لم نأتِ على ذكرها. قبل وفاته بحوالي شهر، كتب الشاعر عبر صفحته على "فيسبوك" هذه القصيدة، وكانت من أواخر ما نشر، وهي بعنوان "هنا/ هناك":
عليك أن تغادر المكان/ عليك أن تغادر الذين طالما ألفتهم/ كرسيك الذي جلست فيه/ مهد أمك التي رأتك فيه مثل نجمة الزمان/ ونسرك الذي تحب أن تكون مثله/ وكلبك الذي تحب أن تدعوه "بيدبا"/ وعندليب حزنك المقيم فوق أيكه/ ونهد طفلة أحببتها/ يكاد أن يفر من قميصها/ كحبة المرجان/ عليك أن تغادر الفصول/ أن يدوس نعلك الردى/ وما غرست من ورودك التي سميتها على اسم فلة الربيع/ شوكة الخريف/ أو شقائق النعمان/ عليك أن تذوب في المدى/ كنقطة الدخان/ وأن تغيب في البحار./ لا صدى/ ولا تعود.
وكتبت رباب شمس الدين، ابنة الشاعر، هذه الكلمات المؤثّرة الطالعة من أعماق الحرقة والحزن:
لم تعلمني كيف تكفن القصيدة/ وقد غسلناها بدمع المحاجر/ ولم تعلمني كيف يدفن الشعر/ ولم تخبرني أن للشعر مقابر/ حفرت كل تراب بيروت يا أبي/ فما وسعتك بيروت يا أيها الشاعر/ فأين أواري جسدك المقدس/ وكيف ترثيك في الموت المنابر.
يرى محمد علي شمس الدين أنّ الشعر العربيّ تأثّر بالغرب، وهو ما زال يمرّ بتحوّلات عظيمة، وها هو يعيش مرحلة ما بعد الحداثة، حيث تشظّت النصّوص في هذه الفترة، ولبنان كوعاء يحتوي هذا التشظّي، كذلك في هذه المرحلة أيضًا برز رفض المألوف والاهتمام بالهامشيّ. كذلك يدعو الشاعر إلى التأمّل في القصائد، واكتشاف مكوّناتها، لأنّ الشعر بالنسبة إليه كالمولود الذي يتكوّن من جينات طويلة المدى، إشارة منه إلى تطوّر الشعر عبر العصور منذ الجاهليّة وحتى يومنا هذا. ويعد أنّ الشعر لا يقارن إلا بنفسه، فهو فنّ عريق يفهم على ضوء التاريخ والفلسفة. ويضيف بكلامه عن الشعر عبر العصور عادًا إيّاه كالنهر، ونهر الشّعر هو نهر الحياة في أثناء جريانه قد يصبح قويًّا عارمًا وقد يتشعّب ويخفّ ماؤه وقد يفيض، لكنّه دائم الجريان.
واللغة كنز بين يدي محمد علي شمس الدين، يتصرف فيها كما يشاء، يستخدم مفردات تستهويه، ويرمي بعضها تبعًا لما يتماشى مع حاجته، وهذا ما ميّز نصوصه وجعلها فريدة من نوعها.
وقد ضجّت الصحف ووسائل التواصل الاجتماعيّ بخبر رحيل شاعرنا المأسوف عليه. وندرج من بين كلمات الرثاء ما أصدره "اتحاد الكتاب اللبنانيين"، حيث نعى الشاعر بهذا النص الموجز:
"كلما مات عالم ترك ثلمة في ميادين العلم والمعرفة، وكلما مات شاعر ترك أثلامًا في بحور الإبداع والفن والثقافة. الشاعر البهي الطلعة، عميق الفكرة، بعيد التطلع، المجدّد في الشعر والمتجدّد مع رقي الكلمة، الشاعر الذي شغل دنيا الوطن والعرب بقصائده المميّزة، طوى رحلة الفناء، وذهب مطمئنًا إلى دنيا الخلود، حيث العدالة الإلهية، وحيث جنات النعيم التي هي حلم كل إنسان. الخسارة الوطنية والفكرية فادحة، وخسارة اتحاد الكتّاب الّلبنانيّين كبيرة برحيل هذه القامة الباسقة. لكن ما يعزينا أنّ أثره وتراثه سيبقيان ذخرًا للأجيال، ومنارة للشعراء، وطلائع الإبداع. رحم الله الشاعر المجلّي محمد علي شمس الدين، ودعاؤنا أن يكون مسكنه في جنات النعيم. إننا في اتحاد الكتّاب الّلبنانيّين، نتقدم من عائلته وأسرته ومحبيه وإخوانه وأخواته أعضاء الاتحاد بأحرّ التعازي القلبية، سائلين الله أن ينعم على الجميع بالصبر والسلوان، وأن يتغمّد الفقيد الكبير بواسع رحمته".
عن (ضفة ثالثة)