تخوض الروائية العراقية عالية ممدوح في التجربة العراقية المعاصرة، غائرةً حتى قيعانها العميقة محللة البنى الاجتماعية والسياسية الفاعلة في ساحة الصراع الدموي على السلطة الذي عصف بالجميع، منذ استلام العسكر للسلطة في تموز 1958. بداية غياب العقل الحضاري العراقي الكامل، وطغيان طبيعة الشخصية الريفية العراقية الطيبة ظاهراً، وشديدة القسوة باطناً. سنقع على هذه الثيمة الجوهرية .. لنص «الغلامة»*ـ من خلال رحلة جحيمية في أعماق امرأة عراقية مثقفة حالمة، تسرد لنا بحنان وألم تفاصيل عالمها الداخلي المتشظي بكل حرية من يعلم بأن ما يبوح به سيقرأ بعد موته. وهذه اللعبة الفنية أتاحت للشخصية المركزية، صبيحة، وهي الساردة بضمير المتكلم تعرية ما يفور في أعماق العراقية، وكل امرأة ترزح تحت ضغط بيئة صارمة مغلقة، بنموذجها المثقفة المتطلعة نحو حياة أفضل، والمندفعة نحو الانخراط في النشاط السياسي من أجل بناء مدينة ـ ماركس ـ الفاضلة. هذه المرأة هي الروح الحية والمتمردة والشجاعة، لملايين النسوة العراقيات، اللواتي يتحملن عبء الحياة بصبر وصمت وحكمة. هذه الثيمة المضمرة ستتجلى حال إتمام قراءة النص وما سيؤول إليه مصير المرأة المتمردة في بيئة مغلقة.
جوهر الثيمة التي أشرت إليها عن تجليات مجتمع القسوة يتلخص في المصير التراجيدي لصبيحة التي أوهمها الخطاب السياسي الثوري بحلم الحرية، وهي الطالبة في كلية الآداب وقتها، فجعلها تفصح عن دخيلتها في الحب والحياة، متجاوزة قيود الأعراف لتجد نفسها بغتة نزيلة الملعب الأولمبي في الأعظمية، المتحول إلى معتقل في الثامن من شباط 1963 .. مدماة مغتصبة .. ذليلة، وهو زمن شروع السرد في النص بمطلع الفصل الثاني المعنون بـ (المخلفات). ستبوح هذه الشخصية المنتهكة سراً على الورق، في محاولة لصياغة سيرتها الذاتية روائياً عبر لعبة الكاتبة، بإشراك شخصيتها الروائية في مسابقة كتابة رواية أعلنتها صحيفة الغد. سنخوض في شؤون لم يجرؤ روائي عراقي سابقاً الخوض فيها. سيفضح النص هول البيئة الاجتماعية المغلقة، المتزمتة، الطهرانية بعاداتها وتقاليدها وقيمها التي ستطبع بشرها وآلية الاختلاف والتلاقي الحادة في السياسة والحب، في الود والعداوة .. وستنبثق من النخب المثقفة أحزابها السياسية المجسدة للطبيعة القاسية تلك، ستطحن بعضها بعضا.. وستتجسد بنية القهر الماحقة في النص بتمزقات ذات صبيحة الحالمة التي ستتحول من ثورية ماركسية متحمسة زمن الشباب، صريحة في القول والفعل، إلى كائن يزدهر في الظلام، بانياً عالماً سرياً يفضي به إلى التجريد .. إلى وحشة الروح المقيمة .. إلى فضاء الغريزة البدائي .. لذته مطلقة لكنها منسية، لا تخلف سوى اللهاث. رغبة محض غريزية .. حيث ستمارس صبيحة الجنس مع كل من تشتهيه عندما تسنح الفرصة .. مع مسلم التقي الثوري المزواج. مع مصعب زوج صديقة عمرها هدى، عند سفر الأخيرة للدراسة في بيروت. مع الشاب الأجنبي الجميل الذي وجدت نفسها معه في سرير بفندق سياحي بفيينا بعدما سكرت في الطائرة التي تعمل فيها كمضيفة. كل هذا العالم الذي أباحت الساردة به لنا سراً في اللعبة الفنية لبنية النص. كل هذا العالم هو التعبير الدفين عن محنة عراقية مثقفة حالمة ثورية مكبوتة، خابت من حلم مدينتها الفاضلة، من الحبيب الذي غيبوه أبداً .. من نفسها .. من هذا العالم المقرف .. ذات أنثوية تشظت وباحتْ.
تجليات البنية الاجتماعية العراقية الصارمة في عالم المرأة:
تعوق البيئة الاجتماعية الكابتة، الذات الإنسانية خالقةً عالماً سرياً، يزدهر في الخفاء والصمت. حيث تحتشد المخيلة بكل ما تمنعه الأعراف والتقاليد. في الظلام ـ ستار الرحمة. يجري كل شيء خصوصاً لمن أمتلك وعياً حرره من التابوات الثلاثة. هذا العالم السري يشطر الذات، ويجعل العلاقة الإنسانية مضطربة، تبطن أكثر مما تفصح، تبوح غير ما تضمر. وبنية البيئة العراقية نموذجية في صرامتها، وفي اضطرابها، فهي بنية حائرة، تختلط فيها قيم الحضر والأرياف والبداوة، مدعومة بتقاليد دينية متزمتة، وتاريخ عريق من القسوة والصراعات الدموية والحروب. هذه العوامل أرست بنية علاقات شديدة الشكلية والصرامة، لكنها هشة واهية في الخفاء: سواء في المخيلة، وسط الحشد، أو في السلوك في الخلوة. هذا التشّوه يشمل بطبيعة الحال الجنسين. لكن في البيئة العراقية، المحض رجولية كأي بيئة صارمة، يجري غض النظر عن تجليات التشوه المذكر، فالحديث في المقاهي والشارع العراقي عن العلاقات المثلية الذكرية مشاع ومباح، وما أغاني المغني الشعبي، سعدي الحلي، وغزله بالمذكر، وبعض أغاني قارئ المقام المشهور ـ يوسف عمر ـ لا بل معظم الغناء العراقي. ومئات النكات والطرائف عن اللواط، إلا أحد مظاهر التجلي الناصع للتعويق الروحي الذي أشرتُ إليه. هذا المجتمع الذكوري الصارم العنيف الطهراني شكلاً، المتزمت في تغيب نصفه ـ المرأة ـ والمقدس لمناحٍ من وجودها كأمٍ أو زوجة قنوع أو أخت مطيعة، والمحتقر .. لا بل المرتعد، من فكرة وقوعها في الغرام والحب، وكل ما يمت لمظاهر حريتها بصلة. أما الجنس فممارسته خارج نطاق المؤسسة الاجتماعية سراً، بالنسبة للرجل مدعاة للفخر، وبالنسبة للمرأة عار وأثم، يصل إلى حد قتلها، مجتمعٍ كهذا شديد السذاجة، فالتعويق الذي أشرت إليه، يتناسب طردياً مع درجة الاضطهاد والكبت، معنى ذلك أن العراقية نسجت، في صبرها الأيوبي، عالماً سرياً شديد التعقيد، لا حدّ ولا قاع له. عالم لو أنكشف جانب منه سيهز كيان منظومة القيم والأعراف العراقية السائدة. ودون مثل هذه المحاولات الشجاعة لن يتغير شيء في البنية القيمية المتخلفة للمجتمع العراقي.
في رواية ـ الغلامة ـ يسقط الستار عن طرف من عالم المرأة السري والحميم. سوف تسرد لنا ـ صبيحة ـ في الفصل التاسع وهي تتأمل بطنها أمام المرآة، بعد عودتها من بغداد بصحبة خالتها ـ فخرية ـ إلى السماوة، لتدارك موضوع حملها نتيجة اغتصابها في المعتقل، بأي ترتيب اجتماعي يتدارك الفضيحة. في خضم حالة الانمحاق الروحي هذه، تلقي الضوء على أسرار المكان ـ السماوة ـ موطن طفولتها وصباها ومراهقتها. تبوح كاشفةً عالم الطالبات اللواتي يبدون في الظاهر شديدات البراءة، بما لا يسر الرجل. فكما ذكرت مجتمع القيم الصارمة شديد السذاجة، فهو يرتكز تأسيساً، على منع مجموعة قيم وطبائع وغرائز تتعلق بجوهر الكينونة العاقلة .. الرغبة في الحب والخيال والجنس والتحقق الحر، من الذات التي يكمن خلفها عميقاً فعل حفظ النوع. سنكتشف وسيكتشف كل رجل مارس فعل تغييب الجنس الآخر، فداحة ذلك ولا جدواه. فبلغة تنضح شهوة وحرقة تقص علينا صبيحة:
ـ بقيت المدينة تنصت لأصوات المحبوبين والمحبوبات في كتمان ومهابة. تطبخنا على مهل واللهب يتصاعد من أسفل إلى أعلى فنتحول إلى جمرات جديدة ـ ص 133.
قصة ـ نجاة ـ وغرامها بأستاذ اللغة العربية، جرأتها في مصارحته علناً عند دخوله للصف:
ـ أي أحبك، أحبك. راح أزورك في الليل وأحط على سياج الحوش. انتظرني بعد الواحدة ليلاً. سوف أصفر لك لكي تنزل إليّ ـ ص133.
وعن ـ تودد ـ التي أغرمت بـ ـ ايشو ـ الأرمني، موظف في السكك الحديد. علاقات إنسانية عميقة، وجميلة، تتشوه متحولة في البيئة الصارمة، إلى علاقات غير سوية، تتجرد من بعدها الإنساني النبيل إلى علاقات محض شهوية ـ جسدية ـ تجري في الخفاء والظلام. والنساء المتمردات ـ التلميذات في النص ـ يائسات، من مصير علاقة الحب، التي سيكون مصيرها لا محالة، الرفض والاستنكار في أرقى رد فعلٍ محتمل. فتحل قيم الظلام، المعنية بالنفس البشرية، في توقها الأبدي نحو التعبير عن ذاتها بحرية، فيقتنصنَّ حميم اللحظات تحت ستار الليالي والخلوات: «تودد في حديقة دارها الخلفية وعلى العشب الرطب وبين أشجار الرمان تدفع به وهي تعيط: ـ لا تقول أني ارمني وأنتي مسلمة.. خلينا سوية قبل ما تسافر إلى أمريكا. ص 133.»
ثمة تمرد عميق ودائم ويومي، يمارس حريته بذكاء، في الخفاء تمرست به الذات الأنثوية العراقية المكبوتة يهز تركيبة البيئة الرجولية العراقية المغلقة بعلاقاتها الصارمة. فهذه الذوات الشجاعة سرعان ما تسحقها مؤسسة الزواج العراقية التقليدية، حيث سيُفرَض على التلميذات المذكورات أزواج، لاعتبارات مختلفة إلا اعتبار الحب وحرية الاختيار.
أما الشخصية المحورية ـ الساردة ـ فتتجسد في تجربتها خلاصات بنية القهر الاجتماعي والنفسي، وبالتالي السياسي. فصبيحة نموذج للأنثى المتطلعة نحو شروط حياة أفضل، وواعية أنه بدون نضال سياسي لن يتحقق شيء. فهي أصلاً ثائرة بالمفهوم العميق للكلمة، لم تتورع عن ممارسة ما يلح عليه جسدها بذهن متحرر، يدرك أبعاد البيئة الصارمة، منفسةً عن تلك الأماني والرغبات إلى حدود التطرف والغلمنة. فعلى الرغم من أنها متعلقة، ومنذُ وقت مبكر بجارهم ـ بدر ـ الشيوعي، كانت على علاقةٍ مثيليه بصديقتها ـ هدى ـ وهذه العلاقة الحيوية والتي تبدو لها علاقة بتسمية النص بـ «الغلامة» لا تأتينا دفعةً واحدةً في أسلوبية النص وبنيانه. بل من خلال منطق السرد الفني وآلياته. سأحاول لملمة أبعاد هذه العلاقة المهمة في تدعيم ما ذهبت إليه من فداحة ضغط القيم الصارمة على الذات البشرية، وفي فهم تكوين الشخصية المحورية ـ صبيحة ـ وبنائها الداخلي، سنقع إذن على أحد أهم تجليات تشوه الشخصية الناشئة في مثل هذه البيئات، حيث يتضاعف ضغط القيم الهائل على الأنثى، بمعدلات لا تقاس مما على الرجل. ففي الفصل التاسع ـ الفرجة ـ تفضي الساردة عن علاقتها القديمة بـ ـ هدى ـ وكيفية التعرف عليها، وغيرتها من علاقة حب تنشأ بين ـ هدى ـ و ـ مصعب ـ.
ـ غافلتني وكبرت دوني، أغرمت وتسللت ببطء بعيداً عني، فلم يعد بمقدوري ملاحقتها كما في تلك الليالي الأليمة ـ ص 139.
ـ لونها الشمعي الجاف انتعش وتوهج. لحمها ينحسر عن ثيابها ويريد بعثرة تلك الطلاقة الأولى التي استحالت إلى رباطة جأش ـ ص 139.
وفي الحوار بينهما عندما زارتها ـ هدى ـ في السماوة تصرح :
ـ كما فررتِ أنتِ من بين ذراعي يا هدى ـ ص 150.
ليس هدى فحسب، بل نطل على شبق صبيحة ـ الغلامة ـ لهجران عندما رأتها أول مرة:
ـ وما إن وصل نظري إلى ذراعيها المصقولتين حتى فكرت بكسرهما في تلك الليلة. ذكرت ذلك لهدى فلم تجب إلا في ما بعد :
ـ صبيحة أنت شريرة هواية.
رغبتُ بكسرهما، لكن قبل هذا كنتُ أنوي ضمها إلى صدري لا كالنساء، ولا كالصبيان .. كانت رغبتي فيها متأخرة من زمان قديم، ولم يتم انتشارها فيّ إلا لما تغيب عن عيني، وأنا أدخل المطبخ أو أختبئ بين الغرف الأخرى. فكرتُ أني لو أبدأ بمداعبتها فقط، فسوف تتهشم بين ذراعيّ، ولن يعود بمقدوري، لا أنا ولا رامي، إعادتها حتى. كلا، لم يرق لي النوم معها كهدى. ص 176 ـ177
هذه الذات الغلامية المتمردة، التي أسقطت في داخلها تابو الجسد وحررته، بما هو جدير به حتى لو كان باتجاه بنات جنسها، إذ أن ذلك وحده يكفل لها عدم الفضيحة. سوف تحاول الانعتاق والذهاب أبعد بالتدله السوي ـ الجنس الآخر ـ بالشيوعي ـ بدر ـ بشخصه كحبيب وبأفكاره التحررية المتوافقة مع طموحاتها. وتخوض معه النضال السياسي اليومي، حالمة بيومٍ تصبح فيه المرأة قادرة على القول والتصرف والحب بحرية. وبينما هي في خضم هذا الحلم، تجد نفسها في إحدى غرف ملعب في الأعظمية تحول إلى معتقل، حيث سيجري تعذيبها واغتصابها بعنف وقسوة.
انعكاس فعل الاغتصاب على الذات الحالمة بالحرية
أعتقد أن فعل الاغتصاب الذي يقتحمنا بكل قسوة تفاصيله المروية بضمير المتكلم ـ صبيحة ـ في مدخل الرواية ـ فصل المخلفات ـ يحدد علاقة الذات بالعالم، ويحيلها إلى محض جحيم، ولا سيما في مجتمع تتطور فيه القسوة وأساليبها باطراد. يضاف إلى أن روح التمرد تتركز في الشخصية الروائية متخذاً مسارات مختلفة سأعود إليها لاحقاً. في مجتمعات العنف والقسوة تتدهور الشخصية الإنسانية المتمردة ـ صبيحة في النص ـ والمغتصبة اطراداً مع تقدم العمر والتجربة، فحلم الحرية لا يغادر الذات الحالمة، محرراً المزيد من الرغبات والاندفاعات المستحيلة في بيئة قاسية، مغلقة. فتستفحل الانكسارات الروحية التي تدفع بالشخصية إلى المزيد من التدمير الداخلي. وبنية ـ الغلامة ـ مشادة من شظايا العالم الداخلي المدمر لصبيحة. وهذا باعتقادي أهم أسباب وضع الفصل الثاني ـ المخلفات ـ كمدخل سردي للنص. فكل التبعات والتفاصيل اللاحقة ستكون نتائج لهذا الفعل بكل مدلولاته الرمزية وأبعاده الاجتماعية والنفسية والسياسية. إذ ستتحول ـ صبيحة ـ من ثورية عاشقة، متحررة إلى مسخ، متزوجة من رجل لا تحبه، ولها طفلة لا أب لها، سوف تتجلى بنية التدمير النفسي في نشوء عالم شائه بداخلها، مبتدئاً بترسيخ المثلية، بإرثه الذي بدأ يخبو مع تطور علاقتها ببدر، المجهول المصير. حيث ستجد بهذه العلاقة الحميمة تعويضاً روحياً عن الخراب والرعب الذي خرجت بهما من المعتقل، فمباشرة بعد عودتها إلى السماوة، تزورها ـ هدى ـ لمواساتها بمصابها، ورغم مشروعهما بالاقتران، الأخيرة ـ بمصعب ـ والساردة بقريبها ـ شاكر. نجدهما بوضع حميم في الحمام، عندما تقوم هدى بغسيل صبيحة التي تتقيأ في الحمام. «كانت تنظر بعينين جمليتين، العينين الأمويتين الأوليين ذاتهما اللتين لم أحبهما .. وبدأت اللمس: ـ تريدين الصدق، أول مرة أرى حبلى عارية. حبلك غريب. أنت تشبهين. وسكتت. رفعت رأسها إليّ. كانت دموعها سخية بعدما بدأت بالهطول ثانية. شدت جسمي ورأسي بطريقة متقنة :ـ لا تقلقي، كلهم يتفرجون على التلفزيون. ص 152»
سيتطور التدمير الداخلي إلى رغبة مستحيلة الإشباع، للغرائز والمباهج الممنوعة والسرية، رغبة لا سلام روحي فيها. رغبة مدمرة، رغبة مطلقة بالرجال. التعلق بثلاثة رجال في الوقت نفسه، مضاجعة مصعب زوج صديقتها ـ هدى ـ المسافرة إلى بيروت للدراسة، الإدمان على الكحول والحبوب المخدرة، الشعور بالدونية والانحطاط المتجسد في اكتشاف الخالة ـ فخرية ـ تعاطيها الخمرة سراً في غرفتها فتقوم بالبصاق على الخمرة والكأس والصور المعلقة على الحيطان، التواطؤ مع مسؤول الخطوط الجوية الذي ساومها على جسدها، رغبتها بمضاجعة مدرس اللغة الإنكليزية، وحلمها بمضاجعتها مسلم التقي الحزبي، الثوري الذي يمثل امتداداً لمن اغتصبوها في المعتقل، في 9 شباط 1963. من تجليات بنية التحطيم هذه فنياً في النص الروائي، تصوير العملية الجنسية المريضة بين الساردة ـ صبيحة ـ و ـمصعب ـ زوج هدى، وكأنها تجري بين كائنين يكره أحدهما الآخر، فينتقم منه في عملية جنسية يمارسها جسدان بالضد تماماً من الفعل الأصلي لقداسة العملية في ظروف المحبة، لا بل بالغريزة حتى. حيث تبدو العملية بين حيوانين أكثر ألفةً وحميمية منها: «كان يتفحم أمامي وأنا أتورم، لكننا لا ننفك عن بعضنا فنبدو من جنس ميؤوس منه. فلا أنسى أن أعرض عليه جسمي ومهجتي. لا أنسى أنه يقف بيني وبين ـ هدى ـ فنندحر جميعاً. وأنا أحاول تقطيع هدى أمامه بالمنشار، كي تتفشى داخلي فيعود هو ويتفشى داخلي. أجل، التفشي أفضل للإلهام. كنت أعثر عليها في جوفه وهو يرتعد، ويرتعش، يولول وينوح. كان يبكي بكاء مراً، ونحن بين ذراعي بعضنا البعض. فيمضغني كأنني ـ هدى ـ في وليمة ربانية، ولا يفضل أن يشاركه فيها أحد، أي أحد. وفي طرفة عين كان يزيحني من تحته بيأس تام» ص 209 ـ 210.
يبلغ التشظي مداه الأقصى ليصل ناصية الاحتقار المطلق للذات المسحوقة، حيث يعود فيها الشعور بالدونية، فعل لذة وليس عذابا. وهذه من أهم سمات الانحطاط والاستلاب والاغتراب عن المحيط والذات المهشمة التي لم تستطع التوازن والمصالحة مع الوجود الاجتماعي الذي سلبها كل أماني وأحلام العمر تاركاً إياها في جحيم ذاكرة تهرب منها إلى المخدرات في محاولة لمحو الماضي الأليم دون جدوى: «وأنا كنتُ مخلصة للخيانة. أخون بشرف وأذهب إلى آخر الشوط. حين يفوتني الشراب في العمل، أغلق على نفسي باب غرفتي، وأضع قدح الجن أمامي على طاولة الزينة، أرفعه إلى أعلى وأتبادل ونفسي الأنخاب. لكن حين دخلت فخرية يوماً فجأةً، وشاهدت القنينة البيضاء، لم تنتبه في بادئ الأمر أنه خمر. ولما عرفت بدأت تبصق على القنينة والقدح، بدلاً من وجهي، فعلت ذلك أمام الحائط على صوري التي وزعتها بين الغرف، كانت تبصق بحرفيّة عجيبة وبسرعة كما لو كانت جالسة معنا في النادي الرياضي، كأنها تحممني بالبصاق» ص 212.
يمتد فعل الاغتصاب ليسور، كيان وعالم المُغتَصب، بماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، محكماً حلقته المدمرة. فها هي ـ صبيحة ـ المحطمة تسكر سراً نادبة خرابها، تشعر بعزلة تامة رغم علاقاتها الكثيرة، ترى بخالتها المستنكرة امتداداً مجسداً للأشباح التي اغتصبتها في النادي الأولمبي، قبل أكثر من عقد من السنين. هذه الذات المسحوقة لن تجد غير جسدها الذي تقدسه القيم في الظاهر، وتنتهكه في السر، في ظلام الليالي، بل تجعله مادةً للانتقام في الصراعات، كما حدث لصبيحة في النادي الرياضي .. لا تجد غيره وسيلةً لاحتقار بنية القيم المزدوجة الصارمة من جهة، والنهل من مباهج متعٍ عابرة كلما سنحت الفرصة والظروف، كتعويض روحي يخفف من وحشة الروح المقهورة .. يمتزج في مثل هذه المغامرات العابرة شعور مركب، لذة الانتقام من تابوات القيم، ولذة النهل بحرية من مباهج الجسد المنتهك .. سعادة عابرة هي البديل الخاطف لكل الماضي، لكنه بديل لا يخلف سوى المزيد من الوحشة والاغتراب. فصبيحة التي عملت كمضيفة تسكر لتجد نفسها في غرفة وثيرة في فينا عارية في السرير مع شاب ألماني جميل: «لما استيقظتُ في الصباح التالي، وأنا في أحد الفنادق الراقية في فيينا، شاهدت رجلاً بجواري، حتى اللحظة لم أرَ مثله مخلوقاً، جماله كالسراب كلما أنظر إليه كان يفر من أمامي ابن ثلاثين عاماً، أشقر البشرة، شاربه مسَّوى على طريقة الغلمان الشرقيين. شعره أشقر كتاج إلهي فوق رأسه الملوكي، ونظرات طفل واقف وسط السرير، يريد الرضاعة حالا وليس بمقدوري لمسه» ص 212.
قراءة لمرحلة من التاريخ العراقي المعاصر:
سعى نص ـ الغلامة ـ إلى تغطية فترة حيوية من تاريخ الصراع السياسي الدموي، بدأ من نقطة مفصلية في دموية الصراع على السلطة السياسية الذي أنحصر منذُ وصول العسكر إلى السلطة في العراق، فالسرد في تموز 1958 بين التيار الماركسي والقومي، حيث تمكن الأخير من السيطرة على دفة الحكم بانقلاب دموي في 8 شباط 1963، ـ زمن شروع السرد في النص 9 شباط ـ سيقتل الزعيم عبد الكريم قاسم بنفس الطريقة التي صفيت فيها العائلة المالكة جسدياً، سيعرض النص لهذه الأحداث وما قبلها بشكلٍ مفصل في الفصل السابع ـ ليحفظ الله الملك ـ من خلال حديث بين معاون الشرطة ـ جميل ـ والد هدى، ووالد صبيحة في جلسة شرب، حفلة تتويج الملك فيصل الأول، ثم مذبحة العائلة في الـ 58. كما سيغطي النص حقبة الستينات حتى أواخر السبعينات زمن انفضاض تحالف الشيوعيين والبعثيين، وهو زمن نهاية السرد الفني عندما يعثر أطفال يلعبون على شاطئ دجلة، على جثة ـ صبيحة ـ مشوهة تطفو بمحاذاة الجرف في ظروف غامضة. في خضم هذه المعمعة العويصة وغياب العقل لدى النخب الثقافية العراقية التي ترعرعت منذُ أوائل القرن، ممثلة بأحزابها السياسية المصابة بالطرش وعمى الألوان، والذين لم يسمعوا سوى صوت قناعاتهم المفردة ـ لا يزال الوضع قائماً إلى لحظة كتابة هذه السطور ـ في الخضم ذاك، الفرد العراقي المسكين وحده من دفع وسيدفع الثمن، موتاً تحت التعذيب، مصير الدكتورة أنيسة، تغييباً أبدياً في المعتقلات، مصير بدر في النص، أو مغادرة أماكن الصبا إلى ديار الغربة، مصير عادل، أو موتا في الحياة، مصير صبيحة المحطمة تماماً زمن كتابة نصها الروائي قبيل مقتلها الغامض.
فمن سمات الجلاد العراقي المميزة، هي عدم اكتفائه بإذلال الضحية بتعذيبها واغتصابها، بل يحاول تجنيد بقاياها الممزقة خدمةً لأهداف الطرف السياسي صاحب السلطة. فهذا ـ رامي ـ الذي يرتبط، بعلاقة اجتماعية ومعرفة مع الضحية صبيحة، ينجح بإطلاق سراحها، لكنه يحاول تجنيدها كمخبرة أثناء توصيلها من الملعب الأولمبي إلى بيت أهلها في فصل ـ صناعة منزلية ـ قائلاً بصيغة تهديد مبطن :«حاولي مساعدتنا، حاولي، ليس الآن، فيما بعد وإلا سيحترق الأخضر واليابس» ص 65. فيثير طلبه تداعيها حول طلبات حبيبها المجهول المصير كي تختلط بالناس، تحرضهم على الفعل الثوري بلغة الخطاب الماركسي الثوري: «عليك بالجماهير. أدخلي معهم وأطلقي الأهازيج الشعبية بصوتك الجميل هؤلاء الناس يفرزون الغث من الثمين» ص 65.
وفي فصل ـ المناضل ـ المروي على هيئة رسالة موجهة من صبيحة إلى ـ مسلم التقي ـ القومي الثوري، ومنظر حزب السلطة، نفس الحزب الذي كانت صبيحة ضحيته، وهي رسالة تنضح بالإعجاب والشهوة للفحل الثوري المزواج، وعلاقتها الحائرة معه بين الصداقة شبه المستحيلة في بيئة صارمة كالبيئة العراقية متسائلة: «هل صرنا أصدقاء؟ لا بسرعة ولا على شكل عاصفة. كنا نمشي على حافة الصداقة التي تطفو ثم تغرق في جوف دجلة، في نوبات من الفوضى والضنك. كيف تمتد صداقة بين رجل وامرأة عراقيين وطوال تلك الأعوام؟ كم؟ خمسة، أربعة، ثلاثة أعوام ونصف؟ لم أحسبها. مقامرة على ما أظن» ص44. إنها ليست مغامرة فحسب، بل سوف تنعتها في الصفحة اللاحقة بالورطة. هذه الرسالة والفصل يلقي الضوء ساطعاً على مخيلة المثقفة الثورية المنكسرة العراقية ـ صبيحة ـ وهي تتشهى فحولة الثوري ـ مسلم ـ متخيلة اغترابه الجسدي في فراش الزوجية: «أراك في زاوية حادة من الحوش تنام على صدر الزوجة وبلا إلهام. منزعج، عصبي وضجر، وكل شيء يمشي في مستواه المطلوب.لا صرخة ألم، ولا صوت تلذذ ولا ضحكة صادرة من القلب. كأنك تنام وحدك، تنام مع نفسك. تساءلت: هل كنت تحادث زوجتك؟» ص 45 ـ 46.
وهي لا تدري بأن ـ مسلم التقي ـ نتاج نفس البيئة الكابتة، مضاف إلى كونه رجلاً أباحت له ذات القيم عالماً سراً يجعله يستطيب الجسد مجرداً ويتماهى فيه، والحب تالياً أصلاً في ثوري ريفي مقترن بزوجتين، زورقين ليليين. في هذه الرسالة الرومانتيكية الغنية التي أرادتها الكاتبة إطاراً لإلقاء الضوء على بيئة صبيحة الجديدة، وجودها قريبة من كوادر حزب السلطة، وضعها الجديد، هواجسها، شهواتها الجديدة، والأهم أيديولوجيتهاـ «الكاتبة في النص ـ وكاتبة النص» في وعيها بخواء أيديولوجياً إلغاء الآخر جوهر الخراب العراقي المعاصر.
«بدر من جانب كان يريد أن ينسف جميع ما يدور في رأسي. وأنت وغيرك وهم كثر بيدكم المسطرة والقلم تريدون قياس حركة البط وهو يتنزه في الساقية ساعة الغبش. والموضوع واحد لا غير «إن الأيديولوجيا وحدها هي التي تهم. وان هناك أنظمة رائعة تعطي الجواب لكل شيء وما علينا سوى أن نختار معسكرنا وأن ننضم إلى الطيبين الأخيار ونحارب الأشرار» وها أنت تراني أمامك لا أكف عن الصراخ وأردد «أن الدواليب تغص بالجثث، وجميع الأيديولوجيات تحمل الأكاذيب وهي زائفة، وبعضها يساوي البعض الآخر» ص44.
الغور في التاريخ لعراقي المعاصر لم يجر بشكلٍ مباشر، بل تسرب في أنحاء النص ومن خلال شخوصه المختلفة، فمن أسرار نجاح هذا النص فنياً، هو ذلك المرور الشفيف من غور أرواح النص المنشغلة بمصائبها وعذاباتها إلى إشكالية الصراع السياسي الدموي، من خلال سرد المحن الشخصية بأبعادها النفسية والاجتماعية في علاقاتها بالسلطة والصراع وببعضها البعض الأخر. يضاف إلى إن اختيار الشخوص ومواقعها في شبكة الحياة والصراع وطبيعتها وتوزيعها هو ما يحدد نجاح النص أو إحباطه. والكاتبة انتقت شخوصها بحذق بدءاً ـ بصبيحة ـ المنحدرة من عائلة شعبية متوسطة، تقطن الجنوب العراقي، ورحلة صعودها إلى بغداد والجامعة والنضال الطلابي، ثم عالم الصحافة والاقتراب من مركز السلطة ورجالاتها، واحتكاكها بأجواء النخبة ممثلةً بالوسط الأدبي والسياسي، مما أتاح لها الإحاطة بمختلف البيئات الفاعلة في ساحة الصراع الاجتماعي والسياسي، الطلبة، "بدر" وفترة النضال الماركسي الثوري. "رامي" قريب مصعب ممثل حزب السلطة. ‘شاكر" قريبها ورجل أمن، والد هدى معاون الشرطة. ‘مسلم التقي‘ والناقد ‘عبد الجبار علي‘ الوسط الثقافي. والبيئة الشعبية في شوارع وأزقة السماوة، بأسواقها وبيوتها وتفاصيلها الشعبية. الكلبة التي تصم على محروم ضاجعها وهروعه نحو الفرات لتفكه وسط الفضيحة وغيرها من الحكايات والأحداث. يضاف لكل ما ذكرته أن الكاتبة في النص ـ صبيحةـ وكاتبة النص ـ عالية ـ امرأة اكتوت بنيران البيئة الضاغطة القاسية، التي ينحصر عالمها خلف أبواب وجدران البيوت، مما جعل القارئ يطل على عالم النساء العراقيات الغامض، الحميم والسري بجرأة قل نظيرها في الرواية العراقية.
بنية النص الفنية وتقنياته:
تعمد الكاتبة إلى تشييد الفصل في بنية شبه مستقلة، بأحداثه وثيمته بحيث يبدو للوهلة الأولى وكأنه ليس له علاقة بالفصل الذي يليه، ولكن بتراكم الفصول يستطيع القارئ لملمة الحكاية الروائية التي سبق وأن لخصتها في المدخل، ألا وهي حكاية صبيحة التي تبدو في إحدى دلالاتها رمزاً لبلاد الرافدين الممزقة والمنتهكة من قبل كل الأطراف والقوى المتصارعة. وتشكل بنية ـ الغلامة ـ نقله نوعية في نصوص عالية ممدوح. فبعد محاولتها المضنية في نص ـ الولع ـ للخروج من بنية التتابع الزمني للحكاية، بكسر التسلل الإطرادي في السرد وتخليق بنية مختلفة عن بنية روايتها الجميلة ـ حبات النفتالين ـ. وجدتها في ـ الغلامة ـ سيطرت على تقنيات النص الجديد، فاكةً الحبكة التقليدية، وذلك بالدخول مباشرةً في ذروة دراما النص المتمثل في فعل الاغتصاب. أما التمهيد الذي استخدمته ففصلٍ مقتضب، مصاغ على طريقة الأدعية الدينية ـ اللهم أنني ـ. باستخدام مبتكر يقلب سكونية وطواعية الأدعية الدينية الطالبة العفو والمغفرة والسلام، إلى تضرع نفس ممزقة خربت تماماً تطالب بالمزيد من العذاب والسحق. وهو مفتتح مناسب تماماً لبنية التمزقات الروحية التي ستعصف بالقارئ في تفاصيل النص.
قسمت الكاتبة الرواية إلى أربعة عشر فصلاً يحمل كل منها اسماً. وكما ذكرت في المدخل استخدمت لعبة فنية هي ليست بالجديدة، إذ سيكتشف القارئ لاحقاً في الفصل الأخير المسمى ـ الرواية ـ أن النص بفصوله الثلاثة عشر هو بالأساس نصاً روائياً كتبته ـ صبيحة ـ التي عُثِرَ على جثتها في دجلة، اشتركت به في مسابقة أعلنتها صحيفة الغد، ونحن نقرأه بعين الناقد عبد الجبار علي الذي أستلم النص. بنية النص إذن، سيرة صبيحة الذاتية، وهنا تحل الكاتبة في ذات بطلتها، وترى بعينيها. بتعبير أخر يشمل منظور السرد وجهة نظر كاتبة السيرة ـ الشخصية المحورية ـ في اللعبة الفنية، وكاتبة الكتاب ـ الغلامة ـ. وهنا سأركز على مبنى النص الأصلي وليس في إطار اللعبة الفنية المعلنة. فمن بين فصول الكتاب ينفرد فصلان هما ـ المرارات ـ والرواية ـ فهما مرويان بوجهة نظر الرجل، فالأول بصوت مسلم التقي والثاني بصوت الناقد عبد الجبار علي. وهما على كل حال فصلان من أضعف فصول الكتاب رغم أن الكاتبة أرادتهما كمرايا تكسر بهما، احتكار وجهة النظر الأحادية، والمقصود رؤية المرأة السائدة والمحتلة بنية النص المضمرة، والتي يقف خلفها التكوين الفكري والنفسي وأيديولوجية وفلسفة الكاتب من جهة، وإضفاء عمق للشخصية الروائية كي تخفف من وقع السيرة المضطربة للشخصية المحورية.
الفصل المبني بأحكام أفقد الكثير من عفوية السرد النابعة من الإصغاء السري للفطرة الفنية، جعل رغم بساطة لغة الكاتبة التي حاولت بجهدٍ تطعيم بنية السردية بعبق اللهجة المحكية العراقية غامضاً. وذلك الغموض متأتٍ من التقنية المحسوبة بدقة، وهذه التقنية الحرفية التي يتقنها الكاتب المجد والدؤوب تنعكس في البنية الفنية التي تبدو غامضة للوهلة الأولى حتى للمهتم، هذه التقنية التي نظّر لها وطبقها الكاتب المصري ـ أدوار الخراط ـ في نصوصه متأثراً بدوره بنصوص ـ جيمس جويس ـ وغيره من كتاب الرواية الغربية الحديثة هو من أفقد النص حيويته الفعلية بكونه نصاً راقياً وفي الوقت نفسه مفهوماً في الثقافة التي كتب النص بلغتها، لكن عالية ممدوح تخفف من وقع تلك التقنية المحسوبة وبالعكس تماما من نصوص المصري ـ أدوار الخراط ـ، وذلك عن طريق إخلاصها لبنية الحكاية والتي أعتقد أنها من أهم مكونات النص الناجح، فبدون حكاية تشبع الفكرة والثيمة، وحكاية عميقة مسلية بأي شكل، أقصد بالتسلية، شد القارئ بالحبكة المضمرة في النص الحديث المحطم التسلسل الزمني للسرد، فحتى المآسي مسلية حينما تروي شجن الحزين عند القراءة. وإخلاصها ذاك متأت من موهبتها الفطرية في القدرة على الروي، والتي لمسها المتتبع في نصوصها السابقة لـ ـ الولع ـ التي جربت فيها خبرتها التقنية ـ بالمناسبة نص ـ الولع ـ أشاد به أدوار الخراط كثيراً، كما هو مثبت على غلاف الغلامة الأخير، لا من محاولتها اختبار قدراتها على التركيب الصعب في النص. فالمادة الخام التي اعتمدتها الكاتبة في ـ الغلامة ـ غير قابلة للشكل المفتوح ونصه، فكل شيء في التجربة العراقية المعاصرة يحتاج إلى المزيد من الضوء والوضوح والسرد الفني العميق المؤشر على الجرح النازف ولا يزال. فهي رواية منلوغ داخلي شديد التنظيم كما نعته د. صبري الحافظ في تقريضه للرواية في صحيفة ـ العرب ـ بتاريخ 21 ـ 6 ـ 2000، وبالتفاتة ذكية أشار إلى أن أفضل لحظات النص هو تخلصه من ذلك التنظيم القسري، وانسيابه بعفوية. فعدا ما أشار إليه صبري حافظ، فأن الكاتبة المنشغلة أصلاً بما جرى من أحداث قسرٍ واضطهاد على شخصيتها الروائية المحورية وانعكاسها على ذات الراوية، كانت أمينة لبنية الحكاية، فغاليبة الفصول تبدأ بجملة سردية حكائية تبدو كأنها مفتتح حبكة تشد القارئ لمعرفة ما سوف يجري ويأتي لاحقاً. والجملة السردية الابتدائية، هي ذات جملة القصة القصيرة المراعية لأهم شرط ألا وهو تحريض القارئ على المواصلة وعدم رمي الكتاب جانباً، لنقرأ نماذج:
«تعمدت أن لا أضع اسمك الشخصي في أول صفحة لكي أدل على لقبك الاعتباري: المفكر مسلم التقي. بدا لك يوماً أنك تملك ألف وجه» ص 29 ـ فصل المناضل ـ
«كان علينا الاختفاء، خالتي وأنا بتواطؤ صريح. لم يكن قرارنا دليل شجاعة، لكنه الوحيد المسموح لنا اتخاذه» ص 78 ـ فصل السماوة ـ
«سيدتان ورضيعة في سيارة أجرة، والساعة تقارب الخامسة عصراً، قلت للسائق : الأعظمية من فضلك. نمر من باب المعظم» ص153 ـ المفقودون ـ
يضاف إلى ذلك أنها بعد أن توزع خيوط حبكتها في حنايا فصول المنلوغ الروائي الطويل في تقديم تفاصيل البشر الذي ترتبط بهم في خضم نهر حياتها الهادر، تقوم بتجميع ما آلت إليه مصائر الشخصيات تلك بضفيرة واحدة، أقصد بالضفيرة فصل واحد ـ النسيان ـ قبل الأخير، وهو الأخيرة بالنسبة للشخصية المحورية الساردة سيرتها في صيغة روائية، وبذلك تلبي فضول القارئ الذي سيبقى متعطشاً إلى ما لانهاية لمعرفة المصائر في الحكاية أو في الواقع. في التفاصيل التقنية لبنية النص، انتقلت الكاتبة بحرية بين ضمائر السرد المختلفة فتارة تسرد بضمير المتكلم وتارة بالضمير الثالث، أو بصيغة المخاطبة. لا بل تستخدم كافة الصيغ في سطرين والشاهد الذي أورده منذ قليل في مدخل ـ المفقودين ـ تبتدئه بصيغه الضمير الثالث في أول جملتين «سيدتان ورضيعة في سيارة أجرة» لتنتقل بعد الجملة الثانية إلى ضمير المتكلم «قلتُ للسائق». كما فرضت ثيمة النص من حيث هو سيرة ذاتية مكتوبة في وقت متأخر لأحداثها، استخداماً واسعاً لتقنية التداعي وبطريقة حديثة مستفيدةً من تقنيات الرواية الحديثة والفن السابع، وذلك بإدغام الفلاش باك ببنية السرد والتحليل والانتقال من الحاضر إلى الماضي، وبالعكس، بانسياب، يبدو أقرب إلى العفوية منه إلى التنظيم الدقيق. وتم ذلك من خلال توسيع دلالات الإحداث عن طريق عرض انعكاساتها النفسية في نفوس الشخصيات، وخلخلة النسب التقليدية لعناصر السرد، الوصف والحوار والحكاية، فيجري أحياناً التركيز على عنصرٍ من عناصرها، كما هو الحال مثلاً في المفتتح ـ اللهم أنني المكون من أدعية فقط. كما دمجت الكاتبة الكثير من الأشعار العراقية العامية في جسد النص، كما حاولت توسيع دلالات النص باستخدام الأسطورة ودمجها في أحداث النص، كما هو الحال في فصل ـ السماوة ـ الذي حاولت فيه توظيف وظيفة البغي في ملحمة جلجامش التي أوقعت أنكيدو في حبائلها، والشخصية المحورية تتلو مقاطع من الملحمة وضعتها بين أقواس، وتتخيل أباها مثل أنكيدو في علاقته بـ ـ كرجية ـ الغجرية، لتصف عملية مضاجعته للغجرية. هنا، وجدت ثمة إقحام للأسطورة في مناخ النص وذلك يعود باعتقادي، لبنية النص شديدة الواقعية والمعتمدة على التاريخ السياسي والاجتماعي العراقي بأحداثه المحددة، يضاف إلى أن النص لم يستخدم الأحلام والتهويمات في لغة السرد القريبة من اللهجة المحكية، ولم يسبر مناحي عالم نوم الشخصيات وسياحتها. بل ركز على عالم الشخصيات الواعي والأبعاد النفسية بردود أفعالها المعلنة في الحوار أو السلوك أو المضمرة في النفس. لذا بدت هذه المقاطع المضمنة زائدة كان من الممكن حذفها، فمخيلة الساردة كانت متفوقة سردياً على المقاطع المضمنة، في الإيحاء بقدرة ـ كرجية ـ الغجرية على غواية والدها المزواج. كما تكرر المحاولة في فصل ـ هجران ـ التي تذهب إلى زيارتها في مستشفى الأمراض العقلية، حيث تحل الساردة ـ صبيحة ـ محل هجران الغافية بين ذراعيها في أخبارنا تفاصيل حلم النائمة في تقنية غير مقنعة موظفة أيضا لغة الأسطورة والأدعية في مواسم الخصب:
«من هناك، وليس من هنا كانت تسمع الأصوات ليلاً تناديها فتردد وراءها، اتبعت نصائح الآلهة شاماش وآداد ومردوك. فاتخذت قرارت حفظتها في قلبي. حفظت قياسات البرج في ذاكرتي ككنز. وضعت الأسس تحت الآجر. ذهباً وفضة وأحجار كريمة من الجبال ومن البحر. أمرت بصنع تمثال لشبهي الملكي مرتدياً [الدوبشيكو] وجعلته في الأسس» ص178. وتستمر في الاستعارة من الأسطورة إلى أن تحاول ربطها في هجران ورامي حبيبها الذي هجرها بعد أن نام معها: «يا ملكي، يا سيدي، يا أنت. كيف حضرت إلى عشبي وحواف وقتي؟ ذاك هو برجي حين عزمت على الوقوف أمامك. أنت رامي، حتى لو شئت وبمنتهى القسوة الغرام بغيري، حتى لو شئت ذبحي بمنجل، سأنجو وأنجيك معي» ص179.
بالإضافة إلى ملاحظتنا السابقة عن عدم اندماج التضمينات في جسد النص، وعدم ضرورتها، يضاف هنا استحالة استخدام تقنية الحلم بهذه الكيفية وبضمير المتكلم لهجران النائمة على لسان الشخصية المحورية التي تخبرنا بأن هجران كانت تحلم، الحلم المتباطئ وأنا ألقي عليها نظرة ص178، ثم تحل محل هجران في سرد الحلم.
شعرية النص:
من ناحية أخرى أجد في النص محاولة رائدة في تجديد النص السردي العراقي تحديداً، لان المصريين كانوا السباقين في نحت اللهجة في بنية السرد. رغم استخدام اللهجة في النص السردي العراقي مبكراً، لكنه كان مقتصراً على الحوار. عالية ممدوح من كُتابْ جيلٍ سابق، تضافر جهدها مع كتابٍ عراقيين شباب يحاولون نحت اللهجة العراقية التي هي أقرب اللهجات إلى الفصحى لأسباب تاريخية معروفة لست بصددها. فأسلوب النص ولغته ذو نكهة محض محلية، معنية عميقاً بشجون الشخصية الروائية في شرطها الاجتماعي المحدد، ودون هذا الإيقاع اللغوي المعني بنغمة لفظ المفردة في أحوال تعبيرها عن الدخيلة الدفينة يستحيل الغور بذلك العمق الإنساني في ذات شخصية تبوح بأسرار عمرها. الاستخدام الحر للغة النص دون التفكير بالثوابت النحوية المقدسة، المتعلقة باللغة العربية والتي تشكل تابواً رابعاً مضافاً إلى الثلاثة تستدعيه الثيمة التي يسعى الكاتب من خلال نصه الفني لقولها للآخر. والنص الذي نحن بصدده معني جداً في البحث عن معنى أخر للحياة غير الذي تسرده لنا الكاتبة في النص وكاتبة النص، وإلا ما سبب هذا السرد الموجع للخراب الكياني، ومقطع الجحيم المعاش لحظة القراءة. خلف النص تكمن روح متحررة تماماً من التابوات، وبالضرورة ستكون هذه الروح باعتبارها ثائرة تحمل كل الأوجاع والجروح والأمراض التي تفرضها لحظة الإحساس بالاغتراب التام عن المحيط المشكل لبنات النفس والجسد والمعنى. هذه النقطة السابقة للشروع في فعل الكتابة دلت موهبة الكاتبة الفطرية على أسلوبها المختلف عن كل نصوصها السابقة، في تبلور صيغة سردية كانت ثانوية في نصوصها السابقة، وأصبحت سمة هذا النص ومن مميزات أسلوب الكاتبة.
«واحدة حضرت إلى الخاطر المنهك فورثت لك سيجارة ووضعتها بين يديك، أول سيجاره أمامي وبعد طلوع الفجر» ص 50.
أورد استخدامات أخرى خاصة باللهجة العراقية والشخصية العراقية وظرفها :
ـ بحق السماوات أجمع ص 40.
ـ يا رب العالمين. كان غضبك يتجمع مثل الألعاب النارية على سطح وجهك ص 41.
ـ كلا، لم تك تريد رمي الطلقات عليّ، وإنما على ذلك الاحتياطي الخاتل جواك ص41.
ـ بقى يستقبل حشود المعزين في غرفة الخطار الواسعة ص96.
ـ شاكر المطيرجي لأسراب الحمام والفخاتي عبر السطوح العالية، قافزاً بحيوية من تيغة حوشهم إلى حوشنا للفرجة عليّ وأنا احني شعري ص81.
هذه الحرية في التعامل مع اللغة أتاحت للكاتبة الغور عميقاً في وجدان الشخصية المحورية ـ صبيحة ـ والعثور على كنز مشاعرها الدفينة غير القادرة بالمطلق على البوح بها للآخر في شروط البيئة العراقية الصارمة، ذلك الغور الذي جعل القارئ ينفعل ويحس عميقاً من خلال شعرية النص الذي يتوهم العديد من كتاب الرواية بالبحث عنه في اللغة في تجريدها التعبيري فتجدهم يتجلون في الصياغة ناسين الجنس الذي يكتبون فيه، ذلك تجده بوضوح في نصوص ـ أدوار الخراط ـ الذي عمد مؤخراً إلى استخراج تلك النصوص من جسد نصوصه النثرية وطباعتها في كتب كونها دواوين شعر. إن شعرية النص في سرد عالية ممدوح تكمن في امتلاكها لحظة حرية في الكتابة، متداخلة مع صدق تعبيرها عن تجاربٍ حية مدمرة، أبعد ما تكون عن ترف الثقافة المستدير نحو التماهي في اللغة، بإحلالها بديلا عن الأماني المجهضة بتحقيق المدينة الفاضلة. لغة سردية مثل غبار لشدة حساسيتها النابعة من عمق تجربة شخصياتها القائمة من روح الكاتبة، ومن نصاعة بياض الورق، وحلكة ألم التجربة:
نقرأ مقاطع تنضح بالحسية في توصيف عشق محرم «ورغم أن اليوم كان الأول من حزيران والعام أثنين وستين والجو حار جداً، إلا أنني لم أر عرقاً على محياها، وأنا أسترق النظر إلى إبطها كلما رفعت يدها إلى أعلى. كان بلورياً، وإلا فما معنى ذلك الكرستال الذي يقال انه صنع في بوهيميا. افتراء كل ذلك. ص 72 ـ 73
أو خذ هذا الوصف :
ـ كانت تتحرك داخل ذلك الثوب البسيط كما تفعل دودة القز. ولحركة عضلاتها هشاشة المرضى الذين لم يبرءوا بعد. تمشي بجسمها من دون أن يتنبأ أحد إلى أين سيأخذها الطريق. فهي لا تعرف الجغرافيا ولا مصاعب الحدود .. فتتشكل تدريجياً أمامنا وكأن نداء مبكراً، غامضاً وسرياً يلاحقها. النهدان الثقيلان الصلبان، كانا يهبان من النوم وهما يضربان قمصانها فيتجليان تحت ضوء الشمس أو في أثناء الغسق، يعصفان ويبعثان القشعريرة. ص 73 ـ 74
أو حتى في أقسى المقاطع السردية قسوة، لحظة فحصها بعد فعل الاغتصاب الجماعي في المعتقل، حينما تتعرى للطبيبة التي حضرت لفحصها :
ـ فاقتربت. أبدت احتشاماً نسائياً عالياً هي تنزع عني منامتي. تصورت أنها فعلت ذلك من أجلها هي لكي تبصرني وعلى مهل. ص 55. مددتني على منضدة كرة البنغ بونغ فأخذت وضعيتي وشعرت أنها ستبدأ المباراة. ممكن أن يكون هو صوتي ذاك الذي أطلقته رأساً على عقب، وهي تمسك فخذيّ فاتحة إياهما وإلى الأخير ويدها غائرة إلى الداخل، فبلغ إعجابي بها أقصاه، وأنا أكرر شكراً، شكراً. ص 55 ـ 56
هذه الشعرية العفوية التي وسمت أسلوب الغلامة، وجعلت من جوها ساحراً آسراً، تتعلق من ناحية أخرى في بعدين مهمين تقنياً ـ أقصد دون الخوض بموضوعة الموهبة التي لا بد منها لمشروع الكاتب ـ أي كاتب ـ الأول يتعلق بتجربة الكاتب الحياتية وطبيعة انعكاسها وتمثلها في فلسفته للحياة وتحليله لما مر به وبالمحيط الذي بلوره كذات من بشرٍ وعلاقاتٍ ومكان. والثاني يتعلق بالظروف المصاحبة للكتابة. و أقصد هنا فسحة الحرية التي أتاحت للكاتبة ـ عالية ممدوح ـ الذهاب أبعد في البوح الشجاع، الذي ابتدأته منذ أن كانت في العراق والمتمثل في كتابة نص عن علاقة مثيليه بين امرأتين شعبيتين عراقيتين، في مجموعتها الثانية الصادرة عن دار الآداب 1977 ـ هوامش السيدة باء ـ في أقامتها فرنسا لفترةٍ طويلة، مضاف إلى نضج التجربة التي أشبعها المنفى تأملاً. هذان البعدان مؤثران في نحت السرد الروائي العراقي الجديد الذي تشكل عالية ممدوح إستثناءاً من أبناء جيلها الفني، واقترابها من الأجيال العراقية اللاحقة من القصاصين والروائيين العراقيين المحاولين تأصيل البنية الجديدة للغة السرد المحتاج إلى أدوات جديدة في التعبير عن الألم والصراخ، الضحك والمزاح، ودون اللهجة المعاشة، سيكون من العبث الادعاء بفهم خواطر الذات الإنسانية المتنفسة في المكان والزمان المحدد، لحظة إمساك المبدع بأرومة القول، جهد عالية ممدوح مميز من حيث نضجه، يضاف لجهد القصاصين الشباب الذين يحاولون، ولا يزالون جعل بنية السرد محض محلية عراقية مفصحة قادرة على الغور بأعماق الفرد في التجربة المحددة، والارتقاء بها إلى مصاف الحكمة، الملتقية في نهر التجربة الإنسانية.
كما أن شعرية النص لا تتجلى في طبيعة انتقاء المفردة في بنية الجملة السردية أو الوصفية فحسب بل في غنائية الحالة الإنسانية للتجربة المشكلة لبنية حكاية الكاتبة، والمتعلقة أساساً بالثيمة التي سعت الكاتبة إلى تجسيده بالنص كله. وفي ـ الغلامة ـ كان السرد الفني أميناً للثيمة، فالشخصية المحورية كما عرضت في تحليلي لبنيتها النفسية، ونتاج كل الخيبات والإنكسارت الروحية وقمع حلمها في الحرية والعدالة على مستوى الذاتي ـ حبيبها بدر ـ والموضوعي ـ انخراطها في النضال من أجل مدينتها الفاضلة، انفرزت كائناً مزدوجاً أنثى بمشاعر حسية فحولية، وذلك ما نجده بذلك الغزل الفحولي في بنية السرد للمؤنث، بدءاً بهدى وهجران أو في وصف زوجات والد الساردة ـ صبيحة ـ أو تصوير العمليات الجنسية ولحظات التماس بين الجسدين سواء، رجل وامرأة، أو امرأتين.
وأخيراً وجدتُ مقتل الساردة غرقاً في ظروف غامضة وعليها أثار تعذيب، نهاية غير منطقية وليس لها مبرر فني في سياق النص، فهي ماتت فعلاً منذ لحظة اغتصابها، وتحطيمها المتدرج من عاشقة وثورية حالمة إلى جسدٍ خاوٍ من الروح، استعبدته لذة اللحظة العابرة المحض جسدية، وذلك الاحتقار الدفين للذات إلى حدود التلذذ في ممارسة الخيانات والشذوذ، والتماهي في السكر والحبوب المخدرة والتحمم ببصاق أقرب الناس خالتها ـ فخرية ـ والخواء. إن مقتلها بهذه الطريقة القسرية والمفاجأة والتي لم يفرضها سلوك ـ صبيحة ـ المتأخر، وحركتها في النص. فرضتها اللعبة الروائية المشاد هيكل النص عليها، والتي تورطت بها الكاتبة في صفحات الرواية الأولى عندما أخبرتنا ـ صبيحة ـ أنها تكتب سيرة روائية سوف تشترك بها في مسابقة أعلنتها صحيفة ـ الغد ـ حيث نكتشف ونتأكد من الفصل الأخير ـ الرواية ـ بأن ما قرأناه هو رواية صبيحة المسلمة إلى الناقد ـ عبد الجبار علي ـ بعد اكتشاف جثتها الطافية على جرف دجلة. فلو أبقتها حية، لاختصرت الفصل الأخير. ولبدا المدلول الرمزي أعمق وأبعد تأثيراً من مدلول القتل. إذ سوف يشير ويدمج ذات صبيحة المعذبة في خضم صراع الحياة العراقية الدرامية. هل ثمة ذعر أصاب الكاتبة لحجم وعمق البوح الذي أفضت به ـ صبيحة ـ المرأة العراقية اليسارية المغتصبة من شهوات مثلية وتجارب حسية وجسدية لا تقيم وزناً للقيم والأعراف والتقاليد العراقية الشكلية المتزمتة، مما جعلها تقتل صبيحة ليكون وقع البوح أقل وطأة على القارئ العراقي تحديداً؟ أم أن الأمر جاء من إتقان الكاتبة حرفتها بشكل مبالغ به مما يوقعها أحياناً في مطب التدخل في مسار حياة شخوص النص المستقلة؟ من ناحية أخرى، هل هذا البوح العاري ما جعل الكتاب والنقاد العراقيين يعرضون ويتحاشون تناول نصوص ـ عالية ممدوح ـ نقداً وتحليلاً {ما كتب عنها من قبل كتاب عراقيين قرأوها قراءة سطحية وأكاديمية لم تمس البنية الاجتماعية والنفسية العراقية في علاقاتها بالنص} رغم أصدائها العربية منذُ مجموعاتها القصصية الأولى وحتى الغلامة؟
نصوص ـ عالية ممدوح ـ تحتاج إلى وقفات نقدية عراقية شجاعة .. لا سيما أن نصوصها تغور عميقاً بالواقع العراقي وتستبطن عالم المرأة العراقية التي تكاد تكون لغزاً، من الصعوبة النفاذ إلى أعماقها الدفينة المدربة جيلاً بعد جيل بأحكام البيئة المتحفظة الصارمة، مما جعلها تميل إلى الصمت، وكبت حقيقة مشاعرها في تفاصيل الحياة اليومية، أما الكاتبات العراقيات المعدودات، فقد عقل التحفظ نصهن، وجعلهن يخشين البوح العاري، والحفر في منظومة القيم السائدة، وذات المرأة العراقية، مستعيضات عن التشخيص والتحليل وسبر الأغوار، بما هو عمومي ومحض عاطفي أقرب إلى تجربة الكتب والمخيلة منها إلى الواقع المرتقي إلى مصاف المخيلة المفلسفة للتجربة الحياتية عبر النص الفني، كنصوص ـ لطفية الدليمي ـ في روايتها ـ من يرث الفردوس ـ و ـ برهان الكتبي ـ الصادرة مؤخراً عن دار ألواح. نصوص متحفظة لا نطل منها إلا على مستوى منظور عام وسطحي من تفاصيل الواقع العراقي الفريد في دمويته ووحشيته ووقعه الباهظ على الفرد العراقي.