يحلل الكاتب اللبناني هنا الوضع الإشكالي للسلطة الفلسطينية، على ضوء نظرية هيجل السياسية وبلورته للعلاقة الجدلية بين السيد والعبد، واعتماد كل منهما المتبادل على الآخر. وكيف أنها نموذج تقليدي لسلطات الاستغلال الاستعماري التقليدية، وهو الأمر الذي يكشف لنا عن كيفية إضاعة تلك السلطة للقضية الفلسطينية.

سلطة الاستغلال الاستعماري

يوسف سعادة

 

كانت مساهمة هيغل الأكثر أهمية في فهم السلطة، أنها تأتي من الدور الذي وضعه لما يُعرف بالمخاطرة؛ حيث نجد في ديالكتيكية السيد/ العبد، أن السيادة تبرز من الصراع حتى الموت لأجل الاعتراف: العبد اختار الخضوع بدلاً من الموت، بينما السيد مستعد للمخاطرة بحياته لكي يُعترف به. غير أن العبيد سوف لن يخضعوا إلى الأبد. إذ إن سلطة السيد تفترض سلفاً إمكانية الحرب والثورة الدموية، وبهذا فهي تفترض ضمناً اختفاءها الحتمي، وبذلك فإن المخاطرة بالموت هي التي تجلب السيادة.

أدى مقتل الناشط السياسي نزار بنات بشكل وحشي على يد قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، وما تلاه من قمع واسع النطاق واعتقالات تعسفية للمتظاهرين والنشطاء والصحافيين، إلى توسيع دائرة النقاش بين الفلسطينيين حول موقع ووظيفة السلطة الفلسطينية داخل منظومة الاستيطان/الاستعماري الإسرائيلي. وما يجعل هذا النقاش الأخير مهماً بشكل خاص أنه اجتذب شريحة كبيرة من الفلسطينيين غير المسيسين، أو تاركي السياسة، حيث صار يرفض الكثير منهم الشعارات الوهمية التي يُروّج لها، نحو «عملية السلام وبناء الدولة». وأصبح من الشائع، على وسائط التواصل وفي النقاشات العامة، وصف قيادات السلطة بالمتعاونين، والأجهزة الأمنية بأنهم حماة المستوطنات، في الوقت الذي يزداد فيه التهكم من مقولة «المشروع الوطني التحرري» الذي يجهد المدافعون عن السلطة في الترويج له. ولعل الأمر الأكثر لفتاً للنظر هو أن كثيرين من بين الجمهور الفلسطيني اليوم ينظرون إلى السلطة الفلسطينية على أنها تقف حاجزاً أمام نضالهم للتخلص من أغلال الاحتلال. بمعنى آخر، أصبحت السلطة في نظر كثيرين تمثّل امتداداً غير رسمي للاحتلال.

أقيمت السلطة الوطنية في عام 1994 بموجب اتفاقيات أوسلو كتسوية ما بين بعض النخب في منظمة التحرير الفلسطينية والكيان المحتل، وشركاء الأخير من الغربيين، وقد قايضت فعلياً نضال التحرير الوطني مقابل شكل محدود من الحكم الذاتي محاصر بالكامل ومعتمد على الكيان الاستعماري في كل المجالات تقريباً. وقد اتّبعت الحركة الصهيونية، لأكثر من قرن، عقيدة «الحد الأقصى من الأرض مع الحد الأدنى من العرب»، في محاولة للتخفيف من حدة «العبء الديموغرافي» الفلسطيني الذي يعوق السيادة اليهودية على الأرض من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. ولكن، ونظراً لعدم قدرتها على تكرار حملة مماثلة من التطهير العرقي الواسع كالتي حدثت في عام 1948، بسبب المقاومة الفلسطينية، (بالإضافة للضغوط الإقليمية والدولية) شرع كيان الاحتلال بدلاً من ذلك في رسم استراتيجيات متعددة الأوجه لإدارة السكان والسيطرة عليهم لتغيير معادلة السكان/الأراضي لصالح المشروع الاستيطاني الاستعماري.

بعد احتلال الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية عام 1967، أصبحت الأولوية لضمان استمرار التوسع الاستعماري وضم الأراضي وإقصاء الفلسطينيين ومحاصرتهم في بلداتهم في الضفة الغربية. وكانت إحدى الركائز الأساسية لهذا المنطق إنشاء سلطة محلية مكلّفة بالسيطرة على الفلسطينيين في المناطق المكتظة بالسكان. هذه الفكرة مستقاة من العديد من السوابق التاريخية، من أفريقيا إلى جنوب شرقي آسيا، حيث قامت القوى الاستعمارية (بالتحديد بريطانيا) بشكل روتيني بإنشاء سلطات محلية وتقديم الدعم لها من أجل ضمان استمرارية التوسع الاستعماري. وغالباً ما وُضعت هذه السلطات في أيدي النخب التقليدية التي عملت على التوسط بين المستعمِر والمستعمَر، وفرض الأمن والاستقرار السياسي، وتقليل تكاليف البيروقراطية والعمليات العسكرية للقوى الاستعمارية. كما طورت السلطات شرطة محلية أو قوات ميليشيات لفرض النظام العام وحماية النخبة من أي معارضة داخلية وقمع أي شكل من أشكال المقاومة. وعندما ظهرت حركات التحرر الوطني في وقت لاحق بهدف تحرير بلادهم من الاستعمار، كان يُنظر إلى هذه السلطات المحلية على أنها أدوات استعمارية ينبغي مقاومتها وتفكيكها.

طالما حاول الكيان الاحتلالي تطبيق صيغة منطق الحكم الذاتي الاستعماري من خلال تشجيع رؤية محددة عن حكم ذاتي فلسطيني يقع تحت سيطرتها المباشرة، عبر اتفاقات وتنسيقات أمنية؛ فعلى سبيل المثال، قاد وزير دفاع العدو السابق موشيه دايان في أعقاب حرب 1967 مباشرة تبنّي سياسة «الجسور المفتوحة» - وهي استراتيجية لمكافحة التمرد شجعت القيادات المحلية التقليدية، مثل زعماء العشائر، على إدارة شؤون مجتمعاتهم، كوسيلة لتهدئة وضبط السكان الفلسطينيين. وقدّم رئيس وزراء الكيان السابق مناحيم بيغن النموذج الأكثر تنظيماً وتفصيلاً للحكم الذاتي الفلسطيني في محادثات كامب ديفيد عام 1978 بين إسرائيل ومصر. استند اقتراح بيغن إلى إنشاء مجلس إداري يتمتع بالحكم الذاتي، يتولى إدارته 11 عضواً فلسطينياً، ويشرف على الشؤون المدنية من دون أن تكون له سلطات سياسية أو تشريعية حقيقية.

وبحسب تصوّر بيغن، سيسمح للمجلس الإداري بنشر قوة شرطة محلية داخل المراكز السكانية الفلسطينية بالتنسيق مع سلطات الكيان، في حين يقوم الجيش الإسرائيلي بفرض الأمن والسيطرة على معظم الأراضي. ولوضع رؤية الحكم الذاتي هذه موضع التنفيذ، شُكّل ما عُرف بـ«روابط القرى» في عام 1979، وتمثلت في شبكة من شيوخ العشائر والمخاتير المتعاونين مع الاحتلال، والذين مارسوا سياسات قسرية ضد السكان تحت إشراف من جيش الكيان. كما أعربت حكومة الاحتلال، يومها، عن أملها في أن تعمل روابط القرى على تقويض قدرة منظمة التحرير في الأراضي المحتلة وتشتيت أي محاولات لتعبئة الناس ضد الحكم الاحتلالي. وعلى الرغم من ذلك، رفض الفلسطينيون حكم روابط القرى إلى حد كبير ونزعوا عنها الشرعية، ما أدى إلى انهياره مع اندلاع الانتفاضة الأولى في عام 1987.

يثار اليوم نقاش من أن السلطة الفلسطينية هي بالتأكيد نسخة مستحدثة من الصيغ الاستعمارية السابقة، إلا أنها تتمتع بميزة خاصة تتمثل في أن الطرف الموقّع للاتفاقيات هو حركة التحرر الوطني نفسها. وبالرغم من أن الظروف الدولية والإقليمية في تلك الفترة قد وضعت في أوضاع صعبة، فإن قبول قيادتها لهذا الترتيب كان مدفوعاً جزئياً بأجندة ذاتية ضيقة؛ لذا، كان هذا النوع من «الالتقاء الواعي» بين حركة تحرر وطني وقوة استعمارية لم يسبق له مثيل في تاريخ النضالات ضد الاستعمار. وكانت النتيجة كارثية على النسيج الوطني، إذ حرمته من القدرة على مقاومة السياسات الاحتلالية، ومنحت العدو موضعاً مريحاً في تكثيف استعماره للأراضي.

وعلى الرغم من أن بناء الحكم الذاتي كان قد تم تحت شعار «عملية السلام»، فإن الانزياح الأساسي للسلطة هو أن يكون مشروعاً أمنياً، واستمراره مبنيّ على التعامل مع القوات الإسرائيلية ليس كمحتل، بل كشريك في الحفاظ على الأوضاع القائمة. وإن المتأمّل كان ليجد بأن معظم مؤسسات السلطة ووظائفها، بما في ذلك أنماط الحوكمة وسياساتها الاقتصادية، قد صُمّمت للقيام بأدوار مكافحة التمرّد، ولتهدئة وترويض الفلسطينيين، وهي مهمة مركزية للسلطات المحلية التي تعمل في ظل الحكم الاستعماري، إذ يُعتبر التنسيق الأمني الواجهة الأهم في فهم حالة التناغم بين السلطة وقوى الاحتلال، حيث يتبادل الطرفان المعلومات حول السكان ويقومان باعتقال أو قتل الفلسطينيين، سواء كانوا معارضين سياسيين أو مجموعات مقاومة. وعلى الرغم من أن التنسيق الأمني كان بدايةً شرطاً إسرائيلياً للحفاظ على بقاء السلطة الفلسطينية، فقد أصبح أيضاً من أولويات السلطة لمواجهة المعارضة الداخلية المتزايدة.

وثمّة سمة محددة تميّز السلطة عن النماذج السابقة، ألا وهي الاستثمار المالي والتقني العالي المستوى من قبل المانحين الغربيين، وهذا لربما يمثل النموذج الأكثر فعالية لعمليات التدخل الخارجي في العصر الحديث؛ حيث ساعدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في إنشاء وتدريب وتجهيز قوات الأمن للتركيز على الأمن الداخلي (أي لمنع أي شكل من أشكال المقاومة المنظمة والفعالة). وحتى يومنا هذا، يحتفظ قطاع الأمن السلطوي، والممول من قبل الحكومات الأجنبية، بالنصيب الأساسي من الموارد المالية والبشرية للسلطة، وهو يتجاوز القطاعات الحيوية الأخرى مثل التعليم والصحة والزراعة مجتمعة. ويدرك المموّلون الغربيّون أن ضمان امتثال السلطة للاحتلال يتطلب انخراطاً في الفساد لتحفيز الحكم الاستبدادي لحمايتها من أي معارضة شعبية. وقد رأت نخبة السلطة في هذا الواقع صناعة مربحة، وأصبحت المساعدات الخارجية، والامتيازات الممنوحة، واحتكار الموارد، والمشاركة في الأعمال التجارية الخاصة، واختلاس الأموال العامة مصادر رئيسية للثراء الشخصي.

ولم يتحرّك المانحون الرئيسيّون (كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) ضد هذا الفساد المستشري أو انتهاكات حقوق الإنسان طالما كان بإمكان السلطة الحفاظ على التعاون الأمني مع الكيان المحتل وفرض الاستقرار السياسي.
في ظل هذا الواقع المؤسف، فلا عجب إذاً أن يعتقد كثير من الفلسطينيين اليوم أن السلطة في تعارض مع آمالهم التحريرية، وهي قد أفسدت الحركة الوطنية الفلسطينية، وأضعفت قوة التأثير الدولي للصوت الفلسطيني من أجل الحرية والكرامة.

 

عن (الأخبار اللبنانية)