ينعي الناقد المصري هنا رحيل الناقد المرموق في الرابعة والثمانين من عمره، ويعدد بعض أدواره الثقافية وما شارك فيه من مناصب حكومية وتعليمية. كما يتناول إسهامه في توطئة النظريات النقدية الجديدة وتقديمها للقارئ والناقد العربي على السواء. معرجا على بعض أهم ما أصدره من الكتب والدراسات النقدية التي تجاوز عددها الثلاثين كتابا.

مثقفو مصر يشيعون صلاح فضل

بعد حياة نقدية حافلة بالعطاء

سيد محمود

 

شيعت ظهر يوم السبت 10 ديسمبر 2022 جنازة الناقد المصري البارز الدكتور صلاح فضل رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة من مسجد فاطمة الشربتلي بضاحية التجمع الخامس شرق العاصمة. ونعت الدكتورة نيفين الكيلاني، وزيرة الثقافة المصرية، الراحل بعد أن وافته المنية صباح اليوم عن 84 سنة عقب صراع طويل مع المرض الذي تضاعفت آثاره بعد فقد ابنه وابنته في فترة وجيزة. وقالت الكيلاني في بيان، السبت، "فقدت مصر والأمة العربية علماً من أعلام الأدب والنقد، أثرى المكتبة العربية بعشرات المؤلفات والترجمات، وترك ميراثاً علمياً خالداً". ووصفت الكيلاني الراحل بـ"أحد أبرز حراس اللغة العربية الذين حافظوا عليها وأبدعوا بها"، كما نعى مجمع اللغة العربية رئيسه الراحل واصفا إياه بـ"فقيد الفكر والأدب".

سمة نادرة:
تميز المشروع النقدي للراحل بأنه امتد على مساحة زمنية تزيد على النصف قرن، كما شمل مجالات معرفية واسعة سواء عبر الترجمة أو نظرية الأدب والأدب المقارن إلى جانب النقد التطبيقي الذي امتد ليشمل أجيالاً مختلفة وأنواعاً أدبية مختلفة وهي سمة يندر أن نجدها في ناقد آخر. وعلى رغم الشهرة التي تحققت له كناقد أدبي بارز في العالم العربي، إلا أن تأثيره امتد إلى المجال العام، وعرف بالحرص على الاشتباك مع قضايا الرأي العام، بخاصة في الأعوام الأخيرة التي أعقبت انتفاضة يناير 2011 بعد أن اختير مستشاراً للمجلس العسكري خلال العام الذي تلا الانتفاضة الجماهيرية التي انتهت بسقوط نظام الرئيس مبارك.

"وثيقة الأزهر الشريف":
وتبنى الراحل فيها موقفاً نقدياً من حركات الإسلام السياسي وبذل مع نخبة من المفكرين جهداً مهماً في صياغة ما عرف بـ"وثيقة الأزهر الشريف" التي خرجت عن مؤسسة الأزهر وحاولت التأكيد على مدنية مؤسسات الدولة وحرية المرأة وغيرها من الحريات، كما كان عضواً في اللجنة الفنية للجنة كتابة الدستور عام 2012 وانسحب من اللجنة بعد عدم موافقة لجنة الإخوان على التعديلات التي اقترحوها. وبعد سقوط حكم الإخوان اختير مستشاراً للصياغة في لجنة الخمسين للدستور عام 2014.

سيرة ومسيرة:
ولد الراحل في قرية شباس الشهداء بوسط الدلتا عام 1938. ثم اجتاز المراحل التعليمية الأولى الابتدائية والثانوية في المعاهد الأزهرية. وحصل على ليسانس كلية دار العلوم من جامعة القاهرة عام 1962. عمل معيداً بالكلية ذاتها منذ تخرجه حتى عام 1965 وتتلمذ على يد كبار أساتذة الكلية، لكن الدكتور محمد غنيمي هلال كان أكثرهم تأثيراً فيه، وهو الذي قاد خطواته الأولى في مجال النقد والأدب المقارن وساعده على التعمق في نظريات النقد الحديث، كما نمّى في الوقت ذاته معرفته بالتراث العربي. ومثلت البعثة التي حصل عليها لدراسة الأدب المقارن في إسبانيا نقطة تحول في مسيرته، فقد مكنته من معرفة لغات أوروبية عدة وبعدها حصل على دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة مدريد المركزية عام 1972 وعمل مدرساً للأدب العربي والترجمة في كلية الفلسفة والآداب بجامعة مدريد منذ عام 1968 حتى عام 1972.

وأكسبته تلك الفترة عدداً من الأدوات المنهجية التي انعكست في الأعمال الأولى التي أنتجها اتسمت بالانفتاح على ثقافات متنوعة وعلى علوم إنسانية عدة أبرزها الفلسفة والتاريخ قبل أعوام من تبلور مناهج النقد الثقافي عربياً. وعمل فضل خلال تلك الفترة مع المجلس الأعلى للبحث العلمي في إسبانيا للإسهام في إحياء تراث ابن رشد الفلسفي ونشره. وكذلك نشر كتابه المهم عن أثر "تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي" وكتابه "ملحمة المغازي الموريسكية" وتفرغ لترجمة مسرحيات عدة من الإسبانية إلى العربية وهي الترجمات التي نشرت غالبيتها في سلسلة المسرح العالمي بالكويت.

وبعد عودته من الدراسة في إسبانيا عمل أستاذاً للأدب والنقد في كليتي اللغة العربية والبنات بجامعة الأزهر، وأستاذاً زائراً في كلية المكسيك للدراسات العليا منذ عام 1974 حتى عام 1977. وأنشأ خلال وجوده في المكسيك قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة المكسيك المستقلة عام 1975. كما اشترك في اللجنة التنفيذية العليا لمؤتمر المستشرقين الذي عقد في المكسيك عام 1975. ثم انتقل إلى العمل أستاذاً للنقد الأدبي والأدب المقارن في كلية الآداب بجامعة عين شمس منذ عام 1979 حتى الآن. وخلال الثمانينيات كُلف إدارة المعهد المصري في مدريد ضمن مهمات عمله كمستشار ثقافي لمصر هناك، وأعاد للمعهد الذي أسسه طه حسين وجهه الفاعل بين عامي 1980 حتى عام 1985، فترأس في هذه الأثناء تحرير مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، وانتدب بعد عودته إلى مصر عميداً للمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون بمصر منذ عام 1985 حتى عام 1988.

علاقات عربية مميزة:
وتكشف المسيرة العلمية للراحل عن عمله في جامعات عربية عدة، مما يفسر تأثيره الواسع وعلاقاته العربية المتميزة، فقد عمل في جامعات صنعاء والبحرين وبعد عودته اشترك في تأسيس الجمعية المصرية للنقد الأدبي وكان نائباً لرئيسها منذ عام 1989. ومثل عمله في تأسيس مجلة "فصول" للنقد الأدبي نقطة تحول أخرى قدمت إنتاجه إلى الجمهور العريض، إذ كان من بين أعضاء هيئة التحرير الأولى التي اختارها الشاعر صلاح عبدالصبور والناقد الراحل عزالدين إسماعيل لإطلاق المجلة إلى جانب الناقد الراحل جابر عصفور واعتدال عثمان وهدى وصفي.

وخلال تلك الفترة نشر فضل عدداً من كتبه المهمة، لكن كتابه "البنائية في النقد الأدبي" ظل أكثرها شهرة وتأثيراً لأنه وضع اللبنات الأولى لتطبيق منهج النقد البنيوي والتعريف إلى أسسه المعرفية وإشكالاته التطبيقية في العالم العربي. ولعله من الضروري الإشارة إلى أن هذا الكتاب صدر في سياق زمني كان لا يزال للنقد الأيديولوجي تأثيراً واسعاً لكن فضل جاء من خلفية مختلفة أثرت في الفضاء العام.

وبالمثل أسهم كتابه "المنهجية الواقعية في الإبداع الأدبي" في تقديم معان مبتكرة لمفهوم الالتزام الأدبي وتعميق معرفة الدارسين العرب بسوسيولوجيا الأدب.

وتميز فضل من بين مجموعة النقاد الأكاديميين بالحرص على الكتابة في الصحف والمجلات العامة مثل "الأهرام" و"الحياة" و"الاتحاد" الإماراتية ومجلة "المصور" التي نشر فيها مقالاته الأولى ومن خلالها تابع إنتاج أصوات إبداعية تمثل مختلف الأجيال، غير أنه تعرض لانتقادات كثيرة وحمله بعضهم مسؤولية التأثير في قرارات لجان التحكيم الكثيرة التي شارك في عضويتها داخل مصر وخارجها والتي لم تكن تلبي توقعات بعضهم الآخر. من اللافت أن مسيرته في تولي المناصب العامة لم تكن كبيرة، فتولى رئاسة دار الكتب والوثائق المصرية لفترة وجيزة سبقت تقاعده.

وتعكس مذكراته التي نشرها أخيراً تحت عنوان "عين النقد" (دار بتانة 2021) جوانب من كل ما عاشه وحرصه على أن يكون الناقد الأدبي صاحب تأثير واسع يتخطى حواجز الحياة الأكاديمية فاعلاً في المجتمع واكتشاف أدوار أبعد للنقد، تعزز من حضور القيم الجمالية العليا عن الحق والخير والعدل والجمال والتأكيد على أهمية الاستقلال الفكري لكي لا يكون الناقد بوقاً لأية تيارات أيديولوجية أو وجهاً للسلطة.