يسعى الكاتب هنا إلى العودة إلى حال البلاغة في منطق الكاتب القديم، وتعريفها باعتبارها «مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته». بصورة تحدد العلاقة بين المرسل والمتلقي، ويرثي لحال العَقد الاجتماعي الثقافي المبرَم بين الكاتب المعاصر والمتلقي، مستشهدا بسخرية المازني التهكمية من حالها في مقدمته لكتابة (حصاد الهشيم).

بين الكاتب المغبون والقارئ المُدَلَّل

قراءة في الواقع الثقافي العربي

عبد المنعم مجاور

 

دَرج البلاغيون القدامى على إعطاء المُتلقي عمومًا – قارئًا كان أو سامعًا- من العناية والاهتمام ما جعله مقصِد الكلام وبغيته، وهدف الرسالة وغايتها، ولعل تعريف البلاغة بأنها: «مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته» قد ظهر التأكيد فيه على "حال المخاطَب" دون حال المُرسِل سواء أكان كاتبًا متواريًا خلف ما كتب أم شاعرًا مُلقيًا، أم خطيبًا مرتجِلًا، وليست بغيتنا هنا رصد أسباب الاهتمام بالمستقبِل، وإهمال المُرسِل بقدر ما نتوخى النَّصَفة بين طرفي المعادلة، حتى لا يكون الاهتمام بأحد الطرفين جانيًا بالتبعية على الطرف الآخر.

وغنيٌّ عن البيان أنَّ صحيفة بشر بن المعتمر، المُتَوَفَّى (210هـ) تُعد من أوائل الآثار المذكورة في توجيه الناشـئة وتعلـيمهم أساليب الكتابة والخطابة، كما تعد في طليعة تلك النصوص التي وصلتنا معززة العنايةَ بالمتلقي/ المستقبِل، فقد جاء فيها: "فإن أمكنك أن تَبْلُغَ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، إلى أن تُفهِم العامة معانيَ الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفُو عن الأكْفَاء فأنت البليغ التَّام" انظر البيان والتبيين 1/- 139. والمتأمل في قوله: "واقتدارك على نفسك" يدرك كُلْفة مراعاة الكاتب حال السامع والقارئ، وتماهي الأنا/ المرسِل عمومًا مع الآخر/ المستقبِل بل وإيثاره إياه على نفسه؛ لأن في تعبير "واقتدارك على نفسك" إشارة إلى مدى ما يلاقي المبدِع في سبيل تجويد رسالته مراعاة لحال المستقبِل؛ سامعًا كان أم قارئًا، وإن كان ذلك على حساب نفسه!

ويقول "بِشْر" في موضع آخر من صحيفته: "ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا حتى يُقسِّمَ أقدار الكلام على أقدار المعاني، و يُقسِّمَ أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات." ولعلك تلاحظ صيغة الإلزام في قوله: " ينبغي للمتكلم" تلك الصيغة التي لا نجد لها صِنوًا ولا شبيهًا فيما يخص المتلقي! ولعل أبا تمام قد أدرك ذلك منذ عهد بعيد، ولفت الأنظار إلى وجوب مراعاة حال المتكلم جنبًا إلى جنب مع حالة المخاطَب إن لم تسبقها، وتزد عليها، فنراه يجيب أبا سعيد الضرير الذي علّق على قصيدته التي مطلعها:

أَهُنَّ عَوادي يوسُفٍ وَصَواحِبُه          فَعَزمًا فَقِدمًا أَدرَكَ السُؤلَ طالِبُه

بقوله: لم لا تقول ما يُفهَم؟! بسؤال استنكاري معاكِس: ولِمَ لا تفهم أنت ما يقال؟! فقد كان من الممكن لهذه اللفتة - لو قُدِّر لها أن تأخذ من العناية ما أخذت مثيلاتها في تراثنا النقدي - أن تؤسس لقاعدة جديدة - للخطاب الأدبي عمومًا – يأخذ فيها المُرسِلُ بيدِ المستقبِل في تعاطيهما مع المُرسلَةِ نفسها؛ ليكتمل عِقد "السياق" أو "مقتضى الحال" باكتمال عناصره دونما تفضيل أو محاباة أو إهمال.

إن السياق أو الإطار الثقافي العام لأية أُمّة يعد الحاضنة الأم لأي إبداع ينمو تحت ظلاله، ومن ثم تتحدد العلاقة بين الكاتب والقارئ من خلال ذلك العَقد الاجتماعي الثقافي المبرَم بينهما، ومن هنا يتشكَّل وجدان الأمّة عبر الكاتب مُرسِلًا، والقارئ مستقبِلًا، والمُرسَلة عنصرًا مشتركًا. وواقعنا الثقافي العربيّ أقلّ ما يقالُ عنه في الوقت الراهن وفق قاعدة الأضداد: إنه [بعافية] فالناظر إلى حال الكاتب العربي المشهور، وكم نسخةً من أشهر كُتبِه تباع سنويًّا يدرك حجم الفجوة بين واقعنا الثقافي، وحال كُتّابنا العرب من جهة، وواقع الغرب الثقافي، وحال كُتّابهم من جهة أخرى!!

وللإنصاف فإنّ هذا التراجع ليس وليد اليوم أو الليلة بل هو  نتاج عقود خَلَتْ، ولا تعجبْ إن كانت تلك الحالة قد بدأت منذ عصر نعدّه العصر الذهبي، والمَثَل في الإبداع العربي في العصر الحديث؛ وسأسوق لك دليلًا بقلم أحد أساطين الإبداع في ذلك العصر وهو يتحدث بلا مواربة عن تلك العلاقة بين الكاتب والقارئ في مشهد رسمه صاحبه بريشته الساخرة، يقول المازني مخاطبًا القارئ ومشجعا له على شراء كتابه أو إن شئت قل: مُحاسِبًا مفاصِلًا  له بِلغة التجار، متوسّلًا إليه، حاشدًا كل ما يستطيع من أدلة الإقناع؛ كي يقنعه بشراء كتابه، يقول المازني (رحمه الله) في مقدمة كتابه "حصاد الهشيم": "هذه مقالات مختلفة في موضوعات شتى كتبتْ في أوقات متفاوتة وفى أحوال وظروف لا علم لك بها ولا خبر على الأرجح. وقد جمعت الآن وطبعت وهى تباع المجموعة منها بعشرة قروش لا أكثر! ولست أدَّعي لنفسي فيها شيئًا من العمق أو الابتكار أو السداد، ولا أنا أزعمها ستُحدث انقلابًا فقريًّا في مصر أو فيما هو دونها، ولكنى أقسم أنك تشتري عصارة عقلي وإن كان فِجًّا، وثمرة اطلاعي وهو واسع، ومجهود أعصابي وهي سقيمة، بأبخس الأثمان! وتعال نتحاسب!

إن في الكتاب أكثر من أربعين مقالًا تختلف طولًا وقصرًا وعمقًا وضحولة. وأنت تشترى كل أربعة منها بقرش! وما أحسبك ستزعم أنك تبذل في تحصيل القرش مثل ما أبذل في كتابة المقالات الأربع من جسمي ونفسى ومن يومي وأمسي ومن عقلي وحسي، أو مثل ما يبذل الناشر في طبعها وإذاعتها من ماله ووقته وصبره. ثم إنك تشتري بهذه القروش العشرة كتابًا، هَبْه لا يُعمِّر من رأسك خرابًا ولا يُصقل لك نفسًا أو يفتح عينًا أو ينبه مشاعر، فهو -على القليل - يصلح أن تقطع به أوقات الفراغ وتقتل به ساعات الملل والوحشة. أو هو - على الأقل - زينة على مكتبك. والزينة أقدم في تاريخنا معاشر الاَدميين النفعيين من المنفعة وأعرق، والمرء أطلب لها في مسكنه وملبسه وطعامه وشرابه، وأكلف بها مما يظن أو يحب أن يعترف.

على أنك قد لا تهضم أكلة مثلًا فيضيق صدرك ويسوء خلقك وتشعر بالحاجة إلى التسرية والنفث وتَلقى أمامك هذا الكتاب فالعن صاحبه وناشره ما شئت! فإني أعرف كيف أحوِّل لعناتك إلى من هو أحق بها! ثم أنت بعد ذلك تستطيع أن تبيعه وتَنْكِبُ به غيَرك! أو تُفَكِّكْه وتُلَفِّفَ في ورقه المنثور ما يُلف، أو توقد به نارًا على طعام أو شراب أو غير ذلك!
أفقليلٌ كل هذا بعشرة قروش؟ أمَّا أنا فمن يرد إلىّ ما أنفقت فيه؟! من يعيد لي ما سلخت في كتابته من ساعات العمر الذى لا يرجع منه فائت، ولا يتجدد كالشجر ويعود أخضر بعد إذ كان أصفر، ولا يُرقع كالثياب أو يُرفي؟!
وفى الكتاب عيب هو الوضوح فاعرفه! وستقرؤه بلا نَصَبٍ، وتفهمه بلا عناء .. ثم يخيّل إليك من أجل ذلك أنك كنت تعرف هذا من قبل وأنك لم تزد به علمًا! فرجائي إليك أن توقن من الاَن أن الأمر ليس كذلك وأن الحال على نقيض ذلك! واعلم أنه لا يعنيني رأيك فيه! نعم. يسرني أن تمدحه كما يَسرُّ الوالدَ أن تثنى على بنيه، ولكنه لا يسوؤني أن تبسط لسانك فيه إذ كنتُ أعرفَ بعيوبه ومآخذه منك. وما أخلقني بأن أضحك من العاتبين وأن أخرج لهم لساني إذ أراهم لا يهتدون إلى ما يبغون وإن كان تحت أنوفهم!

ومهما يكن من الأمر، وسواء أرضيت أم سخطت، وشكرت أم جحدت، فاذكر، هداك الله، أنك آخر من يحق له أن يزعم أن قروشه ضاعت عليه! أولى بالشكوى منك الناشر ثم الكاتب." حصاد الهشيم.

إن هذه المقدّمة – على فصاحتها وبلاغتها، وحُسن سَبْكِها - هي أشبه بلغةِ "دلّال" يُعلِن عن بضاعةٍ كسدت في سوق يبحث أصحابها عن أنواعٍ أُخَر من البضائع؛ فكأن ذلك الدَّلَّال "يؤذّن في مالطا" وكأن بضاعته تُمثِّل "شريط كاسيت" في زمن الـONE DRIVE  وبالرغم من روح المازني الفكهة التي بها عُرِف، وسخريته التي تُعدّ سمة من سمات أسلوبه، فإنّ فيها مِسحة من حزن صامت، وألم ممض يعتري الكاتب جرّاء ما وصل إليه حال الكِتاب العربي، واهتمامات القارئ العربي التي انحرفت بوصلتها عن الكِتاب والقراءة والثقافة وما يدور في فلَكها. هذا في زمن المازني الذي كان فيه من الأدباء من تُثنى بهم الخناصر في الكتابة، ومن القُراء والمثقفين الذين كانت تجري أمام أعينهم أشد المعارك الأدبية حلاوة وضراوة!! فماذا نقول نحن في هذا الزمن؟ وماذا يقول كُتّابنا وقد انصرف جمهور قُرّائهم إلى مغريات هنا، ومُلهيات هناك، وتجاذبتهم تكنولوجيا العصر، أو أرهقهم اللهاث وراء لقمة العيش؟!

إنّ الحالة الثقافية العربية بحاجة إلى تدارك الموقف، واستعادة المجد الغابر من خلال تكاتف الجهود الفردية والجماعية، وإنّ الكاتب العربي بحاجة ماسّة إلى الدعم على كل الأصعدة، وأن ينال من الاهتمام قدر ما ينال القارئ المُدلَّل، وإنَّ أكثرَ الناس تدليلًا له وخطبا لودّه لَلكاتب نفسه الذي يقدّم فيما يكتب ويؤخّر، ويزيد لأجْلِه ويحذف، ويَضبط بِنية الكلمة وآخرها خشية  تلعثم القارئ، وخوفًا على ضياع وقته وشفقة منه أن تروح عينه على كلمة فيقرؤها على غير ما أرادها الكاتب، فيحسب الكاتب المسكين لكل هذا وغيره ألف حِساب، فمن للكاتب بعد كل هذا؟!

له الله.