اسطنبول
حين حملني مركب الرّيح والشّوق للقاهرة، لم يكن في ذهني أنّني وفي زيارتي الأولى للمدينة الحُلم، سأكون في رحلة روحيّة أحلّق فيها من فضاء القاهرة إلى فضاء اسطنبول. ولكن حين أبلغتني الشّابّة كِنان طالبة الفنون في اليوم الثّاني لوصولي عن معرض فنّيّ، يحمل عنوان (اسطنبول) للفنّان فرغلي عبد الحفيظ في قاعة الفنّ في حيّ الزّمالك في شارع يحمل اسم البرازيل، ابتسمت وقلت: إذًا ستجمع روحي بين القاهرة واسطنبول والبرازيل مرّة واحدة، أخذتُ العنوان وفي الموعد المحدّد كنت أجول جنبات القاعة. قاعة الفنّ في الزّمالك؛ قاعة أنيقة وجميلة ومرتّبة، أسلوب جميل في عرض اللوحات، تشدّ المشاهد بهمسات رقيقة للتّجوّل في قاعاتها المتعدّدة، صوت العزف النّاعم على القيثارة الفرعونيّة بأصابع فنانة جميلة تعزفها بانسيابيّة وحلاوة، يساهم في خلق الجوّ الرّوحيّ للتّجوال في فضاءات الفنان فرغلي، يضاف إلى ذلك الاستقبال اللطيف وحسن الضّيافة من مديرة القاعة والعاملين بها، ممّا يخلق الجوّ المحفّز للتّحليق في عالم الفنّ التّشكيليّ. وحقيقة لم أستطع أن أقاوم إغراء مشاهدة المعرض، فالفنّ التّشكيليّ يشدّني بقوّة. وفي العديد من المعارض الّتي حضرتها لم تمتلك روحي إلاّ أن تحلّق مع إبداع الفنّ، وترسم بالكلمات. فالفنّان المبدع يسكب روحه في لوحاته، وفي هذه الحالة أشعر بساعدين يخرجان من قلب اللوحة ويمسكان بي ويشدّني لداخل اللوحات، فأشعر أنّني أتنقّل وأجول بداخل اللوحة نفسها وكأنّي جزءٌ منها، فينصهر جسدي بروحي فلا أشعر به، وأرى هالة من نور تحيطني وتحملني للتّحليق مع جمال الفن والإبداع. حين وقفت أمام اللوحة الأولى شعرت بجسدي يتسمّر في مكانه، روحي تحلّق وعيناي تحدّقان بتركيز شديد، لم أصحُ منه إلاّ حين رحّبت بي مديرة القاعة ومنحتني شرف التّعريف بفرغلي الفنّان الهادئ والدّمث، لأعود بعدها لأكمل التّجوال في المعرض وبين فضاء اللوحات بدون أيّ شعور بالتّعب لوقت استمرّ قرابة السّاعتين. لوحات معرض (اسطنبول) رحلة روحيّة جميلة ورائعة، التّأمل باللوحات يجعل الرّوح تحلّق في فضائها.. الفنّان فرغلي استعاد ذاكرة المكان ـ اسطنبول الّتي زارها قبل سنوات، فتركت هذه المدينة الشّرقيّة الملامح والرّوح أثرها في روحه، فاستعاد الذّاكرة بالفرشاة والألوان، مستخدمًا أسلوب التّجريد للمكان بكافّة تفاصيله، حتّى أنّ أسلوبه انعكس على الشّخوص في لوحاته، فمنحها روحًا جديدة تحمل في خطوطها البارزة حكاية وجمال. بإبداع ومهارة، تمكّن الفنّان من الممازجة بين الألوان الحارّة والألوان الباردة لتسكب عبق روحه من خلال الرّيشة واللون، ومازجت ريشته بين اسطنبول الّتي يستعيدها في الذّاكرة ومصر التي تسكنه ويسكنها. فحملت الوجوه للشّخوص في لوحاته الملامح المصريّة الأصيلة، وبمهارة إبداعيّة استخدم القلم الزّيتيّ لرسم الخطوط البارزة في اللوحات، فأعطى للمشاهد والمتأمّل بفنّه للوهلة الأولى خطوطاً مرسومة بالألوان الشّمعيّة، مما أعطى جماليّة خاصّة للخطوط. وفي الوقت نفسه فإنّ اللوحات تحمل في ثناياها إيحاءات فنّيّة جميلة، تدفع الرّوح للتّحليق بأجوائها والتّأمّل والتّفكير. استخدم الفنّان ألوانًا مختلفة في لوحاته، فالعديد من اللوحات كان يسيطر عليها اللون البنّيّ التّرابيّ. فكأنّ الأرض تتمثّل في تلك اللوحات، وأعتقد بأنّ انسكاب اللون وطبيعته له دومًا علاقة بما يعتمل في روح الفنّان وتسكبه ريشته في لحظة اشراقة الفكرة واللوحة. فالبنّيّ التّرابيّ يرمز للمكان، والأزرق المتمازج مع الأبيض بتدرّجاته يحملنا في عباب البحر ويحلّق بنا في الفضاء، واللون الأزرق الدّاكن بتدرّجاته وتمازجه مع اللون الأحمر يعيدنا من جديد وبقوّة إلى المكان. وفي لوحات الفنّان فرغلي في معرضه (اسطنبول) تواجدت رموز عديدة ليس من السهل تجاهلها، فكل رمز يحمل في ثناياه معنى وانعكاس جانب روحيّ وفنّيّ. ومنها على سبيل المثال تعانق الصّليب والهلال، وتكرار صورة الهلال والنّجمة، إضافة للطّيور والأطفال الرُضّع في اللوحات، والهالة الزّرقاء الّتي تحيط كهالة من نور جسد امرأة تسير في الشّارع، وطيف السّيّدة العذراء وهي تحمل السّيّد المسيح كأيقونة تكرّرت في لوحتين. في لوحات (اسطنبول) ينقلنا فرغلي إلى زوايا ومشاهد مختلفة من المدينة، فيعيد تشكيلها بروحانيّة كبيرة، فمن المساجد إلى البيوت والأحياء الشّرقيّة، ومن عدد كبير من الأشخاص يقفون في لوحة، إلى وقوف المحبّين يتبادلون أحاديث الجوى وهمسات الحبّ في لوحات أخرى، ومن لوحات ضخمة الحجم وممتدّة المساحة إلى لوحات بأحجام مختلفة، حملنا الفنّان على بساط الرّيح في رحلة مازجت بين المكان والزّمان، في رحلة روحيّة تراوحت بين الانطباعيّة إلى الصّوفيّة، رحلة تترك في الرّوح انطباعًا وأثرًا عن المكان ليس من السّهل أن يزول خلال فترة قصيرة. (القاهرة 15/ 3/ 2009).
حين حملني مركب الرّيح والشّوق للقاهرة، لم يكن في ذهني أنّني وفي زيارتي الأولى للمدينة الحُلم، سأكون في رحلة روحيّة أحلّق فيها من فضاء القاهرة إلى فضاء اسطنبول. ولكن حين أبلغتني الشّابّة كِنان طالبة الفنون في اليوم الثّاني لوصولي عن معرض فنّيّ، يحمل عنوان (اسطنبول) للفنّان فرغلي عبد الحفيظ في قاعة الفنّ في حيّ الزّمالك في شارع يحمل اسم البرازيل، ابتسمت وقلت: إذًا ستجمع روحي بين القاهرة واسطنبول والبرازيل مرّة واحدة، أخذتُ العنوان وفي الموعد المحدّد كنت أجول جنبات القاعة.
قاعة الفنّ في الزّمالك؛ قاعة أنيقة وجميلة ومرتّبة، أسلوب جميل في عرض اللوحات، تشدّ المشاهد بهمسات رقيقة للتّجوّل في قاعاتها المتعدّدة، صوت العزف النّاعم على القيثارة الفرعونيّة بأصابع فنانة جميلة تعزفها بانسيابيّة وحلاوة، يساهم في خلق الجوّ الرّوحيّ للتّجوال في فضاءات الفنان فرغلي، يضاف إلى ذلك الاستقبال اللطيف وحسن الضّيافة من مديرة القاعة والعاملين بها، ممّا يخلق الجوّ المحفّز للتّحليق في عالم الفنّ التّشكيليّ. وحقيقة لم أستطع أن أقاوم إغراء مشاهدة المعرض، فالفنّ التّشكيليّ يشدّني بقوّة. وفي العديد من المعارض الّتي حضرتها لم تمتلك روحي إلاّ أن تحلّق مع إبداع الفنّ، وترسم بالكلمات. فالفنّان المبدع يسكب روحه في لوحاته، وفي هذه الحالة أشعر بساعدين يخرجان من قلب اللوحة ويمسكان بي ويشدّني لداخل اللوحات، فأشعر أنّني أتنقّل وأجول بداخل اللوحة نفسها وكأنّي جزءٌ منها، فينصهر جسدي بروحي فلا أشعر به، وأرى هالة من نور تحيطني وتحملني للتّحليق مع جمال الفن والإبداع.
حين وقفت أمام اللوحة الأولى شعرت بجسدي يتسمّر في مكانه، روحي تحلّق وعيناي تحدّقان بتركيز شديد، لم أصحُ منه إلاّ حين رحّبت بي مديرة القاعة ومنحتني شرف التّعريف بفرغلي الفنّان الهادئ والدّمث، لأعود بعدها لأكمل التّجوال في المعرض وبين فضاء اللوحات بدون أيّ شعور بالتّعب لوقت استمرّ قرابة السّاعتين.
لوحات معرض (اسطنبول) رحلة روحيّة جميلة ورائعة، التّأمل باللوحات يجعل الرّوح تحلّق في فضائها.. الفنّان فرغلي استعاد ذاكرة المكان ـ اسطنبول الّتي زارها قبل سنوات، فتركت هذه المدينة الشّرقيّة الملامح والرّوح أثرها في روحه، فاستعاد الذّاكرة بالفرشاة والألوان، مستخدمًا أسلوب التّجريد للمكان بكافّة تفاصيله، حتّى أنّ أسلوبه انعكس على الشّخوص في لوحاته، فمنحها روحًا جديدة تحمل في خطوطها البارزة حكاية وجمال.
بإبداع ومهارة، تمكّن الفنّان من الممازجة بين الألوان الحارّة والألوان الباردة لتسكب عبق روحه من خلال الرّيشة واللون، ومازجت ريشته بين اسطنبول الّتي يستعيدها في الذّاكرة ومصر التي تسكنه ويسكنها. فحملت الوجوه للشّخوص في لوحاته الملامح المصريّة الأصيلة، وبمهارة إبداعيّة استخدم القلم الزّيتيّ لرسم الخطوط البارزة في اللوحات، فأعطى للمشاهد والمتأمّل بفنّه للوهلة الأولى خطوطاً مرسومة بالألوان الشّمعيّة، مما أعطى جماليّة خاصّة للخطوط. وفي الوقت نفسه فإنّ اللوحات تحمل في ثناياها إيحاءات فنّيّة جميلة، تدفع الرّوح للتّحليق بأجوائها والتّأمّل والتّفكير.
استخدم الفنّان ألوانًا مختلفة في لوحاته، فالعديد من اللوحات كان يسيطر عليها اللون البنّيّ التّرابيّ. فكأنّ الأرض تتمثّل في تلك اللوحات، وأعتقد بأنّ انسكاب اللون وطبيعته له دومًا علاقة بما يعتمل في روح الفنّان وتسكبه ريشته في لحظة اشراقة الفكرة واللوحة. فالبنّيّ التّرابيّ يرمز للمكان، والأزرق المتمازج مع الأبيض بتدرّجاته يحملنا في عباب البحر ويحلّق بنا في الفضاء، واللون الأزرق الدّاكن بتدرّجاته وتمازجه مع اللون الأحمر يعيدنا من جديد وبقوّة إلى المكان. وفي لوحات الفنّان فرغلي في معرضه (اسطنبول) تواجدت رموز عديدة ليس من السهل تجاهلها، فكل رمز يحمل في ثناياه معنى وانعكاس جانب روحيّ وفنّيّ. ومنها على سبيل المثال تعانق الصّليب والهلال، وتكرار صورة الهلال والنّجمة، إضافة للطّيور والأطفال الرُضّع في اللوحات، والهالة الزّرقاء الّتي تحيط كهالة من نور جسد امرأة تسير في الشّارع، وطيف السّيّدة العذراء وهي تحمل السّيّد المسيح كأيقونة تكرّرت في لوحتين.
في لوحات (اسطنبول) ينقلنا فرغلي إلى زوايا ومشاهد مختلفة من المدينة، فيعيد تشكيلها بروحانيّة كبيرة، فمن المساجد إلى البيوت والأحياء الشّرقيّة، ومن عدد كبير من الأشخاص يقفون في لوحة، إلى وقوف المحبّين يتبادلون أحاديث الجوى وهمسات الحبّ في لوحات أخرى، ومن لوحات ضخمة الحجم وممتدّة المساحة إلى لوحات بأحجام مختلفة، حملنا الفنّان على بساط الرّيح في رحلة مازجت بين المكان والزّمان، في رحلة روحيّة تراوحت بين الانطباعيّة إلى الصّوفيّة، رحلة تترك في الرّوح انطباعًا وأثرًا عن المكان ليس من السّهل أن يزول خلال فترة قصيرة.
(القاهرة 15/ 3/ 2009).