لا تنحصر علاقة السينمائي جان لوك غودار بالفلسطينيين في مرور سريع أو متمهّل لقضيتهم في أكثر من فيلم، منذ مرحلته في الثمانينيات (مرحلة ما بعد «الموجة الجديدة» والثورية) حتى الأخيرة، وجميعها سياسية شكلاً، إن لم تكن مضموناً، وقد تغيرت أساليبه ومواضيعه وتفاوتت وتجددت على مراحل في العقود السبعة من صناعته للسينما، منذ ستينيات القرن الماضي التي أسّس فيها مع غيره «الموجة الجديدة» قبل أن يتركها متوجهاً إلى مخيمات الفدائيين في فلسطين، في مرحلته الماوية (بدءاً من 1969) ليعيش معهم ويصنع أخيراً فيلماً سيصير اسمه «هنا وهنالك» (Ici et Ailleurs) بعدما كان الاسم «حتى النصر».
كتب غودار بياناً سينمائياً فكرياً سياسياً في مجلة «فتح» عام 1970، الفترة التي أمضاها في عمّان بين الفدائيين. شرح في البيان المطوّل منهجه في صناعة سينما ثورية فلسطينية، وأسباب مجيئه إلى الفلسطينيين، وقدم تعريفاً ثورياً للسينما، مفهوماً وصناعةً ووظيفة. نشرت «رمّان الثقافية» البيان يوم رحيله (13/9/2022). لكن وثيقة أخرى غير متاحة، نشرتها صحافة الثورة، («الهدف» 1970) المجلة الصادرة عن «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» نقلاً عن صحيفة «الأكسبرس» الفرنسية من خلال مراسلها في عمّان، وكانت مقابلة مختصَرة مع المخرج الثوري الفرنسي السويسري، وكان لها عنوان هذه المقالة «غودار عند الفدائيين».
تمحور اللقاء حول العمل السينمائي الذي يسعى له غودار بين الفلسطينيين، وتحديداً إنجاز فيلم نضالي طويل ملوّن (16 ملم) عرّفه غودار في المقابلة بأنّه سيكون «فيلماً سياسياً، أو بالأحرى تقريراً سياسياً» بعنوان «أساليب التفكير والعمل في الثورة الفلسطينية» ويقدّم «تحليلاً سياسياً للثورة الفلسطينية». ورد العنوان الذي سيصير أخيراً «هنا وهنالك» بهذه الترجمة في المقابلة المنشورة في «الهدف» أما الترجمة الأقرب للأصل الفرنسي فكان ما ورد في البيان المنشور وهو «منهج تفكير وعمل حركة التحرير الفلسطينية» (البيان منشور بالفرنسية في La Palestine et le cinéma، وبالعربية في كتاب سيصدر قريباً بعنوان «فلسطين في السينما»).
طلبت اللجنة المركزية للثورة الفلسطينية، يقول غودار (والمقصود «حركة فتح») منه القدوم وإنجاز فيلم عن الثورة. كان غودار وقتها ضمن مجموعة «دزيغا فيرتوف» السينمائية الثورية مع جان بيير غوران، وكانت للمجموعة أفلام ثورية ماركسية منها «برافدا» و«النضال في إيطاليا» و«فلاديمير وروزا» صُنعت بين 1970 و1971.
لا يسعى غودار في فيلمه «إعطاء دروس، بل أخذ دروس من أناس متقدمين علينا» فهو يحاول «استخدام التقنية والخبرات الفنية، من أجل التعبير عن أفكار الثورة الفلسطينية». وفي البيان المذكور، يكتب غودار في ذلك قائلاً «نحن متأخرون عشرات السنوات عن أول رصاصة أطلقتها العاصفة» معطياً الأولوية للعمل الثوري على العمل السينمائي والفكري. يحدّد غودار لفيلمه هذا هدفين: أولهما «مساعدة الأشخاص الذين يناضلون بشكل أو بآخر ضد الإمبريالية في بلدانهم المختلفة» وثانيهما «تقديم نوع جديد من الأفلام، نوعٍ من الكتيّب أو المنشور أو الملف السياسي». وفي توضيح فكرته، قال إنّهم، أي العاملين في الفيلم، لا يحاولون عرض صور، بل عرض العلاقات ما بين الصور، بذلك يصبح الفيلم سياسياً، وهذه العلاقات تذهب في اتجاه الخط السياسي للقيادة الموحدة للثورة الفلسطينية، يضيف بأن ذلك سيستغرق وقتاً، فالفلسطينيون «في حالة حرب شعبية طويلة الأمد، وليس هنالك سبب إلا بأخذ هذا الفيلم وقتاً كافياً».
استغرق الفيلم فعلاً وقتاً طويلاً جعل بعض العاملين في السينما من الفلسطينيين يستغربون عدم إنجاز غودار لفيلمه، وقد منحوه ما احتاج من الوقت والمواد واللقاءات. وقد أشارت مقالة بعنوان «غودار ومجموعة دزيغا فيرتوف: السينما والديالكتيك» («فيلم كوارترلي» 1972) إلى أن هذا التأخير يعود إلى حادث سير تعرض له غودار، وأساساً إلى الأحداث في الأردن وخروج الثورة منها ودخولها مرحلة جديدة، وإلى تريّث المجموعة في العمل على الفيلم اللازم، لضرورة المراجعة الفكرية، بسبب تعلقه بمراحل تطور الثورة، فلا يكون متعجّلاً. لكن ما قاله غودار في حواره المذكور، كان سابقاً لكل تلك الأسباب التي ما أثّرت سوى في إطالة فترة الانتظار وحسب، انتظار كان ضرورة منهجية، ليخرج الفيلم أخيراً عام 1976.
أما الصعوبات في إنجاز الفيلم فكانت من داخله لا من خارجه، وقد أتت من فهم غودار لطبيعة الفيلم المتمثلة في عنوانه الأولي، فقال إنّ «الصعوبات تأتي لكون الفيلم لا يخرج بدافع التعاطف السياسي، بل جراء مناقشات سياسية. ويشترك أعضاء المقاومة الفلسطينية في إخراج الفيلم» موضحاً أن الفيلم يُناقَش باستمرار في كل طور من أطواره. لكن العمل على الفيلم، وكذلك المقابلة، تزامنا مع تواتر وتسارع الأحداث في الأردن، وعنها قال غودار إنّها «سمحت بتحديد الأمور، نحن ندرس أساليب تفكير وعمل الثورة الفلسطينية. إن تميز الثورة الفلسطينية وجدتها تخيف الأنظمة القائمة في الشرق الأوسط وحماتها، الروس والأمريكان». هو ما يفسر الطبيعة التي أرادها غودار لفيلمه، في جدلية علاقتها مع الواقع الراهن والمتغير للثورة، ما جعل فيلمه أقرب للمقالة السينمائية التحليلية المتعمقة، أما ما تضمنه الفيلم كما خرج أخيراً، من مَشاهد تُجري مقاربات بين عائلة فلسطينية في المعسكرات ومع السلاح، وأخرى فرنسية في البيت أمام التلفزيون، كان ما أكمل الفيلم بصيغته النهائية وتأملاته الفكرية، وهو ما أوصل إليه الانتظار لستّ سنوات، وهو ما طوّر في العنوان بنسخه الثلاث.
سيصير الفيلم واحداً من أبرز الوثائق السينمائية التي قاربت الثورة الفلسطينية في السبعينيات، وأبرز الوثائق التي قاربت الفعل الثوري سينمائياً وعالمياً، وذلك قبل أن يكمل غودار مشواره وتجاربه السينمائية والفكرية التي واصلها في ما يمكن توصيفه بإعادة خلقٍ للسينما في مفهومها وجمالياتها ومقارباتها، في إعادة تفكيك السينما وتركيبها بين فيلم وآخر، إلى أن رحل قبل أيام.
كاتب فلسطيني سوري
عن )القدس العربي(