تتأمل الكاتبة التونسية في تلك الخواطر الكثير من القضايا التي يتصل كثير منها بماهية اللغة، وعلاقتنا بها من ناحية، وبطبيعة التفكير والفلسفة في تناولها لتلك العلاقة المعقدة بين ما هو مادي وما هو نفسي أو روحي. في نوع من التأملات الشعرية التي تطرح الأسئلة أكثر مما تصبو للعثور على الأجوبة.

خواطر حول علاقة الجسد بالروح

كاهنة عباس

 

كأني بالكلمات فراشات لها تركيبة عجيبة غريبة، فهي تملك القدرة على أن تكون قديمة وحديثة، لذلك احترت في إدراك مفعولها السحري حين تصيب الجسد إحساسا وشعورا بأن تفتح له أفق الفرح والحزن والتفاؤل والتشاؤم ،إذ كيف لذبذبات أصواتنا المتفرقة يمنة ويسرة، أن تبعث في أجسادنا أحاسيس فتحدث تحولا في كيميائها؟ من قال أن للكلام وجودا مستمرا، ألا يتبخر حال تبادله بين الناس، فلولا الكتابة التي سعت الى ترسيخه على الورق، ما كُتب له أن يبقى، فكيف يصيب وجداننا، أي تلك مشاعر التي تحرك أجسادنا؟

لذلك، فالرأي عندي، أن علاقة الروح بالجسد ليس من التنظير في شيء، إنها قائمة في عمق ذواتنا، في تلك الشبكات المعقدة جدا من الرموز والإشارات التي تتألف منها حياتنا، فجل العبارات التي نستعملها لا تحيلنا إلى أشياء أو كائنات ملموسة أو مرئية، بل إلى تصورات وأفكار. فهل منكم من يمكنه التعرف على مكان دون تسميته أو زمان في غياب تاريخه؟ وهل منكم من يمكنه رسم ملامح رجل ما أو امرأة دون هوية كل منهما؟ وهل من دلالة للشجرة دون ذكر فصيلتها؟ وللزهرة في غياب اسمها؟ للشمس دون إضافة أوقات بزوغها، وللقمر دون شكله؟ وهل للأشياء من وجود في غياب ألوانها وصفاتها؟

هذا، إذا ما تحدثنا عن مكان ما وزمان ما وشيء ما، أما إذا تعلق الأمر بمسائل أخرى أكثر تجريدا مثل الخير والشر، والنسبي والمطلق والوجود والعدم، فلا بد لنا من القبول بتعدد المعاني، بل وتضاربها أحيانا، ولا مناص لنا من الرجوع الى مصادرها والأخذ بقواعد التأويل حتى تكون أكثر وضوحا. فالكلام في الأصل صور خاوية إما من الأشكال أو من المعاني تنتظر الامتلاء، فكيف بها تصيب قلوبنا النابضة لحظة بلحظة؟

علينا إذا، أن نبحث عن هذه الملكات الخارقة للعادة التي تسكن أجسادنا فتمنحها القدرة على إدراك ما يتجاوزها مثل الحدس والخيال والذاكرة والوعي والإدراك والذكاء. صحيح، أن بيولوجيا الجسد متصلة بنظام معين، مثل دقات القلب وتطابقها مع سريان الزمن والحاجة إلى النوم واليقظة وانسجامهما مع دورة النهار والليل، وما نشعر به من حاجة الى الأكل، باعتبارها حاجات مرتبطة بما هو مادي وملموس. لكننا شيدنا داخل أجسادنا عالما مختلفا عن العالم الطبيعي، وخلقنا لها لغة تفوق المعاني بعض الإشارات والعلامات.

توجد داخلنا قوة ما، لا تخضع للمرئي المادي فحسب، لا ندرك مصدرها تجعلنا باستمرار نسعى إلى تحصيل أمور تفوق حاجيات أجسادنا الأساسية. أليست مشاعر القلق، الانتظار، الأمل، اليأس و الطموح، منقطعة عما هو موجود، متصلة بما هو وهم تقوم عليه حياتنا في أغلب أوقاتها، أي على ما يرسمه خيالنا من تصورات دون أن تتحقق ؟

فلو تناولنا، الجرح الذي يصيب النفس، ألا نستنتج صدوره عن معنى منحناه لقول أو فعل ما؟ كيف به يصيبنا في العمق؟ كيف يمكن للغة أن تثير في أنفسنا موجة من الألم، رغم أنها مجموعة من الكلمات المتتالية، المتعددة المعاني والتأويلات؟ هل يكون فعل ما أو موقف ما قابلين للقراءة والتأويل؟ أي متصلين بمعنى ما على أساس أنه قادر على توليد المشاعر والأحاسيس؟ من عرف المادة على أنها تلك الأشكال المرئية للكائنات، ألا يسكنها وعي يدفعها إلى النمو المستمر حتى بلوغ الفناء؟ هل يمكن اعتبار الإنسان مادة مجسدة تفكر بنفسها، ألا تستمر حياته بفضل حكاية تستعيدها ذاكرة ما؟ ألا تتمثل دورة الحياة ببروز المادة ثم الأفكار التي تنمو معها وتصاحبها، ثم يفنى الجسد وتستمر الحكاية بما تزخر به من أفكار ثم تزول لتبرز أجسادا أخرى، تترك خلفها حكاية وأفكارا وهكذا دواليك؟

من قال أن الفكرة منفصلة تماما عن الجسد ليست نابعة منه ومتأثرة بطبيعته، بل لعلها جزء لا يتجزأ منه؟ أليست هي التي تحمينا من قسوة العالم، وترسم لنا إحدى صوره الممكنة، وتفتح لنا أبواب الصراع معه حتى نستمر من خلالها؟ فالمادة هي من أوجدتنا والفكرة هي من تحدثت عنا وكتبت حكايتنا، وللأولى عمر معلوم وللثانية زمنية ممتدة، لا أحد يمكنه التنبؤ بها وزوال الأولى، لا يعني زوال الثانية، وزوال الثانية قد يؤدي إلى ظهور الأولى.

إنه الارتباط المتلازم، ينفصل كي يلتئم، لذلك كان لا بد من إعادة صياغة الأسئلة ليس انطلاقا من ثنائية الجسد والروح، بل انطلاقا من طبيعة المادة ومدى استمراريتها زمنيا من خلال الفكرة، فالمرئي والمحسوس لا يختلفان في جوهرهما عما يتجاوز المادة، وإلا لما أصابتنا الكلمات بسهامها كما ذكرنا، ولما احتلت مسألة المعنى كل تلك المكانة في حياتنا.

والسؤال هو الآتي : ما هو سر المادة؟ من أنها لا تتشكل من أجسام تتقارب وتتباعد فحسب بل وأيضا من فراغ، تحكم خريطتها قوانين وسنن معقدة جدا، إنها مختلفة عما نراه وندركه، متصلة بنظام أعم وأشمل من ذاك الذي يسير أجزاءها، هي مزدوجة التركيبة إذا في جوهرها.

أما السؤال الأهم الذي يخرج عن نطاق الميتافيزيقا والعلم، ألا وهو علاقتنا الملتبسة بالحياة، إن كنا داخلها  أم خارجها ، أم في منطقة وسطى لا هي منسجمة معها ولا هي منقطعة عنها ، ألسنا من بدأنا بتسمية الأشياء وإطلاق الإحكام على كل ما يحيط بنا ؟ إذ تحيلنا عبارة الحياة إلى ما نحيا وما لا نحيا، إلى ما ندرك وما لا ندرك، إلى ما نعلم وما لا نعلم. لذلك غالبا ما ننعتها بأوصاف متضاربة بأنها فاتنة وخائنة وجميلة وبائسة وغادرة وظالمة وزائلة وكاذبة وواهمة وخادعة وغيرها من الأوصاف التي لا تحصى ولا تعد.

كأننا عشنا خارجها لنطلق عليها كل تلك الإحكام الجائرة ونحن لم نتحد بها بعد، حتى نفقه سننها بل لم ندرك أننا جزء لا يتجزأ منها.