كم قرأنا كتَّابنا وباحثينا وهم يسهبون كثيرًا في الحديث عن الإبستيمي والباراديغم، من غير أن تخرج هذه المصطلحات من قوقعتها الباهرة، وتغدو ناظمًا للتفكير والتحليل، وتكون نبراسًا يجعلنا ندرك محددات ثقافتنا وفكرنا وعناصرها المتناثرة والمتلاشية، التي يحجبها في أحيان كثيرة انعدام البحث في التشاكلات والتشابكات والعلائق الظاهرة والباطنة، وفي الإخصاب والتفاعلات والتأثيرات البيّنة والخفية، كما في التواشجات بين هذا المفكر العربي وذاك. تطرق ذهني هذه التفككات الأرخبيلية) كما سميتها سابقا) وأنا أستحضر واقع الثقافة العربية المعاصرة، في سيولته الزائدة التي تجعلها مجالًا نكتفي فيه بدراسة الأفراد لا البنيات، والتركيز على المفاهيم والمواقف لا على اشتغالها الظاهر والباطن في إنتاج المعرفة. نحن نربط عادة بين فكر وآخر على سبيل المقارنة، أو المفارقة، لكننا لا ننتبه إلا في ما ندر إلى اشتغال المفاهيم والأطروحات في أقبية الثقافة والفكر، في هجرتها وتوافقاتها وخصوبتها السرية.
فمن السهل اليسير الحديث عن عبد الله العروي، أو عبد الكبير الخطيبي، أو هشام شرابي، بصيغة الأفراد، وكأنهم يعيشون في قلاع حصينة مكتفين بفرادة فكرهم، بيد أن تحليل روافدهم في مفاهيم كالعقل والتاريخ والاختلاف لا تكفينا فيها الإحالة إلى هيغل، وجاك دريدا، وغيرهما، لأنها من باب تحصيل الحاصل. فنحن نبقى مطالبين بتحليل طرائق استنبات هذه المفاهيم كما بتتبع نوعية تحولاتها ومدى فاعليتها في إنتاج معرفة جديدة، بمجتمع له قوانين تطوره الخاصة وسماته وخصوصياته وثوابته ومُتحولاته.
من الحمى البيضاء إلى الاستشراق
كان الخطيبي يعد نفسه مبشرًا بفكر جديد، وبطريقة أجدّ في التحليل والكتابة. ولذلك سمى نفسه في نهاية حياته "آفاقيًا Horizontain"، أي مفكرًا يفتح الآفاق في التفكير لنفسه وللآخرين. فقد فتح الرجل أبواب دراسة جديدة في مجال نقد الذات والآخر (النقد المزدوج)، التي كانت تخضع في الستينيات والسبعينيات لمنظور هيغلي، أو ماركسي، في أحسن الأحوال. كان فكر الاختلاف الذي دعا إليه الخطيبي في تلك الفترة تفكيكًا ذكيًا للعودة إلى التراث بانتقائية فعالة تسعى إلى منحه موقعه في قضايا الراهن؛ ومجاوزة للتاريخانية التي تدعو إلى تمثل مسير الغرب الحضاري تبعًا لعقلانية مبنية على الذات والوعي والعقل والحرية، كما صاغها عصر الأنوار؛ ودعوة لنقد المركزية الغربية، وضمنيًا نقد المركزية اللغوية التي ينبني عليه مفهوم العروبة والقومية.
لقد كان مفهوم "النقد المزدوج" الذي بلوره في كتاب "الحمى البيضاء"، ومقال "المغرب الكبير أفقًا للفكر"، (ضمن كتاب "النقد المزدوج"، الذي ساجل فيه بذكاء سياسي وفكري لامِع اليساريين الفرنسيين عرّابي الصهيونية، ومن ضمنهم جان بول سارتر)، وبشكل ما، الكتاب المبشر بكتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد. فهذا الأخير كان يفكك مفهوم الشرق عمومًا في المتخيل الغربي، وكان الخطيبي يفكك مفهوم اليسار الفرنسي للقضية الفلسطينية. كان الكتاب الأول سياسيًا وفكريًا، فيما كان الثاني فكريًا ومعرفيًا وسياسيًا. ومن مفارقات الأمور أن يكتب المفكر الذي يعد نفسه مغربيًا كونيًا عن فلسطين، فيما يكتب المفكر الفلسطيني المغترب عن الكونية. إنهما منظوران متقاطعان، ينهج أحدهما الانطلاق من الهنا والآن إلى معانقة رحابة الكوني، فيما ينطلق الثاني من شسوع الكوني للتعبير عن هويته الفلسطينية.
كان سجال عبد الكبير الخطيبي مع مفكري هذا اليسار قاصمًا، يتناول القضية الفلسطينية والصهيونية بمنظورية نيتشوية يمتزج فيها التحليل والنقد بالسخرية والسخط. فقد كتب في مقدمة الطبعة الفرنسية: "تمخض هذا النص عن رغبتين في الغثيان: الأولى باعثها الأسبوع الأحمر الذي عرفه الأردن خلال شهر سبتمبر 1970، أما الثانية فقد تولّدت بعد سنتين من اندلاع الموجة العنصرية بعد عملية أيلول الأسود في ميونيخ (...). وقد قلت في نفسي آنئذ: "الغرب على كل حال هو الذي كان منبع الصهيونية ومعاداة اليهودية".
هل يتعلق الأمر بسجال سياسي؟ أم فكري ثقافي؟ من الأكيد أن هذا السجال الساخر أحيانًا إلى حدّ الجرح قد زج بالخطيبي في حوار فكري ذي أبعاد سياسية استراتيجية، لا من منطق العروبة البسيطة والدفاع الحماسي عن الشعب الفلسطيني، وإنما من منطلق الكشف عن تناقضات اليسار الفرنسي ذي المسحة الصهيونية. يرمي الخطيبي، إذًا، إلى ممارسة نقد عام للصهيونية من حيث أنها وعي شقي. وهو بذلك يسعى إلى فضح مواقفها الملتبسة لدى الرأي العام الفرنسي الذي يؤمن بها، وخصوصًا لدى اليسار الذي يشترك معه الخطيبي في مرجعياته الفكرية. إنه كتاب يبدو سياسيًا، غير أنه يستهدف تحليل "الأخلاق السياسية" للفكر الصهيوني. فإذا كان العرب المسلمون يبددون وعيهم الشقي باللاهوت، فإن الوعي الشقي للصهيونية يؤدي بها إلى عنف عرقي وديني، وإلى انفصال تام عن الإبراهيمية التي توحد اليهود بالعرب.
"فالصهيونية، على عكس ما تدعي، لم تعد رجوعًا لذات أصيلة. إنها بالأحرى تؤسس انفصالًا أوسع للوعي اليهودي، وتؤرجحه بين النسب السامي والميل نحو الغرب، وبين الإبراهيمية والعرقية. إن عنف النظرية الصهيونية يتجلى في كونها تسقط ذاتها خارجًا عنها، متجاهلة الفلسطينيين." يرفض الفلسطينيون أن يكونوا ضحية الشعور بالذنب الصهيوني الذي يجد الخطيبي آثاره لدى سارتر. فهذا الأخير، حسبه، يمزج أخلاقًا سياسية ذات مصدر ماركسي بأخلاق غنائية تتغنى بالشقاء، وتقوم أساسًا على الوعي الشقي. يكشف الخطيبي عن تمزق سارتر بين الإسرائيليين والفلسطينيين كما عن طابعه المهادن. بالجملة: "إن سارتر يخاف أن يتهم إسرائيل. وخوفه في هذه الحال، ممارسة للخير. إنه يبكي بجدّ مثل طفل خذله الخوف، فأصبح عاجزًا عن أن يدنّس الأب (أو الأخ) اللامتناهي الطيبوبة، اللامتناهي الإثم".
هكذا يخرج القارئ من هذا الكتاب السجالي النقدي بمتعتين لا يوفرهما لنا كتاب إدوارد سعيد: متعة النقد العميق لخلفيات الصهيونية في الفكر الفرنسي، ومتعة قراءة نص ذكي غني بسخرية نيتشوية تصيب المقتل تلو الآخر. فلا أحد في بداية السبعينيات تجرأ على انتقاد سارتر (الذي كان مبجلًا إلى حدّ ما ككاتب وكفيلسوف وكمناهض لاستعمار الجزائر) بذلك العمق والقسوة والمرح. لقد كشف لنا الخطيبي عن شروخ الفكر السارتري ودموعه بشكل لا يُضاهى!
يرتبط هذا التفكير لدى الخطيبي، ولأول مرة في تاريخ الفكر العربي، بمسألة الهوية والاختلاف، ويستوحي منظورًا جديدًا يستحضر فكر نيتشه، وهايدغر، وجاك دريدا، منذ الستينيات، في وقت لم يكن له بعد أن يتخلص فيه من خلفيته الماركسية التي كانت سمة ثقافية طاغية في تلك المرحلة. وحين سوف تتبلور هذه الرؤية أكثر في السبعينيات، سوف تشكل مجاوزة صريحة لمسألة الأصالة والمعاصرة التي كانت الشعار السائد في دراسة المجتمع والتراث، ودعوة نقدية لاستبدال هذه الثنائية بمفهوم اختلافي جديد يعتمد بنية تركيبية جديدة لمفهوم الهوية، باعتبارها تعددًا تخترق صفاءها المفترض شروخ الآخر والمكبوت والمنسي والمهمش.
هكذا سيبلور الخطيبي سلسلة من التحولات الداخلية في الهوية يجعلها لا تنافي الآخر بقدر ما تستبطنه، ويسبر تلاوينها الداخلية التي تخلخل بناءها المتراص monolitique. أما التراث فسيغدو لديه كيانًا يستمر فينا لمنطق تاريخي لا يعرف التوالي والتتابع (historial). فالتراث حاضر في الوجود التاريخي الحاضر، وأصوله لا تثبت أبدًا نقاءه المزعوم، لأنه يغدو هادينا بفعل اشتغال هوامشه وصراعاته الداخلية. ليس ثمة، إذًا، من أصالة ومعاصرة، بل ثمة حداثة تعددية يجعلها الزمن التاريخي المتخلخل تشتغل في جسد التاريخ الثقافي العربي الإسلامي بشكل أشبه بالجذورية (rhizome) التي يعبر خفاؤها عن اشتغال الهوامش اليقظة للفكر.
بين السجال والنقد
حين نزعم بأن كتاب الخطيبي عن اليسار الفرنسي والصهيونية (ومعه مقاله عن النقد المزدوج، ومقاله السجالي عن استشراق جاك بيرك) تبشير بشكل ما بكتاب "الاستشراق"، فذلك انطلاقًا من فرضيتين: الأولى تتعلق بنقد شامل للمواقف والفكر المتحكم في أصحاب هذا اليسار إزاء القضية الفلسطينية. ولم يكن الطابع السجالي ليحجب هذا التحليل. فما الذي جعل هذا الكتاب لا يحظى بما حظي به كتاب إدوارد سعيد؟
قد يكون الطابع السجالي كما طريقة كتابة الخطيبي سببًا في ذلك. فالرجل يكتب لا للقارئ عمومًا، وإنما لقراء مثقفين لهم فضول معرفي، ويؤمنون بالمجاهدة في الفهم. وهو يترك نفسه أحيانًا ينساب مع تحليلات شفافة وشاعرية لا يمكن إلا أن تبدو غريبة للقارئ الذي تعود على "الوضوح الفكري". فأسلوب الخطيبي ومجازيته المتفردة لا تكتفي باستدعاء الفهم، بل تتطلب التأويل. إنها كتابة مكثفة تعتمد الإيجاز، وتحلق بأجنحة متعددة في سماوات فكرية متراكبة أحيانًا. والخطيبي، كما رولان بارث، وجاك دريدا (صديقاه الحميمان)، يحتاج دومًا إلى شارحين يستوضحون ما استغلق على أفهام القارئ العادي.
من ناحية أخرى، كان موقفه الداعي إلى التعايش بين الشعبين الفلسطيني واليهودي جديدًا، بل غير مقبول في بداية السبعينيات. وهو موقف ينطلق من أنموذج ذلك التعايش في التاريخ العربي والمغربي الأندلسي. فيما أن إدوارد سعيد (رغم أنه كتب الرواية، ونشر سيرة ذاتية) كان أكاديميًا في تفكيره وكتابته، بالرغم من أن أسلوبه الخاص لا يبدو سهلًا. وتلكم كتابة، مهما كانت حرة وذاتية أحيانًا، لكن يسهل على القارئ الإمساك بمقدماتها ونتائجها المنطقية، كما بفرضياتها ونتائجها. لذلك ما إن ترجم كتاب "الاستشراق" حتى صار مرجعًا في موضوع يدخل في ما نسميه ما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية.
في المقابل، فإن كتابات الخطيبي عن تحرير السوسيولوجيا من الكولونيالية، وإحالاته الكثيرة إلى فكر فرانتز فانون، كما اتخاذه لفلسطين موضوعًا لهذا التحرير (بشكل مغاير طبعًا) لم تحظ بما كانت تستحق من قيمة، بالرغم من أنها كانت تؤسس بطريقتها لما يعرف اليوم بما بعد الكولونيالية، أو اللاكولونيالية، وبفكر الاختلاف. كان نقد الخطيبي للاستشراق، كما لليسار الصهيوني، يقوم، كما ذكرنا، على تصور جديد للهوية والاختلاف، كما للأنا والآخر، وللتراث والحداثة. لذلك فهو في منظوريته التحليلية والسجالية والنقدية والنظرية يُمفصل بين هذه الأمور جميعًا. فنقده لليسار الصهيوني الفرنسي هو أيضًا استعادة للتقاليد الإبراهيمية، وتحرير لليهودية من المنزع العرقي الصهيوني.
وهذا النقد المزدوج (الذي هو أيضًا توكيد مزدوج) نجده بشكل آخر لدى إدوارد سعيد، وإن لم يشتغل لديه ضمن هواجس أخرى. ولعل هذا كان وراء سوء الفهم الذي حدث لكتابه، إذ تأوله الإسلاميون (بعد ترجمته الأولى بقلم كمال أبو ديب عام 1981) باعتباره مدافعًا عن الهوية الإسلامية الشرقية، مما اضطر إدوارد سعيد إلى كتابة مقدمة جديدة عام 1995 يفند فيها هذا المنحى في الفهم والتأويل، ويرد الأمور إلى نصابها.
وبعْد، نحن أمام مفكرين متقاربين في تفكيك اليقينيات والمتناقضات، واستشراف المستقبل من قراءة الماضي. إنهما وجهان لعملة واحدة، كل بحسب مسيره وتجربته وأفق فكره. ونظرتنا لا تقابل بينهما أبدًا، ولا تعارض بينهما مطلقًا بقدر ما تستكنه تقاطعاتهما المضمرة، بعيدًا عن صراع المشرق والمغرب، قريبًا من تواشج فكرين نقديين وسما الثقافة العربية المعاصرة في نهاية القرن، وبدايات الألفية الجديدة، كل بطريقته.
قد يكون الخطيبي نشر كتابًا سجاليًا كان سيكتبه سعيد بطريقة أكاديمية، باعتباره فلسطينيا مهمومًا بانتمائه. كما أن سعيد نشر كتابًا عن الاستشراق يدخل موضوعُه في صلب اهتمامات الخطيبي في السبعينيات خاصة في مقاله "جاك بيرك والاستشراق الضال". ولا أدل على ذلك من أنه في نهاية حياته أصدر كتابًا (لم يترجم بعد للعربية) بعنوان "الجسد الشرقي" ... تلكم إشارات وتقاطعات وتبادل للأدوار تخترق تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، تقرّب بين مفكرين أحدهما يعيش في بلاده ويفكر في الآخر والغيرية، والثاني يعيش في المهجر ويفكر في الأنا وتشابكاتها ... إنها لعبة مرآوية يتعاكس فيها الخطيبي وسعيد، بسعادة النظر أحدهما للآخر، ولو بنظرة مواربة.
عن (ضفى ثالثة)