يكشف الباحث المغربي هنا عن التناظر بين تناول البلاغيين العرب القدامى للصورة البلاغية وبين ما قدمه اللغوي الأمريكي بيرس من تناول للوظيفة الأيقونية للغة، وكيف أن تنظيرات عبدالقاهر الجرجاني والجاحظ والسكاكي قد فصلت تلك الوظائف المختلفة في تناولها لأشكال التشبيه وصوره البلاغية المختلفة.

الصورة البلاغية في ضوء السيميائيات التأويلية

رضوان بوخالدي

 

تراوح مكونات العلامة السيميائية بين أطروحتين، أطروحة "بورس" الثلاثية، التي تعتمد الماثول والموضوع والمؤول، وهي العناصر الضرورية لانطلاق السيرورة الدلالية، أو ما يطلق عليه بورس "السيميوزيس" باعتباره "أثرا ثلاثي التعالق(tri-relative) ، لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن ينحل إلى فعل بين ثنائيات" (C.S.Peirce, 1987, 133)؛ وأطروحة "دوسوسير" الثنائية، والأكثر تداولا ووضوحا. أما أنواع العلامة التي تنحصر أصولها في ثلاثة أقسام هي: الأيقون، والمؤشر، والرمز، فترجع إلى "بورس" نحتا وتنظيرا، ومن ثم تتفق المعاجم في رد هذه الاصطلاحات إليه، ذلك أن "المقصود بالأيقون، حسب شارل ساندرس بورس، هو العلامة التي يتم التعرف عليها من خلال علاقة الشبه مع «حقيقة» العالم الخارجي، وذلك في مقابل المؤشر الذي يمتاز بعلاقة التجاور الطبيعي (contiguïté naturelle)، والرمز المؤسس على المواضعة الاجتماعية" (A.J.Greimas et J.Courtès, 1979, 177).

ولما كان "بورس" رائد البراغماتية الأمريكية، فقد طغت على تنظيراته الوظيفة المرجعية، ومن ثم، فإن التمييز بين هذه الأقسام الثلاثة يقوم على العلاقة المرجعية، التي تستند إلى طبيعة العلاقة التي تربط بين الماثول والموضوع، أي بين الدال والمرجع. الأمر إذن أبعد ما يكون عن العلاقة بين الدال والمدلول، والتي أسهب "دوسوسير" وتلامذته في تحديد معالمها. وبما أن طبيعة الصورة البلاغية تتصل أساسا بطبيعة العلاقة بين طرفيها، فإن السيميائيات التأويلية هي الأقدر على سبر أغوار البلاغة العربية، وإعادة النظر إليها في ضوء المعارف المستجدة والنظريات المعاصرة. ذلك أن السيميائيات التأويلية تندرج ضمن فلسفة الإدراك، للكشف عن إواليات العلاقة بين الإنسان والعالم، كما أن البلاغة ليست سوى الوقوف على أوجه الإدراك الأكثر عمقا وجدة وتأثيرا. لذلك تزعم هذه الدراسة أن عناصر البلاغة العربية، وخاصة ما استقل به علم البيان من تشبيه وتمثيل واستعارة وكناية ومجاز، لا تخرج في محصلتها النهائية عن أداء الوظائف السيميائية الرئيسية سواء كانت أيقونية أو تأشيرية أو رمزية. 

تقتصر هذه الدراسة على إضاءة الوظيفة الأيقونية لصورتين بلاغيتين شهيرتين: التشبيه والتمثيل. وإن كان أغلب الدارسين يدخلونهما تحت أصل واحد هو التشبيه، ويجعلون التمثيل فرعا له وتنويعا عليه، فإن الدراسة المتأنية تخلص بالضرورة إلى أنهما صورتان مختلفتان في النوع وليس في الدرجة فحسب، وإن كان معيار الشبه يوحدهما، كما سيأتي بيانه.

1. مفهوم الأيقون (L’icône):
الأيقون علامة يرتبط ماثولها بعلاقة شبه (ressemblance) بموضوعها، هذا الشبه الذي قد يصل حد المماثلة والتطابق، فيصبح المرجع نفسه دالا، كدلالة الشخص على ذاته، فلا حاجة عندئذ لصورة تدل عليه، ولا تمثال يحاكيه. وقد يقتصر الشبه بين الدال والمرجع على بعض الخصائص كالتصوير (Photographie) كما هو الحال بالنسبة للبروتريه، وقد يتضاءل ذلك الشبه لينحصر في التخطيط (Diagramme) كما هو الحال بالنسبة للخرائط والبيانات الرياضية وبعض اللوحات التشكيلية.

ونظرا لقيام الأيقون على معيار الشبه والمماثلة (similitude)، فإنه يعد عند "بورس" أبسط أنواع العلامة، إذ الكشف عنه لا يستدعي مجهودا فكريا معقدا، فالعلامة الأيقونية تحمل دلالتها في ذاتها، ومن ثم، فإنها تنتمي إلى مقولة الأولانية حسب التصنيف البورسي لمراتب إدراك الوجود كما يلي: "الأيقون هو ماثول بحيث تكون الخاصية (la qualité) الممثَّلة هي أولانيةُ (la priméité) الماثول باعتباره أول. [...]، وبالتالي فإن أي شيء يمكنه أن يعوض الشيء الذي يشبهه، فالعلامة باعتبار مقولة الأولانية هي صورة لموضوعها" (C.S. Peirce, 1978, 148-149). هذا بالنسبة لتصنيف الأيقون حسب المقولات الثلاث (les trois catégories)، فهو أولاني تبعا للعلاقة البسيطة التي تربط الشيء بشبيهه.

أما بالنسبة لتعريف الأيقون باعتباره أحد أنواع العلامة، فيحدده بورس كما يلي: "الأيقون هو العلامة التي تحمل الخاصية التي تجعلها دالة [...] إنه علامة[1] تحيل على موضوعها عن طريق خصائصه الداخلية [...] وأيا كانت العلامة: نوعية، فردا موجودا أو قانونا، فإنها تكون أيقونا للشيء إذا كانت شبيهة بهذا الشيء، وتستخدم كعلامة له" (C.S. Peirce1978, 140).

إذن لا يكتمل مفهوم الأيقون حسب بورس إلا بتوفر ثلاثة شروط:

  1. أن يحمل الدال خصائص المرجع كلا أو جزءً.
  2. أن تكون هذه الخصائص داخلية، أي مادة المرجع أو شكله أو لونه أو حجمه، وليست خصائص خارجية كأن تكون مجاورة، أو أثرا للمرجع، كما هو الحال بالنسبة للمؤشر مثلا.
  3. أن يستخدم الأيقون في عرف مستعمليه كعلامة للشيء.

يتبين من خلال هذا التحليل أن الأيقون ليس فقط علامة معللة من خلال علاقة الشبه بين دالها ومرجعها، كما ذهب إلى ذلك جل الباحثين، ولكنه يتأرجح بين التعليل والمواضعة. فالشرطان الأولان يقضيان بتلقائية الأيقون، إذ يبدو كعلامة طبيعية لا تفتقر إلى مفتاح لفك شفرتها، فهي تحمل في ذاتها معالم دلالتها. أما الشرط الثالث فيبرز من خلاله جانب الاصطلاح والمواضعة، أي أن تعويض الدال للمرجع يتم عبر شفرات تسمح بإعادة إنتاجه. وذلك ما ذهب إليه إيكو معبرا عن هذا التأرجح من خلال علاقة جدلية يصوغها كالآتي: "يقوم معيار التشابه على قواعد دقيقة يتم على أساسها انتقاء جوانب معينة [أي جوانب الشبه بين الدال والمرجع] واستبعاد أخرى، وبمجرد قبول القاعدة [أي استقرارها على أساس المواضعة]، ينطلق تبعا لذلك التحفيز (motivation) الذي يربط العلاقة بين جهتين متكافئتين (deux cotés équivalents)، مما يبين أن تشابههما لا يكون على أساس اعتباطي بشكل صرف" (U. Eco, 1978, 42).

يتبين من خلال القراءة الفاحصة التي قام بها "إيكو" لـ"بورس"، أن الأيقون يتجلى كعلامة طبيعية تدل، بشكل مباشر وتلقائي، بسبب التحفيز القائم على الشبه. لكن ذلك لا ينفي تماما الوجه الاعتباطي للأيقون، باعتباره علامة تنهل من المواضعات الاجتماعية، وتستند إلى الشفرات الثقافية، في إنتاج دلالتها الاتفاقية. بناء على ذلك، نستنتج أن الوظيفة الأيقونية تهيمن على شطر الصور البلاغية العربية - التشبيه والتمثيل والاستعارة - وأكثرها حضورا في الشعرية العربية بمعناها العابر لكافة الأجناس الأدبية شعرا ونثرا، والمتصل بالخطابات المتعالية سواء كانت وحيا منزلا أو إبداعا إنسانيا خلاقا.

2. التشبيه ومستويات الأيقون:
عني اللغويون والبلاغيون العرب القدامى بالتشبيه حتى قدموه على سائر الأنواع البلاغية الأخرى، كما احتفى به النقاد فجعلوه صفة لازمة للشعر الجيد، وإمكانية تعبيرية لا يستغني عنها الشاعر المُجيد. وإن كنا في هذه الدراسة لا نقصر الحديث على الشعر وحده، بقدر ما نقصد دراسة الصورة البلاغية باعتبارها مرتكزا للأدبية، وسمة لازمة ومميزة للعمل الأدبي شعرا ونثرا.  وذلك منزع قديم، أي منذ جورجياس، المحاور السفسطائي لسقراط، الذي قام "بتأطير النثر تحت السنن البلاغي، مؤكدا عليه كخطاب معرفي، موضوع جمالي، لغة حاكمة، خليفة الأدب." (ر.بارث، 1985، 16).

يؤدي التشبيه وظيفة أيقونية واضحة، وذلك من وجهة نظر سيميائية، فالعلاقة بين طرفيه قائمة أساسا على الشبه والمماثلة. وتلك خاصية كل ماثول يعيد إنتاج عناصر من موضوعه. يقع معنى التشبيه في المجمل على ثلاثة أوجه:

الأول: التشبيه البين: وهو القائم على الوصف الدقيق الذي يروم الربط بين خصائص الموصوف الظاهرة وبين الأشباه والنظائر المشاهدة، بهدف تجلية المعنى وتقريبه إلى الأفهام، والتماس أجمل المسالك وأقربها إلى المتلقي. ويدخل تحت هذا الصنف "تشبيه الشيء بالشيء من جهة الصورة والشكل، نحو أن يشبه الشيء إذا استدار بالكرة في وجه وبالحلقة في وجه آخر. وكالتشبيه من جهة اللون كتشبيه الخدود بالورد، والشَّعر بالليل، والوجه بالنهار [...]، أو جمع الصورة واللون كتشبيه الثريا بعنقود الكرم المنثور." (الجرجاني: أسرار البلاغة، 71). وليس القصد هنا المطابقة التامة - وإنما التقارب البين الجلي - وإلا بطل التشبيه، "لأن تشبيه الشيء لا يكون إلا وصفا له بمشاركته المشبه به في أمر، والشيء لا يتصف بنفسه، كما أن عدم الاشتراك بين الشيئين في وجه من الوجوه يمنعك محاولة التشبيه بينهما" (السكاكي: مفتاح العلوم، 332).

الثاني: التشبيه القريب: ويقوم على المقارنة بين المتشابهات حسا أو عقلا مع التركيز على أوجه الائتلاف من أجل تقديم أحدهما بديلا عن الآخر، وفي هذا المعنى يقول الجاحظ: "إن قام الشيء مقام الشيء أو مقام صاحبه فمن عادة العرب أن تشبه به في حالات كثيرة" (الجاحظ: الحيوان، 4/273). ذكر ذلك في جواز تسمية زحف الأفعى مشيا أو سعيا على سبيل "التشبيه والبدل"، كيف لا وقد ورد في القرآن الكريم "فإذا هي حية تسعى" (سورة طه، الآية 20)، وقوله تعالى: "ومنهم من يمشي على بطنه" (سورة النور، الآية 45)، ذلك أن الزحف والمشي وإن اختلفا فإنهما يشتركان في الوظيفة، وهي الانتقال والحركة. ومثاله أيضا ما أورده عبد القاهر مما يحتاج إلى تأويل خفيف كـ "قولهم في صفة الكلام: ألفاظه كالماء في السلاسة، وكالنسيم في الرقة، وكالعسل في الحلاوة" (الجرجاني: أسرار البلاغة، 73). يمكننا تصنيف هذا المثال ونحوه في فئة التشبيه القريب، الذي وإن كان محتاجا إلى التأويل فإنه يبقى سهل المأخذ قريب الحضور إلى الذهن.

الثالث: التشبيه البعيد: الكشف عن الشبه الخفي وتأسيس العلاقة بين المتباعدات المختلفات حكما أو عرفا، لإنتاج تشبيهات مبتكرة، لا تتحصل إلا بعد طول تأمل، ولا تخطر على أي كان. ولما احتاج هذا النوع الثالث إلى جهد فكري، وقدر من التأويل، سواء بالنسبة لمحفل الإنتاج أو التلقي، كان أدعى لتحقيق متعة الأدب ولذة القراءة.

ومن ذلك تشبيه البرق بالمصحف في "قول ابن المعتز:

                 وكأن البرق مصحف قار             فانطباقا مرة وانفتاحا

[...] وتشبيه سطور الكتاب بأغصان الشوك في قوله:

            بلفظ يأخذ الحرف المحلى            كأن سطوره أغصان شوك"

(الجرجاني: أسرار البلاغة، 136)

وهذا من التشبيه البعيد الذي " منه ما يحتاج إلى قدر من التأمل، ومنه ما يدق ويغمض حتى يحتاج في استخراجه إلى فضل روية ولطف فكرة" (الجرجاني: أسرار البلاغة، 73).

تتناسب هذه التقسيمات المبثوثة في كتب القدماء بلاغيين ولغويين بشكل كبير مع النظرية السيميائية في تقسيم الأيقون إلى مراتب تبعا لدرجة وضوح علاقة الشبه بين الماثول والموضوع. فتتحدث السيميائيات التأويلية عن درجات الأيقنة (les degrés de l’icônisation) التي تسعفنا في قياس حدة الشبه[2]. عندما تناول إيكو هذه المسألة أورد مجموعة من التفريعات تبعا لمعايير متعددة، يمكننا أن نستنتج منها ثلاثة أقسام جامعة ومفيدة كما يلي:

  • الأيقون الحرفي: وتدخل تحته التماثيل المجسدة، والصور الفوتوغرافية، والفنون التصويرية ذات الطبيعة الواقعية سواء كانت تشكيلا، أو مسرحا، أو سينما...

كما تدخل تحته المطابقة التامة بين الماثول والمرجع، وهو ما يطلق عليه السيميائيون "سميأة المرجع"[3]، وذلك عندما نحضر الشيء للدلالة على صنف الأشياء التي يمثلها.

  • الأيقون المحاكي: وذلك عندما يحاكي الماثول موضوعه في بعض سماته، كأن نمثل جسد الإنسان بأهم مكوناته (الرأس بدائرة + الجذع بخط عمودي+ الأطراف بخطوط ناتئة من الجذع ومائلة إلى الأسفل)، وذلك بعيدا عن المماثلة التفصيلية التامة.
  • الأيقون الخطاطي: ونحصل عليه عندما تصير محاكاة الماثول للمرجع أكثر تجريدا مما هو عليه الحال بالنسبة للأيقون المحاكي، وهي الحالة التي تنطبق على الخرائط الجغرافية والبيانات الإحصائية والمنحنيات الرياضية.

1.2. التشبيه البين أيقون حرفي:
يتناسب التشبيه البين مع وضوح الأيقون القائم على اشتراك الشبيهين في صفة ظاهرة لا تحتاج إلى طول نظر، لهذا نجد عبد القاهر لما جرد عدة أمثلة لهذا النوع أردف معلقا بقوله: "فالشبه في هذا كله بين لا يجري فيه التأويل، ولا يفتقر إليه في تحصيله، وأي تأول يجري في مشابهة الخد بالورد في الحمرة وأنت تراها ههنا كما تراها هناك؟" (الجرجاني: أسرار البلاغة، 72)، كما تصدق هذه الصورة على ما ذكره السكاكي في قسم "تساوي طرفي التشبيه"، حيث يستحيل التشبيه تشابها، إن "التشبيه إذا وقع في باب التشابه، صح فيه العكس [...]، فصح أن يقال: [...] بدا الصبح كغرة الفرس، وبدت غرة الفرس كالصبح، متى كان المراد بالشبه وقوع منير في مظلم، وحصول بياض في سواد، مع كون البياض قليلا، بالإضافة إلى السواد" (السكاكي: مفتاح العلوم، 346).

يتسم الأيقون الحرفي بدرجة من الوضوح تقربه من الأسلوب التقريري، لذلك فإنه شكل تأباه الشعرية المعاصرة، يقول غاستون باشلار بهذا الصدد: " تتحول الصور الشديدة الوضوح إلى أفكار عادية، فتؤدي بذلك إلى كبح الخيال، رأينا، فهمنا، قلنا، كل شيء مغلق. لذلك علينا أن نعثر على صورة متميزة تبعث الحياة في الصورة العادية" (G. Bachelard, 1957, 149).

2.2. التشبيه القريب أيقون محاكي:
التركيز على وجه شبه بعينه، بحيث لو حذف لصار التشبيه بعيدا، ولتجلى في صورة التشبيه المتكلف الذي يحتاج إلى مشقة لتكشف مبانيه عن معانيه ومراميه. إذا رجعنا إلى مثال عبد القاهر السابق، وحذفنا وجه الشبه وأداته لنحصل على تشبيه بليغ كالآتي: "ألفاظه ماء ونسيم وعسل"، فإن الدلالة تصير إلى الالتباس قليلا، فنضطر لرفعه إلى جرد صفات الماء كالعذوبة والسلاسة والصفاء والسيولة والميوعة والشفافية. ودراسة الاحتمالات للوقوف على أقرب تلك الصفات إلى القول الحسن المحبب إلى النفوس. ثم إن التشبيهات المترادفة في هذا المثال ضيقت مجرى الدلالة، فصارت أقرب إلى المعاني الإيجابية، ذلك ما توحي به لفظتا النسيم والعسل. إذ لو قصرنا التشبيه على طرفين فقلنا: "ألفاظه كالماء" لاستوى الحسن والقبح وتعذر الترجيح، فلا ندري لو كنا بصدد الشعر مثلا أهو مدح أم هجاء؟ لأن الدلالة تتجه إلى أن حديث الرجل سلس عذب ومدعاة للأنس والارتياح، كما تتجه إلى أن ألفاظه مائعة منحطة، كما تدل بنفس القدر على أن الرجل يعاني من سيولة لفظية فهو ثرثار ممل. إن الجهد التأويلي المبذول لاستقصاء دلالة التشبيه هاهنا، هو ما يجعل منه أيقونا محاكيا يفتح الدلالة على احتمالات شتى.

لذلك، قد يحتاج التشبيه في هذه الحالة إلى تفصيل وجه الشبه، وإلا استغلق معناه، كتشبيه العرب للرجل بالنعامة، "لأن الناس يضربون بها المثل للرجل إذا كان ممن يعتل في [كل] شيء يكلفونه بعلة، وإن اختلف ذلك التكليف، وهو قولهم: «إنما أنت نعامة، إذا قيل لها احملي قالت: أنا طائر، وإذا قيل لها طيري قالت: أنا بعير»" (الجاحظ: الحيوان، 4/323). وهو تفصيل ضروري هنا، إنه يحيل على ثقافة بأكملها، وكيف تصورت هذا الحيوان، وتخيَّلَته يتعلل لعجزه بالشيء ونقيضه. وذلك ما تؤكد عليه السيميائيات الثقافية، والتي ترى أنه لا سبيل إلى تأويل العلامات دون الغوص في ثقافة منتجي تلك العلامات ومستهلكيها.

3.2. التشبيه البعيد أيقون خطاطي:
يتضاءل التحفيز القائم على الشبه إلى حدوده الدنيا، فيخرج التشبيه مخرجا عسيرا دون أن يكون مستحيلا، وإلا صار إلى فئة الرمز المستغلق الذي لا سبيل إلى الربط بين طرفيه إلا بتفصيل من محفل الإنتاج. إذن يتم الاستناد إلى وجه شبه مفترض، لا يحتكم إلى منطق صارم، ولا مماثلة شكلية. قد يقبله المتلقي فيصير أيقونا عرفيا وصورة اتفاقية. وقد يرفضه فلا يلزم إذاك إلا منتجه.

ومن أمثلته ما ذكره صاحب مفتاح العلوم في قوله: "كما إذا شبهت وجها أسود بمقلة الظبي، إفراغا له في قالب الحسن، [...] أو كما إذا شبهت الفحم فيه جمر موقد ببحر من المسك موجه الذهب" (السكاكي: مفتاح العلوم، 341)، فما أبعد البحر عن الفحم، والجمر عن الذهب، واعتبر ذلك مدعاة للتأمل الجالب لتذوق الأدب الرفيع، وإثارة مكامن اللذة الفكرية لدى المتلقي الذواقة النبيه، الذي يستطرف النادر المبتكر ويستشعر حسنه، يقول: "وللاستطراف وجه آخر وهو أن يكون المشبه به نادر الحضور في الذهن، [...] فإذا أحضر استطرف استطراف النوادر عند مشاهدتها، واستلذ استلذاذها لجدتها، فلكل جديد لذة." (السكاكي: مفتاح العلوم، 341- 342)، وتلك إشارة قديمة إلى ما تحفل به نظريات الشعرية المعاصرة التي تجعل من الانزياح (l’écart) بما هو خرق للمألوف معيارا لأدبية الأدب.

يقتصر الشبه هنا على الخطاطة العامة للشيء، فلا يتم الربط بين طرفيه إلا بربط العلاقات بين المتباعدات، وربما المتنافرات بحكم العادة والعرف. وهو ما ينطبق أيضا على أبيات ابن المعتز السالفة الذكر، والتي جمع فيها بين البرق والمصحف حينا، وبين سطور الكتاب وأغصان الشوك حينا آخر، تاركا للسامع/ المتلقي أن يذهب كل مذهب في تأويل وجه الشبه بين طرفي كل صورة.

ذلك، وتذهب الشعرية المعاصرة إلى أن بلاغة الحذف والإجمال في مثل هذه الحالات أعمق أثرا من بلاغة التصريح والتفصيل، يقول الشاعر الفرنسي مالارميه "إن تحديد كل شيء باسمه يعني استبعاد ثلاثة أرباع متعة القصيدة، التي تنتج عن السعادة المصاحبة للتخمين، لذلك فإن الحلم يكمن في التلميح إلى الموضوع" (U. Eco, 1965, 17)، يسوق إيكو هذا القول، ثم يعلق عليه مستنتجا: "لذلك، فإن الواجب أن نتحاشى فرض تأويل أحادي على القارئ" (U. Eco, 1965, 17).

وكما أن انفتاح النص يتطلب جهدا من القارئ، واستفراغا للوسع في تتبع أوجه الدلالة، فإنه أيضا علامة على عبقرية الأديب الذي ينتج نصوصا تقصد أكثر مما تقول، وتضمر أكثر مما تظهر، ذلك ما أشار إليه الجرجاني في قوله: "وإنما الصنعة والحذق والنظر الذي يلطف ويدق في أن تجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة، وتعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة. وما شرفت صنعة ولا ذكر بالفضيلة عمل إلا لأنهما يحتاجان من دقة الفكر ولطف النظر ونفاذ الخاطر إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على من زاولهما والطالب لهما في هذا المعنى ما لا يحتكم ما عاداهما. ولا يقتضيان ذلك إلا من جهة إيجاد الائتلاف في المختلفات" (الجرجاني: أسرار البلاغة، 127).

لعل هذه المرونة التي يتسم بها الأيقون فتقربه من الرمز بالمعنى البورسي[4]، هي السبب الرئيس في اختلاف القدماء في فهم وتأويل عدد من التشبيهات الشهيرة في الشعر العربي، حتى إننا نجد لغويا كالمبرد يقسم التشبيه على أساس القرب والبعد، ليذم ما كان بعيدا لا يحضر إلى الذهن إلا بمشقة، ثم يقول: "واعلم أن للتشبيه حدا، لأن الأشياء تشابه من وجوه، وتباين من وجوه، فإنما ينظر إلى التشبيه من أين وقع" (المبرد: الكامل، 3/41)، لكننا نجده يطرب لتشبيهات بعيدة ويعجب من قدرة أصحابها على الجمع بين المتنافرات، ومنها تشبيه المصلوب بالمبتسم رغم التنافر البين والتناقض الواضح بين الحالين:

"قال حبيب بين أوس:

              قد قلصت شفتاه من حفيظته               فخيل من شدة التقليص مبتسما"

(المبرد: الكامل، 3/39).

3. التمثيل والتأويل المضاعف:
اشتهر التمثيل بإحالته على التشبيه المركب، ولا يعني ذلك التشبيه المترادف الذي تتلاحق فيه الصور وتتتابع بهدف إذكاء التصوير، إنما هو صورة مركبة من ثلاثة تشبيهات على الأقل، لننتقل بذلك من علاقة التشبيه إلى تشبيه العلاقة. ومن أشهر أمثلته قوله تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا" (سورة الجمعة، الآية: 5). تربط البلاغة القرآنية في هذه الآية بين ستة أطراف موزعة على ثلاثة محاور:

 

 

الطرف الأول

الطرف الثاني

المحور الأول = علاقة تشابه 1

الكتابيُّ

الحمار

المحور الثاني = علاقة تشابه 2

حمل الكتاب المنزل

حمل الأسفار

المحور الثالث = تشابه علاقة

عدم الانتفاع بالكتاب: (علاقة الكتابي بالكتاب المحمول في صدره)

الجهل بما تحويه الأسفار (علاقة الحمار بالأسفار المحمولة على ظهره)

 

إذن، لا يتوقف الأمر عند علاقة الشبه بين الكتابي والحمار، ولا عند شبه الكتاب غير المنتفع به بالأثقال، وإنما يتجاوزه إلى تشابه العلاقة، أي أن العلاقة بين الكتابي والتوراة تماثل العلاقة بين الحمار والأثقال العلمية التي لا انتفاع له بها ولو تجشم عناءها. إنه ربط مركب من تشبيهين، نتج عنه بالضرورة تشبيه ثالث، فالأولان مصرح بهما، والثالث مضمر يستنتج من رد الأول على الثاني، و"بيان ذلك أنه احتيج إلى أن يراعى من الحمار فعل مخصوص، وهو الحمل، وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا وهو الأسفار التي فيها أمارات تدل على العلوم، وأن يثلث ذلك بجهل الحمار ما فيها حتى يحصل الشبه المقصود. ثم إنه لا يحصل من كل واحد من هذه الأمور على الانفراد[5]، ولا يتصور أن يقال إنه تشبيه بعد تشبيه من غير أن يقف الأول على الثاني، ويدخل الثاني على الأول" (الجرجاني، أسرار البلاغة، 81). تنطبق على النموذج القرآني الذي سقناه قولة البلاغيين: "أبلغ الكلام ما قلب السمع بصرا". فهو يجسد الحالة، ويشخص المعنى حتى لكأنه رأي عين.

تتجاوز المحاكاة هنا الشكل الظاهر، فلا علاقة صورية بالمعنى المنطقي بين الكتابي والحمار، إنما تتجه المحاكاة إلى الفعل، ولما كان استقصاء أثر تلك المحاكاة رهينا بجرد عناصر الصورة وحسن ترتيبها، لاستنتاج المعنى المستفاد، احتاج المتلقي إلى مؤول دينامي يشغل الفكر ويوقظ الإحساس. ومن ثم كانت الوظيفة السيميائية للتمثيل أقرب إلى الأيقون المركب الذي يتجاوز النقل الحرفي، أو المحاكاة الشكلية. ولعل ذلك هو التعبيـر المعاصر عن مذهب الجرجاني القديم إذ يقول: "وعلى الجملة فينبغي أن تعلم أن المثل الحقيقي والتشبيه الذي هو أولى بأن يسمى تمثيلا لبعده عن التشبيه الظاهر الصريح ما نجده لا يحصل لك إلا من جملة من الكلام أو جملتين أو أكثـر، حتى إن التشبيه كلما كان أوغل في كونه عقليا محضا كانت الحاجة إلى الجملة أكثر" (الجرجاني، أسرار البلاغة، 87).

ولما كان التمثيل تشبيها مركبا، فإنه يؤدي نفس الوظيفة السيميائية الأيقونية القائمة على الشبه والمماثلة، لكن مع مزيد تركيب. فينتقل التصوير البلاغي من مجرد عرض الصورة إلى بناء الصورة، وتجليتها للناظرين وفق طبقات دلالية يفضي بعضها إلى بعض. فلا سبيل إلى التذوق الجمالي لهذا البناء الأيقوني دون تفكيكه إلى عناصره الأولية، والوقوف على براعة التركيب التصويري المنتج لمعنى ثالث هو المحصلة النهائية المنتجة للأثر الأدبي الإمتاعي والأثر الذهني الإقناعي.

الأثر الجمالي المرتكز على تشغيل الخيال، واستحضار الصور المتراكبة، وتتبع ما بينها من تناسب وانسجام، واستكشاف البنية العلائقية بين تلك الصور، وما يتولد عنها من دلالات ظاهرة وخفية. وهو ما يتطلب قدرة على التحليل والتركيب وتمييزا بين مستويات التشبيه، ذلك أن التمثيل قد يتألف من أيقونات حرفية أو أيقونات محاكية أو أيقونات خطاطية حسب نوع التشبيهات المنضوية تحته. هذا، ويؤدي التمثيل وظيفة إقناعية واضحة. فهو من أقوى الحجـج التي يتوسل بها إلى إفحام الخصم، وإبطال دعواه. ذلك أن حمل الكتاب، أي حفظه عن ظهر قلب، وترديده عبـر تراتيل تلوكها الألسنة، ليس دليلا على التحمل المطلوب، وإلا كان الحمار أولى بحمل الكتاب لقدرته على حمل الأسفار الضخمة في أوعيته. وإنما الحملُ الانتفاعُ، وتمثُّل التعاليم اعتقادا وسلوكا، قولا وعملا. ومما يزيد التمثيل قوة ورسوخا، أنه حجة ممتدة في الزمن، لما تحوي من ضرب المثل للمتأخرين، لأخذ العبرة من انزلاقات السابقين.

تتمتع حجة التمثيل بقدرة حجاجية مزدوجة، نفيا وإثباتا، إبطالا وإحقاقا، فكما أنه من أقوى حجج الإبطال كما سبق بيانه، فإنه من أوضح حجج الإثبات، وذلك لما له من قدرة على الإقناع بالدعوى مهما بدت متهافتة أو متناقضة للنظر السطحي المتسرع. فيخرج التمثيل مخرجا "غريبا بديعا يمكن أن يخالف فيه ويدعى امتناعه واستحالة وجوده، وذلك نحو قوله:

              فإن اتفق الأنام وأنت منهم                 فإن المسك بعض دم الغزال"

(الجرجاني: أسرار البلاغة، 103)

تبدو هذه الدعوى مغرقة في المبالغة والتملق إلى الممدوح بما هو بعيد عن مقتضى المنطق السليم، إذ كيف يتفوق المماثل على أبناء جنسه تفوقا يرفع قدره إلى درجة تجعله مفارقا لهم، ونوعا فريدا من بينهم. وهنا يأتي التمثيل بالحجة الدامغة من الحقيقة العينية المشاهدة على صدق الدعوى، وخروجها عن تهمة التهافت إلى الإمكان والتحقق[6]. وبذلك تؤدي الكثافة التصويرية وظائفها في الاتجاهين:

  • تكثيف الصور لتشكيل أيقونة مركبة تتجاوز التصوير المفرد، وتغتني بالدلالات المباشرة والضمنية.
  • تكثيف الحجج، وتمثيلها للحس والعيان، بما ييسر ولوجها إلى الذهن، فتتلقاها العقول بالقبول، مما يفضي إلى التسليم والإذعان.

على سبيل الختم:
بعيدا عن حمى التصنيفات التي أنهكت الدرس البلاغي تفريعا وتقعيدا، فإن الوظيفة الأيقونية تتجه رأسا إلى تجلية المعاني محسوسة ومجردة في صور شاخصة تثير السامع/ المتلقي فتملأ سمعه وبصره، وتنفذ إلى عقله من أقوى المداخل تأثيرا، فتأخذ بلبه وروحه إقناعا وإمتاعا. كما نخلص من الدراسة الأيقونية الموجزة لصورتي التشبيه والتمثيل إلى جدارة السيميائيات التأويلية، وقدرتها على مقاربة البلاغة العربية، بما يؤدي إلى إعادة صياغة الدرس البلاغي المتصل بالتصوير الفني، وتجديد توصيف معيار تصنيف الصور البلاغية العربية، بما يساهم في تقريبها من المتلقي العربي والعالمي. وذلك مطمح كبيـر ومشروع ضخم لا تبلغ هذه الدراسة مُدَّهُ ولا نصفه، إنما غاية مرادها التنبيه إلى إمكانية الغوص في موضوع خصب لكل باحث يمتلك مجدافا وبوصلة.

 

الببليوغرافيا:

 

[1]  يكتنف هذا التعريف بعض الالتباس، الذي لا يرتفع إلا بمعرفة طبيعة الاصطلاح البورسي، فالعلامة عنده وحدة ثلاثية التركيب، وعناصرها هي الماثول والموضوع والمؤول، هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية، قدرة كل عنصر من هذه العناصر على الاشتغال كعلامة بمفرده، فالماثول عنده علامة يحيل على موضوع باعتباره علامة، عبر توسط المؤول الذي يشتغل هو أيضا كعلامة، وارتباط هذه العناصر وفق بنية علائقية محددة يعطي وحدة سيميائية هي العلامة.  لكن بورس غالبا ما يطلق العلامة على الماثول، ولعل ذلك راجع لكونه منطلق السيرورة السيميائية التي تتمثل في"ماثول يحيل على موضوع عبـر مؤول". لذلك يمكننا قراءة الجملة "إنه علامة تحيل على موضوعها عن طريق خصائصه الداخلية" بطريقة أخرى فنقول: "إنه ماثول يحيل على موضوعه عن طريق خصائصه الداخلية".

[3] وهو الحالة التي استغربها إيكو دون أن يرفضها تماما، يقول: "والغريب أن التعريف الأكثر مقبولية للأيقونية هو ذاك الذي ينفي عنها صفة العلامة: فالأيقونية عند موريس هي (تكون) تامة عندما تتطابق العلامة مع موضوعها (أنا أملك كل خصائصي، أكثـر مما تتوفر عليه صورتي). إن الحجة ليست مفارقة كما يبدو في الظاهر، ذلك أنه علينا أن نقبل، ويمكن أن نفعل ذلك، أن كل الموضوعات التي نحيل عليها من خلال الدلالة تتحول إلى علامات. وبهذا نصل إلى سميأة للمرجع" (أ. إيكو، 1971، 96).

[4]  يجب التمييز هنا بين مفهوم الرمز عند بورس وبين اصطلاح دوسوسير، الرمز حسب بورس علامة يرتبط ماثولها بعلاقة اصطـلاحية بموضوعها.  فالعلاقة غير مبـررة ولا معللة، إذ لا تتضمن أي تحفـيز، فهي اتفاقية بطبيعتها، فليس هناك أي تشابه أو رابط مادي بين الدال والمرجع. يقول بورس: "الرمز هو العلامة التي تحيل على موضوعها بواسطة قانون، والذي عادة ما يكون عبارة عن تشارك أفكار عامة، يتم من خلالها تأويل الرمز" (Charles S. Peirce, 1978, 140). وهكذا يعد الرمز عند بورس مشتملا على مفهوم العلامة اللسانية عند دوسوسير. أما الرمز عند "دوسوسير" فإنه يخالف مفهوم الرمز عند "بورس"، فحسب التقليد السوسيري: "أن من خاصيات الرمز أنه ليس اعتباطيا بالكامل، الرمز لا يقوم على الفراغ، هناك أصل لرابط مادي بين الدال والمدلول. فالميزان الذي هو رمز العدالة، لا يمكننا تعويضه بأي شيء، كأن نعوضه بدبابة مثلا" (F. De Saussure, 1915, 76). لأن الميزان يذكرنا تماثليا بالعدالة عبر توازن كفتيه. وبالتالي فإن: الرمز عند دوسوسير يماثل تقريبا الأيقون عند بورس.  نتحدث عن هذه المقارنات جميعا على سبيل التقريب والموازنة، وذلك باستحضار الفارق بين النظريتين، ذلك أن سوسير يتحدث عن العلاقة بين الدال والمدلول بينما يتحدث بورس عن العلاقة بين الماثول والموضوع.

[5] تتجلى هنا الخلفية المؤطرة لفكر الجرجاني، وهي "نظرية النظم"، أي أن العبـرة عنده بتركيب العبارات وتأليف الكلام، وليس مجرد انتقاء الألفاظ على الانفراد، لذلك فإنه يعد التمثيل نوعا أرقى من التشبيه إقناعا وإمتاعا، وليس ذلك إلا لمزية التأليف والنظم التي هي أظهر في التمثيل وألصق به مما سواه. يقول الجرجاني في التأسيس لنظرية النظم: "وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة أو الذهب خاتما أو سوارا أو غيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما، ولكن بما يحدث فيهما من الصورة، كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف، كلاما وشعرا من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخي معاني النحو وأحكامه" ( الجرجاني: دلائل الإعجاز،  488).

[6]  يورد الجرجاني هذا المثال ثم يعلق بقوله: " وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حد بطل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهة ومقاربة، بل صار كل أصل بنفسه، وجنس برأسه، وهذا أمر غريب، وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصة به إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك الجنس، وبالمدعى له حاجة إلى أن يصحح دعواه في جواز وجوده على الجملة، إلى أن يجيء إلى وجوده في الممدوح. فإن قال «فإن المسك بعض دم الغزال» فقد احتج لدعواه وأبان أن لما ادعاه أصلا في الوجود، وبرأ نفسه من صفة الكذب وباعدها من سفه المقدم على غير بصيرة، والمتوسع في الدعوى من غير البينة، وذلك أن المسك قد خرج عن صفة الدم وحقيقته، حتى لا يعد في جنسه، إذ لا يوجد في الدم شيء من أوصافه الشريفة الخاصة بوجه من الوجوه، لا ما قل ولا ما كثـر، ولا في المسك شيء من الأوصاف التي كان لها الدم دما البتة". (الجرجاني: أسرار البلاغة، 103-104).