يكشف لنا الكاتب والباحث الأردني المرموق عن الجدل بين العولمة والأزمة المالية العالمية ويعري أكذوبة الحرية وحركية الاستغلال الجديدة وهي تنقل أزمات رأس المال، والاتجاه الواحد لعمليات نزج ثروات الجنوب وكيف يدفع الفقراء ثمن الأزمات المالية، وكيف تدافع الرأسمالية عن وحدة السوق على حساب المجتمعات وتفتيت قضاياها وتخريبها.
من العولمة الى الأزمة المالية العالمية
أكاذيب الأغنياء وخيارات الفقراء
هشام البستاني
"العولمة" مصطلح شاع وانتشر بشكل كبير، وصار يساء فهمه وتفسيره حتى من قبل المثقفين. للعولمة معنى اصطلاحيا محددا هو رفع كل الضوابط والقيود والمعيقات أمام حركة رأس المال، ورفع كل اشكال الحماية والدعم عن الصناعات المحلية والسلع الاساسية، وغالباً ما تتم هذه الحركة الرأسمالية من دول الشمال الغنية بشركاتها القوية ذات الميزانيات بالغة الضخامة، نحو دول الجنوب الضعيفة اقتصاديا وسياسيا والتي ينغل فيها الفساد ولا تتوفر فيها النظم القانونية المتطورة، وحتى ان توفرت مثل هذه النظم فهي ليست ذات معنى، فدول الجنوب في العموم ليست دول قانون.العولمة اذاً هي آلية وليست كياناً، آلية لكيان هو رأس المال والنظامالاقتصادي الرأسمالي الذي أخذ شكلا متوحشاً اثر انهيار الاتحاد السوفيتي ونموذجه الاشتراكي تاركاً الساحة لقوة عالمية عظمى واحدة هي الولايات المتحدة بايديولوجيا رأسمالية بالغة العدوانية، تتحرك في العالم تحت عناوين مختلفة كاذبة.
كذبة "الحريّة"
الشعار الرئيس لاقتصاد السوق هو "الحرية": حرية التجارة وحرية حركة رأس المال وحرية تدفق البضائع، وهي كلها كذبات كبرى هدفها نقيض الحرية حتى بالمعنى الاقتصادي، فلاقتصاد السوق هدف وحيد هو الاحتكار – كيف؟ في حين تطلب دول الشمال من دول الجنوب رفع الدعم والحماية عن الزراعة (وهو خلاف رئيسي بينهما في منظمة التجارة العالمية)، تدعم دول الشمال الزراعة فيها بكثافة (مثلا تصرف الحكومات الاوروبية على كل بقرة لدى مزارعيها ما معدله 2 يورو يومياً)، وفي حين تطالب دول الشمال برفع الحواجز الجمركية والحمائية عن صناعات دول الجنوب، تقوم هي بحماية صناعاتها بتدخل واضح من الدولة، والامثلة كثيرة: حماية الولايات المتحدة لصناعة الصلب لديها مما ادى الى خلافات مع الاتحاد الاوروبي، "تأميم" الحكومة الفرنسية لشركة "سويز" للطاقة بعد ان تدخلت لدمجها في شركة "جاز دو فرانس" منعاً لاستحواذ شركة "انيل" الايطالية عليها، عرقلة الحكومة الاسبانية لعملية شراء شركة مدريد للطاقة من قبل مجموعة "إي أو ان" الالمانية، تدخل حكومة الولايات المتحدة لمنع شركة اماراتية من شراء حقوق ادارة بعض موانئها.
ان "الحرية" المطلوبة هي باتجاه واحد فقط، من الشمال الى الجنوب، للاستحواذ على مزيد من الاسواق ومزيد من الموارد ومزيد من العمالة الرخيصة، أي تحويل العالم الثالث الى مجرد اسواق لتصريف البضاعة ومنابع للعمالة الرخيصة غير المحمية. وحتى لو كان باب الشمال مفتوحاً، فكم دولة عالمثالثية تستطيع منافسة شركات عملاقة مثل نستلة او كوكا كولا او بروكتر اند جامبل؟ كم شركة اردنية مثلاً استحوذت على قطاعات استراتيجية في فرنسا في مقابل استحواذ رأس المال الفرنسي على شركة الاتصالات الاردنية (فرانس تيليكوم) ومصنع الاسمنت (لافارج) وكلاهما قطاعان استراتيجيان يدخلان في حيز الأمن الوطني؟
"الاستثمارات الأجنبية": نقل أزمات رأس المال
ان حركة رأس المال من المراكز الى الاطراف تحقق نقلاً لأزمة الاستغلال الناشئة بينه وبين العمال، فيتم نقل الأزمة من دول منشأ رأس المال الى دول الاطراف، كما يستعمل رأس المال هذه الحركة لابتزاز عمال المراكز. كيف؟ سنأخذ مثال المناطق الصناعية المؤهلة في الاردن حيث تعمل مصانع الالبسة هناك لرفد السوق الامريكي بالمنتجات. المتعاقد الرئيسي هو رأس المال الامريكي (شركات عملاقة مثل رالف لورين، بوس، فيكتورياز سيكريت، جاب..الخ)، ومن خلال متعاقدين فرعيين في بلد طرفي هو الاردن تصنع الألبسة هنا بأجور بالغة في الاستغلال وظروف عمل بالغة في الانحطاط.
ان الاحتجاجات والاضرابات العمالية التي تشتعل بشكل شبه يومي ويقوم بها العمال المستغَلين في المناطق الصناعية المؤهلة (واغلبهم من بنغلادش والصين والهند شحنوا للعمل في الاردن لتحقيق استغلال مزدوج) تحدث في الاردن لا في الولايات المتحدة، ويضطر الاردن لتحمل تكاليف التعامل معها وامتصاص آثارها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما ان الرواتب الاستغلالية البالغة الانخفاض لهؤلاء العمال تشكل مصدر ابتزاز لعمال اوروبا واميركا: يقول الرأسمالي للعامل هناك "اذا لم تخفض اجورك وتزيد ساعات عملك وتتخلى عن حقوقك النقابية (وكلها دفع العامل الاوروبي والامريكي ثمنها دما وتاريخا طويلا من النضال)، فسآخذ المصنع وأذهب الى الأردن أو الصين أو أي بلد عالم ثالثي آخر". هكذا يحقق رأس المال انتصارا مزدوجا: يستغل عمال المراكز والاطراف بابتزازهم للرضوخ لشروطه، ويضعهم بعضهم في مواجهة بعض (يظن العامل الامريكي ان عدوه المباشر هو العامل الصيني) بدل ان يتحد الاثنان لمواجهة مصدر الاستغلال والابتزاز.
الأزمات المالية: الأغنياء والفقراء وتحرير الأسواق
الازمات المالية هي ازمات يسببها الاغنياء، ويدفع ثمنها الفقراء – وأقصد هنا بدفع الثمن لا تحمّل النتائج فحسب، بل تمويل هذه الأزمات من جيوبهم بالذات، هذا هو المنطلق الاساسي لأي حديث عن أزمات مالية، وهنا يجب أن نفرقها عن الازمات الاقتصادية، من حيث أن الاولى (الازمات المالية) تتعلق بالمضاربات المالية وحركة النقد وترتبط برأس المال المالي المتجمع في البنوك أو صناديق الادخار أو اية أطر شبيهة، وتعتمد في جني الارباح لا على النشاطات الانتاجية بشكل أساسي بل على المضاربات المالية في أسواق الاسهم والنقد والسلع، بينما تتعلق الثانية (الازمات الاقتصادية) بقوى الانتاج وعلاقات الانتاج وهياكله وتشمل القوى المنتجة والمالية على حد سواء.
رأس المال المالي يتأتى عن ثلاث طرق:
الأول هو التراكم الرأسمالي الناتج عن ارتفاع فائض القيمة (وهو الفرق بين سعر بيع السلعة وكلفتها الفعلية) نتيجة للخفض الهائل في كلف الانتاج. إن الاستغلال الهائل للعمال عن طريق خفض اجورهم الى حدود غير معقولة أو نقل الانتاج (وفي بعض الحالات نقل العمال أنفسهم – مثل المدن الصناعية المؤهلة في الاردن) الى بلاد أو مناطق يسهل فيها استغلالهم ولا يتمتعون فيها بضمانات قانونية؛ ورفع ساعات العمل من 8 ساعات الى 12 و 14 ساعة يوميا دون دفع اي اجور اضافية بحجة أن هذه هي "متطلبات العمل"؛ وأخذ العمل الى المنزل؛ وتنمية "الهوية الشركاتية" Corporate Identity كبديل عن هوية العامل ليصبح انتماء العامل الى شركته أقوى من انتماءه الى أي شيء آخر وذلك لتسهيل استغلاله من قبل الشركات؛ وتوظيف العمال بعقود سنوية ليظلوا تحت خطر فقدان العمل؛ ومكننة العمل لتقليل الاعتماد على العنصر البشري؛ وتجاوز متطلبات الحفاظ على البيئة التي ترفع كلف الانتاج... كل هذه الوسائل وغيرها، خفضت كلف الانتاج الى حدود لم تكن مسبوقة في التاريخ، وهو ما ادى الى تراكم ضخم لرأس المال المالي الناتج بشكل مباشر عن عرق الاكثرية العاملة، في حسابات الأقلية الثرية.
الثاني هو تراكم أعداد كبيرة من الادخارات الصغيرة التي يقوم بها صغار المدخرون في البنوك أو في صناديق الادخار والتقاعد، منتجة بالتالي رأس مالٍ مالي كبير لا يملك اصحابه السيطرة عليه، بل من يسيطر عليه هم كبار الاثرياء من اصحاب البنوك والمؤسسات المالية الذين يستعملون هذه الاموال في عملياتهم دون الرجوع الى اصحابها ودون حساب مصالحهم.
الثالث هو الاستهلاك بالقوة، أو خلق الطلب. الحاجة هي ما تحفز عادة الطلب، ولكن التنوع السلعي الهائل الذي نتج عن تطور الرأسمالية وتراكم فائض القيمة، جعل رأس المال يبحث عن آليات لتصريف هذا التنوع السلعي الهائل من جيوب المستهلكين الذين هم في الاصل عمال لديه! ولذلك بتنا نرى آليات تسويق "هجومية" تؤدي الى تغيير انماط الحياة وتشكيل الاحلام واعادة بناء المفاهيم والوعي لتتمحور كلها حول الفرد وخلق رغبات لهذا الفرد لا تُشبع، ولا يشعر بالتحقق، الا بـ"الامتلاك": امتلاك السيارة والمنزل والموبايل والملابس المعلن عنها في وسائط لا تتوقف عن ان تصبح ذات جاذبية أكثر وأكثر، وتصبح مقاومتها أصعب وأصعب. هكذا ارتفع الاستهلاك الى مستويات غير مسبوقة نتيجة لترويج النمط الاستهلاكي بالقوة من قبل الشركات الرأسمالية.
رأس المال المالي المتراكم هذا يؤدي بالمتحكمين فيه الى البحث من اجل تحويله الى رأس مال مربح عن منافذ "مالية"، أي أن يدرّ المال مالاً دون الدخول في نشاطات انتاجية فعلية: تحقيق أرباح دون كلف انتاج على الاطلاق. من أجل هذا يوظف رأس المال في المضاربات على الاسهم والعملات والسلع، أو يوظف رأس المال في عمليات الاقراض. أن توظيف هذه الكميات من الاموال الضخمة في عمليات مالية فقط (لا عمليات انتاجية) سيؤدي بالضرورة الى ازمات كبرى، فمثلاً ادت مضاربات سوروس في التسعينات الى انهيار نمور آسيا، فيما ادى التوسع المهول في الاقراض الى انهيار الاسواق المالية الحالي.
كيف يدفع الفقراء ثمن الازمات المالية؟
رأس المال المالي الذي يزيد بواسطته الاثرياء ثراءهم، ويصنعون بواسطته الازمات المالية التي تقع نتائجها على رأس الفقراء وحدهم، مصدره الاساسي هو الفقراء: فائض القيمة مصدره استغلال العمّال، وجزء كبير من الاموال المتوفرة في البنوك والصناديق هي مدّخرات العمال الصغيرة أو أموال تقاعدهم أو تأميناتهم، والفائض المالي المتأتي عن زيادة الاستهلاك وتغيّر انماطه تنبع أيضاً من جيوب الطبقات الوسطى المتدهورة سريعاً والفقراء! أي أن الفقراء ببساطة يموّلون عمليات زيادة اثراء الاغنياء، وزيادة افقار انفسهم!!مشكلة الازمات المالية أنها تؤثر بالضرورة على البنى الاقتصادية وتسبب أزمات اقتصادية عامة. لنأخذ الازمة المالية العالمية التي ما تزال مستمرة حتى اللحظة كمثال:
في الولايات المتحدة، استحوذت البنوك المقرِضة على 4 مليون منزل، دافعة بـ20 مليون مواطن من المقترضين الفقراء الى الشارع. كما تم شطب 2 مليون وظيفة خلال الاشهر الاخيرة من عام 2008 تبعها شطب 600 الف وظيفة اخرى في الشهر الاول من 2009 نتيجة لهذه الازمة، والمسرَّحين كلهم طبعاً من العمال والموظفين العاديين الفقراء. اضافة الى ذلك، ارتفعت اسعار السلع، مما رتب على الناس اعباء اضافية كبرى. هذا ما حصل على جانب الفقراء، أما على جانب الاغنياء، فلننظر ماذا حصل: دفعت حكومة الولايات المتحدة ما يقارب 1 ترليون دولار (1000 مليار دولار) من الاموال العامة (اي اموال الناس) لانقاذ الشركات الخاصة (اي شركات الاثرياء) المنهارة: بير ستينز، ليمان بروذرز، فاني ماي، فريدي ماك، ميريل لنش، ايه آي جي، وهي كلها شركات مالية لا انتاجية.
أما المتسببون بالازمات المالية من مدراء الشركات وكبار المضاربين، فخرجوا رابحين: فمثلاً عام 2006، قبض كبار موظفي خمسة من شركات وول ستريت (هي بير ستيرنز، جولدمان ساكس، ليمان بروذرز، ميريل لنش ومورغان ستانلي – ثلاث من هذه الشركات انهارت ولم تعد موجودة!) ما قيمته 40 مليار دولار كمكافآت كريسماس، وهو مبلغ يساوي ضعف مجموع زيادات الرواتب المتحصلة لـ93 مليون عامل اميركي في الفترة من 2000 الى 2006!!!!
وخلال الأزمة المالية الأخيرة، فقد خرج كيري كيلينغر المدير التنفيذي لبنك واشنطن ميوتشوال المنهار بتعويض مقداره 20 مليون دولار، فيما قبض ريتشارد سايرون المدير التنفيذي لشركة فريدي ماك المنهارة 14 مليونا كتعويضات، في حين لم يكن دانيل مَدْ المدير التنفيذي لشركة فاني ماي المنهارة بمثل حظهم فقبض 10 ملايين دولار فقط!!في اي مجتمع يشكل فيه الاثرياء طبقة "أقلية"، كما هو الحال في مجتمعاتنا الرأسماليةالمعاصرة،يكون الثراء هو التعبير المباشر عن انعدام العدالة الاجتماعية، والعسفوالقهر الذي تمارسه هذه الطبقة على الاغلبية المتبقية من الناس. ان مصدر الثروة المباشر هو استغلال الناس والتلاعب بهم وبأموالهم كما رأينا في الازمات المالية الكبرى التي عصفت بالعالم منذ التسعينات (بداية تحرير التجارة وتحرير حركة رأس المال المالي في العالم) وحتى الازمة الاخيرة التي يعتبرها البعض قمة جديدة تساوي او تتغلب على "الكساد العظيم" في ثلاثينات القرن الماضي.
الدور "الاجتماعي" للأثرياء
ان الحديث عن "دور اجتماعي" للاثرياء في الازمات المالية هو حديث وهمي ينزع المسؤولية عن دور الاثرياء الحقيقي في التسبب بالازمات المالية، ومسؤوليتهم الاخلاقية والقانونية والجنائية عن آثارها. جورج سوروس في مضارباته التي ادت الى انهيار نمور آسيا وبالتالي تدمير حياة ملايين من الناس لم يقضِ يوماً واحدا في السجن نتيجة لافعاله. البنك وصندوق النقد الدوليان (ومن خلفهما الدول الكبرى وشركاتها) الذان دفعا بلداً كاملا هو الارجنتين الى الانهيار مؤثرين بذلك على حياة ملايين الناس، لم يحاسبا لا كمؤسسات ولا كإدارات.
ان منطق استغلال الاثرياء للناس واموالهم، والتسبب بالازمات المالية، ومن ثم استعمال الاموال العامة لخدمة الاثرياء واستكمال مشاريعهم وانقاذهم من الانهيار، على ان يوزع الاثرياء بعض "الصدقات" هنا وهناك من منطلق "دورهم الاجتماعي" في التفاعل مع "ابناء مجتمعهم" هي اوهام يذرها هؤلاء في العيون.
ان المسؤولين عن الازمات المالية من كبار الرأسماليين، ووساطئهم في دول الاطراف مثل الاردن حيث لا وجود لتراكم رأسمالي حقيقي وحيث الطبقة "الرأسمالية" هي مجرد طبقة وسيطة، مكانهم الحقيقي السجن، والتعامل مع ثرواتهم يتم بمنطق اعادتها الى الناس الذين سلبت منهم اول الامر.
مليارات الدولارات التي دفعت لانقاذ الشركات المالية في الولايات المتحدة، كان يجب ان تدفع للناس الذين فقدوا بيوتهم واعمالهم وتضاعفت عليهم اسعار السلع، فيما كان يجب ان يُلقى كبار مدراء المؤسسات المالية في السجون نتيجة لتدميرهم حياة ملايين البشر. لكن في عالم يتحكم به رأس المال، يدفع الفقراء الضريبة دائماً. وكذا الامر في دولنا التي اقتصاداتها هي مجرد ملحق بالاقتصادات الكبرى.
الدولة والقوانين التي تحكمها، هي تعبير مباشر عن مصالح الطبقة التي تهيمن عليها. فالدولة الرأسمالية هي تعبير عن مصالح رأس المال، والادوات القانونية والمؤسساتية التي تجترحها تأتي في سياق ادامة هيمنة رأس المال وتعزيز ارباحه وآليات عمله. بالامكان ملاحظة هذا الامر لا على مستوى الدول فقط بل على مستوى العالم، من خلال منظمات "عالمية" مثل منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهي منظمات تحاول أن تفرض "التجارة الحرة" (وهو الاسم الكودي للتجارة الاحتكارية) على بلدان العالم، وتتدخل سياسيا واقتصاديا من خلال ما يسمى "برامج اعادة الهيكلة" لربط اقتصاد الاطراف باقتصادات الدول الكبرى عضويا لتحويلها الى اسواق ومصادر للعمالة الرخيصة.
لذا، لا دور للدولة الرأسمالية أو الدولة الوسيطة سوى دورها في تعزيز نفوذ الطبقة التي تمثلها. دولة الاثرياء لن تنصف مصالح الفقراء. فقط دولة الفقراء، مثل فنزويلا وكوبا وبوليفيا، حيث الطبقة الحاكمة تمثل اغلبية الشعب من الفقراء، هي التي ستبحث عن تأمين حاجات الناس الاساسية للجميع، وتصبح الصحة والتعليم والسكن والعمل امورا تحظى برعاية الدولة المباشرة.
ان الازمة المالية التي تعصف بالعالم، اثبتت وبشكل واضح مدى الاستغلال الذي يمكن ان يصل اليه رأس المال في تعامله مع الناس، ومدى لا مبالاته بمعاناتهم، وهو ما يجعل من الاشتراكية التي تؤمن العدالة الاجتماعية وحقوق الناس، الخيار الوحيد.
وحدة السوق لا وحدة المجتمعات
تبرز قضية "وحدة العالم" وتحوله الى "قرية صغيرة" من خلال تطور الميديا ووسائل الاتصالات كشعار تضليلي آخر في سياق حركة رأس المال في العالم. الرأسمالية تريد أن توحد جزءاً من العالم فقط وهو السوق لتحقق هيمنتها عليه، أما المجتمعات ففي وحدتها خطر كبير، وعليه فهي تسعى الى تفتيت المجتمعات تماما. فلننظر الى ما يحصل في العراق ولبنان واراضي ما يسمى "السلطة الفلسطينية" كأمثلة (تفتيت الدولة القطرية – وهي ناتج لتفتيت أسبق هو التفتيت الكولونيالي – الى طوائف واثنيات وبانتوستانات فصائلية)، أو فلندقق في محتوى القصف الدعائي الاستهلاكي المركز من خلال الفضائيات والاذاعات والصحف واعلانات الشوارع: الاعلاء من الذاتية والفردانية والبحث عن الخلاص الفردي الاناني. "أنا" وما هو "لي" أو "يخصني"... "الانا" القاتلة هذه: تفتيت المجتمعات الى مجرد افراد انانيين متنافسين، هو الهدف الاسمى لرأس المال، لأن ذلك سيؤبد تبعية الافراد الى ما لا نهاية ويسهل قولبتهم ونمذجتهم وتعليبهم وبيعهم.
لقد أصبح التأكيد على مفاهيم "الجماعية" و"الشمولية" والتحرر الاجتماعي الكلي خارج العصر بالمعنى الليبرالي، ولكن يجب التمسّك بمثل هذه المفاهيم والتأكيد عليها وعلى ضرورتها المفصلية في هذه اللحظات الحرجة من تاريخ البشرية. في المستوى البدائي تعلمت الجماعات البشرية ان وجودها الجماعي هو ضمان بقائها، وتعلم الاستعمار مبدأه الأهم "فرّق تسد"، ونحن ما زلنا نتسائل عن المقاربات الكليانية وجدواها!الحقيقة ان الموضوعواضح: كل القضايا هي قضايا مجتمعية بالضرورة، أي أن اساسها المجتمع: كيان واحد كلي ترتبط عناصره وتؤثر بعضها ببعض بشكل عضوي، فلا يمكن الحديث مثلاً عن "ديمقراطية" و"مشاركة شعبية" في ظل انعدام للعدالة والمساواة الاقتصادية، فالعناصر المجتمعية المختلفة تتداخل ببعضها بشكل يستحيل فصل واحدها عن الآخر.
لنأخذ مثلا الانتخابات الامريكية: يحتاج أي مرشح في حملته الانتخابية لمليارات الدولارات التي تدفعها في النهاية الشركات الكبرى واللوبيات القوية، وبالتالي فان اي رئيس أمريكي (أو حتى أي مرشح قادر على المنافسة الحقيقية) هو ممثل لهذه المصالح وليس للمواطن العادي الذي يظن ان يعيش في كنف ديمقراطية، لكن الحرية فيها مشروطة الى درجة التحديد التام للخيارات – انها ديكتاتورية صرفة متعلقة بانعدام المساواة الاقتصادية: أموال أكثر تعني سلطة أكبر.
تفتيت القضايا المجتمعية: قضية المرأة كنموذج
هذا الموضوع يتوضّح بشكل دراماتيكي عند الحديث عن قضية المرأة، من حيث انه لا توجد قضية مرأة منفصلة عن قضية التحرر الاجتماعي للمجموع. كيف ستتحرر المرأة ان لم يتحرر الرجل، ولم يتحرر المجتمع، ولم تتحرر الاوطان؟ هذه كلها مستويات متعددة لقمع وظلم وهيمنة واحدة، التحرر في جزئية منها مرتبط ببقية الاجزاء.ان عرض موضوع تحرر المرأة كقضية جندرية جنسوية يضيّع الموضوع. هل كل النساء ينتمين لمصالح موحدة؟ الجواب قطعاً لا. هل تتساوى كوندوليزا رايس مع معتقلة فلسطينية في السجون الصهيونية مثلاً؟ أو هل تتساوى انجيلا ميركل مع امرأة كادحة في واحدة من القرى الاردنية؟ هل لهما نفس المصالح؟ هل يتشاركان بقضية واحدة رغم وحدة الجندر؟ قطعاً لا! هنا ستفشل النظرة الجندرية في تحديد اساس الصراع والتناقضات والطبيعة المختلفة للمصالح. ثم الا يتطلب تحرير المرأة في السياق الاجتماعي تحرير الرجل بالضرورة واخراجه من قوالب التفكير النمطية والشوفينية والدوغمائية؟ اذا هي ليست قضية "تحرير المرأة" بل تحرير كليهما في منظومة تحرر كلية تلغي بنى القمع من اساسها.المشكلة في قصة تحرر المرأة انها يمكن احتوائها وتوظيفها في السياق اللبرالي، ويمكن ملاحظة كيف ان أكبر قامع في العالم: الولايات المتحدة الامريكية، لا يتوقف عن تخصيص الميزانيات الكبرى لتمويل برامج تحرير المرأة والديمقراطية وحقوق الطفل وحقوق الانسان وهي أكبر منتهك لها في العالم. لماذا؟ لأن فصل القضايا عن السياقات الكبرى الاقتصادية/الاجتماعية/السياسية يخرج هذه القضايا عن امكانية تحققها الموضوعي كبرنامج تحرري حقيقي او كجزء فعال منه.
اضافة الى ذلك، سينحو خطاب تحرر المرأة والحال كذلك منحىً ذرائعياً، تصبح المرأة فيه باحثة عن تحقيق المصالح الأنانية الذاتية لا الاجتماعية الجماعية. لننظر مثلاً الى بعض (وبالتأكيد ليس كل) نساء مجتمعاتنا اللواتي يردن الجمع بين الحقوق التي يرتبها المجتمع الحديث (العمل، الاستقلال المالي، حرية الحركة واتخاذ القرار ... الخ) مع الحقوق التي يرتبها المجتمع التقليدي (المهر بمقدمه ومتأخره عند الزواج، الذهب عند الزواج، ان يصرف الزوج على المنزل، ان يجهز الزوج المنزل، ان ينفق الزوج على تكاليف الزواج المختلفة، ان ينفق الزوج على الاولاد...الخ) من منطلق المنفعية والذرائعية الصرفة. يردن الحقوق من الجهتين دون تحمل تبعات اي منهما (المسؤولية المترافقة مع حقوق المجتمعات الحديثة والتبعية المترافقة مع حقوق المجتمعات التقليدية).هذا الشكل من "التحرر" سيدفع باتجاه مزيد من الشوفينية ومزيد من التقوقع الجندري، وتتحول معركة التحرر الاجتماعي التي تشمل الرجل والمرأة معاً الى معركة ذرائعية على مناطق نفوذ ومصالح بين الرجل والمرأة، والى الجحيم بالتحرر!!
إن الحديث عن "تفتيت وتفكيك المشاكل كخطوة أولى لحلها وفهمها" هي النظرة ما بعد الحداثوية التي تشكل الاساس الفلسفي للنيولبرالية. الماركسية تقول بالنقد والتحليل ووضع الامور في السياقات التاريخية والموضوعية، والنيولبرالية تقول بان الاجزاء والفتافيت هي ذوات منفصلة، قضايا بحد ذاتها، وهكذا لن نستطيع فهمها في السياقات العامة، لن نستطيع فهم مقدماتها ونتائجها، ومسبباتها الاساسية. كيف نعالج مشكلة لا نعرف سببها الاساسي وسياقاتها الموضوعية؟ ان هذه هي اسرع وصفة للانتحار المجتمعي.القضايا تفهم في سياقاتها الموضوعية، تشابكتها المجتمعية، ارتباطاتها العضوية، لا بصفتها ذواتاً منفصلة قائمة بحد ذاتها.
دور "المجتمع المدني" في التفتيت والعزل
مصطلح "المجتمع المدني" يجب استعماله دائماً بتحفّظ، فهو يستعمل لوصف مجموعة من المنظمات والفعاليات لا رابط مشترك بينها على الاطلاق، بل هي تمثل مصالح متعارضة، فمثلاً: منظمات أصحاب العمل ومنظمات العمال كلتيهما تعتبران من منظمات المجتمع المدني رغم التناقض الكلي بين الاثنتين اللتين تمثلان مصالح متعارضة، وكذلك الامر فيما يتعلق بمنظمات محسوبة على السلطة السياسية وأخرى محسوبة على المعارضة، ومنظمات مرتبطة بالمراكز الامبريالية وأخرى تمثل الطبقات المسحوقة...الخ.
"المجتمع المدني" هو مفهوم تم افتعاله في مواجهة العمل الشعبي والمنظمات الشعبية الطابع، فبدلاً من النضال القاعدي الثوري الطبقي للاطاحة بالاشكال الاستغلالية واقامة اشكال اكثر عدالة مكانها، تحول الامر الى مكاتب مكيفة ومراسلات الكترونية واموال توظف في معالجة ثغرات نظام الاستغلال وابقاء الناس فقراء بما لا يتجاوز حد الثورة: اعطائهم مسكنات ومهدئات بصيغة مساعدات وقروض ومشاريع صغيرة تعيق انجاز اي برنامج تحرري وعدالة حقيقية، بل وتحقق ارباحا لنظام الاستغلال القائم.
مدفوعاً بضرورة الاتساق مع السياقات الدارجة، او التزاما بأجندة "مجتمع مدني" آخر يموله، تعمل المنظمات المحلية على التعاطي المفكك مع القضايا الاجتماعي كما اسلفت اعلاه، دافعة بالمجتمع نحو الانتحار السياسي: التسكين الموضعي والمنظور الانعزالي للقضايا هو التعزيز الامثل لهيمنة الاستغلال، بل ان هذه الانظمة الاستغلالية هي ذاتها التي تمول المجتمع المدني عموماً: أكبر "مانح" ربما في العالم هو الـ يو إس ايد (USAID)، وهي وكالة تتبع وزارة الخارجية الامريكية – اي انها جزء لا يتجزأ من الادارة الامريكية واستراتيجياتها، لكن لا أحد يريد ان يرى شيئاً امام سطوة المال والتماع الشعاراتية الوهمية.
إعادة الاعتبار للنظرة الشمولية والصراع الطبقي
أوضحت الأزمة المالية العالمية الأخيرة مسائل غاية في الأهمية:
الأولى: رغم أن الرأسمالية لا تنفك تصنع الأزمات الكبرى، إلا أن لديها المرونة الكافية للخروج من هذه الأزمات بل وفي بعض الأحيان استغلالها لجني المزيد من الأرباح، وعليه فإن الجلوس بانتظار "انفجار الفقاعة الرأسمالية"، هكذا، لوحدها، دون العمل على تأزيم هذه الفقاعة وفقأ دمّلها (لا التصالح والوصول الى تسويات معها)، وطرح الإشتراكية كخيار أكثر عدالة للمجتمع البشري، سيعمل على استمرارية الاستغلال الرأسمالي وافقار البشر وتحويلهم الى عبيد بهويات كوربوراتية (corporate identities).
الثانية: أن الفقراء هم عصب العملية الرأسمالية الانتاجية والمالية وممولها الرئيسي، وإن كانوا بالمفهوم الماركسي التقليدي (كعمّال) هم مصدر الأرباح لرأس المال الانتاجي، فإن مدّخراتهم وانماطهم الاستهلاكية هي مصدر النقد المتوفر لرأس المال المالي للمضاربة. الفقراء إذاً هم "الوحش الذي لا يعرف قوّته" في النظام الرأسمالي، وبأموالهم يتم العمل على دفعهم الى المزيد من ظروف الحياة البائسة.
الثالثة: الجزئيات هي بالضرورة قطعٌ من كلية، ولا تُرى الا من خلال مواقعها في هذه الكلية وتشابكاتها معها. لذا لا تَحَقّق للديمقراطية أو حقوق الانسان أو حرية المرأة بمعزل عن تدمير البنى الكلية للاستغلال والقهر، والعمل في الجزئيات بمعزل عن الصورة الأكبر هو مجرد اضاعة للوقت والجهد ترعاه الرأسمالية نفسها من خلال مؤسساتها المانحة.
الرابعة: أن مقاربات "المجتمع المدني" للتعامل مع الأزمات ومع قضية العدالة الإجتماعية هي مقاربات تهدف إلى سد الثقوب التي يتركها رأس المال في جسد العالم، وبالتالي تساعده على البقاء من خلال تقليل الكلف التي عليه أن يتحملها هو نفسه لسد هذه الثقوب. إضافة الى أن "المجتمع المدني" بتناقضاته الموضوعية وتفتيته القضايا إلى جزئيات يصغّر شمولية النضال الى مساحات ضيقة تسهل محاصرتها ويستحيل الانتصار بها.
هكذا يصبح النضال الشمولي القائم على فهم كلّي للمسائل، وبآليات اجتماعية طبقية لا تخجل من تسمية الأشياء بمسمياتها، ومواجهة محاولات تزوير الهوية الإنسانية الى أخرى كوربوراتية، واستعادة أموال الفقراء من المؤسسات المالية، هو المدخل الموضوعي لعالم أكثر عدالة.
باحث وكاتب من الأردن