مقدمة:
«قلوب ضالة» مجموعة قصصية للكاتبة فاطمة وهيدي، تتكون من خمسة عشر قصة قصيرة تنوع فيها السرد والدهشة، حاكت فيها هواجس الأزقة وأسرار الجدران وآلآم أرصفة الطرقات، ونسجت - أي الكاتبة فاطمة – من ظنون النوافذ حكايات تبدد حلم الخرافات وتجسر صدق العلاقات. في هذه المجموعة تقدم الكاتبة قيمة إنسانية وأخلاقية لمعنى الحب وذلك في قالب سردي قصصي منسوج بسلاسة وفلسفة عقلانية. تجعلنا نقف فاغري الفاه حيارى نتسائل عن ماهية تلك العلاقة التي تربطنا بالآخر، وما إذا كان ذلك الآخر هو جزء من ذاتنا أم تجسرت علاقتنا به عبر علاقة نسميها "الحب". تُبين لنا –أي الكاتبة فاطمة وهيدي – أن الحب شيء رائع، لكن ما أن نتعمق في ترجمة جوهر الحب سنجد في ذلك الفضاء نوع مما يمكن أن نسمية خدعة تنشأ وتتطور بشكل ماكر للسيطرة علينا.
فالحب، في قصتها القصيرة "الصورة قبل الاخيرة"، التي تعتبر أول قصة في المجموعة القصصية، عبارة عن كوكتيل خطير تتقاذفه الأيدي الخاطئة رغم أننا جميعًا نتفق على أن الحب شئ رائع وأنساني إذا ما نشأ بشكل متوازن مراعيا لكل شيء خاصة تلك القيم الانسانية التي ما أن يتم المساس بها حتى يتحول ذلك الحب الى جحيم. وهذا يفسر الهدف السامي للحب من الحياة. هناك الكثير من الباحثين الذين أمضوا زمنا في البحث في السر الكامن وراء ماهية ذلك الحب البشري، حيث كان البعض يظن أن لديه قوة تحصنه من ذلك السحر، والبعض شعر برهبة متزايدة من تعقيده وأهميته بالنسبة للبشر. إذ لا أحد يعرف كيف يتسلل ذلك السحر إلى كل ألياف كياننا الآدمي، والى كل جانب من جوانب حياتنا وعلاقاتنا اليومية. فمثلا، الرسائل الثقافية التي نسمعها عن الحب الرومانسي - من وسائل الإعلام والدين والآباء والعائلة - لا يحتمل أن تحاصرنا فقط في وحدات عائلية "مثالية، لكنها قد تلعب أيضًا دورًا في قابليتنا لتجربة تسيء الى الشريك الحميم.
هذه النظرة للحب الإنجابي، التي كانت ذات يوم محصورة في الثقافة الغربية، هي الآن السرد السائد على مستوى العالم. منذ الصغر، نتحدث عن "الشخص"، ونقرأ قصصًا عن شباب يجدون الحب رغم كل الصعاب، والتضحية، والاستهلاك. يمكن القول إن هذه الروايات نسج من الخيال وتعتبر غير حقيقية بشكل عام لأن الحقيقة، رغم كونها رائعة، إلا أنها أكثر تعقيدًا إلى حد كبير، وتشمل الضوء والظل، لكن مع ذلك فإن مثل هذه القصص قد يكون لها تأثيرات مفيدة عندما نفكر في دورها في إساءة معاملة الشريك الحميم، وكيفية تحاشي هكذا سلوك.
سيكولوجية الحب:
يعد الحب أهم عامل في سلامتنا العقلية والجسدية وما يزيد في إطالة أعمارنا حيث يشعرنا بالرضى في حياتنا. وبغض النظر عمن يكون موضوع حبنا - إله أم صديق أم حبيب أم حيوان - فإن العلم يرى أن الحب ما هو إلا تأثيرات وتفاعلات، في المقام الأول، بين مجموعة مواد كيميائية عصبية تسبب الإدمان والتي تدعم الروابط العاطفية التي تنشأ كرد فعل لتفاعل الأوكسيتوسين والدوبامين وبيتا إندورفين والسيروتونين الموجودة في تركيبتنا الجسمانية. هذه التفاعلات الناتجة عن المواد الكيميائية تجعلنا نشعر بالنشوة والسعادة أو البهجة، وتحركنا بشكل عاطفي نحو من نحبهم، ونسميها عمليه التجاذب، وهذا ما يفسر لنا تلك المشاعر التي تجوبنا حين ننظر الى صورة ما.
فمثلا جابر الشخصية الرئيسية في "الصورة قبل الاخيرة" يناجي شخصية هادئة تسكن ذلك الإطار، نحن كقراء لا نستطيع تفسير ماهية تلك الصورة ومن يسكنها وكيف إستطعنا تفسير علاقة جابر بما يحتوية إطار تلك الصورة. وهذا يعني أننا بفعل ذلك المشهد الدرامي نندفع نحو الاستثمار في علاقاتنا مع الآخر، كما يظهر ذلك مع جابر من منظور وزاوية أخرى، متجاوزين مايمكن أن تؤول اليه الظروف، والتي في الغالب ما تكون صعبة. لكن كما نعلم أن الحب شئ جميل ولكن يمكن أن يكون نوع وشكل من أشكال الرشوة البيولوجية، وهذا ما يفسره قول جابر "ماذا أفعل؟ لا أريد الابتعاد عنكِ – لكني مضطر!"(ص:8) إذ يعد –أي الحب - خدعة تتطور حاملة في طياتها المكر (وهنا ليس شرطا أن يكون المكر شئ سلبي فقد يكون نوع من الدهاء) والخديعة، وتتسرب الى داخل الجينات البشرية وتعمل على إقناعنا بأننا نؤدي عمل تعاوني إنساني. كما تظهر السعادة التي تجلبها تلك المواد الكيميائية على شكل رد فعل إيجابي هدفها هو ضمان بقائنا. ولهذا السبب فإن السعادة ليست دائمًا نقطة النهاية، فهناك جانب مظلم قد تحجبه –أي المواد الكيميائية – أثناء عملية التفاعل لتقدم لنا السعادة على شكل حوار للإقناع.
«الصورة قبل الأخيرة» توضح لنا أن الحب في نهاية المطاف يتعلق بالسيطرة، يتعلق الأمر باستخدام الرشوة الكيميائية، للتأكد من أننا نبقى ونتعاون ونستثمر في بعضنا البعض، وخاصة في العلاقات الحاسمة للبقاء التي نتمتع بها مع عشاقنا وأطفالنا وأصدقائنا المقربين. هذا عنصر تحكم تطوري بالكاد ندركه، وهو يجلب العديد من الفوائد الإيجابية. وهذا يلخصه حوار صاحب المحل مع جابر حين قال صاحب المحل: كما تريد، أحببت فتح رزق لك، لكن يبدو أنك لست في حاجة للعمل" (ص:10).
في هكذا رد قد يعني أن الفائدة إيجابية ولكن ما أن نربطها بالسياق يتحول ذلك الى معنى آخر يفسر لنا طبيعة التفاعلات الكيميائية التي تنتج لنا ماهية العلاقة التي نريد أن نخصصها مع الآخر. بمعنى آخر، أن للحب جانب مظلم أيضًا. يمكن استخدامه كأداة للاستغلال والتلاعب وسوء المعاملة. في الواقع، ما قد يفصل حب الإنسان عن الحب الذي تعيشه الحيوانات الأخرى جزئيًا هو أنه يمكننا استخدام الحب للتلاعب بالآخرين والسيطرة عليهم. رغبتنا في الإيمان بالحكاية الخيالية تعني أننا نادرًا ما نعترف بالتيارات السفلية، لكن كوننا بشرا نحتاج الحب ونلهث ورائه ونعيش عليه، يمكن القول إن أعظم تجارب حياتنا وأكثرها كثافة يمكن استخدامها ضدنا، مما يؤدي بنا أحيانًا إلى مواصلة العلاقات ذات العواقب السلبية في معارضة مباشرة لبقائنا.
تقدم لنا (قلوب ضالة) تجارب من نسج الخيال أننا جميعًا خبراء في الحب، حيث تأخذنا في رحلات متنوعة الى موضوعات مجتمعية مختلفة جمعت فيها أفكارا نعيشها بنمط قد يكون موازيا بشكل أو بآخر، تدهشنا وكأننا أما سرد لبيانات تجريبية في معمل كيميائي للحياة شخصياتها نحن ومن حولنا وقد نكون مجرد دمى يحركنا الكاتب (فاطمة) ضمن مسارات وسياقات النص وبناء مشروع حياة. وكأنه تم تلخيصنا في صوت الأب حين يصف ما يعني الغد، أو الراهبة الكاثوليكية التي تحاول جاهدة أن تشرح كيف تحفاظ على علاقتها مع الله، أو الروائح التي توضح بالتفصيل كيف يبدو العيش في عالم يبدو أنه مهووس بالحب الرومانسي الذي لا يستطيع تعريفه أو الحفاظ عليه.
وهذا ما يفسر تلك الاجابات الباهتة التي قد تصدمنا حين نبادر بالسؤال عما يعتقدون أنه الحب. غالبًا ما تكون إجاباتهم مفاجئة، ودائمًا ما تكون مضيئة وإيجابية دائمًا، لكن لا يمكن العثور على معنى محدد عن ماهية الحب حتى ولو إستعنا بالماسح اللألكتروني أو عمدنا الى تحليلات مختبرية. رغم ذلك، فالكثير منا يرى أن الحب شيء إيجابي، ويرى البعض أنه - أي الحب- إذا كان للحب جانب مظلم، فهو ليس حبًا، وهذه نقطة مثيرة للاهتمام تجرنا الى جدلية المعنى، وتقدم لنا دعوة مفتوحة للتفسير والتفكير فيها. لكن إذا أقروا بإمكانية أن يكون للحب جانب أقل إشراقًا، فإن الغيرة هي مثالهم المفضل.
الغيرة:
تقدم الكاتبة فاطمة وهيدي ضمن مجموعتها القصصية (قلوب ضالة) تفسيرا يبدوا دقيقا لمفهوم الغيرة، التي غالبا ما يتحجج بها الرجل كتفسير وتبرير للهيمنة الذكورية التي يقدمها الرجل كنوع من العاطفة بنمط الغير، حيث نرى ذلك التفسير في القصة القصيرة التي تحمل عنوان "الهروب" أن الغيرة ما هي ألا نوع من أنواع الهيمنة الذكورية، والسيطرة على الأنثى عن طريق العاطفة. فالغيرة هي محاولة خلق توازن في العلاقات وقد تصل الى إستثمار تلك العلاقات للهيمنة التامة على الآخر (الانثى)، بحيث تصبح تابع لا شريك. فالغيرة كما يتم تأويلها كعاطفة وكما هو الحال مع كل المشاعر، فقد تطورت بحسب التأويل الى ما يسمى حماية أوتنبيه إلى فائدة، أو تهديد محتمل، يعمل سحرها على ثلاثة مستويات: العاطفية والمعرفية والسلوكية. فمثلا عندما نشعر بالغيرة، فإنه يتولد بشكل عام حافز للقيام بواحد من ثلاثة: قطع المنافس، أو منع انشقاق شريك عن طريق مضاعفة الجهود، أو قطع الخسائر وترك العلاقة.
لذا نلاحظ أن مبررات وتـأويلات الغيرة قد تطورت جميعها للتأكد من أننا نوازن بين تكاليف ومزايا العلاقة."ابتسمت وأجابت: يبدو أنهم رتبوا نفس البرنامج لنا، فقد قضيت وقتي بنفس الطريقة التي قضيت بها وقتك، لكن بدلا من الألعاب الإلكترونية قضينا الوقت في الثرثرة حول طرق الطهي المبتكرة، وبدلا من كرة القدم لعبنا البولينج: لذا أشعر بالإرهاق مثلك والرغبة في الاسترخاء والنوم. وجم الزوج وهو يحاول أن يطرد من رأسه الأفكار القاتلة التي تهيأت له، فسألته زوجته وهي تغادر الغرفة متجهة الى الحمام للاغتسال- نسيت أن أسألك، كم هدفا قمت بإحرازه في مباراتك؟!"(74)
يشعر الرجال والنساء بالغيرة بنفس الشدة. ومع ذلك، هناك فرق كبير عندما يتعلق الأمر بما يجعل كل شخص يشعر بالغيرة. وقد قام أحد رواد أبحاث التزاوج البشري - عالم النفس التطوري (النشؤ) الأمريكي ديفيد بوس، وفي كتاب "تطور الرغبة" (1994)، بالعديد من التجارب التي سلطت الضوء على هذا الاختلاف بين الجنسين وتحليلها. ففي إحدى الدراسات، طُلب من الأشخاص قراءة سيناريوهات مختلفة توضح بالتفصيل الدقيق حالات الخيانة الجنسية والعاطفية،" وجدت 83% من النساء أن السيناريو العاطفي هو الأكثر إثارة للغيرة، بينما وجد 40% فقط من الرجال أن هذا مثير للقلق. في المقابل، وجد 60% من الرجال صعوبة في التعامل مع الخيانة الجنسية، مقارنة بنسبة أقل بكثير من النساءالتي وصلت الى 17%" (ص 167).
وهذا ما يفسر لنا علاقة الرجل بزوجته في قصة «الهروب» حيث يطرأ الى عقولنا نظرية الثالوث المظلم: الميكافيلية، السيكوباتية والنرجسية. حيث يعتمد الاول على استخدام الذكاء العاطفي للتلاعب بالأخرين، والثاني للتلاعب بمشاعر الاخرين، والثالث لتشويه سمعة الاخرين بهدف تمجيد الذات. بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، الذين يتميزون بالشخصيات الاستغلالية والمتلاعبة والقاسية، فإن الذكاء العاطفي هو الطريق إلى مجموعة من سلوكيات الاحتفاظ بالشريك التي تلبي أهدافهم بالتأكيد، ولكنها أقل فائدة لأولئك الذين يدعون أنهم يحبونهم. باختصار، أن العلاقة مع هذا الشخص تجعلك عرضة لخطر أكبر بكثير من أن حبك سيعود مع الإساءة.
الخاتمة:
يتضح للقارئ المتتبع لشخصية الأنثى التي ظهرت مختلفة من قصة الى أخرى في المجموعة القصصة (قلوب ضالة) أن جميع تلك الشخصية (المرأة) يعرفن ما هو الحب، رغم التعرض للأذى والخوف، والتحكم فيهن وانعدام الثقة ونقص الدعم أو الاهتمام برفاهيتهن. وكان من الواضح أنهم-أي الرجل والمرأة- جميعًا يعرفون ماذا يجب أن يكون الحب: مبني على أساس الاحترام والتفاهم والدعم والتشجيع والالتزام والولاء والثقة. ولكن على الرغم من هذا الفهم الواضح للاختلاف الكبير بين المثالية والواقع، فإن العديد من تلك الشخصيات-اي النساء- ما زلن يعتقدن أن الحب موجود في علاقتهن. كان البعض يأمل في أن تغير قوة حبهم سلوك شريكهم، بينما تظهر قصص بعضهم أن إحساسهم بالارتباط جعلهم يبقون. يخشى البعض فقدان الحب، مهما كان معيبا؛ وإذا غادروا، فهذا تعبير عن عدم مقدرتهم على تحمل الدمار النفسي الذي أصابهم، وهذا في المقابل يفسر قدرة هذا النوع على إعادة تعريف ذاتهم العاطفية بشكل آخر تقدره ذات إنسانية أخرى.
أستاذ مساعد وباحث زائر بجامعة ريدنج (بريطانيا)
المراجع:
- وهيدي، فاطمة. (2022). قلوب ضالة (مجموعة قصص قصيرة). دار روافد للنشر، (القاهرة)، مصر.
- بوس، ديفيد إم (2016). تطور الرغبة: استراتيجيات التزاوج البشري. الولايات المتحدة: كتب أساسية.
مراجع أخرى:
- فرويد، سيجموند. (1997). الجنسانية وعلم نفس الحب. الولايات المتحدة: سايمون اند شوستر.
- فوكو، م. (2012). تاريخ الجنسانية: مقدمة. المملكة المتحدة: مجموعة نوف دبلداي للنشر.