يكشف هذا المقال عن أن التغيرات الجذرية التي انتابت عملية توصيل العمل الفني في عصر الرقمنة والفضاء الافتراضي، أتاحت وصوله إلى الملايين الواسعة من البشرة، ونجحت في اقتناصهم أمام الشاشات، مع العزلة التي فرضتها جائحة كرونا، مما أدى إلى تغيرات في دور الفن وعمليات استخدامه المراوغة.

الفن بزمن الليبرالية المطلقة

تأملات في «لعبة الحبار» و«لا تنظر للأعلى»

محمد بنعزيز

 

بلغ زمن مشاهدات فيلم "لا تنظر للأعلى" 152.000.000 ساعة في ظرف أسبوع من عرضه على منصة نيتفليكس نهاية 2021. بينما بلغ زمن مشاهدات سلسلة "لعبة الحبار" Squid Game بعد شهر من عرضها في نهاية 2021 أكثر من 2.100.910.000 ساعة مشاهدة لأن المتفرجين عثروا على مشاعرهم في سلسلة تصنع المعنى بأقل عدد من الصور والكلمات مثل سيرك. وهذا يعطي فكرة حسابية عن تفوق الحكايات المصوّرة على باقي الفنون مُجتمعة.

كان عدد مشاهدي السلسلة أكبر من الجائزة التي تقاتل المتسابقون من أجلها.

إذا موْقعنا ملايين الساعات في التاريخ البشري فسيعود بنا الزمن المستهلك في مشاهدة فيلم "لا تنظر إلى الأعلى" (2021، إخراج آدم ماكاي) إلى 17000 عام، أي إلى ما قبل اكتشاف الزراعة والكتابة معًا. وإذا موْقعنا رقم مشاهدات سلسلة "لعبة الحبار" في التاريخ البشري فستعود بنا إلى مليون سنة، أي إلى زمن ما قبل اكتشاف النار.

كل هذا الزمن استهلكه الفن بفضل صقل مادته. يقول ليف تولستوي "لا نكاد نجد نشاطًا إنسانيًا آخر، باستثناء النشاط الحربي، بوسعه أن يستهلك كل هذا الجهد الذي يستهلكه الفن". وقد خصص الروائي الروسي خمسين صفحة من كتابه "ما هو الفن؟" لتحديد مهمة الفن ومادته (1). تحققتْ أرقام المشاهدةِ تلك خلال انتشار فيروس كورونا. لقد عزّزت المشاهدة المستمرة صمود البشر في وجه الحجر الصحي والعزلة المفروضة التي دامت حتى صارت اختيارية. سهّلت المشاهدة تحمّل الوحدة.

هكذا يُعزز الفن قيم الفردانية، يُحرّض على الأحلام المدمرة للتقاليد المرعية. لقد تابع عشرات ملايين البشر الفيلم والسلسلة. هذا هو الفن الأبرز في القرن الواحد والعشرين، الفن المتحرر من الرقابة في زمن الليبرالية، زمن انتصار قانون السوق، قانون العرض والطلب حتى في العلاقات الاجتماعية.

يُتّهم الفيلم الذي يستقطب جمهورًا كبيرًا بأنه مبني على نظرة شعبوية إلى الفن. لقد لاحظ المؤرخ الثقافي إريك هوبزباوم أنه منذ منتصف القرن العشرين، تغير مِعيار الحُكم على الفن وتقييمه، "فلم يَعد هو الجيد والرديء أو المعقد والبسيط، بل المِعيار هو ما الذي يستهوي العدد الأكبر والعدد الأقل من الناس"، (2) إن هذا هو تحولٌ صادم بالنسبة للنخب التي احتقرت الفنون التي أحبها الجمهور، لكن الأرقام صدمت النخبة.

عرّف هوبزباوم الفن بأنه "أداة لتوصيل الأوصاف والأفكار والعواطف والقِيم"، (3). هذا تعريف للفن بالوظيفة، وقد بُنيت سلسلة "لعبة الحبار" على ألعاب الطفولة المدهشة البسيطة والمفهومة لملايير البشر لكي تحرّك عواطفهم. تقدّم السلسلة الحياة كلعبة فيديو لذا تثير الشباب ... تقدّم الحياة كلعبة قِمار وهذا مثير ومستفز، تقدّم فقراء يستخدمون أجسادهم للدفع فينتهكون قيمهم، مقامرون يطأ بعضُهم بعضًا في السباق نحو خط الوصول ... مقامرون شرِهون قُساة يسحق بعضهم بعضًا كما في رواية "المقامر" لفيدور دوستويفسكي.

نتعرف في الحلقة الأولى من السلسلة على جُموع المقامرين، وبدءًا من الحلقة الثانية نتعرف على سمات كل شخصية على حدة: سيونغ غي هون (أداء الممثل لي جونغ جاي) هو مقامر يضطر ليقامر بوجهه، فهو لا يملك غيره. كل مرة يخسر يتعرض للصفع.

سيونغ غي هون هو واحد من مغامرين كُثُر، يغامرون بكل شيء للحصول على قدر كبير من المال لكي يتحرروا من الدائنين، يدفعهم حافز شرس، يتسابقون نحو حتفهم، يتسابقون للحصول على فرصة. الغريب أنه حتى في الأماكن التي تتوالى فيها الإهانات فالمقاعد محدودة. لذلك يسارع سيونغ غي هون ليحصل على فرصة. للمال دور محوري في السلسلة، المال أهم من حياة البشر. بالنظر لما تعرّض له البطل فعندما شارك في مسابقة "لعبة الحبار" لم يعد لديه ما يخسره، يأمل أن يربح بينما هو يُسلي الناس المُهمين. هكذا صار للقمار بُعد طبقي.

تصوّر سلسلة لعبة الحبار (تسع حلقات في الموسم الأول 2021 من كتابة وإخراج هوانغ دونغ هيوك) فقراء مأزومين يتنافسون كعناكب في حوض زجاجي، كما قال بلزاك في وصف تنافس شخصيات رواياته للصعود في السلم الاجتماعي ... يشاركون في ألعاب تكشف الأنانية المنفلتة ... ألعاب هي محاكاة للواقع الاجتماعي. هذه هي مادة الفن الحديث.

كانت "لعبة الحبار" مجرد غشاء شفاف لكشف الواقع الاجتماعي وفيه فريقان: الذين يستمتعون والذين يتكدحون ويتقاتلون كالعقارب. تكشف اللعبة محورية المال في حياة البشر ... من كل الكتب التي قرأتها والأفلام التي شاهدتها لم أنتبه قط لخطورة النقود في حياة البشر كما في "لعبة الحبار".

لقد كشف المخرج هذا المعنى بصريًا: في كرة زجاجية مضاءة معلقة مملوءة مالًا، كرة نور بعيدة، المال نور على نور، المال كالقمر، كمصباح زجاجي علوي وكوكب ذري ... تشرئب نحوه الأعناق وقد تذل أو تقطع في سبيله.

إن مهمة النقد الفني هي أن يفسر الفن البصري. أن يعطي معاني للصور المتتابعة في الشاشة، للكتلة والشكل والضوء والمسافة. يُحذر فيلم "لا تنظر للأعلى" من خطر وشيك ساحق، نهاية العالم قريبة. نتابع عالِمة فلكية نزيهة تجهل ألاعيب السياسيين تصرّح للصحافة فتتسبب في فوضى، وهي في مواجهة زعيمة مُتخصصة في تخدير الشعب لتريح ماسكي السلطة ومالكي رؤوس الأموال. إن الفيلم محاكاة ساخرة للتغطية الإعلامية عن رعب مجهول، حكي خيالي التقط بذرته من واقع معاش في زمن فيروس كورونا. توجد تشابهات كثيرة بين رئيسة الولايات المتحدة في الفيلم (أداء الشقراء ميريل ستريب) وسلوكيات الرئيس السابق دونالد ترامب.

المحاكاة مهمة الفن ومادته:
إن مهمة الفن هي محاكاة الواقع. "الفن محاكاة، والمحاكاة لا توجد إلا بالنسبة لمشاهد" (4) يقارنُ بين النسخة والأصل، يقارن بين ما يراه وما يعيشه. لذلك يستثمر الفن الشعبي والناجح قواعد ألعاب راسخة في وجدان البشر لتسليتهم وتثقيفهم بواسطة تكرار تلك القواعد في سياقات جديدة. "لا تنظر للأعلى" و"لعبة الحبار" هما عينة لفن معاصر يستند لقواعد سرد راسخة منذ أرسطو، فهناك وحدة المكان والزمن والحدث. هناك جزيرة معزولة يتقاتل فيها لاعبون تحت ضغط الكرونوميتر. نرى في الفيلم والسلسلة حسابًا دقيقًا للزمن المتبقي قبل حصول الكارثة. حتى في سرد الألعاب هناك خلفية أكاديمية. وهذه المقال رسالة لكل من يعتقد أنه سيتنكر لقواعد السرد ويحكي بالصدفة شيئا ذا قيمة للجمهور.

يعيد الفن الحقيقي صياغة علاقة الفرد بالواقع. كيف؟ بهدف استحضار تعدّد الأصوات ووجهات النظر تم دسّ شخصية ذات وعي مغاير في المشاهد لكي تلاحظ بشكل برّاني ما يجري وتفسره. هناك شخصية الشرطي في "لعبة الحبار" وشخصية العالمة البريئة في "لا تنظر للأعلى". بهذه الطريقة تكشف الحكايات للمتلقي نقط ضعفه فينتبه لها. إنها معرفة الذات بالفن الذي يتناول أشباهنا، ينصح أرسطو كل فنان راوي "احكِ عن شقاء من لا يستحق الشقاء شرط أن يُشبهنا"، (5) هكذا تمكننا الحكاية حسب أرسطو من عيش معاناة أبطال الحكاية دون دفع كلفة المعاناة. ينجو الفرد من المصائب بمعرفة ما يمكن أن يقع له قياسًا على ما وقع لأشباهه، فيتجنبه. تعلم البشر هذا من غناء صرصار كسول وفتح فم غراب متباهٍ وغرور أرنب نائم، ويتعلمون البشر هذا حاليًا من الأفلام.

دون فن، دون رموز كثيفة وحكايات لمّاحة وأحلام تحرّرية سيبقى الفرد في مستوى باقي الكائنات حوله. يتسابق العالِمان في فيلم "لا تنظر إلى الأعلى" لإنقاذ العالَم من الدمار ويتسابق السياسيون والإعلاميون للاستثمار في المصيبة المحتملة... في "لعبة الحبار" شخصيات تقامر وتتدحرج، تؤدي قلة الطعام إلى صراعات عنيفة، يضطر الزعيم للتعامل مع الحثالة لكسب عيشه، تصدمه نشالة من كوريا الشمالية، ثم يتحالف اللاعبون لمقاومة السيطرة عليهم، هكذا تمجد "لعبة الحبار" الإرادة الحرة.

هذا هو لب الفن الحديث.

كانت "لعبة الحبار" الأولى تسدّد على كل من يتحرك، وكانت الزعيمة في "لا تنظر للأعلى" تسترضي الجمهور، أي القطيع، بقول ما يرضيه. واضح أن هذا متخيل يستعيد الواقع. يقول خورخي لويس بورخيس "إننا بحاجة إلى الخيال كي نواجه تلك الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء"، بالهروب منها؛ "إن الواقع هو كليشيه نهرب منه عن طريق الاستعارة". (6)

كيف؟ بالخيال. والخيال ملاذ، ملجأ من الواقع. يفاجئنا الخيال بإعادة تدوير الواقع ونحته وتبسيطه ليُفهم ويفاجئنا. وفقًا لعالم الأعصاب فولفرام شولتز، تعزز المفاجأة من مشاعرنا بنحو 400%. لتعزيز الشعور بالمفاجآت في الأفلام تقدم المعاني بصريًا باللون والرمز والضوء والحركة دفعة واحدة. كما في صورة الأسياد يمدّون أرجُلهم فوق ظهور خدمهم (لعبة الحبار، الحلقة سبعة، الدقيقة 32). أسياد يضعون أقنعة تتناص مع تلك التي استخدمها المخرج المبدع سانلي كوبريك في فيلمه "عيون مغلقة على اتساعها" 1999.

على صعيد الموضوع: المال مركزي في الحياة، الفوارق بين الفقراء والأغنياء فلكية. على صعيد الأسلوب: هناك إيقاع سردي دائري سريع يستعيد أوله آخره، تستعيد العجوز أم المقامر طفلًا ومالًا كما في قصة النبي يوسف، تتوالى الأحداث بسرعة، لا مكان للحشو، ما يجري في مسلسلات كثيرة في عشر حلقات وقع في "لعبة الحبار" في عشر دقائق، ومع سرعة الإيقاع هناك تصوير سينمائي يركز على التعبير البصري. على الحمولة العاطفية للصورة. جرى تنسيق الشكل والسطح والكتلة لجلب الأنظار لطريقة اللعب كما في الشطرنج. جرى تنسيق الشكل الذي يقف فوقه اللاعبون والسطح الذي يقطعونه والكتلة التي يعلبون بها بهدف جلب الأنظار لطريقة اللعب. وهذه توابل فنية تجذب الجمهور. بفضلها يحصل المخرج على استجابة جماهيرية متفاعلة عالية، هذه هي مهمة الفن وهدفه.

هذا هو أسلوب الفن الحديث. وقد تضافرت الموهبة الفنية وضخامة التمويل والثورة التكنولوجية في توصيل هذا الفن إلى مئات ملايين المشاهدين في زمن قصير.

 

هوامش:

(1) ليف تولستوي، ما هو الفن؟ ترجمة محمد عبدو النجاري، دار الحصاد للنشر والتوزيع، ط1، دمشق 1991.
(2) إريك هوبزباوم، عصر التطرفات، ترجمة فايز الصُياغ، المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص 885.
(3) إريك هوبزباوم، عصر الإمبراطورية (1875-1914)، ترجمة فايز الصُيّاغ المنظمة العربية للترجمة الطبعة الأولى بيروت 2011 ص442.
(4) لالاند أندريه، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، ط 2، 2001 ص 621.
(5) أرسطو، فن الشعر، ترجمة وتقديم وتعليق إبراهيم حمادة، مكتبة الأنجلو المصرية، د. ت. ص 132.
(6) تريفور وايتوك، الاستعارة في لغة السينما، ترجمة إيمان عبد العزيز، مراجعة سمير فريد، المشروع القومي للترجمة، ط1، القاهدرة 2005، ص 19.