أمس، لجأ «مجنون» السينما إلى إنهاء طوعي لحياته وفق محامي العائلة. انسحب بهدوء في منزله السويسري بعدما «تعب من الحياة». رائد الموجة الفرنسية الجديدة الذي تمرّد على كلاسيكية السينما، وانخرط في مغامرة تجريبية لم تنفصل يوماً عن الهمّ السياسي والاجتماعي وقضايا عصره، طبع تاريخ الفنّ السابع بصفته مخرّباً، راديكالياً حتى «آخر نفس»
غريبة هي علاقتنا بجان لوك غودار (1930-2022). لم نسأل أنفسنا يوماً كم يبلغ من العمر. لم نتخيل أبداً أنّ هذا الرجل سيموت. على الرغم من أنه لم يغادر منزله في رولّ في سويسرا منذ سنوات، إلا أنّ غودار بدا كأنه «بروسبيرو» الساحر الذي تخيّله شكسبير في «العاصفة» الذي يظهر من حين إلى آخر في أعجوبة جديدة. في فيلمه الأخير «كتاب الصور» (2018)، ودّعنا من دون أن نلاحظ ذلك. في هذا العمل، قدّم مقالاً مصوّراً: تاريخي، سينفيلي، أدبي، موسيقي، فلسفي، فوتوغرافي، اجتماعي، إيديولوجي. صور، مشاهد فيديو، تقارير إخبارية، اقتباسات صحافية، مشاهد من أفلام، مناظر طبيعية، موسيقى كلاسيكية، صوت بدون صورة، وصوت غودار يعلو على كثير مما سبق. احتل صوته مساحة الفيلم والصالة كلها، كأنه يودعنا ويقول في الوقت نفسه «إنني باقٍ هنا». في هذه الفوضى العارمة الخلّاقة، في الفن والسينما التي لا يمكن تفكيكها عن أي شيء وعن كل شيء.
غودار هو السينما التي أصبحت إنساناً. هو الذي قال إنه عرف الكثير عن السينما، إلى درجة أنّه لم يستطع تعريفها إلا على أنها لغز. لعلّ غودار ليس السينما نفسها، لكنه الإنسان الأقرب إلى تحقيقها. لهذا السبب، إذا كان علينا أن نعرّف جان لوك غودار، فسنقول إنه لغز أيضاً: من عابد للسينما الأميركية الكلاسيكية، إلى صانع أفلام اشتراكي في أواخر الستينيات، ثم صانع أعمال فيديو. العلامة الرئيسة لغودار كمخرج هو التغيير الثوري. هو مدمّر سينمائي يستخدم كل أدوات السينما وأشكالها ومواضيعها، ليعدّلها ويخلق شيئاً جديداً منها. بعد العثور عليها، سيعود ليجد طريقة لعكسها، من دقيقة صمت أو سؤال على الشاشة، إلى عنوان فرعي يتعارض مع الحوار الذي يوضحه. مع غودار كما في السينما، يمكن أن يحدث كل شيء. فهو خالٍ من الروابط، صنع سينما خاصة به، مستعد دائماً لتكييفها، وقادر على الدفاع عن حريته الأسلوبية ووضع بصمته بين مؤسّسي مجلة «دفاتر السينما» و«الموجة الفرنسية الجديدة».
يقرّبنا غودار من سينما الاستكشاف والجمع والتجريب. عمله السينمائي عبارة عن حاوية يمكن إضافة عناصر فلسفية أو فنية أو أي عناصر أخرى إليها، باستخدام عملية التجميع في الموسيقى أو الرواية أو الشعر أو الرسم. بالإضافة إلى ذلك، يصرّ على إعادة صياغة نصوصه ونصوص الآخرين. أقل شيء أهمية للمخرج هو الخط السردي. يفجّره إلى شظايا، إلى فصول، إلى قصة خيالية ناقصة. يفصلها بطرق مدهشة، ويملأها بالاستفياءات أو الاستعارات أو المقارنات التي يمزج فيها تعدد اهتماماته. يبدأ من السينما التقليدية ليغيّرها ويعيد صياغتها. ويطبق الشيء نفسه على الأنواع السينمائية، وفيلم «بيارو المجنون» دليل جيد على ذلك. به ربط المغامرات بالحركة بالدراما بالحبكة البوليسية وجرائم القتل والمشاهد الموسيقية في النهاية. فيلمه يثير المشاعر التي يتطلّع غودار إلى إيقاظها. يستخدم السينما ليس فقط للرواية، لكن أيضاً للتأمل والتفكير والربط والتنوير وتفجير الحواجز.
فيلموغرافيا غودار كتبت بشكل مكثف ومتعمق. نحن نتحدث عن مخرج أراد أن يصوّر السينما ونقيضها، كل السينما بما في ذلك السينما الأخرى. نظام أساسي جديد يجمع بين المفكر والمبدع والتحليل والتقنية والفنان والرجل العاطفي المنخرط في صراع سياسي ونضال جمالي وحب للمرأة لا ينتهي. أفلامه مكان لخلق الصورة أثناء بناء الأفكار، مساحة يبرز فيها المونتاج وسيولته وارتباطه وحريته في الاقتباس وترتيب القصص. غودار مصمم على التفكيك وإعادة التأطير أو العودة لرؤية ما لم تتم رؤيته أو تركيبه من دون رؤيته.