بعد مرثيته الأخيرة لبلاده
نعى أدباء ومثقفون وسياسيون يمنيون وعرب وفاة الشاعر والأديب اليمني عبدالعزيز المقالح عن عمر ناهز 85 عاما وذلك بعد معاناة مع المرض. ولد عبدالعزيز صالح المقالح عام 1937 في قرية والدته الصول، وهي إحدى قرى محافظة إب التي يطلق عليها اليمنيون “اللواء الأخضر” لخضرتها الدائمة وجمال طبيعتها على مدار العام. وفي هذه الأجواء بدأ حياته طفلا قرويا ميالا إلى المناظر الطبيعية وشغوفا بالحكايات التي ترويها العجائز ويحفها اللون الأخضر من كل الجهات.
قضى ست سنوات فقط من عمره هناك، قبل أن ينتقل إلى صنعاء. لكن تلك السنوات القليلة ظلت غائرة في أقصى زوايا ذاكرة الشاعر الذي عاد ليسترجعها في العام 2000 من خلال ديوانه “كتاب القرية” الذي شارك القراء من خلاله ذكرياته الدفينة، وعوالمه التي وصفها مرارا بأنها الأكثر دهشة واكتشافا واختزالا لتفاصيل حياتية جديدة. عن رحلته بين عالمين من القرية إلى المدينة يقول “الصورة الأولى التي التقطتها الذاكرة لصنعاء كانت في الظهيرة حين لمحتها، من على ظهر الجمل الذي حملني في رحلة السفر الأولى من قريتي إلى صنعاء. وعندما اقتربنا منها وبدأت نوافذ البيوت تتضح بجلاء هبطت من ظهر الجمل وبدأت أسير على ترابها الناعم بقدميّ العاريتين”.
نشأ عشق المقالح للكتابة والقراءة منذ الطفولة، حيث كان لديه هوى جارف نحو الكلمات المكتوبة، والفضل في ذلك يعود إلى مكتبة والده التي كانت تزخر بكتب التراث إلى جانب نماذج من الكتابات المعاصرة في ذلك الحين، وقد تأثر كثيرا بما قرأه في تلك المكتبة التي شكلت ثقافته وتكوينه وزرعت فيه بذرة الكتابة التي اكتسبها من التنقل بين دفات الكتب التي قضى أيامه المعرفية الأولى بين جنباتها.
وبدأ المقالح كتابة الشعر في منتصف الخمسينات، وترافق ذلك مع اشتغاله في إذاعة صنعاء حيث تنسب إليه الكثير من الشهادات أنه قام بإذاعة البيان الأول لثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، وقد ساهم مبكرا في نشر الوعي الثوري والأدبي في اليمن، لكنّ دواوينه الشعرية وكتاباته ظلت قيد الدفاتر ولم يهيأ لها النشر إلا بعد انتقاله إلى مصر. أصدر عددا من الدواوين في الفترة القاهرية، وكان واضحا عليها آثار الحنين إلى وطنه ومن تلك الأعمال “لا بد من صنعاء” (1971)، “مأرب يتكلّم” بالاشتراك مع السفير عبده عثمان (1972)، “رسالة إلى سيف بن ذي يزن” (1973)، “هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي” (1974)، “عودة وضاح اليمن” وقد صدر في السنة التي سبقت عودته إلى صنعاء مجددا في العام 1976.
توغل المقالح في المشهد الأدبي المصري في الوقت الذي كان يستكمل فيه دراساته الأكاديمية حتى حصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة عين شمس في العام 1977. وقد شكلت فترة القاهرة التي امتدت من منتصف الستينات من القرن العشرين إلى سنة 1977 المرحلة الثانية المهمة في تكوينه وفتحت له آفاقا جديدة ولا متناهية نحو القراءة والكتابة والعيش في حميمية المشهد الثقافي العربي والصالونات الأدبية وحتى المعارك الثقافية والنقدية والجدل حول الأنماط والأشكال الأدبية التي كانت في ذروتها في تلك الفترة الزاخرة من حياته. عاد المقالح إلى وطنه وانخرط في تدريس الأدب بجامعة صنعاء حتى شغل منصب أستاذ الأدب والنقد الحديث في كلية الآداب بجامعة صنعاء بدرجة أستاذ في العام 1987.
اتسمت تلك المرحلة إثر عودته من القاهرة إلى صنعاء بتكريسه كواحد من أهم الشعراء والكتاب العرب في القرن العشرين وبوصفه بوابة اليمن الثقافية، كما مكنته علاقاته الواسعة بالمثقفين والكتاب والأكاديميين العرب من تقديم خدمات كبيرة للمشهد الثقافي اليمني، وفي المقابل احتضان العديد من الأدباء والمثقفين العرب الذين شهدت بلدانهم اضطرابات في فترات لاحقة. لقد كانت مهمته أيسر من خلال تبوّئه العديد من المناصب الأكاديمية والثقافية في اليمن مثل توليه رئاسة جامعة صنعاء ما بين عامي 1982 و2001، إلى جانب رئاسته لمركز الدراسات والبحوث اليمني الذي لا زال فيه حتى اليوم، والمستشار الثقافي للرئاسة اليمنية ورئاسة مجمع اللغة العربية في اليمن.
حظي المقالح بتقدير مماثل على الصعيدين العربي والدولي من خلال اختياره كعضو في مجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق وعضوية مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، وعضوية الأكاديمية الدولية للشعر في إيطاليا. وطيلة توليه لتلك المناصب، عمل على جذب الكثير من الأكاديميين والمثقفين والكتاب والمبدعين العرب إلى اليمن وكان ذلك وفقا لبعض الناشطين في المشهد الثقافي اليمني إنجازا يوازي إنجازاته في الإبداع والتأليف، حيث أثرى المكتبة اليمنية والعربية بحوالي خمسة وأربعين كتابا بين إبداعات شعرية ومؤلفات أدبية ونقدية وثقافية، ومثّل اليمن في معظم المؤسسات والمجاميع الثقافية العربية.
ونال العديد من الأوسمة والدروع والجوائز اليمنية والعربية والعالمية مثل جائزة اللوتس في العام 1986، وأوسمة الفنون والآداب في شطري اليمن قبل الوحدة، وحصل على جائزة الثقافة العربية، من اليونسكو في باريس في العام 2002 وجائزة الفارس من الدرجة الأولى في الآداب والفنون من الحكومة الفرنسية في العام 2003. وجائزة الثقافة العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) خلال العام 2004، وجائزة الشعر من مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في العام 2010.
وعلى الرغم من الإنجازات الأدبية والثقافية التي حققها المقالح والاحتفاء العربي والعالمي بمنجزه الأدبي، إلا أن حياته لم تخل من الكثير من المنغّصات الخاصة، فعبر رحلته مع الكتابة والتنوير والريادة، كان وبصفته رئيسا لجامعة صنعاء ورئيسا لمركز الدراسات والبحوث اليمني، طوال الوقت هدفا للجماعات السلفية والإخوانية التي ما فتئت تكفّره وتخرجه من الملّة والدين وقد كفّر أربع مرات بين مطلع ثمانينات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي.
وترافقت حملات التكفير التي طالت المقالح مع ما يمكن أن توصف بأنها “مرحلة التمرد على الشكل والمضمون في تجربته الشعرية”، وهي المرحلة التي شهدت صدور أكثر أعماله إثارة للجدل مثل ديوان “الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل” (1978) و”الخروج من دوائر الساعة السليمانيّة” (1981)، “أوراق الجسد العائد من الموت” (1986)، قبل أن تبدأ مرحلة أخرى يمكن أن نطلق عليها مرحلة التأمل والتصوف واستعادة الذكريات في شعر المقالح والتي جاءت بعد توقف وبدأت من ديوانه “أبجدية الروح” (1998)، “كتاب صنعاء” (1999)، “كتاب القرية” (2000)، “كتاب الأصدقاء” (2002)، “كتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان” (2004)، “كتاب المدن” (2005).