إهداء
منى سلمان.
أول البنات والمنتهى.
يا الله...
هل قلت ... والمنتهى !!!
الصفاء التام
لا يكون إلا بالتوحش التام
ابن خلدون
(1)
النعش على باب المستشفى، والملائكة أيضاً، وإن تجولوا بسرعة في ردهاتها القذرة حين يشعرون بالملل، في انتظار ساعته، وإن بدّدوا سأمهم أحيانا بقبض روح أو اثنتين.
رآهم الفناجيلي ابن أخيه، العين في العين، وهم يبصّون من ثقوب الأبواب، وإن تخفّوا في ملابس بيضاء كالأطباء وأحيانا كالممرضات.
وهو كما هو، رابض في السرير نفسه، بين الحياة والموت، خيط يشده وخيط يرخيه، ممدد دون ضعف ، لا آهة، لا توجّع، وجهه محتفظ بآلام عراكه الأخير.
الأطباء الذين تناوبوا عليه استغربوا، ثم حاروا، يجدونه كل صباح في مكانه، السرير لم يفرغ بعد، الطرقة لم تفرغ من أقاربه، ولا الحوش.
الطبيب الذي جس نبضاً لم يجده، لم يصدق نفسه، تأرجحت عيناه بين الجسد الممدد والسقف، علَّـه يرى الروح المعلقة بينهما، وربما من فرط حيرته، فتح شيش الشباك ليفسح لها أو ليدفعها، لكنه حين أفاق أغلقه، ومضى يعصر شفتيه.
.. قوم يا محروس..
ابنته انصاف تربض عند قدميه اللتين تعبران حافة السرير، تلعب بين أصابعه، تفلّي جسده قطعة قطعة، تدغدغه، تنادي عليه بصوت يغشاه أسى خفيف حينا، وجرعة وافية من ثقة أحياناً أخرى.
قوم يا محروس، قوم...،
تهزُّه:
قلتلك قوم، نبحت قلبي.
وهو كما هو، عيناه معلقتان بالسقف، كأنما يقرأ شريط حياته، يحركهما جانباً حتى نهايته، ثم يعود من الأول، كأنما يفرز الأحلام والحسرات ويقف منتصباً بينهما، وحين يفرغ من السطر الأخير، يغمضهما عميقاً ويسلم قدميه في دعة لانصاف.
الطبيب الجديد الذي عاده في المساء، لم يجد فيه نبضاً ولا نفساً، خطف قطنة بيضاء ليحشو الفم والأنف والأذنين، وما تبقى، ملاك عجوز التقط قطنة شفافة أكبر، أعطاها لزميله وغمز له ليحمل فيها الروح ويطير.
وحين التفت ليرمي كلمة الوداع، ويطلب من الممرضة الوحيدة أن تسحب على وجهه الغطاء، وكلمة البقية في حياتكم على طرف لسانه، .. رجته شخرة مفزعة طويلة، ورجرجة على السرير، كأن القطار مر من الغرفة، تلاهما نفس عميق .. فتح عينيه، أرخى نظره كأنه عاد للتو من رحلة صيد طويلة مجهدة.
بمرارة سحب جملته، عض عليها، ابتلعها، ويداه مزمومتان..:
.. فرعون ده ولا جن؟ .. بصوت خفيض، ومضى ..
وآخر يرن خلف ظهره:
بني آدم ده ولا عفريت.
وأهل القرية الذين عسكروا داخل الحوش ليالي طوالاً انتفضوا لما رأوا الشيخ عثمان، شيخ الكتاب والمقرئ خارجاً من عنده، انفرطوا تجاهه..
- مات يا شيخ عثمان؟
- الشر بره وبعيد.
- عيَّان قوي؟
والشيخ عثمان يفرك سمرته التي أفلتت من سواد غطيس لأبيه وجده، يقذف تنهيدة من قلب جوفه:
- عيّان؟، والله ما عيان إلا اللي عنده عيان.
النعش على باب المستشفى، والملائكة أيضاً، وهو كما هو، كل من يراه تلبسه الدهشة، جسد عرمرم يملأ السرير، يملأ مركزه، يكاد يهبط من حافتيه لولا صلابته، أنفه الكبير الكبير، كأنف جمل شارخ، بلون وردي ولمعةٍ ظاهرة، لمعة تسرق من الكبر وهنه، ومن المرض وحشته.
وطاقتا الأنف، النائمتان على جنب، صاحيتان على الشارب، الشارب المنتعظ تحت أنفه الكبير، الذي لا تجرؤ ملفحة أن تخبئه تحتها.
والأذنان، كل فردة نصف مطرحة عيش قديمة ، متربة بالشعر، طولية، كأنها سماعة الميكروفون الذي ينصب في سرادقات العزاء والأفراح لتسمع القرية من أولها لآخرها، ويسمع القابعون في الغيطان بالمرة.
وسمرة حنون بحمرة متقدة تجمع كل هذا تحتها وتطويه.
قال أحدهم، العمر الطويل لمحروس، النعش جاء بوجهه إلى المستشفى، والميت لا يموت إلا إذا جاء صاحبنا بظهره، ظهره المفتوح .
.. أعمار ...
والشيخ العناني يضرب يده في جيب صديريته المنفوخ، يخرج شجرة العائلة، ورقة سميكة اهترأت حروفها، يلفها سريعاً بعينيه، بعجلة يمر على الذي انشطب، ويهدئ نظرته عند الذي بقي، يمد اصبعه، الناقص عقلة، بعد أن أكلتها ماكينة الماء، يكاد يخرم الورقة، ويقول: العمود هنا.. العمود هنا، ثم يرفع عينيه ناحية شباك المستشفى ويقول : لا لا، العمود هناك، هناك، نايم هناك.
النعش على باب المستشفى، والملائكة حيرى، الفناجيلييحوم من بعيد، خشية أن يراه الجمع، نذير شؤم على خفيف، طيب وأحلامه تتحقق، كلها موت، نصفها يذهب بمن رآهم، والنصف الثاني على باب الكريم.
وهو، بعينين زائغتين، بأبعد من الخوف، دافناً كفنه بين طيات هدومه، بين فانلته الصوف العتيقة، ودكَـَّة لباسه الطويل الذي اهترأ وكاد يفنى، يتسَّحب بجسده بعيداً عن الجمع، ينتظر الموت منذ شهور، ويصلب حيله فقط حين يرى محروس، لكنه حين سقط الأخير، لبسته الحكاية، وأيقن أن حائط الصد الذي كان يحتمي به ويحميه وقع. راح يفتش عنه في كل الوجوه، يقلِّب الأوقات، يتحسس جسده ليل نهار، ويتلوَّى عليها.
أخيراً، ألقى بورقة الختام، دس كفنه ليموت جنب عمه محروس، وفي حمايته، وحين رأى سلطان المغسلاتي، يمر أمامه فجأة، صرخ بعزم ما به، أغمي على امرأة عابرة، وعالياً طار في الهواء، قفز مرة واحدة من فوق سور المستشفى.
شهور تمر، ومحروس كأنما اختار المستشفى مقراً أخيراً، بيتاً ومقبرة، لا يزيد ولا ينقص، المحاليل معلقة ،الخيوط مفتوحة بين جسده والحياة، واصلة بين روحه والموت، والقرية تركت حالها ومالها ونفرت إليه.
شهور، يدعون له، كبير البلد، حبيبها وحاميها، والكبير لا يهان حتى ولو من موت .. نشف الزرع، والبهائم على وشك الهلاك.
تعطلت مصالح الخلق، والدعوات ترفع في الصلوات وخطب الجمعة، الدعوات التي كانت تصله بالشفاء، صارت تكال له بالراحة والرحمة.
وأهل القرية على قدم وساق، مأزومون، كثور يدور بعيون مفتوحة في ساقية، كغريق يتعلق بعود قش .. بل أهل الوادي، واد انسلخ ممن حوله وديعاً، لا أحد يعرف متى، كأنما دفع نفسه بعيداً عن القرى المتزاحمة الخانقة، أو كأن أحداً نحته وحده وحطه هنا، كبنت عذراء خجلى وسط حلقة شنبات تتراقص من حولها.
واطئ قليلاً عن رفاقه، قيل هبط وحده، والعناني يهب من قيلولته، يؤكد بالأيمان أنه هبط ليضغط على رأس جن طارده، فغار لأسفل قليلاً، سمع هذا الكلام بأذنه التي سيأكلها الدود من سيدي علي بارم ديله ذات نفسه عندما التقى به عند الحلاق في بر دسوق.
تمر عليه عند أذان المغرب ريح باردة، تعبره من الشمال، تتوقف في منتصفه برهة، ثم تكمل رحلتها إلى الجنوب، حتى في عز الحر، وحتى في أيام الطَّل التي يشح فيها الهواء وتعز النسمة، وتغط الرطوبة على قلوب الناس لتسكِرَها، وعلى سنابل الأرز لتمتلئ وتنتفخ.
سر لا يعرفه إلا العناني، يخبئه تحت لسانه، ينتظرها بفارغ الصبر وإن اعتاد فيما بعد..
لا أحد يموت بالليل في الوادي إن مرت ،.. ما من نفس فارقت جسدها فيه، ليل لا تقربه الثعالب ولا الذئاب، ولا الملائكة، والذين ماتوا فيه افتكرهم المولى بعيداً، ومحروس بعيد يا حبة عيني، في مستشفى المركز، وليل البندر غدَّار.
والعناني حامي حمى الذرية يطوي شجرة العائلة نهاراً، خشية أن يخطفها النهار، ويطوي معها صفحة محروس،... ويفردها ليلاً.
يضرب جبهته بكف يده، كأنه أتى بالذئب من ذيله، ويقترح نقل محروس إلى البلد ليلاً، وإعادته كل صباح.
وعزيزة العمشة التي لم تجد حظها في الزواج ولا الأفراح فاتجهت إلى العديد إرثا، أماً عن جدة، تقبع بعيداً عن باب المستشفى، حتى لا تصبح منديل شؤم .. عند نصبة الشاي تماماً، تعمر رأسها، تحكي مع صاحباتها وتحك مدامعها، وبين حين وآخر تلِّون صوتها بعدودة بحكم الكار، إلى أن يفاجئها أحدهم، فتبتلعها.
يطويها وصاحباتها الليل والنهار، يأكلن مما يحضره أهل الوادي، لا يتحركن من مكانهن، وإن فطس أحد بالوادي، تقود نصف الفريق وتدع النصف الآخر، وحين تأخذها الغزالة، تسرح.. تتذكر كيف انتشلها محروس وأمها من فك الفقر والضعف.. تترنم بعيداً عن الجميع كأنها تطير:
قالولي تاخد البيٍضْ
قلت السمّر أحسن لي
ياما كل أسمر
وصاحب ذوق ومسلي
أخير من أبيض يجينا معقَّد القورة
ولو كان حابك التلّي.
الطبيب الجديد في غرفته يضرب أخماساً بأسداس، يكلم نفسه، ويدور حول مكتبه، بعصبية .. ينفث سيجارة من نصف اختها ..
هو طالع من قتل .. حتقتله تاني؟
يدور، يرميها، يسحقها تحت قدمه، ويلقف غيرها.
هو يموت الآن.. ميت ميت.
السجائر بلا عدد، والدخان يصَّاعد ملتوياً داخل الغرفة.. يكِز على أسنانه، الشرر ينط من عينيه :
اتركه يموت والسلام.
الغرفة ضاقت وتعبَّقت، وهو اتجه إلى حقنة سحب ذيلها من جوفها
- حقنة واحده ويرتاح
- حقنة واحده يرتاح، وأرتاح.
- اتركه يموت، هو ميت، ميت.
يرفع الحقنة لأعلى بيده اليمنى، والسيجارة في منتصف فمه تشتعل ..تكاد تلسعه، ويده اليسرى ترسم دوائر سوداء،
.. كان يستاهل الموت من زمان.
انصاف تسمع نفس محروس منتظماً مرتاحاً، تهنأ ويرتاح قلبها، وحين ينخفض أو يختفي تنتفض :
– قوم يا محروس، قوم يا با.
تترك أصابعه، تتحسس ذراعه بعروقه النافرة ،وشعر صدره الكثيف الذي ازداد كثافة وأصبح غابة بعد أن أكل زوجة الثعبان.
يحكون أن أحدهم في الغيط قد قتل ثعباناً أزرق، وقطع ذيل وليفته، التي تحورت وتحولت لطائر بجناحين، أغارت على الناس والخوازن، وكادت تفسد ليل الوادي، اصطادها محروس، شواها وأكلها، ومن يومها وشعره ازداد كثافة في كل أنحاء جسمه، ازداد كثافة وسواداً.
.. قوم يا محروس، قوم يا حبيبي، خلي عد النجوم لغيرك .
ترفع طرحتها على وجهها، تقترب من صدره حتى يمر الشعر ليشكها في وجنتيها.
حينئذ تبتسم، وتعود عودتها الأولى.
والعناني يجلس على جنب مع أبو الليل شقيق محروس، يسر له بالحالة، ويسأله خفية:
- يعني .. يعني لا قدر الله، لا قدر الله، لو ربنا افتكره، حندفنوه ازاي؟ وهنجيبوله نعش منين ده
.. قطع لسانك يا عناني، تف من بقك يا جاهل.
- وجعته الكلمة.. لكنه استطرد
- أنا بقول لو..
.. الشؤم دايماً من كومك.
- يا بني أنا بعمل حساب بكره، واعمل لدنياك..
.. دنيتك سوده من غيره.
بقولك لو ربنا افتكره، ما قلتش لو مات.
أبو الليل يرفع يده المصابة بالجذام أعلى أنفه، يطوح بها، يهرش، يضغط عليها :
.. حندفنه ازاي، حندفنه ازاي،... أكيد أكيد، حندفنه على الطراز الحديث.
وهو كما هو، انصاف تحت رجليه، والشيخ عثمان عند رأسه، هي تستنفر روحه، تستفزها، وهو يهددها، هي تغني له، وهو يرتل، وما بين الغناء والترتيل، يتجشأ محروس، يرفع ذراعاً لأعلى بدون كف، ينادى على اخوته.. يا بو هوانة، يا بو العشم، يا بو صفيحة، يا واد يا بوالليل، يا واد يا بوالليل يا وله..
الشيخ عثمان الذى أعتق محروس والده وجده من العبودية التي استمرت زمناً طويلاً، يمسد جسده بامتنان واضح، يضع يداً على جبهته وأخرى على المصحف، يقرأ آية الكرسي والمعوذتين وآيات صبر أيوب وشفائه، وبعينين مكلومتين رأى بهما الموت أكثر من الحياة .. يقول :
بينادي على حبايبه، شكله ماشي ولا إيه؟
وانصاف بصوت قادم من بعيد، غير مكترث:
أموات الدنيا بتنادي على أموات الآخرة.
تلتفت ناحية صوته وتقول : ما تخافش يا شيخ عثمان، ما تخافش... لسه ما ناداش على حمارته.
(2)
.. لو قلت أنا مره يا محروس مش حاطخك.
لم يلتفت، ولا برمت عينه الشمال ناحية المأجور، قتَّال القتلة، كأن من ينادي عليه، ينادي في خرابة، صوته يرتد إليه كأنه لم يطلقه.
.. قول أنا مره يا محروس وأنا مش حاطخك.
لم يبلع ريقه، لكن الحمارة توقفت، تسمَّرت في مكانها، انزرعت أقدامها في الأرض وغاصت، ارتفعت أذناها حادتين كرمحين، وتقلصت عضلاتها، ثم راحت تنتقل في جوانبها تجري وراء بعضها.
.. محروس .... محروس .
لم يرمش له جفن، كأن الذي ينادي عليه، ينادي على أموات سيدنا نوح، على أسد لا يعبأ بأصوات الثعالب حين تطلقها من مؤخراتها، ولا بعبث الفئران، لا شيء، لا شيء سوى نباح كلاب يرتد عليها.
نباح الكلاب الذي يملأ الآن ساحة المستشفى، ويفيض على الشوارع المحيطة، وانصاف تنتفض من مكانها أسفل قدميه، تطوح ذراعيها لتهش الأصوات، تفرد كفيها لتقبض عليها قبل أن تمرق إلى أذنيه، وبصوت خفيض مجروح :
مش قلت لك متطلعش يومها؟
مش قلت لك يا محروس؟
الموت يشدك أو على الأقل ينوي لك، معركته الآن معك، يقف الآن على الباب، أو يبص من خلف عمود السرير، وأنت تفيق ساعة و تغيب ساعتين .
وهو كما هو، اختفى السرير تحته، عضلات وجهه تنقبض بقوة وبسرعة، تركب بعضها، تتعارك، وفمه مضغوط في فمه، كأن فكاً سيتعتع الآخر أو يفتك به، أو أسنانا مغتاظة ستغرز في الجهة الأخرى وتنفذ.
وجهه يتقلب بعنف ويهتز، ينتش رجله التي انزلقت من الحافة، الحافة التي يطل عليها كل ثانية، ذراعه مرفوعة لأعلى، متشنجة، وقبضة يده مزمومة، جبهته تكومت يكاد يعصرها... يعصرها، يقاوم جاذبية الهوة القاتلة متكئاً على جرمه الكبير.
ذراعه تترجرج، تتطوح في الهواء، وجسده ينتفض، وهي تشد ياقة جلبابه بعنف وتلهث، تدفعه بعيداً عن الحافة، تغرز رجليها في الأرض، تنتره بقوة، تشده بعزم الجن، تجذبه لتستعيده، ... تستعيدُه.
يرمش بعينيه، تمشط صدره وعنقه حتى يرتخي، يبدأ في الرجوع وتهدأ الأرجوحة، يسترخي .. مسحة من راحة تعبره، عاد من الحافة سالماً كأنه لن يعود إليها ثانية.
وجهه ينبسط، وشبح ابتسامة يطوف، وإنصاف تلملم ما انفلت منها، توقفت الأرجوحة وغريمها غادر المكان.
مسترخياً الآن في رقدته، غمازة ترقص، وأخرى ترتعش، وذراعه تتحرك ببطء، كأنها تتحرك في المنام.
.. الموت بيجري ورا البني آدمين، وانت بتجري وراه..
يفتح عينيه على اتساعهما، يضيء المكان بنظرته، يكاد يشعله، غضبٌ مكتوم، وبصوت المتمكن حين تلمه الملمات، يرد بقوة وبرود:
.. اضرب، اضرب يا مره يا بن الكلب.
العيار الطائش الذي دوى في الجو، يدوي الآن في قلب الغرفة.
محروس نطَّ من على ظهر الحمارة، والحمارة انطلقت، تنهب الأرض كأن أفعى تنهش بطنها، تدب وترفع قدميها لأعلى كأنها تطير، تعوي بصوت أنثى قتلوا وليفها.
انطلقت على الجسر والوادي بعيد، لا دور في الطريق ولا مغيث، الطيور التي انعقدت صوب الترعة انفرطت نحو الوادي، والثعابين التي خرجت في الظهر الأحمر تسابقت لشقوقها والسحالي لجحورها، وصوت أجنحة الحمام تصاعد باتفاق كأن السماء هبطت فجأة، والناس في الغيطان مددوا أعناقهم .. راحت عيونهم تلتهم الحمارة، دبة حمارة محروس يعرفها الجميع كصوت المؤذن، ولا بد أن مكروهاً وقع للرجل.
العيار الطائش الذي دوى في الجو، يدوي الآن في قلب الغرفة، وقلب إنصاف،وهي تمسح ما نزّ منه، تزيح ما نضح من عرق الموت، وهو يلوح ثانية بذراع دون كف، ينادي، ويرمي ملفحته.
تُحْبِكُ الغطاء عليه، لتحفظ ما تبقى من ماء الحياة، تستشعر خشخشة، تعلو، تلمح برصاً كبيراً يرمح خلف أنثى عنكبوت، تتدلى مقتربة من رأس محروس، مرقت عيناها وبرقت بسرعة على القبقاب، لم تجده ولا انتظرت، ببطن كفها، لم تعبأ ولا وجلت، حبست الاثنين بين يدها وبين الحائط، فركتهما ومزقت الحشى.
حملت بقاياهما إلى الشباك، وحين فتحته، كان الفناجيلي في مكانه الجديد خلف الشباك، متعلقاً بالأعمدة، يلتقط وشوشة الملائكة..
حين بوغت، هدهدته بنظرة مرتاحة، بالنظرة المطمئنة لبنت العم.. بألفة الحبيب، وعلى مدى عينيها، كانوا كما هم في أماكنهم، مزروعين من أول يوم.. أهل الوادي، كأنما طرحتهم الأرض، بجلابيبهم الصوف العتيقة، داكنة الألوان، وملافح على شاكلتها، كغابة سوداء، متلاصقين كتفاً بكتف، متدافعين جنب بعضهم، داخل بعضهم،.يتموجون خفيفاً بحركة واحدة دون قصد، وغمامات الشتاء تكسو ملامحهم.
مددوا سيقانهم، اليمنى للراحة واليسرى في وجه الموت.
والنعش اختفى، وعزيزة وقافلتها إلى البعيد، هناك، ليل أسود متناثر، يعب الشاي، ويفترش الحكايا حول سور المستشفى.
والمستشفى كئيب... بلون رمادي، إن بقي له لون، حيطان اهترأ بياضها من زمن وتساقط، والأعمدة طفحت بما تبقى من قشر البويا الناشف.. والحقن القديمة والجديدة.. والقطن الناضح بالدم يفترش حشائش تغولت واصفر عنقها، ومن قلة العناية والمياه تهدلت أطرافها.
والسور، السور نصفه يعلو النصف الآخر، .. الذي احتاج قالب طوب انتزعه، والذي لم يجد معبراً أيام المطر انتزع إخوته ليصنعه، والنسوان يجلسن على قالب واحد لتبرز مؤخراتهن، والدنيا سداح مداح، عشش العنكبوت في كل زاوية وتمددت شبكته.. والعناني يرمي الغراب بفردة بلغته فتطير العصافير بعيداً، الفناجيلي يقلب شفتيه، والممرضات يصعّرن مؤخراتهن، ويمسحن البلاط الذي- من فرط قدمه ووساخته- انتحل لوناً جديداً، اللهم إلا غرفة الأطباء.
الطبيب الجديد ما زال يدور ويدور، يكلم نفسه، والدخان الذي تمدد في ثنايا الغرفة وكوى حيطانها، تلوى في هيئة ضباب كثيف.
.. هو طالع من قتل .. حتقتله تاني؟؟
يقلب في الماضي، بوجه ممتقع، والسيجارة رماد طويل، يكاد يشفط أصابعه، وأصابعه اصفرت ولونه انحلَّ.
جاء الوقت الذي انتظرته من زمان، الذي كواك غيابُه، الوقت الذي اعتقدت أن الزمن طواه ودفنه تحت سابع أرض، والفرصة التي اعتقدت أن الحدأة خطفتها وطارت.
الآن، والآن فقط، فتح القدر خزائنه ووفى، لعب لعبته معك، لكنه فاجأك وغادر، ترك لك النقلة الأخيرة في رقعة الشطرنج، ولك أن تضحك أخيراً بصوت عال، وتقهقه.
انظر، انظر، إنه يبتسم لك ويلوح، يقف معك الآن، بجانبك، وكأس الراح في يده، ومحروس،محروس ممدد في الطابق الأرضي، لم يشأ أن يخطفه بعيداً عنك، أعطاك الهدية، التي لم تكن تحلم بها على طبق من ذهب، على سرير حسير ورجل بائس، لتنهي أنت، أنت فقط حياته، تطفئ نارك، وتشفي غليلك.
الضباب يضرب سقف الغرفة، ويرتد أسود قميئاً كثعابين الصيف في أرض عطشى مشقوقة .
لكنه الآن يموت، يموت أمامك وتحت نعليك، اتركه، اتركه يموت والسلام.
ومن يرطب قلبك؟ ويبلل نواته؟
موته بيدك غير موته رباني.
لكنه سيموت، سيموت، وروحه الآن حتماً بين السقف والشباك، بين زوره وقطنة الملاك،.. اتركه يموت.
لا يعرف أين وضع الحقنة، يكاد يجزم أنه دخنها، بغيظ يلتقط أخرى:
حقنة واحده ويرتاح
حقنة هواء واحدة، يرتاح وأرتاح.
يرفعها لأعلى بيده اليمنى، يكبسها في الهواء، يكبس الهواء في الهواء، الموت في الحياة .. ويعود بها، وأخرى في فمه يدخنها، تكاد تلسعه، ويده اليسرى ترسم دوائر سوداء.
حرق قلبك السنين اللي فاتت كلها،
وانت حتحرق قلب مين عليه؟
تحرق قلب بلد بحالها، وتبرد نارك منهم ومنه .
يتقدم، والممرضة تلمحه، والملائكة التي تعبت تتبعه.
.. مش قلت لك يا محروس ما تطلعش يومها!!
مش قلت لك!!
ومحروس يكز بعينيه، ينفخ وجهه .. يحمرّ، يزعق:
اضرب، اضرب يا مره يا بن الكلب.
المأجور، قَتَّال القُتله، يتسلل كأفعى رقطاء بين أعواد الذرة، يزحف نحو السكة العمومية المحاذية للترعة ليصطاد محروس.
شهران وهو يكمن له، يربض في مكان وينتقل لآخر، يقتفي رائحته.
الآن والآن فقط، وقع في الخيَّة .
يتوقف ليعمِّر البندقية، يقسمها نصفين، يخرج الأظرف الخرطوش ليكبسها في الماسورة، يجدها معمَّرة جاهزة.
لماذا تقتل محروس وهو الذي لم يلمس لك شعرة، ولا داس على طرفك يوماً؟
أقتله لأنه يعرف أنني قاتل، ولو طالتني يده يوماً لقطع زمارة رقبتي، لأنه هو الذي مرغ سمعة عزبتنا في الوحل، وسيرتنا على كل لسان.
لكنه كبير الوادي والمنطقة، وحياة الناس مربوطة به.
أنا لم أقتل طول عمري إلا الجرابيع والقتلة، لم أقتل من قبل أحداً من السادة، وأول مرة أقتل دون مقابل.
اقتله لأن نظرته تقتلني، هو الوحيد الذي يشعرني أني قاتل، أني كلب في بركة وسخة، دون كلمة واحدة يقولها.
نويت اعتزل بعد قتله ،بعد النسر ما تنصاد عصافير..
اسمك حيدخل تاريخ الغنا والليل يا وله ،
إيدك حتتلف ف حرير، وسيرتك في مواويل العديد تلعلع، وتولَّع.
لكن..!
إصبعه تفتش عن الزناد، والطيور التي انعقدت في اتجاه انفرطت في غير اتجاه.
- مش قلت لك يا محروس ما تطلعش يومها؟
نيشانك قتل محروس.
يجهز بندقية مرتعشة، كقاتل مأجور يخشى طريدته لحظة المواجهة .
إصبعه على الزناد:
.. قول أنا مره.....
لا يلتفت.
إصبعه حرّك الزناد
.. لو قلت أنا مره...
- غور يا بن الكلب، أنا عارف انك ابن مره .
الطبيب الجديد يتحسس أوردة محروس، نافرة تكاد تطفح من الجلد، والملائكة تحوم والفناجيلي يتسمَّع وشوشتهم، وبعنف يدق الشباك من الخارج.
بيد مرتجفة يحاول ان يغرز الحقنة في الذراع، والمأجور أطلق عياراً طائشاً، ثم آخر بيد مرتجفة إلى كتف محروس.
محروس يفزع في وجه الطبيب، نظرة حارقة تكاد تمزقه .
يلتفت، وينظر للمأجور بكل الغيظ يكاد يفجره، والملائكة تصعد وتهبط، والقطن الأبيض يتدلى منها.
الطبيب انسحب كمن لسعه عقرب، والمأجور نط نحو الترعة ليعبرها إلى الضفة الأخرى.
محروس يترجرج في السرير..النعش اختفى، والطبيب بلسان متلجلج قال للممرضة : بلغي أقاربه ليحضروه.. لن يلحقه الصباح.
محروس يقفز من على ظهر الحمارة كأسد جريح، والحمارة ركبت الريح نحو الوادي، تطير في الحواري.. تضرب الأبواب بحوافيرها، ترفس الشبابيك.
وانقلبت الدنيا، الخلق تجري .. يسابق بعضهم بعضا، الذي انطلق من الوادي يقابل الذي رمح من الغيطان .
الذين ركبوا سيارة يلاحقهم الذين ركبوا جرّاراً زراعياً، بمقطورة أو بدون، والذين أخذوا نصف الطريق جرياً على أقدامهم يلاحقهم الذين طاروا .
الممرضات والممرضون اتسعت أرواحهم، سترتاح المستشفى أخيراً من الداهية التي كبست على مراوحهم على مدار اليوم منذ شهور، والجوامع الستة أعلنت موت الغضنفر، والطبيب الجديد ركبته الحمى، يتلصص من الشباك قدوم النعش والممرضة تلمحه، وأخرى أطلقت زغرودة عندما نمى إليها الخبر، مرت على الجميع كإعلان ولادة.
الأطباء الذين مروا ليشيعوه، ويكتبوا جميعاً شهادة وفاته، اقتربوا..
اقتربوا أكثر، كأن نوراً ربانياً غطاه ..عيون أسبلت نفسها بنفسها، جسد ساكن، ووجه تحت سكينة الأنبياء.
ذراعان تدليا أخيراً، بعد أن سلم المفاتيح والأرقام، والملاك حامل الختم خلف الملاك حامل البوق، وإنصاف في دنيا ثانية :
مش قلت لك؟؟
تنتفض ...
قوم يا محروس، قوم، الديابة قامت.
صرير خفيف، السرير يهتز.. يتزلزل، والقطار يقطع الغرفة، وهو ينتفض بقوة قاطعاً خيوط المحاليل عن قواريرها، كأنما شقته الأرض ..
يصرخ بعزم عزمه:
والله ماحسيبك يا عبد المقصود الكلب .
(3)
..السر ليك يا عناني، أمانه.. لا تغضب ولا ترجع.
ثم أنهم هبطوا، ثلاثتهم، كان الفجر ينزّ، أول نزة، على مشارف بكارة النهار وفتنة الضوء.
برد ،برد شديد، التحفوا بما حملوا، وكمروا أجسادهم بالثقيل.
أقدامهم تئن، يمشون من أول الليل، يكادون يسقطون من طولهم، وداره بعيدة، في العميق، كأنهم لن يصلوا، يحكون نتفاً ويصمتون وتراً، حالمين بالرضا والبشارة.
وجوه تتقلب عليها الأماني والرجاء، واحد يبتسم وواحد يتَبَسّم، وثالث يأكل الخوف تجاعيده، ودون أن يشعروا يتبادلون القسمات، تنتقل ملامحهم، تعبرهم واحداً إلى الآخر، ويتبادلون القسمة.
برد شديد، الرعشة تضرب حشاهم، وداره على مرمى البصر، تتهيأ ثم تغيب.
فتق النور الغشاء، بوغتوا، كانت لحيته عند حواف أقدامهم، ممتدة للبعيد، وجلوا، وقعت قلوبهم في ركبهم، هرّت سراويلهم وانزرعت أقدامهم داخل الأرض، وهو يسحب لحيته خفيفاً إلى داخل الدار، شيئاً فشيئاً، يجرهم رعبهم وأمانيهم وطمعهم خلفها، وهي تتسحّب رويداً رويدا عائدة للخلف، يهرولون في إثرها، تكاد تختفي إلا من طرفها.
ثوان خارج الباب، الباب الذي لا يتبينونه جيداً، الصمت سيدهم، بحمولتهم يقتربون، تحملهم الموجة تلو الموجة، سكارى، بأذرع واهنة وضربات واهية.
صوت الكروان يقطع المتاهة، مارقاً أمام آذانهم، كأنهم يستفيقون، لكزوا بعضهم ليفتحوا باب المنام، وليتأكدوا أنهم أحياء على الأرض.
الآن، الآن أمام الباب تماماً، ترددوا طويلاً أن يدقوه، التفتوا للخلف، وكادوا يرجعون جميعاً، دون اتفاق.
مدوا الخطوة الأولى، وانطلق أذان الفجر، سمعوا صرير الباب، الرهبة تأكلهم ،ارتجفوا، والتفتوا مصعوقين.
الذي كاد يبول، والذي انحسر، والذي فاض على نفسه.
.. ادخلوا.
دخلوا، شربوا الماء ثلاثاً، ثم توضأوا حيث دلهم، صلوا الفجر خلفه، مكث طويلاً في التحيات، جاءت على مراد مرادهم، ارتاحوا قليلا إلا من فجعة على بوابة قلوبهم.
ثلاثتهم أمامه، جاثمين على ركبهم بعد أن انتهى، مد يده داخل الحائط، أخرج صرة من قماش سميك، بخيوط رمادية عريضة، وخط أحمر رفيع في المنتصف،
واستدار.
غمغم عليها وأدخل يده، أحسُّوها في مراوحهم، أخرجها فارغة.
وفي نَفَس واحد:
.. العهد يا سيدنا.
يتمتم .. لا ينظر ناحيتهم.
.. العهد يا سيدنا .. العهد.
دخل الصرة بدماغه، غاب طويلاً، طويلاً،
انقطعت أنفاسهم:
- العهد أمانة.
..أمانه ليوم الدين يا سيدنا.
يعد على أصابعه، يدوُّرها في الهواء، كأنه يرسم الخرائط:
- الطراوي ياخد كوم الدهب، وأبوخوات ياخد الملاحة.
وصمت.
ركب العناني انحلت.
قال: اخرجا ... انتظر يا عناني.
خرجا.
والعناني يشر عرقاً وحسرة.
الشرر ينط من عينيه، أمسكه من ياقة قفطانه، بيديه الاثنتين، يكاد يفطس بينهما.
- الوادي ليك يا عناني، وادي جلانطه، أمانة في رقبتك، منك وليك، حقك وسرك، وأوعى تغضب ولا ترجع.
- نهض واقفاً، والعناني في إثره، وجهه أسود من الظلمة، من حلة محشي قديمة بعد يوم طويل على الكانون.
- مبروك عليك..
لحق بهما بعد أن برك ليبول ثلاثاً.
ثلاثة أيام بلياليها بعد أن عاد، محموماً هاذياً في سريره، يختبئ في سره، يحاول أن يصلب حيله.
يدور صامتاً داخل الوادي، كصخرة قديمة.. :
العناني بن العناني، حفيد العناني الأكبر له الوادي فقط، الوادي المسحور الذي عمله واحد فرنساوي اسمه جلانطه ... .. حظك كده يا عناني ونصيبك، نصيبك غصب عنك.
تصبر تصبر، تختبئ المراود، تنتظر البشارة والعهد كل هذا الوقت، ثم لا يقع في جرابك سوى هذا الوادي الضيق بلعنة الفرنساوي الذي زاغ من الحملة كما يدعون، تركها تعود وحدها، ولف المنطقة كالديدبان على رجل واحدة، واختار فيما اختار، بعد طول تدبر وبال يفلق القرد، هذه البقعة الضيقة.
.. رجل نفسه ضيقة،.. نعم.. نعم ،الكفار نفوسهم ضيقة.
ومحروس يربت على كتف شيخه، ظله وحارسه ويقول:
الوادي مبروك علينا، والبركة فيك ومنك.
لم يقتنع، ولم يهدأ.
يقطع الوادي في الصباح والمساء كسحلية دائخة، بروح مخنوقة وصوت مسروق، لا يرفع عينه من الأرض، يمد ساقاً خلف ساق بتؤدة وانتظام، كأنه يقيسه، .. في الصباح يعد الخطوات من أوله لآخره، ثم يقلب الآية مساءً، يعد الخطوات من آخره لأوله.
ومن آن لآخر، يصفق بكفيه، ينفخ:
.. كان فيها إيه لو مد لي العهد على عزبة إسرائيل كمان؟، صبرت، صبرت، وآخر المتمة أكون شيخ على شوية الغجر دول؟، ومن غير سر.
وعباس الخولي ناظر المدرسة، الذي طلع على المعاش ومازال ناظراً، يضرب الشيشة في نفسين، يفرد ذراعه اليسرى، يشلح كمه ويشير لساعته، من غير عقارب، ولون مينائها اختلط صفاره الكالح ببعض السواد من الحواف، ويقول:
..الساعة دي من القائد الانجليزي جوردون بيك، نيشان منه في حرب فلسطين أيام الشباب، ثم يلتفت ناحية العناني، وبنظرة هازئة يهمس:
- قول له يمد لك العهد على فلسطين.
يبلعها العناني، يرمي بنظره إلى البعيد:
- .. هنا خرابة وهناك خرابة، كله من اللي زيك واللي زي جلانطه، يعني انت كنت عملت إيه؟.
- اسمه فيلمون جيلنتي يا شيخ عناني، اختار الوادي وعمّره لوحده.
العناني يصر على أن اسمه جلانطه، والناس تأخذ عنه وتلوك، تمر الأسماء عبر فمه ولكنته واعوجاج لسانه، ..كيفما اتفق، فيصبح شهدي جهدي، وأدهم ألهم، باتعه بطه، وجيلنتي جلانطه.
ينفخ، يكاد يزأر:
.. وادي معووج، زي ضهر القرد، لو صاحبه كان بيفهم كان دور على حتة تانية، الله ... الله... كانت نفسه زي خرم الإبره.
- الوسع في الروح يا شيخ عناني، الراجل اجتهد، عمّر وزرع، جنه، جنه حواليها نار، احمدوا ربنا.
الوادي كمثلث، حده جيلنتي بالكافور والكازوارين، دق أشجار الليمون والجوافة والريحان في جوفه، واطئ يسحب المياه، تبدو زراعته ملعلعة وسط المنطقة، البقعة الوحيدة التي يطرح فيها الفدان غلة فدانين، صنعه لأجل أن يعيش فيه، ويموت فيه.. ويمكن يكون قبره فيه.
العناني يأكل بعضه، يكاد يشق جبَّته، لا يوافق على كلام المتعلم العائد من حرب بعيدة جننته ولحست عقله، وخرَّب عقول التلامذة من بعد، يطنطن بالحرب وعبد الناصر والأسلحة الفاسدة، والسكاي هوك، مع أن ناصر راح من زمان، وغيره، وغيره.
لا يوافق، ويصر على رأيه، هبط الوادي بعد أن طارد جنياً كافراً وطبق فوقه، غارت الأرض عليه وطردت لعنته،.. والجني كان جني جلانطه.. ظل يعكر على الوادي هدوءه حتى استدركته الكرامات، والعهد إن شاء الله سيقضي على ما تبقى من ذنّبِه وذَنَبِه.
يمضغ الكلام بقوة، يضغط على الحروف .. يتوقف وفي سره يتمتم :
... فيها إيه لو مد العهد على عزبة اسرائيل كمان؟
أو اداني سرها؟.
ينعتونها بعزبة اسرائيل، القرية المجاورة لأعلى، التي ترميهم بالطوب عند كل معركة بينهما، إلى أن يصعدوا وتتدخل النبابيت، وهي تصفعهم وتسميهم غجر جلانطه،
والعناني يقاوم الرضا والتسليم بما قُسِمَ،
تغلب طمعه على حلمه، حمل خرجه وعاد.
- قلت لك ما ترجعش يا عناني.
... روحك واسعة، والحته ضيقة، أبوس ....
- ارجع يا عناني.
- ... طب وسعها لي شويه، أبوس رجلك.
زمجر، اشتعل وجهه، والدخان انطلق من فمه وأذنيه، ثم من جانبيه.
- ارجع يا عناني، ارجع .. وخدوا الهمّ والجرب.
اختفى.
لا يعرف من الذي حمله ورماه خارج الدار، حملته الأرض، يمشي إن كان يمشي، كساقية بطيئة، العهد خلع منه، البركة فرت، والنهار يمضي في كل اتجاه، وشمس تخرج أنيابها، مصوبة عليه وحده، تكاد تحرقه.
يصفق بكفيه على اتساعهما، يهيم ليعود، والدنيا كأنها ترجع للخلف، والعين سراب، حتى حط بفردة بلغة وحيدة في آخر الليل.
- إيه اللي جابك في ديل الليل يا...
أبو الليل الساهر على ليله، أحس به، يفرد ذراعاً طبعها الجذام، يربت عليه. وهو بوجه سارح وروح شاردة لا يتأفف، ولا يبتعد لأول مرة خشية العدوى أو سواها.
أبو الليل، وملكه، المختبئ معظم النهار، الصاعد جسداً وروحاً طوال الليل، خشية نظرة جارحة، إيماءة أو غمزة عريانة تبحث عن سوأته، أو توغل فيها.
يجلس بالساعات تحت الليل، سيده وربيبه، ستره وغطاه، ربما، ربما تلوح النجمة المعكوسة، التي تندفع وراء الشياطين، تحرقها بلمح البصر ثم تشفط رمادها، النجمة التي قالت أمه أنها ستشفي مرضه وتشفط جذامه إن لمست بضيائها ضوأه .. حكت جلده أو مست بدنه.
يخلع نصف جلبابه بتلكؤ، يعس بعيونه باحثاً عن عيون عابرة، يخلع جلبابه كله، يتلصص ثانية باحثاً عن أخرى تتلصص، ينزع قميصه الداخلي بعجلة، يحملق في البعيد البعيد، فاهه مفتوح.. وقلبه طائر، مثل قلوب أطفال البراري، وفي لمح البرق يكفن نفسه بسرعة.
كل ليلة يفعل، يصعد الليل أحياناً من أوله، حين علم أنها تمرق كثيراً بعد صلاة المغرب، تطارد الشياطين المتعجلة، المبكرة في القيام دون انتظار منتصف الليل أوآخره، تحرقها أولاً بأول قبل أن تتكاثر، تطلق لهيبها عليها.
وهو على الشوق، على شذرة مشتعلة تحرق جذامه، أو نجمه بنت حلال تحن عليه بعد أن رصدت وجوده الدائم، ولا تفعل فعلتها إلا في وجوده.
كل ليلة يفعل، وفي عز عز الشتا...
- كنت فين يا عناني، الدنيا باظت.
لا يرد.
- الطمع مقتله يا عناني، وانت طماع، احمد ربنا،
يا راجل لو اداه لي كنت شفيت، باقولك ايه، تاخدش النص وتديني النص .
والوادي كله يهرش، ضربه الجرب وكساه الهم، إلا أبو الليل، وهو يضحك ...
.. علشان تعرفوا يا ولاد الهرمة، المصايب تهرب من اللي عنده مصايب، حتروح فين.
أبو الليل، أصغر أشقاء محروس، المحروم من كل شيء منذ صغره، لمرضه وشقاوته، حرامي دمه خفيف، يسرق ليقض مضاجع من يعافونه، لينبه الآخرين أنه موجود، والآخرون، اخوته، أخذوا الجمل بما حمل وتركوه، يعتبرونه كوم الدار، عليه أن يأكل ويشرب فقط، لذا يسرقهم، يسرق أخوته تحديداً.
لا أحد يعرف أين يبيت، ولا متى يعود، يهج في أرض الله، لا يخشى شيئا بعد عيون الناس إلا تلك النظرة المعجونة لوماً وحنانا من محروس، ومحروس يكبش الفلوس، يرميها في حجره، عله يرضى ويرجع.
تُخلع له عين، ويطيب أبو الليل من المرضين، من الجذام ليشفى من السرقة.
محروس الذي لا يخشى أحداً في الكون، الذي عدل المايلة، سبع الوادي، أبو قلب شامخ، لا يكسر قلبه سوى نظرة حزن في عيني إنصاف، وهروب عين أبو الليل من عينه، داخ به السبع دوخات،.. والشافي هو الله.
ينخلع قلبه فقط حين يراه، وأبو الليل في دنيا ثانية، وأمه تبكي مذ فارق المشيمة، تبكي وهو يقهقه.
.. وهو صغير، تعطيه رغيف ذرة خرج لتوه من قلب الفرن، أعلى واحد في الأرغفة المرصوفة فوق بعضها:
- خد، خد يا ضنايا، رغيف يرد الروح.
يرميه على طول ذراعه، يدس يده في قعر قفة العيش، يسحب رغيف قمح بالسمن البلدي، خبأته أمه المغلوبة على أمرها، لأخوته.. ينتشه، يطلق زفيراً ويقول :
- .. أنا عاوز من اللي بيمَوِت ده.
ضحكته تكاد تشق الليل، تشق صاحبه، والعناني مخطوف الروح واللون، .. باهت.
- الجرب ما يقربش من الحرامية يا عناني.
يصمت هنيهة، والآخر ينتظر.
- بقولك إيه، خدني معاك، سرك، وأنا احميك من نفسك ومن الناس، ونروح الجنة مع بعض دنيا وآخره.
يرمي فردة البلغة الباقية بعصبية، يعرف أن أبو الليل يسخر منه ويكويه بالكلام.
..انت عمرك ما كنت ناوي على الجنة يا بو الليل.
يدور حوله، يكاد يقع من الضحك.
- ليه، هي الجنة للأولياء والمشايخ النصابين بس.
.. امال انت فاكر إيه؟
يقع على ظهره من الضحك، يفرد أربعاً أكلها الجذام في وجه السماء، يقهقه:
... يا خبر اسود، يا خبر اسود، للأولياء والمشايخ بس، دي تبقى مصيبة...
(4)
أصابه العيار، في قلب كتفه، لم يحرك ساكناً، ولا أحس بالخرطوش يخترق لحمه ويمس عظامه.
كأن العيار أصاب شجرة.
.. ساعة الشر ما حد يقرّ..
لا يشعر ابن آدم بلسعة النار، ولا خبطة الشوم على الرأس التي تشتعل بالدم.
النار في العروق والشعلة أيضاً، والقلب ميت ساعتها موتاً مؤبداً.
أصابه العيار.
كأسد مغتاظ من لعب الفئران، مجروح، نط من ظهر الحمارة في كرش المأجور، وبرك فوقه .
والحمارة انطلقت.
لم تكن أول مرة تفعلها، تركب الريح، تنغزها لتصل قبلها، تدك الأرض وتوقظ الوادي.
والعناني يقول: كل واحد له عفريته، وله ملاكه..
والحمارة عفريتها جن مصور..
تعرف الحيوانات لغة بعضها، تخاوي من تحب، والحمارة كأنها عاشقة بجني ... معشوقة، لم يقر بها ذكر حصاوي في عز هيجانه، ما استطاع، ولا شمشم فيها فرس عابر، وأبو الليل يقول: حمارة مؤدبة تعاف الذكور، وتستحي من صاحبها .. يصهلل: .. حتى الحمير تعرف قيمته.
الحمارة انطلقت، ومحروس تمرغ في كرش المأجور، وهو ينادي، والعناني في الوادي، هناك، وقع النداء في حجره كما زعم، انتزع وتده من الأرض وطار، سمعته إنصاف قبله، كأنها كانت تنتظره، وبقلبها تتوقعه.
مضت كالبرق، لم تسأل أحداً ولا انتظرت.
في الصباح، كانت قد أمسكت طرف جلبابه، بعد أن أنهت تلميع حذائه، ناغشته كيلا يخرج، ظنها تلعب كعادتها، لكنها تعلقت به هذه المرة بقوة، نظر إليها بحزم .. زمت حاجبيها، قالت كلمة واحدة:
ما تطلعش ..... وبلعت الباقي
سكَّرت فمها، عقدت ملامحها.
انتبه، لكنه رمى الملفحة على كتفه، رمى الانتباهة، دوَّر الطاقية على إصبعه، فكَّ طياتها، وعدل حوافها المائلة، ضغط عليها ليظهر حدها كالسيف من كل ناحية.
كأنه يفكر، كأنه لم يسمع.
وهي كما هي، أسفل قدميه، تقبض طرف الجلباب،
انغرزت قدماها في الأرض، وذراعاها عودا حديد:
.... ما تطلعش يابا.
عقصت ذيل الجلباب، كأنها ترى غيمة موته وغمامة رحلته.
لم تكن أول مرة.
وهو الذي لا يخشى أحداً، حين يرى الموت على باب الدار أو يتمشى أمامه، يزيحه بيده دون أن يلتفت، خشي ...
خشي بصيرة ابنته، صاحبة الكرامات، رادارها وبوصلة قلبها.
تعلَّقت برقبته، تملَّص منها.. كان عليه أن يمضي، الكبار
من الصنف الأصلي لا يضطجعون كثيراً في ديارهم ومصائب الناس فوق رؤوسهم، قلوبهم لا تركن لتنبؤات الآخرين، و سيقانهم لا تصطك لمرور الشياطين.. يقطعون الخيوط بقوة ويمضون.
.. لو قلت أنا مره يا ...
تعلق برقبه المأجور بيد، يحاول انتزاع البندقية بالأخرى.
يشده، يشده الآخر، يضغط على مفاصل رقبته، يضغط عليه الآخر، يدفعه، يدفعه .. والبندقية تروح وتجيء، ولا حكم يطلق صفارة النهاية، أو يدفع المتلاكمين، كلاً إلى ركنه.
أخيراً.. دفعة حضرها شيطان، وأفلت المأجور بصعوبة، قفز في قلب الترعة على آخر ما دفعه شيطانه، ليعبر إلى الجهة الأخرى طائراً لاهثا، كذئب نشف ريقه يعدو هاربا من أسد.
ومحروس الذي لا يعرف العوم إلا في البر، يطير بجسده الثقيل، على آخر ما أعطاه ربنا، ليهبط فوقه.
المأجور يكاد يفطس تحته، لكنه لم يفلت بندقيته، قابضاً عليها كملاك موت، أبقى فوهتها خارج الماء ما استطاع، يحرص عليها الآن حرص حياته، حياته في فوهتها، وموت محروس أيضا.
العراك على أشده، ولا نهاية، موته أو موت محروس، والماء تلون بالدم، ورجل يجلس جنب ماكينة المياه، بماسورتها المدلاة في الترعة، بصنارته يصطاد، لم ينتبه لحمى القتال، ولا لصوت العيار الأول ولا الثاني ولا الثالث، ظن الأمر فخاً عابراً، انتبه على مياه حمراء جلبتها الماكينة.
العراك في ذروته، الطيور هجَّت، انعقدت وانفرطت، ومحروس بعزم ما به يجذب البندقية...
هي الآن، هي الآن بين أربعة أيادٍ، تعلو فوق الرؤوس، تميل، تنغرز، ثانية في قلب محروس، وثانية هناك .. الفوهة قريبة الآن من رأس المأجور، قريبة تماماً من رأس محروس الذي طواها لأسفل ليطوي معها الدون.
واشتعلت الحياة، وتراقص الموت، خيوط الحياة تقصر، وحبال الموت ترخي أطرافها.
الفوهة لأسفل مرة، ولأعلى مرات، الملائكة تحوم، وإبليس يمرح... وجنوده يتقافزون، الأكفان تتراءى، والقطن يتدلى ،..
دوي، دوي عال..
وانطلق العيار،
لا أحد يعرف إلى أين،
هل أصابه أم أصاب الآخر.
في ذهن كل منهما، إن كان عنده ذهن، إن كان هناك بقية منه أنه هو الذي فعلها.
شخصا للسماء بغتة دون أن ينتبها، وكف محروس طارت في الهواء عالية، عالية.. ثم عادت، شرخت الماء واستقرت في قلب الترعة أمامهما.
بكل ما اتقد عنده من شهوة الحياة، الحياة كما يراها هو، غاص بالمأجور، لقفها ووضعها بسرعة في جيب سيالته.
في القاع رقدت البندقية، وصاحبها طار بعد أن لطشته الذراع اليتيمة.
ومحروس يعوم منطرحاً على ظهره، بكل ما تبقى من حلاوة الروح، حتى لامس الحافة بظهره، شيئاً فشيئاً حتى
صعد إلى الأعلى.
وصوت إنصاف يدوي من بعيد.. يعوي، والخلق حطوا كيوم التنحي ،نصفهم حوله، والنصف الآخر في ذيل المأجور.
صوت إنصاف يشق الهواء حين رأت ذراعه.
ببطء أشار إلى جيبه.
أخرجتها.
الكف تفتح وتغلق ،
وهم تسمروا
أشار إلى الترعة، وببقية الوهن قال:
.. هاتوا البندقية من الترعة.
وأغمض عينيه.
الكف تفتح وتغلق، وأصابعها لا تتوقف.
صرخ أحدهم، وتبعه آخر..
- الإسعاف.. الإسعاف
اتشاهدوا، اتشاهد يا با محروس
اتشاهد.
الجفون تنفجر، والعيون تتسع.
- اتشاهد، اتشاهد.
يرد بقوة المحتضرين:
..مش وقته، مش وقته .
- اتشاهد.
.. مش وقته، لسه بدري ،
والله ما حاسيبك يا عبد المقصود الكلب.
(5)
.. أقطع دراعي لو شفتوا بعض تاني، آخر مره تقعدوا مع بعض.
ملتفون حول الطبلية، الذي انحشرت لقمته في زوره، والذي زعقت مصارينه وكاد يتقيأها، والذي هب ليفتك بها، وإن خانته قدماه.
منعه محروس بنظرة واحدة.
واستدارت.
هبطت عليهم في منتصف العشاء تقريباً، محروس وإخوته الثلاثة، الباب مفتوح، مفتوح دائماً للصدفة والغرباء، أمام من هب ودب، الصحون مفروشة، لا ينتهي عابر من الأكل إلا وحط آخر، والنسوة في استنفار يبدلن ما فرغ.
الرجال يأكلون أولا، يجاورهم الشباب، تليهم النسوة والصغار في الداخل بعيداً.
المرأة التي هبطت فجأة، أمعنت في وجوههم وتملّت، ثم استدارت بشعرها المنكوش المتصالح مع أسمال بالية، وحبل طويل من قماش يلفها متقاطعاً من عنقها حتى خصرها،عامر بنقود مثقوبة، وأرجل دجاج مصمتة وقواقع، ورقع هنا، وهنا.
توقعوا حين طلت أن تكون صاحبة حاجة، أية حاجة، وإخوة محروس يمقتون أصحاب الحاجات وقت الطعام وغير الطعام، يكشّرون في وجوههم، كأنهم يصرفون من جيوبهم.
مضت إلى الباب، ثم عدَّلت وجهها في اتجاههم، وهم في حال الحال، مأخوذون، خرس عميم، خرس الخرس، والريح السوداء غطت وجوههم.
إلا محروس الذي ناداها مرة، مرتين.. لتدخل، لتعود.
حدقت طويلاً في عينيه، ولعبت بأرجل الدجاج المعلقة:
.. خليك انت بعيد، خليك بعيد، أبو الليل كمان بعيد.
الدم هرب من وجوههم، وأصواتهم تهبط للداخل عميقاً، وتغور:
...
لو كان معهم أبو الليل الغائب دائما، لطقَّت ضحكته وسط الدار، وربما رماها هذراً بصحن لوبيا، ثم استدرك حاشيته، وسحبها برفق احتراماً لمحروس، احتراماً وخشية، احترام المريد عليّ الطلاق من دراعي ما حتشوفوا بعض تاني. واستدارت.
مضت كما لاحت، خلفها فقط صليل شخاليلها، ريح ناعبة، قطط سوداء، وعروق راعفة.
وخشية الخاشع، لكنه الآن سارح في أرض الله الواسعة، يكر ولا يقر، لا يعرف أحد متى سيعود، وحين يعود، ستزغرد أمه:
هل هلالك، ولد مبارك ..
وتفر دمعتها،
يقبِّل يدها، يقبِّل يد محروس، أمه وحبيبه، محروس الممدد الآن فوق سريره في المستشفى، عيونه مفتوحة، وظله منعقد بين جسده وملاءته.
ينتفض الآن ليقطع خيوط المحاليل، يلوح بذراع يتيمة بدون كف، يلالي، ينادي على اخوته، يزعق بالصوت الحياني...
يا بو العشم، يابو صفيحة، يابو هوانة، يابو الليل...
يا واد يا بو الليل يا وله.
صوته يعود من الهواء، والهواء ثقيل، يراهم، ظلالهم على الحائط الباهت، يناوشون بأيديهم، ويشيحون، ليمنعوا القطار من عبور الغرفة، ليمنعوا محروس أن يستفيق.
صورهم تلتصق بالحوائط، والحوائط صامتة، تسحبهم خفيفاً، ثم تبلعهم.
وعلى نفس المنوال، حين يفرد الليل أوراقه وتنعقد خيوطه، يقطع الخيوط، مرة بقوة ومرة بحِلم، ينادي عليهم بكفه المبتورة، بقلب ثابت وقلب هارب، وانصاف ترقب هيجانه ثم استكانته، تربط له خيوط المحاليل، وتقول:
.. ولاد الأرض بينادوا على ولاد السما .. يابا راحوا وراحت أيامهم .
وهو كما هو، راقد دون ألم أو آهة، يهمس بصوت نحيل،.... شوفوا لي الشيخ فرج.
مالك يا محروس، مالك يابن واطفة، تسحب خيوط الماضي من المتاهة لحد سريرك، وتقلب عائشة على أم السعد، تخلط الدنيا على بعضها .. الأحياء على الأموات، الخيوط دخلت بعضها، .. انساهم، انساهم.
.. ماتوا وشبعوا موت.
يدوِّر إصبعه في الهواء، يرسم عمائمهم.
انساهم، انس أشكالهم وروائحهم.
لا تأمن للأموات، لا تعطهم أذنك، لا تظن أنهم طيبون، إنهم مكارون مخادعون، يلاعبونك ويدوِّخونك، خاصة إذا كانوا من لحمك ودمك.
كلما شغلَّت بالك بهم أو هفت روحك لهم وقعت أسير شباكهم، وأنت رأسك وألف سيف ألا تنسى ملامحهم وأسماءهم، لن يعودوا... انظر، إنهم يكمنون لك الآن أمام سريرك، يعكرون منامك، يرقّصون حواجبهم وألسنتهم، وحين تستفيق، لن تجد سوى أصوات الحيطان.
.. حاسب يا شيخ فرج.
انساهم، حين تبلغ أشواقك ذروتها، يباغتونك لوماً وعتابا، والشيخ فرج أراه يكاد يعاتبك، كأنك كنت تلومه حين لم يسمع نداءك.
وفرج، فرج بالذات...
فرج، شيخ الكتاب .. الأسود غطيس، الذي أعتقت أباه من العبودية، بعد أن هج من مواليه وشالته الأرض مرغمة أياماً ولياليَ، من بلدة بعيدة إلى أخرى أبعد، وأنجب فرج من المرأة السوداء الوحيدة التي رضيت به، إلى أن أمسكوه لحظه الأسود وعادوا به.
كادوا يقطعون عضوه وحمامة فرج حين علموا بخلفه، لولا أولاد الحلال.
أمسكوه في سوق البهائم، يعمل جساساً، يعرف العُشر من العاقر بدسة واحدة، أخرجوا رقمه وصك عبوديته، والعلامة، علامة الملكية على ظهره، عادوا به وزوجته وابنه.
انحنى قبل أن يحنوه، أمام سيده وجرابيعه الذين التفوا حوله، قبل يديه، ودموعه سالت من كفيه إلى الساقين.
بعد أن أطال التفت راكعاً، ثم أشار لفرج أن يتقدم.
بصعوبة قال له:
.. سلم على سيدك، وبوس إيده.
وفرج ينظر خلفه، كأن الإشارة لواحد غيره، ويمنع أمه أن تتقدم:
- بوس إيده انت، دا سيدك لوحدك.
فرج الذي طاردته عبودية أبيه، تمشى أمامه أينما حل، وذاكرة الخلق منشار، تقطع ولا تغفر، تحز ولا تغفل، ولسانهم الزفر حاضر عند أي خلاف، وأي هذر، كأن صدورهم حفر تتناسل عفناً،.. وبضراوة.
فرج الذي حاول محروس أن يمسح عنه لونه، مثل كثيرين غيره، أعتقه وأباه، ولو كانت الدنيا دنيا لبرده وجلاه، حتى يتجلى وسط العباد، احتضنه وكبّره، وهو أيضاً مسح عن نفسه، تعلم في الكتاب، ختم القرآن صغيراً وقرأ قليلاً في المعهد الأزهري بالمركز حتى عاد.
يمشي بخيلاء، ليعوض انحناءة جده، يدكّ الأرض ليستعيد عزَّة نفس أبيه، يعلّم أولاد الوادي، ويسبهم بآبائهم أحياناً.
بالعمامة والقفطان دائماً، لا يخلعهما إلا عند النوم، يرفع ذيله من حين لآخر ليبين جوربه، يلبسه صيفاً وشتاءً وبالمرة يخفي ساقيه.
يمد يده في سيالة قفطانه، يشخشخ بالنقود، ثم يدبها في ظهره، يدفع صدره بالكبرياء.. ويحكي حكايته:
سيدنا حام كان يمشي في السوق إلى جانب سيدنا سام، كل’ يتأبط مصحفه، يدعوان الناس أن يعبدوا الله الواحد الأحد الذي لا يفرق بين عباده إلا بالتقوى ،.. وأن يكونوا طيبين، كلُ في حق الآخر، إلى أن فاجأهما المطر تحت سماء مكشوفة.
.. سيدنا حام خبأ المصحف في قفطانه يا ولاد الهرمة..،
السما انفتحت، وسيدنا حام جرى بالمشوار.
يخرج يده، يعدل وضع قفطانه، يضبط عمامته بيد، رافعاً المصحف بالأخرى.
وسيدكم سام رفع المصحف بكلتا يديه فوق رأسه، ليمنع المطر عنه، المطر الذي هطل بغزارة، فأسال حبر المصحف على رأسه، ومن يومها اسودّ وجهه وجسمه ..
يده في الأعلى، ينزلها، متأبطاً المصحف بقوة، كأنه يكفر عن خطيئة جده.
... ومن يومها يا ولاد الفرطعوس فيه ناس بيض، وناس سمر...
يشعر بالراحة حين يحكيها، كل يوم يحكيها، في كل مجلس، في كل آن وأوان، والناس تضحك، نفس الحكاية، نفس الضحك، نفس الأسى .
ومحروس يضحك بعين، ويدمع بعين.... وينادي :
شوفوا لي الشيخ فرج.
ليمسح ببركته، بركة القرآن، نبوءة المرأة، ليكنس مطالع السوء ورائحة الشؤم، ليعلو نغم ترتيله على فحيح البعيد، ليطغى ترنيمه على ندب الندابة، لتغادر العفاريت أو تُحشر في شقوقها.
يستعجل طلته، شق قلبه كلام المرأة، وإن أخفى.
محروس الذي لا يخشى كائناً، ولا ينحني إلا لنسمة، لعابر سبيل، لضعيف أو يتيم، خاف على إخوته رغم بلادتهم وجشعهم وجلدهم التخين، وطمع كل واحد منهم في جلبابه.
كلُ يريد ان يأخذ مكانه بالتحديد، لا يبحث عن ركن أو موضع في الصورة بجانبه، يريد أن يزيحه هو ليحتل الصورة وحده، وعلى أكتافه.
محروس الذي لا يبرك إلا لدمعة إنصاف، ولا يخفض قامته إلا لعثرة أبو الليل، أحس أنه انحنى أمام إصرار المرأة.
والمرأة اختفت، بلفتتها التي ترشح وعيداً، وصرير شخاليلها سكاكين تبرق في قلب الدار، وكلماتها تعوي في شقوقها ساخنة مقبضة، ونظراتها القاطعة ....
اختفت بهراويلها، بحزام مجدول بحدة حول سرتها.. حافية ألقت رنة صوتها.
والعناني كبّر، نادى على فرج بعلو صوته، نادى على عماله ليحضروه.
فرج الطائر، ولا عش، يجمع قشة من هنا وقشة من هناك.
فرج الذي ينط من قرية لأخرى، يقطع الليالي حيث يتخير، أو حيث تسوقه قدماه، يقرأ القرآن أو يخطب الجمعة، يحلم بعروس ليست سمراء، يبحث عنها في سره، في سر سره، لا يبوح، عزة نفسه تمنعه، وخوفه من أن يُرفض يلجمه، لسانه يعوِّض بالترتيل سحنته، يتعفف عند الأكل، والناس تلحظ، ليس كبقية المشايخ السائرين على بطونهم، الذين يأكلون بسبعة أمعاء.
يده على قلبه، أن يطأ موضعاً حسناً ويُخْطَب، يخطبُ في الناس ليُخْطَب، ليُشترى شراء العزيز، ليعوض شراء أبيه وجده، لينجب أولاداً لا يشار عليهم بالسواد، يحلم أن تتمناه الخلق لا أن يفرش بيده منديلا يُرْمَى في وجهه،... ويده الأخرى بين قرية وأخرى تتحسس عضوه.
حظ العويل عويل، وهو حظه أسود من يومه، انجبه أبوه بالعافية في آخر رمية زهر، من امرأة فاتها الزهر، في زمن يمشي للخلف، لكنه يقطر أنفةً ويزيد، يبرق في ليالي المآتم والأفراح... والدنيا واسعة وإن ضاقت.
وأبو الليل يصادفه دائما في ليله، يخرج له من تحت الارض، يباغته عند مصرف أو جسر... يخضه:
- انسي ولا جن؟؟
.. فرج، .... فرج يا بو الليل.
- بتعمل إيه يا فرج؟
... بادور على نصيبي.
- أنا نصيبك يا فرج ،..، يقهقه.. :الليل نصيبنا يا فرج.
ليلهما واحد، فرج الطائر فوق الأرض بدون جناحين، الحالم بالبياض، الباحث عن وليفة ولو في آخر رمية، وأبو الليل بجذامه، يعرف أنه لن يجد وليفة، على الأقل وهو على قيد الحياة.
يحاول أن يسرّي عنه.
- انت عامل زي عكروت الليل يا فرج، بالنهار نايم وبالليل مفتّح.
... أنا اللي عكروت الليل ؟؟
امال انت إيه، دا أنت أبو الليل نفسه.
يضحكان، يلضمان همهما وبهجة القنوط، يعرفان أنهما في أرض لا تطرح سوى الصبَّار، وورد المساء غائب.
وأبو الليل يشعل سيجارة يتيمة، يمدها لفرج..
.. حرام دي ولا حلال ؟
- الحرام اللي احنا فيه يا فرج.
يكركران، يركنان عند أقرب متكأ، يدخنانها بالتبادل، حين تبلغ السيجارة منتصفها، يتركها له أبو الليل، ليكملها وحده، ... ينظر للسماء .. علَّ حبيبته تمر... يغيب طويلاً ثم يعود:
- عليّ النعمة من نعمة ربي، لو عندي بنت بيضا، لوزنتك دهب، واشتريتك ليها.
- كتر خيرك، اللي زيي ما حدش يشتريه، اللي زيي يبيعوه بس.
قبل أن يمضي يقبله في موضع جذامه بالتحديد.
...............
والعناني زعق في عماله، وفرج سمع النداء، وطار في الجو حتى وصل :
... استعيذوا.
استعاذوا.
قرأ ما تيسر، سيبيت في الدار كأمر محروس، وإخوة محروس ما زالوا على الطبلية، رموا همهم على بطنهم،
أكلوا هماً وقلقاً حتى فاضوا واستزادوا، أكلوا عنداً وخوفاً، لعبوا الورق ليطردوا الحكاية، ليقتلوا الوقت والفأل الأسود.
كادوا لينسوا، والدنيا ساكتة، لم تمر نسمة المساء، ثم انقلبت ريحها ورعدت، والعناني انقلب مزاجه.
... استعيذوا.
استعاذوا،
ناموا معاً في قاعة الفرن، تركوا زوجاتهم وأولادهم، والبرايم نائمة في الفرن أيضاً لصبيحة العيد، فوق نار خامدة، جنب قطع خشب محمصة، سرعان ما ارتوت.
طردوا المرأة، وغطوا في العميق، كجنود ضربتهم التخمة في نوبة الحراسة، والنار تدفأت، تدحرجت على بعضها، سال لعابها واشتعلت.
حاسب يا شيخ فرج...،
محروس يصرخ..
محروس الساهر بين عائلتين على دم قتيل مات وآخر سيموت، وأبو الليل الطائر مع قدره، هبطا في آن واحد:
حاسب يا ..
انصاف تقول: فرج مين يا با؟ ... ما راح وراحت أيامه.
النار تأكلهم، وحِلل المياه تنهال عليهم، والملائكة تعرق كأطفال تنقية الدودة، ماؤها يشرّ حتى بلل القطن، ومحروس لا حول ولا قوة، كفارس بائس يرى إخوته يتحسسون لحمهم قبل أن يلقطهم الخطاف.
وفرج يكبِّر ويطلق الآيات، والنار حامية، ولو تشفَّعَ مشايخ الأرض بالواحد، لن يؤثروا في شهيتها،
فرج لم تسعفه الآيات، أحضر بطانية ليلف نفسه بها، ليغير خطة الإنقاذ، وهويردد في سره بسرعة :
.. يا رب
يا رب بيّض وشي مرة ،
يا رب بيض وشي وسط السود دول.
من يحفظ القرآن، لو تدثّر ببطانية وتقلب بها، سيطفئ نار جهنم، لن تمسه.
لفها وهو يرتل... صوته يرجف:
يا نار كوني برداً
- حاسب يا شيخ فرج.
لفها فوق القفطان والعمامة، كله يرجف..
وهو يكبر.. :
يا نار كوني بردا وسلاماً..
قفز في قلبها وهو يصيح:
يا نار كوني برداً وسلاماً على الشيخ فرج
يا نار كوني
يا نار.......
يا ...
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه .
(6)
... هو ريفو ما جاش يا ولاد؟
وجهه منبسط هذا الصباح- لم يفتح عينيه من زمن طويل، كل هذا الوقت، وإنصاف شقها الرعب، ظنتها صحوة الموت.
يتمطع، ضلوعه تنفرد بقوة كمظلة في يوم حار، لكنه لم يناد على أحد من الأموات، لم يناد على أخوته، وبدأ في تحية الأحياء، وتذكرهم.
أخوته راحوا، تركوا له زوجاتهم وأولادهم .. همّ ثقيل، لكنه داس على الموت وأخفى، وليقطع القيل والقال تزوج النساء الثلاثة دفعة واحدة، ليرمي على سواد الحزن ملاءة بيضاء.
تزوجهن، وترك ما زاد، واحدة .. غزلان، الزوجة الثانية لأبو العشم.
لم يكن في حاجة لاحتضان الأولاد.. هم أولاده مذ طلّوا على الدنيا، ينامون جميعاً في داره، عند أبيهم الكبير..، والنسوة يعبرن ظلام الليل أحياناً من خلفه، كل تريد أن توقظ ولدها، وبالعجلة والرهبة ربما تأخذ آخر في يدها ... والله ما نا عارفة هو ابن مين ده؟
تزوج الثلاثة، كل واحدة بولدها، وأبو الليل يشلح هدومه، يقف عارياً وسط غرفته، ضحكته تشق السماء وتوقظ الشبعان، يدور ويرقص، يصفق بيديه ويرقص، حتى يسقط على فراشه، .. أربع نسوان، وأنا مش لاقي واحدة.
احترق الثلاثة، تركوا ثلاثة أولاد، كل واحد بواحد، ريفو، الفناجيلي، ناصر، ورابعهم ربيبهم، نشأت ابن غزلان التي تزوجها أبو العشم، عاشق النسوان، صاحب المزاج العالي فوق امرأته .
رباه محروس عنده وحوَّط عليه، حتى لا يحتك بريفو، ليرفع عنه يُتمه، وليترك لأبو العشم عشمه ومزاجه. راحت تركة، وبقيت تركه.
الأولاد لم يشعروا بغياب آبائهم، مثلما لم يشعروا بوجودهم في حياتهم .. المصروف والحنان من قلب محروس، والخوف والخشية لأجل محروس.
.. هو ريفو ما جاش..
- ريفو العدو والكلاب السود،
تقول إنصاف، بصوت يخرج من بين أسنانها، تزوم: مراته هنا يابا.
ريفو، واحد من أسمائه، اسمه الأول عزت العايق، أبو سنة دهب لولي، حيلة أبيه بعد زواجين وعشر نساء في السر، أخذه أبوه للبندر وهو صغير، ركب له غطاءً من الفضة لأسنانه، لعب به في الموالد وعند الغوازي، من يومها عشق المدينة، جرت في دمه وظلت حلماً يعشش في خياله حتى استوى عوده، يسأل بصدر مفتوح:
هي ايه الكليه اللي بتطلع رئيس جمهوريه.
والمدرس بضيق يسأله:
تصغير صابونه إيه يا عزت يابن الكلب؟
- تصغير صابونه، تصغير صابونه ... بروه يا أستاذ.
درس حتى نصف اعدادية الأزهر وعاد غصباً عنه بنصف خيبة.
يتفلت من النجمة، من صباح الصباح، يدفع شرايين دمه في اتجاه المدينة وعمه أبو الليل يكمشه، يوصيه إن رأى النجمة المعكوسة أن يحدد موضعها بالضبط وأوان طلوعها.
أبوه عاشق وهو متيم، أبوه عاشق نساء .. وهو عاشق حمير.
اليوم الذي يذهب فيه للغيط، تكون واقعة سوداء على الحمارة، تشمه.. تعرفه، ترفس حين تراه، ينتفخ أنفها ويرتفع ذيلها، ترفس الهواء، ترفع مؤخرتها وتفتح ساقيها.
..عزت غرام، عزت أبو حرمان .
أبوه الغارق في لباسه التحتاني شم الحكاية، كتّفه بالحبال، هبده العلقة المتينة، راح يركب الحمارة جيئة وذهابا ويربطها ليلاً تحت شباك غرفته تماماً.
عينه عليها، خاصة في الغيط... الأرض واسعة والأشغال كثيرة.
.. أبوك مدوّب النسوان، وانت بتاع حمير.
حبسه.
في ركن بارد بالدار حُددت إقامته، والفترة طالت، صدره يضيق، وارتكاب الأحلام لن يصنع زبدة، رغاوي الألم تطفح من عينيه، واللعب بين أربعة حيطان للصغار، يكاد ينقب الأرض، يفتش عن طريقة يفضفض بها عن روحه.
يسرق خميرة الخبز من وراء أمه، يضعها في الماء، يتركها فوق السطوح حتى تتخمر، في قن صنعه لنفسه بين أجولة القطن النائمة في الأعلى.
تنتفخ على مهل، تبقبق، وهو يراقبها تأكل بعضها وتطرقع، وحين تستوي بعد العراك وتنفجر كرات بلورية، يمزمزها، يِسحّها ..ويتحسس عضلاته.
هو طويل له أكتاف عريضة، بعضلات منفوشة وشنبه نط في وجهه من زمان، وجارتهم بنت الشيخ العناني على سطوحهم المقابلة البعيدة قليلاً تنشر الغسيل، تلعب مع الحمام، يرقبها مختبئاً خلف الأجولة، الخميرة تصعد برأسه، المراقبة تطول، رأسه تصعد والشمس تلطشه.
ترفع ذراعيها لأعلى، يتسرب الضوء تحت إبطيها ومن تحتهما طاقة نور.
الشمس تضرب تدويرة رمانة متأرجحة، تبص من تحت تدويرة الكم القصير المفتوح، تلمع ..تختبئ، وترمسة عابثة تحك صدر الجلباب الطري صعوداً وهبوطاً، تكاد تخرقه، تبرق بسرعة وتختفي، وحواسه تنتفض.. كله ينتفض وعيونه تتشرَّب.
تصعد لحبل الغسيل على أطراف أطراف أصابعها، ليقصر الجلباب، وجلبابه يمتد أمامه.
أصابته.
أصابته ضربة شمس وأصابتها، يربطون رأسه ويضعون المفتاح في العقدة كي يشفطوا البطحة، والمفتاح ينتقل إلى بيت العناني، ثم يعود في جولات مكوكية.
دقت على الرأس طبول كثيرة وشموس.
مرة بعد مرة، فقد المفتاح مفعوله، وأصبح حائراً، ومفتاح آخر ينتفض، يشتهى مفعوله، حائر.
راحت أقراص الريفو تتجول هنا وهناك في جولات مكوكية.
الصعود لا ينتهي والشمس حامية، القلوب اشتعلت والأجساد ولعت.
رأسه تغلي وروحه تاهت، لا يشعر بجسده ،لا شئ سوى أصوات تعربد داخله، والهيام يقفز من قلبه الى وجهه، ويغطيه.
وحين دخلت سحلية شاردة من بين الأجولة، في لباسه، كان صوته قد جاب آخر الدنيا، سمعته النسوان الرابضات على السطوح، قابلنه في لحظة بصراخ أعلى دون معرفة السبب، هرعن تجاهه، وهو يصرخ، يقفز، والسحلية تائهة، وهن يصرخن، ينفض هدومه، ينزعها .. كأن ناراً شبَّت فيه، يصرخون جميعاً.. حتى انزلقت قدمه وطاح في قلب الشارع.
جاءته البشارة لحد عنده ولحقه النيشان الثالث، عزت ريفو.
كان لا بد من الزواج وإن تكلل بفضيحة خفيفة، والعناني على مضض وافق، لا يحب أبو العشم ولا ابنه الفالت،.. لكن كله في رقبة محروس وقرب منه بالمرة، حج وحاجة.
اكتشف أبوه في لحظة أفاق فيها أنه لم يطاهره، فحل تخطى الحلم، خرب الدنيا وما زال بغلفته.
وفي ساعة واحدة مع نشأت بن غزلان، أقاموا الطهور وهم في نصف هدومهم، وإن داروا، ذبحوا عجل جاموس وعزموا الوادي.
لم يستطع الحلاق ولا مساعدوه أن يمسكوه، انفك بين أيديهم وطار.
يتفلت من بين أيدي الخلق، ينط من سطح لآخر ودقات الطبول عالية، والشهود أمم.
بعد كر وفر أمسكوا به ،جلبوه في الوسعاية أمام الدوار، ومن لا يشتري يتفرج.
تكاثروا عليه، أوقعوه كبهيمة، حلبوه، وقص له الحلاق الذي كاد يغمى عليه.
وامرأة توشوش صاحبتها، تضع بوزها في وسط أذنها، وعينها اليسرى تتلصص لبعيد:
شفتي الواد يا بت؟؟، رجله التالتة طول إيه؟؟
والثانية تخبئ ضحكتها، تمرط شفاهها :
.. هو هيجيبها من بره، طالع لأبوه يا ختي.
تزوج في ظرف اسبوع، لم يكن الزواج على باله ،
هو عاشق للعشق، يصرفه أياً كان، وإن درب نفسه بعد ذلك واستعذب الحكاية .
يعيش العشاق كل حكاية بالسهد والغناء، حتى آخرها وقاع قعرها، كأنها المنتهى، وحين تنتهي فجأة كعادتها لا يستغربون أنفسهم.. ولا يتفاجؤون كثيراً.
للحنين مواعيد، رجله عرفت طريق البندر ثانية، هاج به، خطفه، ينط إليه بخطوات واسعة، يخبئ الهوى في كمه والهوا يتبعه، وإن لم يخل الأمر من بعض التوابع، يجلب الكنافة والهريسة لمن يشتهي، كريم حتى آخر قرش ويكوي جلباب محروس بمكواة رِجل، عند أفضل معلم في المدينة.
راح يألفها وباتت تألفه، رأسه يذهب وحده إلى شوارعها، إلى عيادات الأطباء، حمل مرضى الوادي اليهم، عقد صداقة مع الطرف الثاني وعمل كبيراً على الطرف الأول، وامتد طرفه الثالث الحائر لمن يهوى.
عشق الممرضات، وراح يكتب فصلاً جديداً، الممرضة التي رآها خلسة تطلع من فستانها كراقصة الحواديت، والتي رآها تتنزل من جونلتها كعروس البحر.
يفيض وجهه الأحمر عن الفدادين التي خلّفها وراءه في الوادي، يجلب الجبن القديم والعسل، لسانه عسل وعيونه مصوبة على المؤخرات، يموت فيها ويعيش فيها، وجملته الأثيرة أصبحت شهيرة :
آه يا ملبن، حاشيينك ملبن
عملوك ازاي يا ملبن؟
والوادي أصبح مبيتاً له فقط، يكتوي بالعشق في أزقة المدينة وعياداتها، ينتفخ حتى يكاد ينفجر، وحين لا يجد مصباً.. يعود ليلاً، يصبه عند زوجته، يصبه ويضربها. غضبت ورجعت لبيت العناني.
يصعد السطوح، يختبئ خلف الأجولة، يخرج رأسه بحذر، يدعك ساقيه ورأس صاحبه، وهي تتبختر فوق سطوحهم، بطرف عين ترقبه، تدير مؤخرتها ببخل، تدعكها بخفة ثم تسحبها وتهبط.
يصعد وتهبط، يختبئ وترفع، يشيط، يكتب لها الخطابات.. زوجتنا، الدرة المصونة والجوهرة المكنونة، ربة الصون والعفاف، ملكة البطيخ والتفاح،
عودي.
تعود... يأنس لأيام..
وتعود ريما.
عند أول صوت للقطار المغادر، يتحرر من صوتها وألمها المخفي تحت جلد وجهها، يتحرر جسده، ينفض كل السطوح ويقلب الأجساد والأوهام.
يأخذ صوراً للممرضات أو صوراً معهن، يخفيها عند غزلان زوجة أبيه التي تعرف داء المبتلي ودواءه، يأخذ منهن أيضا بعض أكياس العلاج.
وكبرت الحكاية.
في الوادي يتجمعون حوله، يعطى حقنة لفلان، بالذات لفلانة، يصف أقراصاً لآخر وحقناً شرجية للمرضى من عزبة إسرائيل، وللذين يمقتهم.
جيبه انتفخ بالفلوس، في الأول كان يعطي الوصفة دون مقابل، بعد ذلك تمرد بتحريض العناني: قال له إن الإفراط في الوطنية مضر بالصحة.
لحقه الاسم الذي انتظره وأحبه، الدكتور عزت، دكتور في كل شيء، وذاع صيته، اشترى شنطة عمَّرها بالأدوية والمراهم، على كل لون، مشارط وشاش ومقص مخصص للحمير، وعند اللزوم يستخدمه للبني آدمين.
قرر أن ينقل جزءاً من نشاطه للخارج، وأن يحمل خبرته إلى القرى المجاورة، يأكل أتخن ممرض أو تومرجي يجادله في نفسين، والفناجيلي ابن عمه يحمل الشنطة ويمشي خلفه.
وتورمت الحكاية.
عزت حركات، لا يشبع من معشوقاته، الحقيقيات والوهميات، ولا يرتد، وحتى إن شبع، تنقلب بطنه فجأة، يشعر بزوجته دودة تلعب في قلبه وإن خبأ، وإن فوجئ، وحتى إن تنقل، يتنقل سريعاً من وردة لأخرى، عزت برق لمع، يقطع الوعود والوفاء لأخريات، وعيادات الأطباء أكثر من الهم على القلب، والمرضى على قفا من يشيل، وهن غادرنه، إن كن موجودات أصلاً، رغم كثرة الصور ونفحات الجبن القديم والعسل.
يلعبن لعبته، يقرصنه في وركه، ويصعرن له الملبن، يضربنه به خفيفاً.
العاشق لا يتزوج، وصاله كشمس الخريف الكاذبة، حارقة غائبة .
لا يفلس.. وحتى حين يفلس، ولا يجد ضحية أخرى، لا يُصَدّق ولا يبالي، يفتش في دفاتره القديمة، وجرابه الخاوي كعاشق مفلس، يعود إلى السطوح والسطوح فارغة، حينئذ يتحول عن بنات البشر إلى بنات الحيوانات.
قال أحدهم:
.. حمارتي تعبانه يا دكتور عزت،
بقالها يومين ما بتاكلش.
صرخ بعزم ما به :
- يا بهايم أنا بشري.. بشري، مش بتاع حمير.
لسانه يكذب، وجسده يكبر، أنفه تضمخ برائحة الحقن، وروحه التي امتلأت بها انتفخت وضاقت .
وزوجته ضاقت ولا أولاد، عادت إلى بيت أبيها، يجد سلواه عند قدمه.. سطوح وخطابات:
لقد ذهبتِ، وأخذتِ معك الشمس والنجوم
والكواكب، فإما أن تعودي أو ترسلي
الشمس والنجوم والكواكب.
يأتيه الرد :
أعطني كل فلوسك، وأنا أعطيك كل عواطفي.
تأكله الدودة، تأكلها، الخيوط تتعقد،والخيط السائب هو الطلاق.
يصعد، ينتصب خلف الأجولة هذه المرة، وصاحبه يمرق داخل الكيس، تصعد، تتمايل خفيفاً، ترفع، والجلباب يقصر، والطرحة تطير.
يا نا .. يا الحمارة.
قررت أن تلاعبه وأن تقص المال عن يده، المال الذي اعتقدت أنه يرمح به خلف الفساتين المنفوخة.
الحقنة بخمسين جنيه.. إبعد إيدك .. إبعد إيدك، وهو يرغب في حقنتين كل ليلة.
يأتيها من خلفها في خلفها، وفي عز الموقعة، حين تصطك الآهات وتغوص الركب في الركب، الحديد في اللحم، يستعيد معشوقاته الشاردات والباقيات، من أول حمارة حتى آخر ممرضة.
الحقن ساخنة هذه الأيام، ثقيلة كحقن الزيت، يدفع مقدماً،
تصرخ، صوتها يقطع الغرف المتجاورة والبعيدة، عابراً الشبابيك، وهو يضربها.. يضربها، بأرجله وأذرعه .. يجمع الجميع فيها:
.. سيخ محمى جوه بطني يا عزت،
اسلته، وخد فلوسك يا خويا.
وهو على آخره، الدنيا حامية والبركان يقذف حممه.
وأبو الليل، خلف الدور يضحك :
.. طالع لأبوه، خرطومه يدق أردب فول.. اللي خلف ما ماتش.
ومحروس قرر أن ينقله ليعيش في الدار الموجودة في الغيط، لولا أنه تدارك أن الحمير تسرح هناك، ولا يجب أن يقترب عزت من الكبريت.
تعود الحزينة لمطرحها، يضربها بقسوة بعد أن فرغت خزانته.
لمرة عاشرة تعرف طريقها لبيت أبيها ،.. الذي كهرب الموضوع هذه المرة، أن العناني اكتشف سرقة شجرة العائلة:
.. كله كوم، والشجرة كوم.
ومحروس ينادي: هو الدكتور عزت ما جاش يا ولاد؟
والعناني يرد، قطيعة الريحة وريحة الريحة.
يرد بقوة، ثم يخجل في حضرة محروس، الذي يتحرك كأنه يود أن يعتدل من رقدة طويلة على ظهره، لينام على جنبه:
..عاشق وابن عاشق.. الله يشفيه.
الدكتور عزت في وادٍ آخر، بائع الوهم يبحث عن الوهم، لا رفيق ولا رفيقة، يكاد يقبل قدم الفناجيلي الذي تاهت نفسه عن كل شيء، ليوافق على الذهاب معه إلى البندر. الفناجيلي الغارق في الخوف من الموت، من كل شيء.
- يا واد اقتل خوفك ،
اقتل خوفك بالحب، بالنسوان.
والحب بعيد، والعناني رأسه وألف سيف، وقفت الحكاية على الطلاق، بلا رجعة هذه المرة، لولا حادثة محروس التي عطلته وأخرست كل شيء.
ومحروس ينادي.. يا بو الليل، يا ناصر، يا نشأت، يا واد يا عزت،... يا واد يا عزت يا وله.
عزت طائر خلف الفساتين والمؤخرات، خلف ضالته، ومحروس يتشمم دواء الأبدية.. ينادي، ثم يهبط كبركان لم يتبق سوى رماد زئيره.
الحكاية طالت، وعزت أوجعته الأيام، أوجعه الفراش الخالي.. غير المجعَّد، الجراب الخاوي ورأس العناني الناشفة.
شد الفناجيلي من ياقته صوب النعش، الفناجيلي الذي ينط من الأرض لسابع سما إذا رآه فجأة، وأحيانا يذهب إليه وحده لينام فيه.
حملا النعش معاً، فارغاً، بعد أن نامت الخلق.
ربط عزت رأسه بشال العناني الذي لطشه، ورأسه يغلي من مناطحته وعناده، مستغلاً غياب محروس.
الفناجيلي في الخلف، وعزت في الأمام.. ينظر وراءه خشية أن تفاجئ الحكاية صاحبه فيصرخ، يترك النعش ويهرب.
يسيران في عجلة، ينطان، لينهيا المهمة بسرعة،... الميت غالي والمسألة لا تستحق التأخير.
عزت ينادي، والفناجيلي يردد وراءه:
.. أسمر وطويل
واحمر ومبطط ،
أسمر وطويييييييل.
يناديان نداء بائعي الباذنجان الأسمر الطويل والطماطم الممتلئة.
يقولانها، مرة صريحة ومرة يلحّنانها، حتى حطا أمام بيت العناني.
ألصقا النعش في باب الدار بالضبط، وظهره مفتوح أمامه.
أشعل عزت النار في الباب بعد أن رش عليه بعض الجاز.
عادا بهدوء، خلف بعضهما، يقهقهان :
... واحمر ومبطّااااااااط .
لم تستطع النار أن تأكل الخشب القديم، المشبع بالرطوبة، صهللت قليلاً، ثم انطفأت على نفسها، وبقي النعش منتصبا مكانه.
حين رأته امرأة العناني صباحاً وهي تكنس أمام الباب، خرَّت مكانها.. طلعت روحها ومقشَّتها في يدها.
لم يعد النعش فارغاً، عاد بها، والعناني وضع المقشَّة في كفنها، كي تضرب بها عزت يوم القيامة.
(7)
..الموت مش من عاداتنا، اقتل خوفك منه يا وله، اقتله.
والفناجيلي هائم، لا تعرف إن كان يسمعك أم لا، عينان منفلتتان في الفراغ، لا تدري إن كان ينظر إليك أم لأحد آخر.
فجأة تنقلب سحنته، يحِدُّ نظره، كأنه يخترقك، يخترق الجدار المقابل، بوجه صلب، قُدَّ من طين يابس، وملامح متشققة مالحة.
منه لله العناني، يقول عزت، ويسبه علانية، هو الذي قال للفناجيلي إن البني آدم يرى عزرائيله على هيئة إنسان قبل أربعين يوماً من موته بالتمام والكمال.
.. أبوك رآه رؤى العين، وصفه كما يصف المقتول قاتله، حكى عنه، وهو لا يدري أنه هو.
والفناجيلي هائم، لابد كالقرادة في جلد الأرض، أمام باب الدار، يفتش في الوجوه عن الوجوه، يتملى، يعيد تذكُّرها، بتفاصيلها، حتى الضئيلة، خاصة الغرباء، ويمسك بخناقهم أحيانا دون سبب واضح، يبحلق فيهم ليخيفهم، كأنه يخيفهم.
عينان متورمتان، متسعتان على مدار الليل والنهار، على الفراغ البعيد، كأنه يخشى أن يباغته على هيئة طير.
الفناجيلي، حِيلة الحيلة لأبيه أبو هوانه، ينادونه أبو هوانه الصغير، شَبَهُهُ الخالق الناطق، ..فولة وانقسمت نصفين..، نحيل كعود ذرة شيطاني، طلع يتيماً في أرض القصب، عينان ضيقتان، يعكر وجهه أحياناً أنف طويل كالمنقار، لكن صفاء روحه ينحي الملامح جانباً، ويسيطر على العكارة والتفاصيل.
ولد يتيم، أفلت بعد ثلاثة سقط، وثلاثة لم يكملوا أسبوعهم الأول، عطروا الدنيا وفروا، لم يلبس ملابس إخوته على غير العادة، ليكسروا النحس.
ابن موت من يومه، والموت عروق، رائحة الكفن تحوم حول خياله، من أول طلته على الدنيا، يرضع بالعافية، صراخ لا يتوقف، ماسورة مفتوحة من الناحيتين، لكنه أظهر بركة، قطع الشهر الأول ورجله في الدنيا، أنفاسه تتردد في صدره كبقية خلق الله، وأمه أنفقت كل مناديلها ومناديل الجيران لتجفف دموعها، والمآقي تدر دماً:
.. حاشتريلك خروف أبيض أبيض
يطلع على النخلة ويضرب
ومعزة خضرا، وديك خراتيت
إذا خفيت
إذا خفيت.
وهو على ذات الحال، لا يعيش ولا يموت، ثلاثة أشهر بلياليها.
ولأن كل انسان يمشي في الدنيا بقرين، جاءه قرينه لحد عنده، حملته أمه بنصيحة الشيخ العناني، مفتي الديار المصرية، وضعته داخل النعش يوم الجمعة ،بين النداء الأول للصلاة والنداء الثاني.
انقطع صراخه حين حطُّوه وغطوه، انتظروه على نار، بقلوب مرتجفة، ليعرفوا إن كان غادر أم ما زال.
حين أخرجوه بعد الصلاة وهم يرعشون، كان يضحك، مفتوح العينين، والنعش متجه لجلب واحد آخر.
قالوا نفد من الموت وفداه صاحب النصيب، رست القرعة على غيره، والعمر الطويل له.
أمه ذبحت الخروف، وأبوه سماه الفناجيلي على اسم لاعب كرة القدم الشهير في النادي الأهلي .
وراحت الأيام وجاءت، سيقانه استطالت وشواربه، وثيابه تعطرت بالمني.
أمه تزغرد في عِبِّها، وتتحدث عن العروسة، وهو يتمختر بجلبابه الأصفر، بطاقيته الصفراء وحذائه الأصفر أيضاً .. نذر أمه القديم.
الشمس برتقالة حمراء، بدمها.. في الطريق إلى دارها، والحمام يموج فوق الرؤوس، في اللفة الأخيرة قبل أن يستقر في أبراجه، وجنات في جرفة الترعة، ترفع ذيل جلبابها، تحشره بين فخذيها لتغسل، تحشره للداخل جيداً، ليضيق وهو الضيق، ساقاها عمودا نور مضيئان، صاعدان من قلب الترعة.
حين لمحته نظرت طويلا في عينيه، ملأته واستدارت، انثنت إلى الأمام بمؤخرة عالية ملفوفة حرقت قلبه.
عيونه بالوله تلهث، وهي تنحني.. تنحني، والجلباب يكاد ينفجر، روحه تنفجر، والقميص الأحمر الداخلي سرق لون الجلباب وطبعه.
.. لو شفتها ،
لو شفتها حتبكي من حلاوتها يا عزت يا بن عمي،
يا دكتور عزت.
لطشه الهوى، أحرقه، وأبوه وأمه استعجلا زواجه ليقطعا بأولاده حرقة الموت الممتد فيهما.
لكن أباه كان أكثر عجلة واشتعالاً، احترق فيمن احترقوا، والفناجيلي رآه بنفسه وهو يتقلى داخل النار، شاف روحه وهي تتفلت من بين ألسنة النيران لتنجو بنفسها.
يضرب الهواء بذراعيه، ويقول إنه حاول أن يمسك بها، لكنها راوغته لأول مرة، طافت وانسلت عالياً.
كان بعقله حتى هذا اليوم، ثم راح يخف منه، ويخف به.
ولأن الحزينة جاءت لتفرح، فلم تجد لها مطرحاً، لحقت أمه بالركب المبارك في ظرف أسبوع وتركته عارياً، تلفحه رائحة دخان الغياب، تعشش فيه وتخرج من مسامه، وجهه اختفى، وحاله انقلب في يوم وليلة.
مزروعاً عند باب الدار ليل نهار، يمسك النبّوت بيد، والمصحف بالأخرى، ويقسم كلما رأى عابراً ألا يدخل أو ينام حتى يقبض على الموت .. ويجيب أجله.
كأنه لا ينسى، وحتى حين ينسى ويمشي، يمشي بأقدام خائرة، كطريدة تفتش عن قدرها، تجنح في اتجاهه، على وجهه بقع من رائحة الموت الماضي.
وعزت يهزه بعنف، يصرخ في وجهه:
.. اقتل موتك يا وله
اقتل خوفك
اقتله بالحب،
موت من العشق أحسن لك.
كأنه يوقظ في حائط ميت.
لا يرمش.
.. حتى اللي بتحبها اسمها جنات ،
انت ناوي على الآخرة من الأول يا بني.
هم يبكي، وهم يضحّك.
الحمام يحوم فوق رأسه، بنى له أبوه برجاً فوق السطوح كرامة له، وهو لا يمل مداعبته طوال الوقت، ينط فوق كتفيه، يجلس على ركبته، يطوف حوله أثناء طعامه، وحين ينام في الصالة يصعد فوق صدره، يبغبغُ وينام معه
وأمه تضحك...
.. فرد الحمام ده قريبك، أنت مولود مع جد جد جد جد جده...
تتنهد، من قعر القلب، ...
.. حسبالك أيامك بالحمامة.
وهو يكور يده في الهواء، كأنه يحاول اللحاق بشئ ما، عيناه تلمعان بلمعة غريبة، كأنه يكاد يستفيق:
ضيعت فرصتك في الموت من الأول وأنت صغير، ضيعت النهاية من البداية، لماذا لم تمت كإخوتك؟
شريطه أمام وجهه، كأنه يرى الآن فعلاً.
يكاد يتذكر أنه ما من مرة رأى سلطان المغسلاتي إلا وأدار وجهه، يراه في شارع فيقطع كالرهوان إلى شارع آخر.
ما من مرة سلم عليه بيده، ولا رد السلام وإن فاجأه، ولا أعطاه فرصة.
وحتى حين يراه عند عمه محروس على الغداء أو العشاء، تنشق الأرض وتبلعه، يختفي في لمح البصر.. يذوب تاركاً الطعام والضيوف.
يتذكر الآن:
ضيعت فرصتك في الموت يا فناجيلي، حين ذهبت لحرب أكتوبر رغما عن أنفك، كان يمكن أن تموت هناك ميتة شرف بدل هذه الميتة، لكنك رفست الأقدار التي ربما دبرتها لك.
كان قد دخل الجيش لخطأ مقبول ارتكبه أبوه، الذي رفض أن يستخرج شهادات وفاة لإخوته الذين رحلوا، ليقتل الفأل السيىء، وحتى لا يكلف نفسه عناء الموت ومتابعة لدغاته.
استكبر أن يلاحقه، وهو يلاحقه، يضرب بحافره في كل اتجاه ويمضي.
ورغم أن قلب العائلة انخلع عليه، إلا أن الموت وقتها كان ضرورياً ليستحقوا الحياة، ومحروس قال له وهو يهزه:
اضرب بقوة يخافك الموت، انساه، انساه، تأتيك حياتك تحت أقدامك، لتعيش مرفوع الرأس، نحن وأنت:
.. خلي دمك حامي، واعْوج طاقيتك لقدام.
وأبوه وقع من طوله، راح في سابع اغماءة، لكن محروس قطع العويل:
.. يموت بشرف أحسن ما يموت فطيس.
وأمه، يا ويل أمه، لم تطمئن، رغم أنهم أخبروها أنه سيقاتل في دبابة حديد في حديد.
في عز الحرب والانتصارات وجدوه بينهم، هرب المقاتل من على خط الجبهة كما تقول عزيزة العمشة في أغانيها، وأبو الليل الحارس على ليله أول من تلقفه:
- إيه اللي جابك يا فناجيلي، سبت خواتك وجيت ليه؟
- الدبابة عطلت، وجيت أصلحها في البندر.
- تصلحها في البندر؟، يا بني دا البندر بتاعنا يا دوب يصلحوا فيه الحمير.
زغت من الموت، أم هو الذي زاغ منك يا فناجيلي، ليطلع لك وقت يشاء.
ينام قليلاً إن نام، يجف كعود حطب مرمي من سنين،
يجلس بالجوامع دون وضوء أو صلاة.
وجنات تخلع برقع الحياء، تقرفص أمامه، عيونها في عينيه، تشد خيوط الخوف من وجهه، صدرها يقفز على صدره، تدسه ليشم رائحته التي عشقها واقتنصها، ودفن مواويله فيه ليالي طوالا بعيداً عن أعين الخلق،.. تقترب، تبخ فحيح الشفاء، تنحني، تكلمه بأعضائها، تلصق الحاجات بالحاجات، تهمس بصوت ساخن وأنفاس توقظ الميت:
.. قوم يا فناجيلي، قوم بقى، اصحى،
شايلالك علبة الجواهر،
حالفه ما حد يفتحها غيرك.
وعزت يجذبه بكل ما أوتي من عشق، ينفضه:
يا بني انت ابن حياه،
لو قادر عليك، كان خدك من زمان،
لو كنت عاوز تموت، كنت مت من زمان قوي.
لا يرمش.
.. يا بني الموت ده مش من عاداتنا.
عزت يحب الفناجيلي أكثر من أي شيء، حتى النسوان، صديق طفولته وحائطه الحنون، أخوه بالمحبة قبل الدم، يطوف يطوف، وعندما تضيق به الدنيا يهبط عنده.
حين يحتاج الزعيم عزت جمهوراً يجد الفناجيلي حاضراً بلافتاته، وحين يحتاج الإله عُبَّاداً يأتمرون لأمره، يجده عند قدميه طاعة وفداء.
مشى معه في كل درب إلا حارة النسوان.
سهر الليالي لأجله، ابتعد عن أمه وأبيه العطاشى أياماً وليالي طوالا، لعيونه .. وأسراب الحمام تبحث عنه.
حمل له الشنطة حين حصل على لقب الدكترة، يمشي خلفه وحين يهبطان في مكان، يصيح:
- وسع للدكتور عزت يا وله.
ربَّت عليه وهو الغلبان، خفف عنه تناهيد عشقه وهو المحروم، حرثا الأرض معاً، مشى معه على الحلوة والمرة، رقص على كل مزاميره، وبكى بدلاً منه على المؤخرات الضائعة.
لم يضق بعشيقاته، حتى عندما طرف عينه منديل جنات، وإن تدلَّت أذناه قليلاً في اتجاه آخر.
عزت يشد كل الخيوط حتى منتهاها، وهو يرخي كل الخيوط حد اختفائها.
لم يشد خيطاً على الآخر إلا خيط قلب حبيبته.
واحد يشفط الدنيا في نفس واحد، وواحد تمر أمامه دون أن يراها، دون أن تشغل باله.
وعزت انقهر عليه، كملك ضاع منه وزيره الأمين،
يشعر بالذنب تجاهه، يحس أن حياة الفناجيلي تساوي حياته، دين في رقبته، وأنها كان يمكن أن تمضي على طبيعتها لولاه، جرفه في مسالك لا قبل له بها.
الفناجيلي عائد من دار أصهاره، بعد نصف الليل، والليل جنات، يترنم:
عجبي على بنت بيضا واسمها جنات
مدقوق على صدرها حمام بحنفيات...
قدماه خفيفتان، روحه ملونة، ينط الفرح منه، انتحى ليتبول جنب حائط متهدم حين انشقت الأرض عن ظل قادم، قطع التبول، انقطع وحده، وجده عزت، أكمل وهو يبتسم، حاول أن ينهي العملية بسرعة، رمى له السلام هاشاً وهو في منتصف الحكاية، وعزت يقترب، لا يرد، ألقاه ثلاث مرات:
.. جرى إيه يا دكتور؟
عزت لا ينطق ولا يرمش، ماضياً كبومة لا تنبس.. بعيون حادة لا ماء فيها، لابساً جلبابه بالمعكوس، ظهر الجلباب في الأمام، وفتحته الأمامية في الخلف، والفناجيلي انقطع خلفه وصوته ثلاثين يوماً بالتمام والكمال.
كانت جارة عزت في ولادة متعسرة، أشار العناني إلى أن يقطع زوجها أو أخوها الوادي ثلاثاً من أوله لآخره بجلباب معكوس، لا يكلم أحداً ولا يرد السلام.
وزوجها مسافر ولا أخ لها، ادعى عزت أنه أخوها بالرضاعة رغم تكذيب العناني.
والفناجيلي بين خيط النجاة وخيط الفرار.. حين يرى عزت يركبه عرق الموت، تلعب الشياطين في جسده ،لا تهدأ .. إلى أن برئ.
يضحكان بدموع حين يتذكران، يومئ الفناجيلي إيماءة السماح، وتعود ريما لعادتها.
ودارت الأيام.
الفناجيلي في مستقره على باب الدار، يدق الأوتاد وينصب الشباك، ملك الموت لم يمر في وجه، ولا اختبأ في تجاعيد أحد.
لم يبعث رسالة مع طير، وجنات تلوح بعلبة الجواهر، تدفن مؤخرتها في جنبه، تعلو بها وترجرج بما امتلكت، لعله يدرك الشمال الذي نام فيه، والجنوب الذي مسه بعصاه.
تقترب، تقترب أكثر، تلوح أمام أنفه بملفحته، ملفحته الصفراء التي أخذتها منه، ودفنتها بين نهديها ليلة، وبين أوراكها ليالي، وربطتها على سرَّتها شهوراً طويلة .
تمر بها أمام أنفه، علَّ كلب الهول يستيقظ، ينبح ويعرف مكان جثة المقتولة.
الحمام يرفُّ فوق رأسه، وأهل جنات حاشوها، قصفوا قدمها عنه وأشاعوا أنها خُطبت.
وهو اختفى.
اختفى من مقامه ثلاثة أشهر، لا أحد يعرف موطأ له، ظنوه سرح في إحدى القرى، وقع في ترعة وجرفه التيار، أو قتله أحد، فهمه خطأ.
ومحروس ينادي:
يا واد يا بو الليل..
يا فناجيلي ،
يا واد يا فناجيلي يا وله.
وعزت بنصف روح ينقب الأرض ويحرث الريح، وجده..،
صوته قادم من بعيد:
مدقوق على صدرها حمام بحنفيات
نزل قتيل المحبة يستحمى مات.
أخيراً وجده...
في قلب المقابر، متكئاً على ركبه ونصف، لا بساً كفنه، وطرف نبُّوته يشهق منه.
باليد الاخرى يقبض على المصحف، يقلب عينيه كالديدبان، يعس بهما كعساكر الحكومة الظالمين..
.. لو راجل
لو راجل اطلع لي
اطلع لي.. يا موت
اطلع لي يا بن الكلب.
(8)
..السر أمانة يا عناني، ياخده عاشق، عاشق..ومش كداب.
ثم إنه هبط، ثلاث ليال كقرن الخروب وهو يمشي، أرض تشيله وأرض تحطه، كلما اقترب، كلما ظن أنه اقترب، يجد نفسه في طريق آخر..لا سماء ولا أرض.
يعاود الكرَّة، يعاود المتاهة، كلّت الأرض تحته، أصابع قدميه بصابيص نار، عيدان مولعة.
في الليلة الثانية ظن أنه وصل، أخيراً وصل، رأى الدار رؤى العين، أخذ يلوح و يلبي، ممسوساً لدغه جن.
يقترب والدار تبتعد، حين اقترب أكثر، حين ظن أنه اقترب أكثر، لم تكن هناك دار ولا شجرة ولا حصان مربوط ، شالوا الكعبة من مكانها.
أولاد الحلال نصحوه أن يعود من حيث أتى .. لا عهد ولاسيدنا ولا يحزنون، وأولاد الحرام سقوه شربة ماء، آووه وشربوا الحشيش على شرفه طيلة الليل بعد أن أعجبتهم اللعبة.
وهو ينادي:
اغثني يا قطب الرجال يا متولي:
..ندمان وبايع كل غالي وخيش،
ندمان وطالب من الزمن رقعة،
لو قلت أطلع جبل
أطلع عيدان الهيش،
ندمان،
ندمان وعاوز أمسك الترابيس.
منهكاً يحمل همه، كساقية عرجاء في عز بوؤنه، وجهه رغيف مقدّد تضربه في الحائط يرتد اليك.
لا يتذكر أنه نام من قبل، تعب ممدد، والطريق طويلة، أفق أجرد، لا حياة أمام عينيه، لا شجر ..لا طيور، ولا مارد ليركبه.
وحين يستدير للخلف، يبصر الطريق إلى الوادي مفتوحاً، يكاد يُجَن. جُنَّ.
يوم ثالث وشمس غاضبة، الريح تأتي من تحتها، فمه مفتوح على آخره، زبده يسيل على شدقيه، كلهاث غريق.. يمضي كزورق مثقوب على صفحة ممتدة لا تنتهي، غبار يغلف مدى الأشياء، دوي الطبول في أذنيه، صفائح مسنونة تسم بدنه، يتلفت، ولا مارق إلا صوت نعليه، وجهه حارة ضيقة، ابتلع كل ما معه من ماء، وأخذ يهاتي ويلبي :
- سامحني.. ومش عاوز العهد،
ارمي بياضك ولا سوادك،
بس سامحني.
يحمل ماتبقى من نفسه وعمره إلى أقصى ما يستطيع، إلى أن ترفع روحه الراية البيضاء، وتقلع.
مرت طيور، وبكت إحداها، تأنت فوق رأسه، هرع وراءها مربوطاً في ذيلها.
ولاحت.. لاحت البشارة.
انكشف الغطاء فجأة، رأى لحية صاحبنا أسفل قدميه، انقض ليقبض عليها، انسحبت، وهو يرمح خلفها، سقط، يزحف، يزحف حتى دخلت الباب.
ابتلع روحه داخل جوفه، وحين هم بالدخول لم يجد باباً ولا شباكاً، دار من الأربع جهات، سبع لفات كما فعلت السيدة هاجر، إلى أن أغشي عليه، فنام محله.. نام عميقاً.
حبل المرارة طويل، ثلاثة أشهر مذ نقض العهد الأول وحل الغضب عليه، وهو لا يعرف للقبلة وجهاً، يصلي ناحية الجنوب مرة والشرق مرات، العصر خمس ركعات والمغرب أربعا، يهرش كأجرب، أجرب، الغمة على قلبه، يكلم نفسه:
.. آخر المتمة آخد العهد على غجر جلانته بس،
وحتى دي كمان ضاعت .
انتوى أن يعود، يقبل القدم ويبدي الندم، يرمي أحماله لصاحب الجراب الواسع، كلما همّ أن يخرج ليستسمحه ويسترد عهده تأبى قدماه.. يمشي مرتاباً حتى أول الوادي، وحين يركب العزم ويهم بالانطلاق، يشعر أنه قُدَّ من حديد.
كبهيم عاق أخطأ طريقه، يبكي ... يبكي دماً، يغور بروحه داخل الأرض، إلى أن يبدل وضعه، ويغير وجهه للداخل، باتجاه الوادي، تعود له سيرورته، يهرش.. ويعود.
قرر أن يخرج بالليل، والليل ستار، الوادي نائم ومحروس نائم، ليس هناك إلا الكلاب والخفراء، وجنود سيدنا الصاحية.
..نادم، وبايع كل غالي وخيش
نادم، وحالف اسمع الكلمة.
حين شالته قدماه، وانطلقت خارج الوادي، أحس أنه طائر، راح يجري بدهشة طفل اكتشف أن قدميه تصلحان للمشي.. يجري يجري، يدك الأرض كجبل يفر منها.
فاجأه أبو الليل، يحمل ليله تحت إبطه:
.. على فين يا عناني، يا شيخ عناني.
- رايح للحبيب، نصيبي ونصيبك .
.. نصيبك لوحدك.. سكتي غير سكتك .
كاد يقتل فرحته.
يقترب منه، جلبابه نظيف وجذامه ساطع، توقف على مبعدة، يهرش .. النظرات خيوط ممتده، تطول إلى أن تتلاقى، تصطدم ببعضها، ثم تعود أدراجها.
حوار صامت ينشع من القسمات، حدقات تتسع وتضيق، جبهة مزمومة وأخرى مفرودة:
.. اقترب، اقترب يا عناني، ما بي ليس من القمل ولا من الجرب، ما بي اختبار الكبار الذي لا تقدر عليه، يصيب الضعاف فيركبهم، يحوط عليهم بنفوسهم الضعيفة وسهام الآخرين فلا يجدون منه فكاكا، ويتمنى أن يغادر كل ضحاياه إلا أنا، انتصاره عليّ انتصاره الحقيقي، لكن بعيد عن شنب شنبه....
اقترب.... لتتعلم كيف تصبر... كيف تنتصر، كيف تتعامل مع علتك ووجع الآخرين.. لتستحق العهد..
العهد الذي تفكر به لن يقترب منك، ما دمت تبتعد عني،
عهد إيه.. وبتاع إيه يا راجل؟.
- لو أنني أملك نصف صبرك يا أبو الليل، لو أملك نصفه على المكاره، على غضب سيدنا لنلت الجائزة، وشفيتك، رغم أنني لا أحبك من أصله...،
ربما أنا في حاجة مثلك... لكن أنا قطب ابن قطب ابن أقطاب، وأنت بالعافية فرش الحصير الذي لن يرجح الكفة أو يخفضها، فقط قوة روحك، مقاومتك لعاهتك، كأنها هي التي أصبحت أسيرتك لا أنت، كأنك تملك روح ثلاثة أنبياء في روح واحدة.. لولا، لولا أنك حرامي مقطوع اليد.
... حرامي حرامي، حرامي جيوب أحسن من حرامي عقول.
أنت نصف شيخ ونصف محتال، تركيبة على مقاسك بالضبط، بل ربما أبعد مما تحلم به لروحك.
خلطة فريدة .
لحية وسبحتان وعيون ضيقة.....
جدك وجد جدك كانا كذلك، أفلت والدك غصباً عنه، كان بركة فقط، وأنت تعرف، بل أنت سيد العارفين، أن البركة لا تصنع طماعاً، ولا تخلق محتالا.
مزيجك قادر أن يخطف الكحل والعين معاً، ويشد سر القلب بالمرة .
حرامي..حرامي يا عناني..
ثم إن الحرامية المرضى هم الذين يستحقون الشفاء، يستطيعون إزاحة الليل عن مكانه، ونقله بعيداً عن أمثالك الطامعين، يعطونه تميمته وتذكرة انصرافه.. ليمضي .. أو يعود، هم الذين يستحقون العهود.
وأنت.. حتى لو أخذت العهد الفشنك الذي ترومه لن تنفع أحداً به، ولن تنفع نفسك.
أنت تكره عزيزة العمشة، لأنها تغني.. أنت تكره الغناء لأنه يسرق نعيق تميماتك وأورادك الأونطة، انزع مضغة الكره، وتعلم العشق.
ابحث عن عطب الروح، وتعلم كيف تصنع المواويل، وتغنيها، أوحتى لتعرف كيف تستمع و تستمتع، لتَشفى، لتشفي غيرك...،
لو أنني الذي أعطيك العهد لاشترطت عليك أن تعرف الغناء. أن تفك حروف العشق، أن تغيب طويلاً حتى تأتي بلبنه أو نوقه.
الخيوط ترتخي بين العيون، تلامس الأرض، رويداً رويداً تنسحب لمآقيها، والقسمات تعود لمخابئها.
وأبو الليل يخرج من جوف الليل، يضحك.. يقهقه:
.. خد بالك من بلغتك يا شيخ عناني.
مضيا، كل إلى حلمه وغرامه، العناني إلى عهده وسيده، وأبو الليل إلى وصلته، يحيك الحكايا وينسج للظلام أثوابه، يهيمان معا،.............
ولا سيد له.
هو السيد، حامي حمى الليل، الذي تهفو نفسه لعشيقة، لنجمة أو امرأة، فإن أنفت أو عفّـت، يفتش عن طريدة.
يتحسس أصابعه مرة، فيقرر أن يقض مضاجع من يعيّرونه، ويتحسسها أخرى.. فيسرق ليل من يأنفونه.
أوجعته علته كثيراً، عيون الناس أوجعته أكثر، وضحكاتهم خلف ظهره.
ومحروس يرمي الفلوس في حجره، ليغرف منها ما يشاء، يطأطئ رأسه ويمضي .. يمضي إلى ليله حاملاً نايه وخطافه.
يمد يداً في جيب جلبابه النظيف، يخرج خطافه، صنعه وحده من حديد سرقه، يحشره في رأس نبوته، ينتظر الفرج... سيارة محملة بأجولة الأرز أو القمح، وحتى أكياس القطن، يمده في مؤخرتها، ليخطف جوالاً أو اثنين- هبط أحدهما تحية للآخر-، حسب الرزق، يحمل ما استطاع وينقل الباقي إلى مكان بعيد عن الطريق، لصاحب نصيبه.
وأحياناً يفرطه ليضيع على أيٍّ كان فرصة استعادته.
حرامي عُتل، لكنه لا يسرق للسرقة، كأنه يعاقب كل امرأة غضت طرفها عنه، أو أحد منعها، يعاقب كل نظرة لم تكن حنونة.
لكن كل نظرة ساخنة أفضل ألف مرة من نظرة شفقة يا أبو الليل، تستطيع أن تقهر الأولى أما الثانية فتميتك.
...سكِّتي غير سكِّتك يا عناني.
السماء تصفو، نجومها تزهزه، وهو يتطلع بعين باردة، .. فلتأت صاحبتنا متى تأتي، المهم أنها ستأتي:
وحدك تحت السماء يا ابو الليل، أنت ملك روحك، وليلك ملكك، ألا يكفيك ..لا رغبة تأسرك سوى حلمك البسيط، الناس تلهث خلف أطماعها، تلوك النهار، وحين يهجعون إلى مراقدهم، يلوكهم الليل ويصعد بك.
الليل يغربل البشر، وأنت وحدك تحت سماء وحيدة لك، انظر، وانتظر نجمتك.
العناني يبحث عن غنيمة نهيبة ولن يشبع، وأنت تبحث عن طائر يغني، هو يتصور أن ضالته رهن شخص واحد، وأنت ضالتك عندك وتحت سمائك.
الليل يجعل الناس كلهم ذوي عاهات، وأنت وحدك المعافى، حتى السرقة تبدو لك دائماً ابنة حلم.
ترفض ما يضعه محروس بين يديك، كأنك تشعر أن ذلك يحد من قدرتك على الوجود، وقدرتك على الحلم،..
كأن الحلم والسرقة واحد، كأنهما شقيقان،....
تسرق وتترك الغنيمة مكانها...لتحقق حلم أحد لا تعرفه، أو تبدد طمع آخر تأنفه.
لست الذي يسرق ليسرق،
ولا الذي ينتظر نجمة ليشفى،
ولا الذي كل همه أن يغتسل بومضة حارقة، أن يصب ذكورته في جرح أنثى.
ترفض أن يحد شيء في الكون قدرتك على الحلم والصمود.
والعناني صامد، الزمان يطارده والمكان مصيدة، المعجزات على بعد خطوة، على باب ينفتح ولحية ممتدة، والرسائل تدخل وتخرج، والباب حائط أمامه والركبة نحلت.
لكأن عليك أن تعوض خساراتك، ولو وقفت بقية العمر أمام باب مغلق.
لحيته استطالت ووجهه اغبرّ، صامد، قلق القلق، كمن يبحث عن خيط هواء في نفق دخان، والبشارات تمرق فوق رأسه، والطيور تروح وتجيء ثم تختفي.
أخيراً،
أخيراً بانت البشارة، في غفلة وجد من يسحبه لداخل الدار، يقبض بكلتا يديه على رقبته حتى كادت روحه تعبر الزمارة.
... نادم...
نادم وطالب العفو والسماح، وعزبة إسرائيل.
-- تاني؟ تاني يا عناني؟؟
.. خدامك .
- عهدك هو هو، لا زيادة، ولا نقصان.
أناخه، برك فوقه وأطال، لا شفقة ولا نفقة، لم يبق فيه
إلا النفس الأخير، والتمتمة انقطعت، لكنه صامد يحاول التلصص إلى وجهه عله يرأف.
والآخر يضغط، ودمه النقي يصعد إلى وجهه ويعود، حتى يمكن رؤية المكنون.
والعناني يرجف:
..السماح.. وعزبة إسرائيل.
- العهد متقسم من زمان يا عناني.
..طيب سامحني.. وزدني، وأنا خدام خدامينك.
برهة طويلة، كنوة العجوز:
سامحتك.. وقبلت ،
سأعطيك ما لم أعطه لأحد، سأهبك الريح.
سأهبك الريح، تمر على الوادي عند أذان المغرب تماماً، تتوقف في منتصفه لحظة، ثم تمضي بريئة إلى أسيادها.. الليلة التي تمر فيها لن تموت نفس في الوادي، لن يدخل ثعلب ولا ملاك، هبتك ومكرمتك، أنت لا تستأهل، لكن للطمع أحياناً وجهاً حسناً.
لا يرمش، أمعاؤه تكركب :
.. يا خبر اسود، ريح إيه وزفت إيه؟
مد يده في قلب الجدار، أخرج الصرة إياها، ومن قلبها شد المنديل، صنع عقدة، مدها إليه، وأشار أن يفكها.
لم يستطع، وعرقه يكاد يبلل الأرض.
لقف المنديل، نظر في عينيه طويلاً، علمه إياها، وأهداها، وبصوت ناعم:
- بشارتك وسرك، اللي يفك العقدة هو اللي يتسلم السر منك...
حذار أن تخطئ .. أو تتفاخر.
نفضه، أقامه على حيله، مد يده في الهواء، سحب نجمة وزرعها أسفل كفه اليسرى :
اللي ياخد السر، يكون عاشق.. عاشق ..
صمت قليلاً :
- وما يكونش كداب.
.. حاضر، لكن حاعرف الميعاد ازاي؟
-- لو الريح انقطعت تلات أيام، تسلم السر فوراً لصاحبه.
سواء فهم أم لا، لم يشأ أن يراجعه ولم يستطع.. نظرة الآخر قطعت لسانه.
وبصوت قاطع: السر أمانة، أمانة.. ما يتورثش، ما حدش يديه لابنه، السر لو فلت حيروح عزبة إسرائيل.
امض، امض ولا تعود، لا جرب ولا هَمّ، الكل معافى.
وأدار ظهره.
لملم خرقه، مدهوشاً، لا يدري إن كان سعيداً أم حزيناً، على أية حال نصف العمى ولا العمى كله.
داخ في البحث عن الباب، جدران أربعة، الحيرة إياها، سمع صوتاً يكاد يزلزله :
.. يستلمه أبو أكتاف عريضة،
وترجع لي بعدها بأسبوع.
أشار بإصبعه ناحية الباب، خرج خفيفاً كريشة تعرف مكان طائرها، خلع عباءته تحت المطر واغتسل.
الأرض مهاد، الريح منتشية، شبعان ..الطيور فردت أجنحتها وعامت...تشير لك، ستموت من الفرحة يا عناني .
سريعاً، نفض نفسه، خلع بلغته وراح يرمح كمن خاف أن يمد صاحبنا لحيته ليسحبه، أو يرجع في كلامه.
الطريق طويلة، حتى في خط الرجعة، كل ثانية محسوبة، الزمن طال، توقف، وأنت تريد أن تعود في غمضة عين.
فليتوقف كما يشاء، فليتوقف الآن، وحتى لو انتهت الدنيا في هذه اللحظة.
لا لا يا عناني، أنت ما زلت على باب الدنيا، لم تذق طعم التفاح بعد، والحديث عن الإيلاج ليس كحمأته.
كلما اقترب ينسى الوقت، توقف ليشتري الكاكولة والعباءة والكولونيا، خاصة الكولونيا لتطلع ريحتها في كل الصور، الصور التي طلب منها مئة نسخة مبدئياً، لتشمخ وتصهلل في دور الأتباع والمريدين، ..والجماعة النصابين في الطرق الصوفية، على أن توضع في مواجهة الشبابيك المفتوحة ليراها القاصي والداني.
أخره القطار.. وحل الليل، كان يتمنى أن يصل نهاراً ليفرد عهده، ويشد مناخير عباس الخولي ناظر المدرسة الذي سيشمت فيه لأنه لم يأخذ العهد لا على عزبة إسرائيل ولا على عزبة جهنم، ولن يستطيع أن يتحدث عن الريح أمام أحد، وإلا سموه سيدنا سليمان تندراً من خلف ظهره، وقطع صاحبنا رقبته.
نافوخه يأكله، والهرش عاد له.
حين حط... وجده كعادته أمامه، فاتحاً ذراعيه يحوط على الليل.
- فرده ولا فردتين يا شيخ عناني؟
خلعها من قدميه، ورماها أمامه.
مد يده ليباركه، أزاحها أبو الليل في غضب.
.. لو صبرت كنت شفيتك، أنا أخدت العهد والسر يا بو الليل.
- أنا صاحب الليل نفسه يا عناني، أخدت العهد عليه من مولاك الكبير.
ضحكته تفرقع،، وقهقهته تعلو...
..مش العهد الأونطه بتاعك،.. عهدك تبلّه وتشرب مَيّتُه، ابعد عني، ابعد عني.
الرجل مأخوذ:
..انت بتشك فيا يا بو الليل؟، علي النعمة لو استلمت العهد قبل النكسة ما كانت حصلت.
فكر أنه يحتاج للانتصار عليه، هو بالذات، قرر أن يلاعبه، فرد المنديل، صنع العقدة ومدها له:
.. لو فكيت العقدة هتخف.
باستهزاء تلقفها، حلها أسرع من الريح،
والعناني فاغر فاه، راح يصيح وهو يتقدم نحوه:
..انت من أتباعي يا بو الليل، انت من أتباعي.
وأبو الليل يزيحه بعيداً، يرميه بنظرة هازئة:
عليّ النعمة من نعمة ربي، لو أمة محمد كلها آمنت بيك، أنا إبليسك.
(9)
.. ما تمسكش البيض يا ناصر، الريحة الغريبة تفسده يابني.
لا تلمس البيض يا نار، لا تلمسه يا ولدي، سيفسد، الدجاجة تنفر
من بيض به رائحة غير رائحتها، لا تنامُ عليه من بعد، تعافه،
وأحيانا تنقره بقسوة، بعد أن كان على شفا الفقس.
النسوة يلمسنه بطرف أصابعهن مرة واحدة قبل أن يضعنه في عش أو قنّ، يقلّبنه في عين الشمس ليتأكدن أن البيضة ملآنة، وأن ماء الديك يسبح فيها.
.. لا تلمس البيض يا ناصر.
أمه تقول مرة، مرات، ثم تصرخ بصوت حاد:
الايد الغريبة نجسه على البيض يا ولدي .
وهو سادر في غيّه، يقلبه، يطوّحه في الهواء، يعبث به بطرف سكينته .
يقفز من على الأرض، يتقافز، يتطوّح، كأنه يسابق أيامه.. يعاركها، يصطاد الطيور، يهدم أعشاشها وبيضها دون شفقة.
ينام.. المدية في جيبه، سكّينته وسَكينَته، بقع من دم الطيور تغطي أصابعه وكاحله، لا يغسلها، وحين يغسلها يكون قد ارتكب لعبة جديدة.
حلم أن يصبح مخبراً، لكنه حين رأى عمه محروس يفيض على الدنيا، على المحترمين والمخبرين، رمى حلمه عند عتبة أول ليل أسود، ومضى.
كلما دخلوا عليه، وجدوه مرتدياً جلباب عمّه، يفيض عنه بثلاثة أرباعه، يجر ويلم قاذورات الأرض.
يقلّد محروس في كل شيء، يمشي مثله، يلبس ملفحته صيفاً وشتاءً، يفردها على كتفه بذات التلويحة، حتى ألوان هدومه، طبقة صوته..
ونظرة محروس له لا تفارقه، وجملته:
ناصر هو راجل الوادي اللي حيصونه من بعدي، وربنا يبارك فيه.
والعناني يقول:
انت اللي هتعوض عمك يا وله.
وعباس الخولي ناظر المدرسة الذي طلع على المعاش ولم
يزل ناظراً، يفرك يديه، ينظر بعيون نافذة، يحملق في ساعته التي قنصها من جوردون بكّ، القائد الانجليزي في حرب فلسطين ويقول:
عبد الناصر قال نفس الكلام للقذافي بتاع ليبيا، وربّنا يستر.
وهو ينفذ الوصية أو الرؤية كأفضل ما تكون، يعارك ذباب وجهه، روحه عند طرف مناخيره عند أول اختلاف، ما بالك بالخلاف، تندفع جملته ساخنة كارهة:
.. والله أجيب كرش اللي خلّفوك بالسكينة .
سيدركه العقل غداً.. يقولون.
يكبر، ولا عقل ليدركه، المدية في رأسه، في يده ،عريسها وعروسته، يحمر عينيه، يسنّها على حافة الجسر أربعا وعشرين ساعة في اليوم.
أيقظ الخفراء من نومهم، مزق بطاقته الشخصية أمامهم حتى لا يدخل الجيش.. وبشرر يتطاير من العينين وصوتٍ حاد:
أقسم بالله يا كلابْ، لو حد بلّغ عني، منكم ولا من غيركم لأدبحكم وانتوا نايمين.
صادر الطريق إلى الجسر لصالحه، ما من أحد إلا بحث عن طريق آخر.. معدية أو لوح خشب أو نط الترعة حتى لا يصطدم بوجهه، والذين أخذتهم أقدامهم بحكم العادة، طيّر أبراج رؤوسهم، لعنوا النسيان وحلفوا ألا يقربوه .
.. يموت ويبقى محروس التاني.. بأي وسيلة وأي طريق .
لكن الطريق معتمة، يسرح فيها شقي بسكينه الحامية، باسم محروس، بردائه الذي يلبسه زوراً، لكنها كانت كافية، كافية تماماً لصنع شريرعلى مقاسه، يفيض عن الأرض وما حولها، شرير يوقن أن الرجولة مطواة حامية.
رمى بلاه على الخلق، على كل نسمة ولو عابرة، خرب الأرض وقلع الزرع، فتق الضرع، غزّه بطرف مديته لينزف حليباً ودماً..
راحت الدنيا تكرهه، والناس خافته.. وحكايات صامتة عن نساء اغتصبهن أو حاول.
يظهر ويغيب، لا يستطيع أحد أن يحدد له موعداً ،الطريق الذي يذهب منه يعود من غيره، لا أحد يعرف أين يبيت، في عشش الغيطان أو غيرها.
خائف من الانتقام .
زارعٌ الخوف يخاف من خياله، أعمالُه السوداء تراكمت خلفه وأمامه، يوغل فيها، أينما حط تنتصب أمامه.
.. تنقلع له عين ويبقى محروس التاني.
لكن الطريق مختلفة، سكة السلامة لا تمر من هنا، والكبار لا يحملون مدية في يدهم، لا يستكن في ضلوعهم قلب جبان.
سيدركه العقل غداً، يقولون.
.. طيش شباب، ستلحقه الكياسة حين يبلغ الحلم.
ولأن كثيراً من الأحلام تظل كامنة لا تتحقق إلا مع القوة أو الفرصة، لحقته فرصته سريعاً، تعدو وهو يعدو، احترق أبوه وأعمامه، غاب محروس عن المشهد .. وأولاد أعمامه، كلُّ يسكب مواله وحيداً.
عزت يبيع الوهم، يعشق النساء والحمير، غارق حتى شوشته، حتى صدق الحكاية وأصبح يبيعه لنفسه.
الفناجيلي يتأرجح بين كفنه ونبوّته، يطارد الموت والوهم في الجبّانات والوجوه الباردة.
ونَشْأَتْ ابن غزلان هجّ من الوادي بعد أن تهامس الناس من خلفه، على صوت أمه الذي يطلع في الشارع كلما نامت مع زوجها أبو العشم والد عزّت.
جذبته الغواية، راح يعدّ العدة، الفرصة جاءته على طبقٍ من غياب.. غياب تام للجميع، اتخذ مظهر الكبير من الخارج، عيونه وملابسه.. نحنحته ووعيده، خلفه تاريخه .. أمامه طموحه، والمدية والرعب بينهما.
... يخيل ويعملها.
والتفت حوله البطانة.
كلاب حراسةٍ جاوزت شراستها لتعبث بالخلق والريح، وما من محروس، الذي يكفي نفسه العابر الأزقة حتى يبتلع كلُّ شقيٍّ موسه في أحشائه.
أطلق عليهم اسم المنظمة، الاسم الوحيد الباقي من التنظيم الطليعي الذي غمر الدنيا وغطاها بعد هزيمة سبعة وستين.
أعجبته لعبة الكبير المنذورة له منذ صغره، والتي يستحقها إلى أبد الآبدين.
فاض عن داخله، انتفخ، غطّاه جلبابٌ نظيف، بملفحة سوداء دون خلق الله، لزوم الهيبة، ورأس محشو بالشرّ، ليؤدب الوادي أولاً ثم يُغيْر على عزبة إسرائيل في مرحلة النضال الثوري المقبلة بإذن الله.
القوة استدعت المنظمة، والطمع خلق البطانة، والبطش والخوفُ عنوان المرحلة، حزَّم الوادي من خصره .. ناس تخاف ولا تستحي .. والناس في كرب.
يسنّ مطواته وينتظر البشارة، يخرج ليعود منتصراً من معارك تافهة افتعلها أو دبر لها، ليرسخ صورة الكبير المتحرق نحوها والدنيا ضاقت.
العناني الطامح.. الذي يرتب الأرض والسماء لغزوته الآتية اشتمّ رائحته، رائحة الكبير الخائف، المتحفز لهدم الدنيا على رأسه ورأس الآخرين، وحز الرؤوس ليحافظ على رأسه.
يشعر أنه مخنوق، عهده ضاق عليه وحده، بدل أن يتسع ليضم الآخرين، لم يترك له ناصر شاردة أو واردة أو حتى فكرةً.
حدد إقامته، قال له الزم بيتك، من البيت للجامع والعكس، لا عهد ولا عقدة، لا ريح باردة ولا كمون.
حتى الكمّون والفلفل الأسود حرّمهما عليه حتى لا يعطس ويدعي أن الفيض حلّ به.
قالوا خَرفان وادعوا عليه ما ادعوا ليقتلوه وهو حي يرزق، داخل عباءته وجزمته الجديدة، لكن ناصر كان يعرف تماماً أنه ليس خرفاً، وأنه طامح ليسود الوادي في غيبة سيده الكبير، وأنه الوحيد الذي يمكن أن يهيّج عليه الناس بعهده وسرّه، لذا قرّر أن يقضي عليه بطريقته.
أقام المولد، مولد سيدي جلانطه، الرجل الفرنساوي الذي أنشأ الوادي، أحيا ذكراه عنداً فيه لكي يسحب منه بساطه.
وارتفعت الرايات، وغنت الدنيا وزهزهت، والمغني وفَّى وكفَّى..
ينادي بين وصلة وأخرى:
مدد.. مدد يا سيدي جلانطه.. مدد.
ولا أحد، لا أحد يقف في الطريق ليعطي إشارة، أو يلوح بضوء أو ذنب، أو يجرؤ.
وكل ما استطاعه عزت العايق ابن عمه، أن رفض كي هدومه في البندر، يعاتبه من حين لآخر:
عمك عمره ما ساب مظلوم، ولا جه على ضعيف.
يبخ في وجهه.
أنت بتكرهني يا عزت .
..منصب الكبير لُه تمن يا ناصر.
يضحك ضحكة هازئة..
- خليك أنت في الحقن بتاعتك يا ريفو.
وعزت يطوي شاله الملون، يحشره بحنق في جيب جلبابه ويقول:
لو عبد الناصر كان يعرف إن واحد زي ده هيشيل اسمه، كان طلع من التربه غيّر اسمه، ورجع مات تاني .
يتقدم المآتم، يغير على الأفراح، كي تكتمل الصورة.. يأخذ العزاء ووكالة العريس، يجلس مكان وكيل العريس في كل فرح ويرمي منديله، يصر على منديله الذي أحضره خصيصاً للعريس.
وكل ما حاول أن يخفيه طيلة حياته، يتراقص أمامه الآن، يقض مضجعه ويكويه، ينغزه كشوكة في الحلق، وإن حاول أن ينساه:
في كل المرات التي لعب فيها صغيراً مع أصحابه لعبة العريس والعروس، كان نصيبه دائماً دكة العروس، .. تتنهي اللعبة والطرحة التلّي تكلل هامته .
جاءت أيامه لكي يلعب لعبة العريس.
يتمدد في فراكة الأرز التي تركها محروس، والتي سقى منها جوع الغلابة أياماً طوالاً، حوله بطانته، يمسحون جوخه ليل نهار، يأكلون عيشه ببطون مقطوعة .. بوافر الشره، كأنهم يريدون أن يفنوه ليفنوه، صوته عالٍ ولا صدىً.
جاءته أيامه لكي يلعب لعبة العريس، المتعطش لها، كتائه في صحراء.
جائع ... وحين يجوع يهيج، تأخذه قدماه وحيداً، بعيداً عن بطانته، لدار مطلقة أو أرملة، بفلوسه ومطواته، ما ترك واحدة، ومنديله الذي مسح به ذكره قائم في جيبه، يشم رائحته، يفرده ليمسح عن ذهنه طرحة العروس.
.. يعملها ويخيل.
يخرج كذئب نجس، يلعب بذيله في الماء، ليعمي عيون الآخرين.
يطرب لنفسه علناً، والغلابة يدعون عليه بالعافية في سرهم.
يعس في الغيطان خلف الثعابين وخلف النساء، لذته الكبرى حين يواقع واحدة وسط عيدان القمح .. مكمنه القديم.
في الماضي كان يخشى أن يراه أحد، الجبان لا يأمن، يأخذ غلته وفريسته غيلة ويهرب، لم يعد يعنيه أن يراه أحد، بعد أن انتفخ وصدق نفسه، لذته في الركوب بالبطش، وأعواد القمح لا تجرح ركبتيه، بخلاف عيدان الأرز، ركب كل الأرامل اللاتي حصدن عنده الأرز، وحصد كل المطلقات اللاتي غنين عنده القمح، إلا عواطف، العذراء التي زاغت من بطشه.
حبسها طويلاً في صدره، فاجأها عند رأس الغيط، في أول الوادي ومنتصف قيلولته، ركب دماغه وفقد صوابه.
..لا تلمس البيض يا ناصر ،..
لا تلمس البنت يا ناصر.
صرخاتها توقف جناح الطير في قلب السماء، وهو بغشم القوة وارتعاشه الجبان يجرها، كبهيمة يجب أن تذبح قبل أن تموت.
تصرخ، وهو لا يرحم، الخائف لا يرحم، ولا الجبان، والناس الذين نفضتهم الصرخة تسمّروا، انزرعت أقدامهم في الأرض، وأكل الرعب وجوههم.
لم يجرؤ أحد على الاقتراب ولا نوى، إلا ابن أختها الصبي الذي داس على قلبه الصغير، وطار لمواجهته.
وهو يضمها إلى صدره بعنف، يدفعها إلى الداخل بيد، ويده الأخرى تقذف بعيداً بالصبي الذي كبش رقبته.
الولد يقاوم، بين شرف خالته وضياعه، رمية للداخل وباب يوصد.
بكل ما أوتى من غيرة وحمية يضرب، أوقعه مرتين على الأرض، لم يجد قالب طوب أو حجراً صغيراً ينجده، ولا رجلاً يؤازره، وخالته ترفس على الأرض وناصر يحملها، أوقعه ثالثة، والفريسة شرعت في الهروب، سقطت، انكفأت على وجهها، ثم نهضت بحلاوة الشرف في اتجاه الجسر.
لا أحد حنى رجليه وقابلها في منتصف الطريق، والولد همّ بالانسحاب، والمدية التي في رأس ناصر قفزت إلى يده، نترها نترة واحدة، رشقها في كرش الصبي بكل الغلّ، على آخر ما أعطاه شره.
أخذها الصبي في كبده، طار بها برهة ثم انطفأ قبل الجسر، وصرخته الواهنة تلقفتها صرخات أمه القادمة من بعيد.
لا أحد، حلم ثقيل، وكابوس قفز من الراس للكراس.
وهو على كوم السباخ، بقعة شر، هبطت من أين وفرشت فتنتها، ابيضت عيناه وسكنتا ..يدخن سيجارته، هزّه وقوعه على الأرض ثلاث مرات أمام الحوش.
والولد خرّ، بحر دمٍ ولا نفس.
ورعشة لفت الخلق، ضربتهم، سرعان ما ارتجفت وارتجفوا.
وراحت السكرة.
صاح عباس الخولي ناظر المدرسة، صرخ.. اندفعوا كالسيل، فئران مذعورة تحولت لكلاب مسعورة.
سقط رعبهم تحت أقدامهم، داسوه، وناصر طار إلى الزريبة ومذعوراً اختفى خلف بابها.
تدافعوا ليكسروا الباب، والصراخ على أشده، والانتقام يطل برأسه فوق رؤوسهم.
منعهم الصول كمون، صول المركز الذي كان يموت في جلده
من ناصر، وجاءته الفرصة ليقتل خوفه، وهو ينادي:
اطلع يا ناصر، اطلع يا ناصر،
الولد ابنك، وديته في رقبتك،
ماحدش هيلمسك، هاسلمك للحكومة بنفسي .
أشار كمون على الناس أن يبتعدوا حتى يطمئن، وافقوا بصمت، وهم يرجعون للخلف.
- أنا خايف يقتلوني.
.. والله ما حد يقدر يلمسك وأنا موجود، وحسلّمك بنفسي .
ناصر في حال الحال، خائف من الخوف، لا يعرف .. حلم أم حقيقة.
أكلته نفخته الكذَّابة، تقدمته، انتصرت على جبنه وتقديره للموقف.
ما إن انفتح الباب قليلاً، حتى كمشته يد كمون، شده للخارج ،
مضى به وسط عيون جائعة .....................
والمنظمة اختفت، والبطانة.
سرعان ما طار نبوت من وسط النبابيت فوق يد كمون التي انفكت عن الفريسة، فترك ناصر راضياً أو مرغماً للنبابيت، والفؤوس، وما تيسر من مناجل وأغطية حلل.
في غمضة عين، ناصر المنفوخ تحول إلى فتافيت، أضحى منفوخاً بحق، لحمه تورّم، وعظمه تكسر، تبرز نتوءاته من كل ناحية.
جسده الفارع تحول إلى جثة بالعرض.
على أطراف نبابيتهم حملوه، بجوار جثة الصبي رموه، ليشفوا غليل أمه وغليلهم.
ينامان قرب بعضهما، قاتلاً ومقتولاً.
المقتول غطته دموع الخلق، وآخر بطانية مشئومة وصلت من العراق، وهي تلف جثة لأحد أبناء الوادي، عليها علامة.. صنع في العراق ... بطاطين الألفية الجديدة.
والناس بين قريب ينظر بغيظ وأسى، وبين بعيد لا يكاد يصدق نفسه، والفراخ التي هجت من المعركة عادت مرتابة تعبر الجسر، تقترب من جثة ناصر، تتوقف، ثم تنقره في رأسه، في مخه الخارج من مطرحه...
لا تلمس الفراخ يا ناصر..
لا تلمس الفراخ...
(10)
.. قاتل ومقتول في نَفَس واحد، وفي نعش واحد .
نمت من التعب، أخيراً يا ناصر، في نعش كان يخافك عندما كنت تمر بجواره، رقدت بجوار قتيلك أو تحته، على الأرجح نمت تحته، لتكن مرة يتيمة يتنفس فيها أحد في حضورك، وفوقك.
النيابة لم تتأخر كثيراً في قرارها بدفن الجثتين، والمشرحة أيضاً كانت حنونة، احتضنتهما معاً ثم لفظتهما معاً، وسيارة الإسعاف اليتيمة التي حملتهما مكرهة وسط غضب خلق الله، ستعود بهما وسط وجوم خلق الله.
حملتهما وسط نهار أحمر، والليل أفرغ نصفه الآن، أو جاوزه بقليل.
والدنيا رغم الزحام ضئيلة..، ناس سكارى، أتعبهم ناصر في حياته، وأنزل بهم الغمة والكدر في مماته.
رجال جالسون بلا رؤوس، ونسوة غلب سوادهن سوادَ الليل، كأنك صبغت وجوههن بسواد حلل فارغة بعد يوم طويل قضتها على الكانون، وشماتة مختفية خلف المصيبة.
لم يظهر أحد من عائلة ناصر، ولا بطانته، ابتلعتهم الأرض، إلا عزت حبيب الجماهير والذي كان ضد ناصر بأضعف الإيمان ..بلا حول ولا قوة، يتحرك وسط الجموع بهاتفه النقال، الأزمة تنط من وجهه والمعركة تسيل من شدقيه، لسانه يرطن تعابير أعجمية لا يفهمها أحد، فصلها على مقاسه وبرمها على كيفه .. بريفكس بريفاي، الطبيب الشرعي نفى حكاية اسفكسيا الخنق، سندواش،..أي والله أعجزتني الحيل...
وجوم تام ووجوه ممسوحة، لفها طقس خانق مقبض، رطوبة شفطت الأوكسجين من الهواء، وأقدام الناس وأذيال جلابيبهم تشربت السبخ الأسود.
إلا العناني، الذي التحف بعباءته رغم سخونة الجو، لمها جيداً على أكتافه، لم يرمها كعادته، كأنه يلم بقايا سلطته المغتصَبة وروحه المكبوتة، وبين حين وآخر يفرد طرفها على رجليه كأنه يطلق روحه من قفصها.
هو الوحيد الذي امتلأت بطنه، أشعل موقداً، طبخ طعاماً في داره، وألقى من التوابل ما التاعت إليه معدته وشكت حرقة غيابه.. يلحس شفتيه بلسانه، بتواتر، يكز على أسنانه .. يسنها.. كأنما ينتظره ليأكله، يمرج يديه ويسحبها بعنف، بمزاج ساخن:
.. نمت من التعب أخيراً يا ناصر، تحطمت سيوفك وتهشمت مراكبك.
نمت من القتل.
كان يجب أن تقتل هكذا، وفي موعد سابق بعيد حتى يشفي قلبي غليله وترتاح روحي في مراتعها، ..نعم تأخرت كثيراً في السقوط، نار جهنم كانت تأكلني كل يوم، وأعود لتأكلني ثانية، مذ لجمت الوادي بلجام القهر، بعصاك الطويلة
وأذنابك الأشرار الذين احترقت الرحمة في قلوبهم.
الود ودي لو قتلتك بيدي، قطعتك نسيلة نسيلة.. ولم اشأ ولا تمنيت - رغم ضعفي وهواني عليك - أن أراك يوماً مريضاً طريح الفراش، مقهوراً ولا من مجيب.
قتلك غسل مصاريني إلا قليلاً.
قَتلْتَني حياً ألف مرة كل يوم، وأنا أخطو كل خطوة، من الباب للجامع، قتلتني بنظرات الناس، الذين شمتوا فيّ مرة، وأشاحوا وجوههم عني آلاف المرات.
لو أنهم قتلوني مرة واحدة لاسترحت، مصمصة شفاههم، همهماتهم فيما بقى من ظهري، وأنوفهم المقلوبة انغرست في روحي.
هكذا الذئاب تموت، مت ميتتهم، مقتولاً.. مرمياً على كوم سباخ يليق بك، وسط صراخ المرعوب وتهليل الشامت، وتنهيدة الراحة للذي نالته منك غصة أو عضة.
وَحِّدووووه.
يشمخ بأنفه ويصيح، بل يصرخ بالحرقة، وحدووووه....
طويلة شامتة،، منتفضة..
ينفض السباخ عن ذيل عباءته .. يمعن في الأرض، يمد بصره عليها، أرضه التي حصل عليها من سيدنا، وقاسها ليلاً ونهاراً بالشبر...
راحت السكَّرة، وجاءت الفكرة يا عناني، أخذتك العزة بالإثم، كدت تعطي لناصر العقدة كي يفكها، كنت تلعب بالنار وبالخوف يا عناني، ناصر ليس محروساً يا عناني، ..كنت تلعب اللعبة نفسها مع اثنين متضادين تماماً.
كان يمكن أن يفكها، أمثاله يفكون كل العقد، إلا عقدة صنعها بنفسه، وحين يكبر يحاول أن يمسحها ببطشه، رغم أنها تقبع في روحه الخرقاء.
جبروته أعماه،.. جبروتهم جميعاً، الكبار، الكبار الفالصو، الذين انتفخوا فجأة مثل بالون، لا يرون شيئاً سوى الفراغ في داخلهم، يرونه قوة ومنعة هم جديرون بها، بأسٌ داخليٌّ يسكنهم، يرون كل شيء إلا أنفسهم على حقيقتها، يرونها في عيون الآخرين كما صنعوها، وكما يريدونها هم.
.. لا .. لا يا عناني، أنت لم تكن لتعطيه العقدة، ولا شئت ذات يوم، كنت تشم بمكرك الدفين أنه يكرهك، ويكره الهواء نفسه.
ناصر ليس محروساً، الدنيا لا تسع أحداً غيره، جاء ليشطب كل الأسماء والأرقام، حتى اسم محروس ورقمه، ليكون هو الرقم الوحيد.
يا عناني، السيد قال: السر للعاشق ليس للكذاب، وهو لم يكن عاشقاً غير عشقه للدم، تركيبة بلطجي وخطاف، معجون بماء زنخ، حار، ماء الهمجية ونطفة الخطف.
خطف كل شيء، الزرع، البهائم، البشر، رجالاً ونساءً، .. حتى الهواء خطفه.. الهواء الذي لا يعرف أحد سره غيرك.
وحّدوووه
وحّدوووه.
خطفه، وخطف سرك معه.
من أول طلته على الوادي كنت تعرف أن الذي أتى، أتى ليأخذ منك كل شيء دون أن يوقظك، وحين تستيقظ ترى نفسك محاصراً بين أربعة جدران، تطبِق عليك كل ليلة... مت ألف ميتة، بألف ليلة يا عناني.
وحدوووه ... يصرخها منتفضاً.. صاعدة من قاع بئر قديمة امتلأت فجأة بعد غيض عظيم.
ولا أحد، لا أحد من عائلة ناصر..
إلا الفناجيلي، الذي اخترق الوجوم وقطع شأفة الصمت، بكفنه الذي تحول إلى لون رمادي، ونبوته الطويل، كأنه هبط من قبور السماء .
لا أحد اقترب ولا جرؤ، عيون شاخصة نسيت القتيل، والقاتل القتيل، وتذكرته فجأة.
والعناني يبخ:
خده معاك يا فناجيلي، ورّيه مكانه، و بول عليه لو عايز..
الفناجيلي الذي انتصب وسط الجموع، بقدمين وحيدتين، يتلفت يميناً ويساراً، يلوّح بشومته ويصيح :
هو فين؟
هوّ فين علشان اقتله الكلب الندل.
يقرفص على الأرض، برجل ونصف، يدوّر نظرته الحائرة إياها، المتنمرة خلف المجهول، يرخى جفنيه كأنه يتذكر..
حينما كانا صغيرين يلعبان معاً، ..الفناجيلي يبني برج حمام لحمامه، وناصر يشحذ السكاكين والأمواس لحمام الناس، وحين كبرا، قدّم ناصر له نبّوتاً ليضمه إلى جوقته، لكن الفناجيلي ردّ التحية بأحسن منها، قدم له شاهد قبر كبيراً، صنعه بنفسه ونقش اسمه عليه.
لم يتشاءم ناصر من أحد قدر تشاؤمه من الفناجيلي، ولم يخف أحداً كما خافه والمجانين..
كان يدرك أن أي عاقل لن يندفع في طريقه،أو يجرؤ على مقارعته.
المجانين وحدهم.. يخشى أن تأتيه نهايته على أيديهم.
حين يرى الفناجيلي أو أحدهم يتحاشاهم، ويغمز زبانيته لطردهم بعيداً.
يخشاهم وشخصاً آخر وحيداً على ظهر البرية، عمّه أبو الليل، يخشى أن ينخسه جذامه، فيطبق جنوناً عليه في أية لحظة،.. أبو الليل الطائر الآن في أبعد مكان، لا يعرف له الجن مقراً، اعتزل قدميه وركب حمارته منذ مات فرج..عكازه الأخير، كأنه يبحث عنه، كأن الأرض دون مسامرة فرج لا تحتاج قدمين.
.. هوّ فين الندل علشان أقتله.
لم يقربه أحد.
ولا أحد يمكنك أن ترى عينيه في مكانهما وسط وجهه.. سحنات زائغة وليل ثقيل.
همهمات تعلو كأنها تعلو باتفاق، خجولة خفيضة، كأنها نصف موجة متعبة، تصطفق لتصعد ثم تنكسر فجأة وتذوب.
الأصوات انحشرت، الصحيح أنها تبخرت، لا حمد ..لا ندب،
ولا مصمصة.
حتى عزيزة العمشة، مسروقة الروح والصوت، لأول مرة تفقد شهيتها لاستعراض مواهبها، صوتها وعدوداتها.
لم تفقدها، تشعر أن شهيتها قتلت، تتمنى في قرارة نفسها أن يتصايح الخلق، أو تنتفض أصواتهم ليطمرها الصمت.
حتى ذاكرتها بيضاء .. انمحت، كأن روح الطفل الصغير خطفتها معها.
.. قولي يا عزيزة، وهاتي من القعر..
وعزيزة لا قعر ولا قفا، تتمايل مذبوحة، تمسح شفتيها بلسان ناشف .. الفرَج لن يأتيها والفرج بعيد، تتمنى أن ترقع بالصوت الحياني، مثلها مثل غيرها، تحاول .. والبئر قاحلة .
انتابتها نوبة بكاء طويلة لم يعتدنها، وواحدة تقول:
الحزن الكبير يسرق المواويل.
راحت تنتحب بقوة، والنسوة غطينها بأكفّهن وهدّأن روعها . رويداً رويداً..تهدأ، تهدأ ..
ويجري لسانها خفيضاً متقطعاً ..:
ابكي على الوصل
ولا ابكي على الواصل
نتفت ريش البدر
والغدر فيك واصل
أصلك ما كانش كده
أصلك ما هوشي كده..
....................................
يعاودها البكاء، صوتها انحبس، والنسوة اللاتي كن ينتظرن إشارة من إصبعها، أو جملة من لسانها، هرعن ثانية يربتن عليها كأنها أم الصبي .
تشيح بيديها، تمسح دمعاتها، وبذاكرة ممسوحة إلا من الوجع:
مين علّمك يا شين
تغدر بزين الزين
أبيض مليح القد
وطلة تملا العين
مين علمك تسرق جفون متكحلة بالورد
تخطف نجوم الليل
الكحل من مَرَدٌه
الوِلّد من أمه
الميّه من بحرها
الشمس من شرقها
والشط من زبَده
مين علمك يا شين.
هي في الداخل ،.. والعناني في الخارج.
وسارينة الإسعاف تزعق، تمحو صوتهما، تسرق قلوب الناس وتبقى رجفتها، عالية متقطعة، تقطع حشى القلوب.
رموا وجوههم ونفروا لمقابلتها، وهي تفسح لنفسها مكاناً بين الكتل التي تمتد أياديها لتلامسها، كأنها تلمس ضريحاً.
السارينه تزعق في وجوههم، يبتعدون عنها فزعاً، ثم يعودون.
الجوامع باتفاق تعلن عن وصولها، وتدعو المؤمنين لصلاة الجنازة، والمؤمنون كلهم باتفاق حولها.
لا أحد في داره، لا امرأة لا طفل.
.. ما تدفنهوش،.. خلوه رمّه للكلاب .
سواد الليل قائم، الفجر كأنه اعتذر عن عدم المجيء، والناس كتلة واحدة، تتحرك.. إن كانت تتحرك، كموجة تدور على نفسها، تعلو وتهبط، وأيادٍ مرفوعة لأعلى لأول مرة كأنها استفاقت من طول خفضها، أو كأنها تعوض أيامها التي قضتها مرتخية هابطة.
..إكرام الميت دفنه.
وصوت آخر في ذيله:
.. سيبوه في العرا من غير كرامة.
الذي يبكي لأجل القتيل، والذي يبكي على حاله، والذي ابتلع صمته لأنه عاش طيلة حياة ناصر يبكي أو محروماً من البكاء.
المأمور الذي قفز وسط عساكره أوسع لنفسه، أوقف الإسعاف بإصبع، ودعا الناس بلهجة آمرة أن يصلوا حيث وقفوا، كان خائفاً أو مقدراً أن تدخل الجثتان الجامع معاً ولا تعودان.
تراجعوا للخلف قليلا.. وابتلعوا همهماتهم .
واحد يقول.. صلاة باطلة.
وآخر يرد.. كله باطل، حتى الصلاة ما يستحقهاش.
أنزلوا جثة الصبي أولاً، صلوا دامعين، علت أصوات
نهنهتهم، انطلق عواؤهم ثم تدافعوا لحملها الى مقرها الأخير.
وجثة ناصر في النعش، كان المأمور يود أن يدفنها أولا ليفرغ سريعاً من الهم ويزيح من على قلبه، لكنه أرجأها راضياً أو مرغماً حتى تهدأ نفوسهم بعد دفن الصبي.
لم يتقدم أحد لحملها.. حملها العساكر والخفراء وحدهم، والناس على الجانبين يهيلون عليه لعناتهم التي خبّأوها طويلاً في صدورهم، وأصوات حجارة طائشة تخبط النعش تكاد تخترقه.
تقدموا بها، أسرعوا، لم يقابلهم شيطان ولا ملاك، إلا التربي الذي تلقفها وأرداها في ضوء ضعيف وسكون قاتل، لقاتل لم يعرف السكون لحظة في حياته.
وصبي يرمح من آخر الجبانة، ينادي:
والله العظيم اللي دفنتوه الأول ده ناصر مش الواد الغلبان .
تدافعوا كجيش غاضب، بعضهم يضرب كفاً بكف،
.. والله العظيم اللي دفنتوه الأول ده ناصر مش الواد الغلبان..
والبعض الآخر كأنه تلقى خبر الموت مرة أخرى:
عملتها حتى وأنت ميت!
وعزيزة العمشة على الأرض، لم تساعدها ساقاها على النهوض، تخبط على رأسها بيديها، بحركة متعاقبة متبادلة..
..حنقروا الفاتحة لمين، ونعدّدوا على مين؟ ..
(11)
.. انت ما بتموتش ليه؟.
يرمقه ..، مشدوداً على السرير، يجثم عليه، كأنه هو الذي يحتضنه، لا يرقد عليه أو يتوسطه، يحيط به والزائد منه يتعدى حوافه.
يراه.. الطبيب، كديك رومي محمر على صينية صفراء، ممدد وسط الأرز، والجوز واللوز .
يلمحه، وهو يعبر الردهة الجانبية للمستشفى، حيث يكمن، ينظر اليه بريبة، يدِّبر.. كيف يمكن أن يوقعه في يده مرة أخرى، مرة واحدة، بعد أن منعته المستشفى من مراقبة حالته وكفت يده عنه، بعد الفصل إياه الذي غطى فيه وجهه وأعلن موته، وبعد ما كشرت له إنصاف عن مخالبها ووقفت كقطة شرسة على باب الغرفة.
يكاد ينطق..
..مرة واحدة وأخيرة .. تكفي لقطع خبره عن الدنيا.
وهو كما هو، يهمس بهدوء المتمكن، ولوعة الواثق.
.. والله ما حسيبك يا عبد ال....
هو انت لسه حتسيبه؟
إنصاف تقترب من أذنه:
انساه، انساه يا محروس، وقوم بقه من فرشتك.
هل عليك أن تتذكر كل شيء يا محروس لتقول وداعاً.
هل عليك أن تجر حبل الكوابيس من مخادعها؟، وتسحب المخدة من تحت رأسها.
اتركها، واقعد في الأحلام.
حتى الأحلام قد تفقد حرارتها إذا ما أوقِظ النائم فجأة.
تبقى الكوابيس.
فقط الكوابيس، وعبد المقصود كان كابوساً، لكن النهاية قالت إنك كنت كابوسه، لماذا تقلب اللعبة؟، اللعبة التي أراد عبد المقصود أن يلعبها في حياتك وحياة الآخرين.
عبد المقصود الذي طلع في المقدر مذ طلع من البيضة، يمشي، يدكّ الأرض تحته في حياة أبيه، ويهدّ حياة الناس بعد مماته... غول وانشقّت الأرض عنه.
.. يا عبد المقصود الكلب.
عبد المقصود إيه وزفت إيه، قوم يابا.
تناديه بالكلب الواطي، من كان غيرك يجرؤ أن يناديه بذلك ولو في منامه، وهو الباشا ابن الباشا، راحت الألقاب من الدنيا كلها، وبقيت له.
عود خيزران ممشوق، بحمرة وجه وخضرة عيون على غير العادة، وعصا قادمة من البلاد البعيدة، وبأس وهيبة تغطي فدادين.
ألم يفرد فلوس أبيه على الأرض في صالة الدار؟، رفسها بقدمه، بعثرها وصرخ:
يا أرض اشتدّي.. ما عليكي قدّي.
وقف فوقها وعلا، علا، .. لكنه حين رأى أن المسافة التي تفصل بين رأسه والسقف ما زالت بعيدة، قرر أن يملأها، وبسرعة، أياً كانت الوسيلة، وأن يخرم السقف برأسه ليطل منه على جماهيره في عزبة إسرائيل، حلمه الحقيقي، الذين قرر وحده في لحظة قديمة أن يكونوا جماهيره، وأن يكون معبودهم.
الزعيم يحتاج جماهير، والإلهُ عُبَّاداً،.. وحده الإله من البشر يحتاج عبيدا.
اشترى كل المناصب، استولى عليها، فاتته وظيفة مفتش الصحة لرداءتها، وركب على رقبة الجميع.
وضع صورته على علب الكبريت، ووزعها في انتخابات لم يترشح لها.
وتعالي يا دنيا من أوسع باب.
يشتري كل محصول القرية، قمحاً وقطناً وأرزاً، يستولي عليه وعليهم، ما من عين رمشت، ولا نظرت في غير اتجاه.
الحكومة بطيئة، وفلوسها شحيحة عزيزة، تأتي - إن أتت- متأخرة بعد السنة بسنة، والناس هنا في عوز العوز.
يدفع مقدماً للجميع، يضع في خانة كل واحد في الجمعية الزراعية، الحصة التي تفرض الحكومة تسديدها، ويخزن الباقي.
يشتري بالأبخس، ويبيع بالأغلى.
والناس الذين عاشوا مرتهنين للحكومة، نقلوا تبعيتهم وولاءهم، .. بل نُقلت:
عبد المقصود هو الحكومة، والحكومة عبده.
حتى البنجر الذي يباع بالشيء الفلاني احتكره وحده، أجر أراضي الناس بكراً لصالحه ومقدماً.
تعالي يا دنيا وهات يا فلوس، غرفة كبيرة، خمسة أمتار طول في خمسة بالعرض، كسيت من الداخل بالقيشاني حتى لا تدخلها الفئران، يضعون الفلوس في أجولة، توزن وترمى داخلها .
لعبت الدنيا برأسه، ورأسه لعب بالجميع، أعطته الدنيا الغنى، وسمعة الغنى يجب أن تبيض يا عبده، تبيض عزاً وسلطة، سطوة وطاعة..
الفلوس وحدها لا تكفي.
هناك مرحلة جديدة، والجماهير يجب أن تسمع صوته.
فرش له أحد زبانيته الفكرة، .. لا أحد يخرج من داره بعد صلاة العشاء.
أول ما شطح نطح.
من الثامنة وحتى أنصاف أنصاف الليالي، حتى مطلع الفجر، الدنيا لعبد المقصود وحده يقلّب فيها كيف يشاء.
وزبانيته في داره بعد أن ينام العبيد، يأكلون على شخير المغلوب ونومة الخائف.
فرض حظر التجول كأسوأ ما يكون، وطبقه كأفضل ما يكون.
أدّب الناس بسطوته، أرعبهم بحس الحكومة، وأية حكومة .. حكومته.
حكومته السريعة في حقه، الغائبة في حق الناس.
ولا أحد.
لا أحد فرد جسده المحني بعد ذلك
فرد زكائبه على الأرض، وجد رقبته قد طالت السقف.
يضحك كفيل مجنون.
أضرم النار في ورقة بمئة جنيه، أشعل سيجارته وزعق:
قولوا لربنا لو الفقر طار بحصان ورايا، مش حيلحقني.
.. استغفر الله العظيم.
زبانيته من خلف خلفه منتشون، وواحد يقول في سر سره.. كافر وابن كافر، استغفر الله العظيم.
للغنى سيقان، للفلوس مسالك..الغنى نعمة، الغنى همّ، إذا لم يجذب بأصابعه الطويلة وأظافره الرفيعة غنى آخر في واد آخر.
سنة بعد سنة، ضاقت به الأرض وضاق بالعبيد، هم هم، لا يشبعون حلماً ولا يطيّرون كابوساً، قرر في لحظة يطرقع فيها أحلامه أن ينقل نفوذه وفلوسه لبقية البلاد.
خطة بجناحين.. أن يقف على الفلوس ليمد رأسه خارج السقف كي يراه العبيد، والآخر أن يمد نفوذه خارج الأرض لتتبعه الملائكة.
فليبدأ حملته بوادي جلانته، وادي محروس، رأس الأفعى، استيلاؤه عليه كفيل باستيلائه على بقية الزمام.
إذا أخذت الرأس أخذت الكل.
يتبختر في وهمه، وإن كان يؤلمه ويمتد سيفاً في بطنه،
حكايا عزبة إسرائيل.. عزبته، عن الوادي ونعمته وهدوئه ورجله.
كاد يصيبه الشلل، نسي الفلوس قليلاً وانشغل بمحروس.
أصبح همه وغمه، وإن استغل الأولى، اللعبة الوحيدة التي يجيد لعبها لصالح الثانية.
ظنها سهلة، ومن لا يشتريه الغموس تشتريه الفلوس.
غارق في وهمه، وهم لذيذ، يتخيل كيف يصبح سيداً لقرى المركز عن بكرة أبيها.
كل صباح يشعل شيشته، يضع ساقاً على كرسي، يخرجها خارج حافة البلكونة..
ما ستدفعه بالشمال ستأخذه أضعافاً باليمين.
وانطلق.
قفز على معظم الجدران، ووفى، لكنه اصطدم بحائط غريمه المتين، فرد محروس طوله ونخوته، قاد الناس، الذي احتاج أعطاه، كان يعطي من قبل ودائماً، لكن هناك دائماً حفرة شاغرة لضعاف النفوس والخونة، والمؤلفة قلوبهم.
تبرع بأرضه، وانتزع المستشفى التي قاتل عبد المقصود لإنشائها في عزبة إسرائيل عنداً فقط في محروس، وكسر عظم لا حاجة للناس.
دخلنا في الجد، الأيام تغلي وعبد المقصود يغلي، يفور، الناس تتفلّت من بين يديه ونقوده، يأكلون سمنَه ويصلّون وراء محروس.
لم يجد باحة تنصفه يقارعه فيها، ولا وجد في نفسه عند الوطيس من يستطيع أن يصارع مصارعة الرجال، مفتري سادر في غيّه، لكنه نصف جبان.
الغيظ يحاوطه والهم راح يأكله، راح يأكل بنهم ويزيد، ومحروس ينحل.. يفكر ويصبر، ويصفو ذهناً وجسداً.
واحد يسمن كبراً وحقداً، وواحد ينحل كرامة وعناداً، والناس كعادتهم دائماً يلعبون على الحبلين.
والوادي واطئ، يسحب مياه الزرع كما يسحب مياه الشرب التي تتدفق من الأعالي، من المواسير المارة بعزبة إسرائيل.
قرر أن يقطع الماء بليل، كل الماء، ليكشف ظهر محروس أمام الدنيا، وليغرقه ومن معه في عطش .
لتلسعه فيما بعد حبات العرق الأخيرة في أبدانهم، وتشفطه.
قطعه،.. وعطِش الوادي.
مدد ساقه الأخرى، مدد ساقين معاً، يسمع نشوان نواح النساء وولولتهم، يتسمع ألمَ إنصاف الرجال الذين ذاقوا مرّه.
رمى بورقته قبل الأخيرة، خطته القديمة، أن يأخذ جماهيره معه في لعبته، سخّن العبيد... المعركة الآن بين العزبة والوادي، حبل الأسى طويل وعلى الجبهة الداخلية أن تتوحد، وأن تؤخر شكاواها ومطالبها، بل ترميها خلف ظهرها وتحت سنابك حميرها، لما بعد المعركة المصيرية.
كان يعرف أنها معركة، وكان يدرك أنها مصيرية.
المفتري أزاح الجبان فيه قليلاً، لذا لم ينتظر المواجهة، المواجهة التي كان يخشاها وأشعل فتيلها.
استأجر من استأجر لقتل محروس، وليدفع ديته ماءً.. ومالاً للوادي.
ورقة قديمة كان يدبرها كل سنة، تحترق بين يديه وتفرقع في وجهه.
رفض من رفض، وهزأ منه في سره من هزأ، والذين طاوعوه مصوا دمه وأعصابه.
يدور كصياد مجنون، يرتعد من بقاء طريدته حياً، يعرف أن محروسَ لن يتركه.
سيطاله .. سيطاله.
.. قرر أن يشتري الجميع، الذين يكرههم والذين يكرهونه.
هبط رأسه تحت السقف، أقام الولائم، دفع للعبيد نزراً يسيراً مما امتصّه من دمهم ،.. وأصابع الزمّار تأبى أن أن تغادر ساحة اللعب.
لكن ذيل الكلب لا ينعدل، ومن في طبعه النقصان ينط منه ولو داراه، وجراب الذئب لن يعدم العواء.
جاءوه بامرأة تجمع من أرضه حفنة قرون من الشطة، لمخللها، ولطبق سلطتها الفقير.
كمشوها عند أول قرن، أمر أن تشلح حتى العري، وأن تضرب بالكرباج.
واحد من عصبته يقول:
.. دا مش وقته يا باشا
دا وقته ونص.
وواحد من مريديه انفلت لسانه:
.. بلاش تضربها بالكرباج يا باشا وهي عريانة.. عيبة في حقك.
أحطّك معاها، الكرباج ده نبّوت الحكومة، للتأديب وكسر المناخير، ولمّا تبطّله الحكومة حنبطله.
وهي تصرخ:
أبويا مات في أرضك، وجوزي كمان.
يدور كقاتل أجير، يرتعد من بقاء قاتل يدافع عن أرضه، ومحروس يدور أيضاً، بحزن صادق، لا يحتاج ضوءاً ليظهره:
.. ما بال هذا الوادي، كلما لاح فرحه تدهسه النوائب، وحتى أهله خائفون من معركة حقيقية لا يستحقونها، لا يستحقون الحياة دونها، يتقاتلون على الصغيرة وعند الكبيرة يهربون ويقعدون .
الميّه! ... كله إلا الميه..
المره.. كله إلا المره.
قرر أن يذهب ولو لوحده، يعرف أنه قد يتعرض للقتل، لكن حسه بالحرية قتل حذره.. الموت بالنار ولا العيش العار.
والكرباج على ظهر المرأة، وهي تصرخ:
عامل راجل على مره،... الحقني يا محروس، استر عرضي.. اجرني الله يجيرك.
كلّ لسعة كرباج تنادي: يا محروس، صوتها يشق السماء، ونساء يلطمن الخدود، لم يستطع أحد أن يخلّصها أو يتقدم، وضعها على عربة كارو لتلف بها العزبة.
ومحروس في الطريق.
وحده يصعد في اتجاه العزبة، وهم في أثره بالنظر مكتفون .
المعركة معركته، وعبد المقصود يريد رأسه وحده، ليس خلفه سوى أبو الليل، فرج، عزت، الفناجيلي، وعزيزة العمشة.
سرعان ما انفكت قيودهم، وانقشعت غمامتهم، تبعوه، كلهم من الغلابة.
والمرأة تعوي:
... يا محروس
فكّها أولاً، لفها بعباءته، والغلابة اتجهوا لمحابس المياه.
.. أنا قلت مش حاسيبك يا كلب، مش حاسيبك .
لا أثر لعبد المقصود، زباينته وزبائنه، هاموش واختفى.
قال العناني فيما بعد، وهو يفرد روحه إلى ما بعد العزبة، إنه مات من الحسرة.. سقط طريح الأرض التي اغتصبها، والجوعى الذين لهف حقوقهم، خرج الدود من أنحاء جسمه وعربد، وضعوه في حوض مراهم ليبرأ، انحشر فيه حتى ابتلعه الموت.
وأبو الليل ينظر ناحية العناني، يضحك ساخراً، ويقول له:
أنت اللي عايزلك طشت مراهم .. أنت ألعن من عبد المقصود بطوفين.
يسرح.. الناس كانوا يفكرون في المياه، ويحكون عما جرى للمرأة.. وهو صعد خلف محروس لأنه محروس، وليفك قيد الليل - ولو في عزبة إسرائيل- من يدي عبد المقصود،.. الليل الذي يمتلكه وحده في أي مكان في الكون، واعتقله عبد المقصود من خلف ظهره، رغماً عنه.
... أنت ما بتموتش ليه؟!
النعش ليس على باب المستشفى، ومحروس ممدد في سريره، بوجه مرتاح، عليه النظرة نفسها التي عاد بها بعد أن فك قيد المرأة، كأنه أخذ حقه من الدنيا كلها، لا من عبد المقصود وحده.
يرفع يده السليمة لأول مرة، بحركة خارج سياق الترتيل.
وإنصاف تقترب منه، تفكر لو أحضرت حلة ماء لتحممه.
يصرخ فجأة، برغبة لا يحسها إلا من أوشك على الرحيل:
..........................................
تردّ :
فيه بدل عبد المقصود ألف عبد المقصود، ارتاح ..
والطبيب الجديد يكزّ على أسنانه، يكاد يغرزها في شفتيه.. يبرطم، والممرضة تستوضحه باستغراب!
بيشتمه ليه، وبيقول عليه كلب بعد ما مات؟
.. وأنت زعلان ليه؟ هو كان أبوك؟
ينظر في عينيها طويلا ويغيب، يكاد يومئ، ثم يمضي.
(12)
الغاوي ينقط بطاقيته.. لكن الطاقية لن تشفع ولن تنفع في هذا الوقت حتى لو باضت وأصبحت عمامة، وحتى لو طارت وأصبحت يمامة.
امرأة صلبة، دماغها ناشفة حديد، ووجهها الحليب راح ينشف منذ وفاة زوجها حبيبها، زوجها عشيقها، أكيد أكيد من أول ما بدأ الجماعة إياهم يتقاطرون خلفها، واحد في ذيل الثاني ،... والذين انتظروا مرور أربعين المرحوم قلة، والذين انتظروا انتهاء العدة أقل.
الذي برم شنبه، والذي لبس ما على الحبل، جلباب أخيك شلبي، والذي ترك الغيط على حاله ومواله، وضرب صحبة غصباً عنه مع المعلم حسن الفِشلة، بوجهه الكشر وقفاه العريض، وجالسه على دكته مضطراً أمام دكانه حيث تمر عشية وضحاها، وإن أخرج محفظته وطرقع مفاتيحها بين حين قريب وآخر ليشتري فولاً أو عسلية حتى لا يضرط الفشلة، ينهي المقابلة ويسكّر الدكان، بعد أن يسحب الدكة من تحت صاحبنا دونما استئذان.. وهو يغمغم.. كلاب سعرانة بصحيح.
ما من مرة تركها لأحد رغم المحايلة، أو الادعاء بحجة انتظار صلاة الظهر.
الذي صاحب لواحظ صاحبة دكان الخضار، وجلس على قفص فارغ عندها، والذي،.. والذي..،
أيام وشهور.. والغاوي ينقط بطاقيته، وهي .. بعد أن اجرَّب الأسود عليها وكلح، لبست الكحلي الغامق ثم الفاتح، فهاج بياضها المحمرّ، وسبقتها شَرْطة عينها،
رفعت الطرحة الشبيكة أعلى فمها، فتركزت الأضواء على العيون والحاجبين والمناخير النبقة، وتركت لفمها أن يعلن اكتمال البدر حين تُرخي الطرحة لأسفل، ساندة خدها على كفها الشمال، أو حين ترتخي الطرحة وحدها وتتهدل حافتها من فرط سخونة الالتصاق، فيما إبليس وجنوده يمرحون.
.. الحليب نشف في بزي من زمان.. قالت له بعد أن تعبت منه المراسيل، وغُلب حمار الخاطبة منها ومنه.
تجاوزهم، تركهم للآخرين، وفاجأها..
.. حليبك نشف من البز، لكنه مرعرع في كل مكان، ابنك ابني وأنا شاري.
أيام وشهور، الذي رمى بياضه، والذي وسّط لواحظ وأم لواحظ، والذي أرسل لها جوال البصل، وأربع كيلات قمح من الغيط مباشرة حتى لا تدري امرأته.
تكرّ داخل الوادي على رجل واحدة، تفر من العيون وتفر إليها، تشبع امتناعها وترطب قلبها الميت، وبعود ملفوف لا تتغنج قاصدة، لكنها أشياؤها تكاد تنفرط منها في كل اتجاه.
توسع هدومها فتفضحها الريح، تضيقها فتأكلها .. ويتبادلن القتل.
شنبات الوادي بربطة المعلم، على داير شنب، من شيخ الجامع حتى عبد الحي ناعسة، العربجي الأوحد- اسم زوجته التصق به- يستندون برفق وبغير رفق على مراودهم.. ومحبرة واحدة.
محبرة واحدة من عينة غزلان، كانت كافية لأن تشحذ السيوف، وتنفض المقالع في الرايحه والجايه.
فكرت أن تمتنع عن الخروج، ولمن تترك صغيرها وأمها؟.
حين ضايقها شيخ الخفر مرة، ومدّ يده على فتحة صدرها غفلة، نتشتها، مزعت الجلباب من أعلى، شقته نصفين حتى نصفها:
ارتحت يا حكومة...
وبصقت.
الذين رأوا اختشوا، وإن سال لعابهم ومرت ألسنتهم على شفاههم عجلى، والذين سمعوا هاجوا وركبوا نساءهم، والنسوة غرن ودعون على الحنفية العمومية أن تغور المحروسة من الوادي.
فكّرن أن يقتلنها بأغطية الحلل، والدم المشترك حلال، لكنهن تراجعن خوفاً وطمعاً بعد أن تأكدن أنها غير راغبة بالفعل، وبعدما شقت قميصها للحكومة في قلب النهار.
وهم بين المتلمظ والمتلظي، شعروا بالفتنة بعد أن أخذتهم الفتنة، خافوا ان يقتتلوا بعد أن تكاشفوا وجهاً لوجه.
وجملة أبوالعشم ترن في قلبها، وقلب الوادي:
الحليب نشف في بزك من زمان، لكنه مرعرع في كل مكان.
أبو العشم الذي يحمل رجله الثالثة على كتفه ليل نهار، لا يفكر بشيء إلا بها.
ولأنه من الذين يعبرون الفتن ولا يبتل، كالعجل في بطن أمه، راح يحمص الحطب ويقدح الأحجار، غزلان الغزالة تستحق، ينتظر على ماء بارد مرة وعلى نار جهنم مرة أخرى، ليأكل البطة وحده، البطة التي تزوجها دياب العُكّش قطة مغمضة، في السر، غصباً، وفاءً لدين أمها الذي ناءت به، وما من باب رزق لترده.
فتحت له رجليها.. ونامت، وتركته وحده يشتعل ويشتغل.
وحين ذاقت لذة العشق، وطرف عينها منديل يس العاشق، الصياد العايق، الذي رمت نفسها في شبكته قبل أن يرميها، خيرت زوجها بين الطلاق أو الفضيحة، رفض، قتله العاشق، دفنه في غرفتها تحت سريرها، لا من شاف ولا من دري، وناما معاً فوقه، وماء المحبرة الذي فاض وسال روى قبره ليلتها وباقي الليالي.
ولأن التبات والنبات لا يعمر طويلاً فوق الدم، ولا يزهر فوق مجراه، أخذته حبة طماطم مسمومة وجابت أجله في لمعة عين.
وهم كما هم، الذي كلت مراسيله، والذي اشترى لابنها كسوة العيد، لكنها شدت المزلاج، أرخت الستارة على النافذة، وأقفلت المحبرة بعد أن سالت منها ولها الدماء غزيرة.
في الليل البعيد، بعد منتصفه بمنتصف، تخلع ثيابها، قطعة قطعة، على مهلها، على أقل من مهلها، كما كان يفعل العاشق بالتمام، يخلع قطعة، يقبّلها، يخلع أخرى، يحتضنها، يخلع الباقي والباقي قليل، تصدّ يده بدلال، تخلع القليل وحدها، لتصفو له بسرعة.
وصوت ارتطام مفاتيحها يضرب السقف بعد أن فتحت بها أبواب الجنة.
هي الآن تخلع، تسحب شبكة صيده من تحت الملاءة، تنام عليها كل ليلة منذ فارقها، وعلى جسدها الحار ترميها، ليصيدها، تتطلع في المرآة، تلف نفسها لترى جسدها، لتراه، حيث سيخرج من المرآة كعادته، يلف ظهرها ويحتويها .
والعاشق في البعيد، هناك تحت التراب.
تسقط على الأرض، على عين المكان الذي واقعها فيه نصف لياليهما، دموعها أنهار، دموع العينين، والعين الثالثة... حتى يمتزجا، ثم تنام.
شهور وشهور، الذي يلحم الجزم البلاستيك يربض عند باب دارها ويقيم محرقته، وهي وإن عافت، لكنها تشبع حمى جسدها أحيانا بهؤلاء الذين يتمسّحون ببابها، بأحذيتهم المقطوعة المنهكة، لينالوا فرصة للحديث أو خيطاً طويلاً للعودة، وكلمة يس ترن في أذنها:
حلوه، وريقها حلو.
تصرخ من عمق كعبها، شريط حياتها مثقوبٌ بحوافر الألم، ليس هناك متسع لجرح، وجرح الأنثى يغلي، يغلي ويتسع، وما من كبير ليطفئه ،ما من محروس ليرتقه.
لم تعد تخرج إلا لمحروس، لطلب عنده، تحيك حكايته، وما من حكاية، ومحروس يسمع وعينه على الحائط، يلبي طلبها ويغض طرفه، عرفت برادارها أن الراتق لن يخيط ثوبها.
تعبت وتعبت روحها، وللجسد نداؤه، والباب مقفول يكاد مزلاجه يفلت.
وأبو العشم بقرنه واقف على قرن الليل ،.. من يصطاد غزالاً يحتاج صبراً، يلاحقها مرة بعد مرة، داره تجاور دارها، لا يريد لأحد أن يعرف قبل أن يمضي، يريد أن يفطر بها قبل أن يبين في عينها عشقها لمحروس، فيرتد إليه طرفه.. لن يستطيع أحد أن يقفز على قناة محروس، ولو لم يكن بها قطرة ماء.
هي أيضاً خافت وأنهكها التعب.
للعشق قانون، وللزواج أحكام... ومضى.
لمحها من شباك الغرفة التي تفصل بينهما، تحمل حذاء ابنها، لبس العباءة على اللحم إلا من صديرية، خرج وألقى السلام، وضع حذاءه أمام اللحام بعد أن شقه بالداخل، انحنى على ركبتيه في مواجهتها ومجانباً اللحام.
من هول المفاجأة تسمرت عيناها، لم تحول وجهها،
أمعنت وأخفضت، كان مقلاعه يكاد يعبر حافة ركبته مصهللاً من مفرق العباءة، أدارت وجهها بسرعة للحام الذي كان منهمكاً في تسخين السيخ.
عادت بوجهها، كان سيخه متأهباً ليفتح المفرق بدلاً من أن يلحمه.
أخفت نصف ابتسامة على عجل، ابتلع وجهها غمازاته وأبقى خجل الفرحة.
أرسل لها بعد صلاة العشاء.
وافقت.
تذكير:
كان لا بد لعزت من تكملة، ليس من المعقول أن تطوى صفحته هكذا، صفحته الملونة وخبيئته العامرة بالمرتفعات والانحناءات، وطعم الملبن الذي يقفز من تحت الأثواب لطرف لسانه.
نعم، ليس من المستساغ أن تطوى صفحته هكذا، جنب حائط يسند ظهره، بطلاً من ورق وحكايات غابرة.
فالوهم لا يبلى، وحتى إن طار يطير تابعه وراءه ليلحقه.
جنب حائط قديم يجلس، طالتهما معاً يد الزمن، كشطتهما معاً، الحائط خلعت قشرته وظهر الطوب على أصله، مستوياً أو ناتئاً أحياناً، متهدماً من حوافه ووجهه غالباً.
هو أيضاً تجعد وجهه ومالت بقية أسنانه، وإن بقي طيف من عياقته ورونقه.
يوقد ناراً وسط كومة أحجار سقطت من رفيقه، كوّمَها كي لا تنطفئ ناره هو.
حكايته طويلة وحباله أطول، بوجوهه المتعددة وأسمائه الكثيرة، من ريفو حتى عزت حركات، غير أخرى لاكتها الحواديت وطارت .
خانته مثلما خانه جسده، لكن روح العفريت لا تموت حتى وإن غيرت فانوسها أو صدأت جدرانه.
.. آآآآآآآآآآآآآآه..
يقذفها كصيحة ذئب قديم، وهم حوله كعادته .. كعادتهم.
يعتدل ويمتلئ ليملأ خزانته .. ليصدق نفسه، يحكي.. أبوزيد زمانه ولا زناتي خليفة ليرده، عزت كل الفصول، لا ينضب.. الجسد عاطل واللسان عامل .. شغال على آخره، والآذان مرتفعة.
يحكي ويكسر حكايته بالضحك، يضحك على ضحكه، وهم حوله في نصف دائرة، خرجت ألسنتهم ونشف ريقهم، أفواه على البحري دون أن يدروا ..ثم فجأة وبدون سابق انذار، بحركة خفية يمد يده في جيب جلبابه عابراً الى لباسه الداخلي، ودون أن يشعروا، يخرج صاحبه من فتحة سيالته، برأس كبير كتفاحة حمراء، ويقول بثقة بطيئة:
لو دعكته في بتاعكم كلكم هتبقوا زيي.
يسحبه بسرعة.
وواحد يقول لمن يجاوره:
راسه عامله زي كبدة دكر الوز.
في عز الانهماك والنشوة قد يخرجه من تحت الجلباب فرجة للجميع ثم يغطيه، والحسرات والشهقات تتبادل مواقعها .
وآخر يضرب رأسه بقبضته:
فيلم.. والله فيلم.
يسرح، يكاد يضرب الأيام لتعود للوراء.. الأيام الحقيقية هي أيام الشباب يا عزت، طوال عمرك كنت تجلس وسط هؤلاء كملك قابض على مملكته، جنب نفس الحائط.
هو وحلمه معاً، لا شيء يردعهما، كلاهما يطارد الآخر.. يغطيه، والدنيا سلف ودين.
تقلع له عين ويذهب إلى مصر الواسعة، تتعرف عليه الممثلات والمغنيات، يرين بضاعته وأداءه الفريد.
رجله في منتصف النفق، بعده بكثير، لم يبق عنده إلا بضع شعرات سود تسبح وسط بحر بياض وأسنان ببوابة واسعة واحدة منها فضة، وعصا ينكت الأرض بها، لكنه لا يعترف ولا يريد.
يفرد جناحيه، الطائر لا يمل التحليق، يغزو البندر بلا ممرضات ولا مؤخرات، لكنه لا يعود خائباً ولا تنقص حيلته، يأتي بحجر جهنم.. يطحنه، يضع عليه تحويجاته الفريدة التي ابتكرها وادعاها.. يعطي الرجل قوة خمسة أحصنة ونصف.. حكى عنه عشرة أيام دون أن يروه أو يلمسوه من بعيد.
يقول وقد رجعت الحمرة إلى وجهه :إنه سقط من السماء على السعودية والعراق بعد الحرب، ويباع هناك في السر.. وبالغالي.
- وده ينفع للبهايم يا عم عزت.
.. والحمير كمان يا بني.
جنب نفس الحائط، يتبادلان الأيام والتجاعيد، حتى جمهوره تبدل، من كل الأعمار الآن ..شباب وشيوخ، كل يحلم أن يدعك الدنيا بحجره،.. يمد يده خلسة يتحسس شيئه الذي شاخ، لا رأس تفاحة ولا دكر وز، يعرف جيداً أن لا حجر جهنم ولا كل بيوت جهنم سوف توقظه من سباته الأبدي، وأن الآهة الحقيقية في قلبه، لن يسمعها سواه.. يطلقها لمرة أخيرة :
.. آآه، لو ايدي توصل للناس اللي فوق.
- قصدك رجلك يا عم عزت.
انتهى التذكير.
(13)
.. أموت مكانك يابا.
اخفضي صوتك يا انصاف واهدئي، لا تقلقي منامه، لا تقلقي موته، ليأت الملاك، ليأخذ كل شيء دون أن يوقظه، ولا تنبحي..قلت لك، لا تنوِّحي، ليكن ذلك من أحد غيرك، وليكن على رجل، أي رجل غير محروس.
هو الآن ينتفض، ربما انتفاضته الأخيرة، يطيح بكل القارورات على الأرض دفعة واحدة، يزحف بجسده نحو الجدار السامق إياه، يقترب سريعاً من الحافة بإرادته، لينهي هذا الصراع، يختم أوراقه، يسلم أختامه ويمر، أو ليصرع هذا الموت صرعة أخيرة ويعود.
اخفضي صوتك يا انصاف، هو الآن يعلو عن السرير، يعلو ثم يعود سريعاً، يرتطم، يعلو أكثر.. روحه تكاد تفلفص منه، ذراعاه تكبشان شيئاً، تقبضان عليه، يكاد يفرمهما ببعضهما، ويده اليتيمة تقبض على شيء آخر، يشده، يشده ،وأسنانه تكز، يرمي به الآن ناحية الشباك، يفتح عينيه بقوة المنتصر الذي اطمأن، ثم يرخيهما ببطء.. ويعود.. يعود، كأنه كان يحلم .
.. أموت مكانك يابا.. أموت مكانك .
- ما حدش بيموت مكان حد
أبو الليل الذي لم يقرب المستشفى، ولا عتبها برجله، هبط فجأة كعادته، لا أحد يعرف متى يظهر، ومتى يختفي كأنه ينتظر هناك عودة محروس للوادي في أية لحظة، يعرف أنه بعد أن يودع ليله عند الفجر ويأخذ طريقه للعودة، سيجده أمام الدار، أو مارقاً من أحد الشوارع لينظم للخلق خطواتهم.
كأنه حقيقة يعرف أنه لن يموت، يكاد يكون الوحيد الذي يوقن أن الوادي لن يترك روحه بعيدة عنه، ولن يسمح لنفسه أن يتيتم من سيده، ويقعد عارياً يفلّي القمل في رأس الصيَّع والجرابيع، و حتى الملائكة لن تقدر عليه.
حتى العناني كان يؤمن بذلك، ولديه الدليل، إن مأمور المركز بجلالة قدره لم يستطع أن يمس شعرة من شنبه، ولم ينبس رغم وجوده بين عساكره وأتباعه، حين هبّ فيه قائلاً:
قسماً بالله أقدر انقل المركز من مكانه في دقيقة، طوبة طوبة ما يتهدم فيه طوبة.
وإنصاف تقول:
.. العناني كان بيدور عليك، وبعت الجماعة يلفوا وراك.
- جماعته ما يشوفوش الشياطين، قلتله سكتك غير سكتي.
.. اموت مكانك يابا.
اخفضي صوتك يا إنصاف ....
أعرف يا انصاف أنك تحبينه أكثر من عينيك، كنت تجْرِينَ على جسده الضخم كأنك تجرين على الجسر، وتحاولين دكّ فلقتي شاربه بقدميك الصغيرتين.
- أعرف يا إنصاف أنك
.. أنت لا تعرف شيئاً...
تقترب، تمسح ما نزّ منه، تفتح عينيه بإصبع واحدة، كما كانت تفعل دائماً وهي طفلة، حين تهزه صباحاً ليستيقظ، ليشتري لها ما انتوت، أو حين يلاعبها مدعياً النوم. حينئذٍ تفتح الأخرى بإصبع جديدة، ليقوم، ليلعبا معاً.
إنصاف،.. الحيلة والسبيلة..، يتيمة محروس، لعبته وضناه، الوحيدة التي بقيت من أربعة صبيان، ماتوا بعد أن ترعرعوا، بين كل واحد والثاني حمل البطن، وأبو الليل يقول :
الأنبياء في الزمن الأخير لا يعيش لهم صبيان.
وقلب محروس زاره الهم فأعطته انصاف قلبها، تتحدث ببطء من صغرها، بلسان ثقيل، لكنها تشير على التائهة والغائبة، تفر على رجل واحدة كأنها تطير.
في ذيل محروس حيث لا يحتسب، وحين لا يدري، والوادي الذي لم يعتد رؤية البنات مع آبائهن اعتاد إنصاف وهضمها.. فاسوخة للرايح والجاي .. وكل نبوءة وأخرى.
والصغار الذين قالوا عليها عبيطة، عادوا وقالوا إنها هبلة، تأكل نصف الكلام، وتنثر الباقي ببطء.
ومحروس يفهمها.. وهي تفهمه.
لطش الموت الصبيان الأصحاء، العزوة في بلاد لا تعترف بغيرهم وترك إنصاف، وهي تكبر وتخشى أن ترى في عيني محروس هماً.. تنتصب بينهما.
وهو لم يسمح لأحد أن يقلب شفتيه يوماً ويتحسر ،.. مضى الصبيان وتركوا الهبلة.
لم يسمح لأحد ولا خاب قلبه.
حين رعدت الدنيا ذات يوم وأزبدت، وقعت البرقة في حجره، ارتمت إنصاف، انقضّت كصقر، نترتها بعيداً عنه، ونامت فوقه، فتلقفتها الأخرى وكادت تحرقها.
والعناني يقول: ملاكها أقوى من شيطانها.
قطعت الكلام أسبوعاً فانقطع قلبه، وهي تشير له أن اصمتْ.. ولا تخف.
بعد الأسبوع انطلق اللسان، انفكت الثأثأة وارتفعت الحكايات.
.. أعرف يا إنصاف..
- أنت لا تعرف شيئاً.
تقوم على حيلها، تلصق خدها بخده، بمطرحته.
انهض يا محروس، انهض، لتنام على أربع، وأنت الكبير الكبير الذي يتمنى كل واحد في الوادي أن يكون مطيتك.
لتنام على أربع، وتخفض ظهرك لأصعد عليه، لتدور في الصالة، وأنا أمسك بياقة جلبابك، تكاد حافتها تخنقك، تحز رقبتك، وأنا أضحك، أضحك حتى يهرب الضحك من روحي ليتدحرج على جبينك، غير عابئ بالضيوف الذين يدخلون فجأة دارك المفتوحة، كعادتهم.
ينادون عليك، يشاهدونك، لا تتركني حتى لو جاء الملك برعيته، حتى أشبع، وتخاف عليّ من شدة الضحك.
انهض يا محروس، لتقيم صلاتك، لتركع وأنا خلفك، أردد وراءك، وحين تسجد أغافلك وأركبك مرة أخرى.
عد كما كنت، ترفض أن يطعمها أحد سواك، في حجرك، والذي يهر من فمها تلتقطه، ولو من على الأرض، لتطوحه في فمك، تأكله وسط دهشة الآخرين، لم يستطع أحد أن يقلب شفتيه أمامك ولم تجرؤ امرأة أن تدعو لك بالولد فيما بعد.
انهض لتنكتا سيرة فلان وفلانة، لا تفعلها إلا معها ولها، لتستلقي على قفاك من تقليدها لطوب الأرض.
انهض.
.. قم، قم لآكل ما يسَّاقط من فمك الآن.
وهو كما هو، يتجشأ كجمل، ينتفض ليقاوم منحدر النهاية وجاذبية الهوة اللعينة،.. سكة الذي يروح ولا يعود، يتشبث بأعشاب انصاف، يلوح بيده كأنه يستدعيها على عجل، لترمي له خطافها أو حتى منديلها.
إنصاف التي لم يستطع أحد أن يتعتعها من مكانها، عند قدميه، ولم تستجب لتوسلات أحد، وتترك الغرفة لكائن من كان حتى تستريح.
- كلنا موجودين جنبه، ما تخافيش ،..
هو أبونا زي ما هو أبوكي، وأكتر.
وهو يلوح ثانية.. ثالثة ويبرم شفتيه، كأنه ينادي على طيورٍ عابرة.
.. لا تنادي على أحد، دع الأرواح تتنزه في ملكوتها .
يدوّر شفتيه، يبتسم، وكل خلجة في وجهه كأنها تعانق الرابضين خارج المستشفى ،.. الوادي عن بكرة أبيه بدوابه ينقصه الطيور والشجر.
وأبو الليل يقول إن الطيور صارت تجنح للجنوب في الصباح، في اتجاه المستشفى، ثم تعود ليلاً للوادي في اتجاه معاكس.
هل تعرفين..
نعم أعرف.. حين يتصل رجل بدم الناس وروح الأرض، لا يتبقى سوى موعد القتل.
لا تقل شيئاً، أعرف وأذكرها تماما، بل أراها الآن أمامي:
محروس وحده في عزبة اسرائيل، ليس سواي معه، يعرف أنهم يشوفون الموت ولا يرون طلعته، انتزع منهم سر الحياة غصباً عنهم، ماء الشرب والوحدة الصحية، رغم أن الماء يفيض عن حاجتهم وتشربه بهائمهم، يكرهونه لأنه عرى وجوههم أمام وجوههم، رغم أنهم في قرارة أنفسهم يتمنون لو كان لهم.
كل ما تمنوه وعملوا لأجله طمعـاً أخذه محروس حقاً، وكل ما أخذوه غصباً آخذه محروس حلماً، كأن الدنيا لم تخلق إلا من أجله، وكأن الرجولة كُتِبت له وحده، والفرح من نصيب واديه أيضاً.
أذكر.. كأني أراه الآن، حين غدروا به، وخرجوا عليه بعصيهم وحقدهم من كل الجهات، كل واحد من جانب،
كأنه يوم الحشر، عقد ملفحته على رأسه، وبنبوته اليتيم يصد ويصد، وأنا أصرخ، أصرخ:
يابا، يابا
والحمارة انطلقت، عبرت عزبة إسرائيل إلى الغيطان المجاورة، وانتبه من انتبه.
وهو يصد ويقاوم، يضرب ويقاوم، حتى تكسر نبوته، رفع بلغته في يديه يدفع عن رأسه، وأنا أصرخ .. يا با .. يا با .
حين أدركنا أهل الوادي، تسبقهم أصواتهم، كانت جيوش اسرائيل قد بدأت بالانسحاب..
من يومها لم ينقطع صوتي.
وهو كما هو، يلوح بذراعين في كل الاتجاهات ويرمي ملفحته.
تدندن:
حط حالك على مالك
ويللا بينا يا علي..
كان لا بد أن يكون لها ولغيرها أباً وحائطاً، والذي فاض من رجولته عجنه حناناً وأغاني، صفى خشونته وقطرها، وازدرد ما وقع من فمها شهدا.
محروس سيد الرجال..
مرتهن لها، مشغول بها، رغم أنه منشغل بكل واحد في الوادي، كأنه مربوط له فقط.
وهو ينادي :
يا أبو العشم، يا أبو الليل .. يا ..
لا تنادي على أحد، لا تفتقد أحداً، افتقاد الأهل يذهب العقول.
... يا أبو..، يا .....
- ما تناديش على اللي راح، نادي على اللي جي..
والطبيب الجديد يمر، يمص شفته السفلى ويدخل فجأة:
لا بد أن تخرجوها من عنده، روحه معلقة في السقف، معلقة بها، لا بد أن تخرج حتى يستريح.
وهي تخرج له لسانها، ونظرة حامية من أبو الليل، ولمعة تتلوها لمعة من جذامه، كانت كافية لأن يلملم نيته، يبلعها ناراً ويخرج.
وهو ينادي، يا عزت، يا ناصر، يا نشأت
والعناني الذي هبط فجأة يربّت عليه ويقول: .. انساهم .. انساهم، دول فرز تاني.
وأبو الليل يكاد يضحك:
.. دول عاملين زي الطوب الأبيض، لا ينفع ولا يضر.
يضحك ثم يلتفت ناحية العناني: .. هو بينه وبين سيدنا نوح كام سنة؟.
انهض يا محروس، لتختبئ في غرفة الخزين بين القفف الأجولة وطواجن اللبن، أدور أبحث عنك حتى أفاجئك
بجلبابك الذي عفرته بقايا الدقيق، وشعرك الذي امتلأ بنخالته، ودهشة أمي تنط من وجهها.. فتنفرط طفولتك جنب طفولتي.
.. لنلعب معاً بالحصى الصغير لعبة البنات، الأولى، الثانية.
هل تعرفين يا إنصاف ..
نعم، نعم، أعرف.
هو الآن يحبك، منتهى رعبه أن يحملك بين يديه ويقذف بك للأعلى، فتطيري في السماء ثم تعودي إلى كفي يديه.
في المرة الأخيرة، حين عدتما معاً من عزبة إسرائيل، قذف بك بعيداً نحو السماء ولم تعودي، هبط جسدك فوق السطح الواطئ لدار الندل محمد أبو حسن.. هو الآن خائف أن يدللك.
أبو الليل ينسلّ كعادته والعناني يبرطم، والطبيب بعيد، والملاك يسحب زميله، وانصاف تقول لنفسها.. رصاصة، أحتاج فقط رصاصة لأنام جنبه.
يا إنصاف: أنا أعرف..
نعم أنت تعرف.
هو الآن يفرد جسده كالجسر، وأنا أمر عليه..أجري، أدبّ بقدميّ الصغيرتين على فلقتي شاربه العريض:
..حط حالك على مالك
ويللا بينا يا علي
يا بتاع المربّى يا علي.
(14)
.. مسا الخير ياللي ما بتردوا المسا، خدوا حبل جاموستنا علشان متعكسه.
عند أول هبوط لليل، والنهار يجر ساقه اليسرى، يسحب ضوءه الأخير للداخل، تكون في قلب المقابر، غزلان، وحيدة، بكامل وحدتها، كل يوم عند تربة، بالتوالي بالتوازي أو كيفما اتفق، تنادي تنادي، علّ ميتاً صالحاً يلبي نداءها، يلقف وجعها، يغسل أورام روحها ويستجيب للوعتها .
كل يوم، ما فات يوم، تقوم بمشوارها، تخرج من دارها في نفق العصاري، حين يحط الشيطان قدمه اليسرى على الأرض ويكتم الأنفاس.
يقف في طريقها، يخرج لها لسانه، تشيحه بيدها، تمضي، بجنازة في عينيها، لا تكلم أحداً ولو نادتها حجارة الأرض، لا ترد سلاماً ولا تلقي كلاماً .
صامتة، صمت القبور التي تحوطها، والقبر الرابض في قلبها، علَّ ميتاً يتململ في رقدته، يمد يداً متثابئة ويأخذ منها حبل جاموستها المعكوسة ليعود الغائب.
الغائب: ابنها نشأت، الذي بقي لها من حطام الدنيا، من رائحة يس العاشق، الشاب الذي أحبته بغمزة عين وأغمضتها عليه، لكنه فر هارباً بقطاره إلى الآخره بعد ستة أشهر فقط، وقدماها ما زالتا تتزلجان في العسل.
ترك نشأت نطفة تتقلب داخلها على الجمر والغيبة، استقبلته طفلاً بين الفرح والحسرة، الأصح كانت الحسرة، وتركت الفرح لأمها وكلام الناس.. ذكرى أبيه، وحبله الطويل في الدنيا، ورائحته.
سمته نشأت على اسم المدرس الفلسطيني الذي عاش بينهم بعد نكسة سبعة وستين، من الذين هُجّروا واستقروا في الربوع، رغم أنه كان مسيحياً، لإحساسها بغربته، ولأكتافه العريضة، ورغم معارضة العناني وغيره، حتى كاتب الصحة، فإن محروس ساندها وحسم الحكاية.. رغم أنفهم:
الأسامي لله.
.. مسا الخير ياللي ما بتردوا المسا..
لا أحد يرد، تتلفت بسرعة حولها، متوترة، برأس في كل الجهات، يتهيأ لها رأس أو يد، سرعان ما تنطفئ وتغيب.
تعود من حيث أتت، بجنازتها، وسبحة الغياب تكر، والأيام.. والأيام باردة.
والغائب طال غيابه، سنوات، لا أحد يعرف له عشاً ولا وكراً، جماعة قالوا في بلد اسمها لبنان، لها وادٍ كوادينا.
آخرون قالوا لا، قطع الطريق إلى لبنان، لكنه حط في فلسطين، تزوج هناك وخلّف صبيانا وبنتا.
وعزيزة العمشة تقول : أكيد اسمها غزلان..
تحاول أن ترطب قلبها الناشف، قلبها الذي لن يبله بحر قارون.
كان عليه أن يرحل، لم ير عيون الناس تلتهمها وهو صغير.. لكنه سمع صوتها بلفحة العشق يشق ظلام الليل ويغيظ الذئاب، حين تزوجت أبو العشم والد عزت وشقيق محروس.
ومحروس تبناه كغيره مذ كان طفلاً، كف عنه ونزع من قلبه حسرة اليتيم، أخذه في داره صبياً حين تزوجت أمه، ليفسح لها ولأبو العشم، ليوسع أمامهما سكة العشق وطريق الغرام، وليمنع احتكاكاً محتملاً بينه وبين عزت.
فتح له دكان الحلاقة حين أدرك أن الفلاحة ليست غوايته.
يداه ناعمتان، ابن الغندورة، اشترت له جاموسة باسمه من صغره، ولم لا، الفناجيلي له برج حمام، وناصر له العباءة والسكاكين، وعزت له الحلاوة والخيلاء، حوطته من كل سوء، وطوقته بسبع قروشات من سبع محمدات.
ربته على الدلال مذ هلّ عليها، وهو رده لها بأحسن منه.
يتلصص في الصباح كفأر مبلول، يدخل عليها بعينين داخلتين، بقدم مترددة، بعد أن يطمئن على مغادرة زوجها، يملأ لها جرة المياه من بعيد، حين تنقطع عن الوادي، من أبعد بعيد، لتغسل جسدها بعد أن طاف أبو العشم في خبيئتها وأوغل، أو لتغسل نفسها في انتظاره، والنسوة يملأن جرارهن معه، يتغامزن من خلفه ويتهامسن:
- الولد بيملى لجوز أمه.
- الولد عرقان والعريس غرقان.
وهو لا يفهم، وحين فهم كان يملأ لها محبة، يدخل عليها مطأطئاً، لا حضن ولا جلسة،
يملأ خابيتها، لتملأ خبيئتها.. ويغادر صامتاً .
- شفت شفايف الواد حمره ازاي؟
.. امّال لو شفت شفايف أمه.
ينام طويلاً، لينسى، ليبتعد ما استطاع عن وخز العيون، يفتح دكانه بعد صلاة العصر بحجة أن الناس لا يحلقون في الصباح حتى يعودوا من أشغالهم، ويطيل فيه حتى تنام الخلق، يتكلم بالقطارة.. بالإشارة، يعود وحده إلا من نباح الكلاب لدار محروس، من خلف انصاف حتى لا ترى هزيمته.
وأبو العشم غاص في المرأة، والمرأة يعلو صوتها حتى ليوقظ النائمين، والوادي ضيق، الأذن في آخره تسمع رنة الإبرة في أوله.
والهمس الذي تسرب خفية وتناقله البعض غمزاً، اندلق بسخونته من الألسنة وغطى الوادي.
مرة يتيمة تحرك لسانه، قال لها ووجهه في الناحية الأخرى:
.. يا مّه نامي في الأوضة اللي جوّه، ولا في الأوضة اللي عند الفرن.
وأقرانه تغامزوا وتلاطفوا، استنجدوه مرة:
.. صراخ أمك في قلب الدار طالع للشارع، الحقها، لا بد أن زوجها ضربها..
كعفريت سليمان جرى أمامهم، من أمامهم، يكاد يطير، كأنه لا يعرف، لكنه كان يعرف، .. بعد ذلك امتنع عن الجري.
يحاول أن ينام طويلاً، ليهرب من الإبر المحدقة في
الوجوه، من سخرية مرة انتقلت من ظهره إلى أمامه، لكن هيهات، يتقلب على شوك الغمز مرة وعلى الأحجار المدببة للألسنة مرات، ترمى عليه جيئة وذهاباً.
ذقنه طالت وهو الحلاق، هجر دار محروس، اتخذ من الدكان منامة وعملاً.
.. هو الواد ده مش راجل ولا إيه، يا نهار أسود
ضاقت عليه الدنيا وخنقه الوادي، ركب القطار إلى البندر، عيونه أمامه وقلبه خلفه، عمل صبي حلاق في حارة ضيقة، تعمد أن يكون مجهولاً.
غاب شهوراً، لا أحد يعرف له موطئاً، وأمه تصعد إلى المقابر كل يوم :
مسا الخير ياللي...
إلى أن أعاده محروس بمعاونة عزت.
.. صباح الخير ياللي بتردوا الصباح،
هاتوا حبل جاموستنا،
أحسن العكس راح.
أيام وعادت المسرحية وارتفع الكلام، بلع الإهانات على لحم بطنه، يتخيل لو مد موسه الذي يحلق به ليضعه في حلقه.
إلى أن وقعت الواقعة.. تقدم أحدهم منه، والباقون ينتظرون دورهم:
صوت أمك طالع في الشارع وواصل للسما، واحنا عندنا بنات وخايفين عليهم.
عيناه في الأرض وبواقي كرامته، يبحث عن شق مناسب ليبتلعه، بعدما ابتلع شق أمه كرامته.
يجري، يجري هذه المرة بحق، يكاد يطير، صار على مشارف الوادي.. انتظر طويلاً ثم عاد، تحت شباكها وقف، ونظرات الناس تأكله.
وهو على الجمر واقف، ينزل ساقاً ويرفع الأخرى، حتى علا صوتها.
هذه الليلة شخرت وخلعت عمود السرير، أبو العشم دق مساميره بعنف.
راح يدق بعنف، ويقذف بالحجارة، ثم طار إلى دكانه.
بكى، بكى طويلاً، وفي الفجر أخذ طريقه، كقطار أطلق صيحة التحذير ثم انطلق.
شاهد أبو الليل عائداً من مملكته، وعزت خارجاً إلى ملذاته، والعناني يطمئن على ملكه المزعوم.
كالوهم مر على دار محروس، قبّلها، لملم أشياءه سريعاً، أخذ انصاف بالحضن وانسل، ثم طار.
لم ينظر وراءه ولا خلف شيئاً، سوى حزامه الرابض تحت قميصه.. بقروشه إياها، تركه لإنصاف لتعيده لأمه..
لتغني وحدها:
سبع صاغات من سبع محمدات.
الأيام تبيض وتفقس.
وأبو الليل يسخر كعادته من العناني:
- فين جنودك يا عناني يجيبوه، خطفته جنيّة هوه كمان.
وأمه تنظر لأول مرة في المرآة، هذه المرة لتعد شعرها الأبيض وتحسب سنوات الغياب، أيام الغياب، باليوم.
احترق أبو العشم، احترق العاشق، غاب الحبيب، والقلب حجر ناشف.
وعزت يزورها من وقت لآخر، لم يعد يسألها عن الصور التي خبأها عندها، بقع من مآسيها القديمة تفرش على وجهها، لم تعد غزلان العاشقة، لم تعد غزلان .
تنادي:
غايب وابن غايب.
كل يوم قبل أن تصعد المقابر، تربت على ابنة ابنة ابنة جاموسته، تكاد تلعقها، لا تكلم أحداً، تنادي بصوت متعب واهن، كما لو أفاق صاحبه من قتل، تنادي على أحد الأموات الصالحين أو الطالحين يجيبها، تزعق ولا من مجيب، كأنها ترسل رسائل لغير أصحابها.
وحين ينقطع الرجاء، تدور على كعبيها، تجده أمامها.. الفناجيلي، بنبوته، وكفنه الأبيض الذي تحول إلى الرمادي.
.. بتدوري على إيه يا خالة؟
ميّتك اسمك إيه؟
تحتضنه، ويبكيان معاً.
(15)
انقطعت الريح يومين .
غابت، وغاب معها العناني.
السيد قال من قبل، يوم استلام البشارة:
إن غابت الريح ثلاثاً ،عليك أن تسلم السر.
..والله وطبلت على راسك يا قليل البخت.
لونه مخطوف، أصفر يابس، مثل حبة ليمون لم يشترها أحد، وبقيت وحيدة، متغضنة، تتفرج على اقتراب نهايتها.
...
في اليوم الأول، لم يكترث كثيراً للحكاية .. انقطعت يوماً من قبل، بال على نفسه، ثم عادت، كررتها، لكنها تعود في اليوم التالي،.. أمسك بوله.
كانت إذا انقطعت يوماً، يصعد فوق السطوح العالية، لعلها اختارت أن تمر عليه وحده في الأعالي، ولم تشأ أن تهبط للرعية الأوغاد في الأسفل.
لعلها تظهر له وحده، بالطبع ليست مباحة مستباحة للجميع كهلال رمضان.
كان يصعد، بعد أن اطمأن إلى رجوعها الدائم، وإلى قِصر غيابها، يتمدد فوق فروة خروف سمين ذبحه بعد قتل ناصر، فروة ترتفع مثله فوق كوم قش، عالية وتليق به، يرمي شبكة الأشواق، وينتظر معبودته.
يباغته دوماً أبو الليل، النائم فوق السطوح كعادته، حتى يحين ميعاد سطوعه.
خضه.
.. بتعمل إيه هنا يا عناني؟
تفّ في عبه :
- بأعد النجوم، روح كده وأنت وش فقر.
.. حتى النجوم ناوي عليها، ما لكش دعوه بيها يا حدِق.
باغته مرة أخرى، ركب فوقه، هذه المرة لم يبلع غمزته، ولا اتسع صدره لنزقه ونفخته.
.. دينك ودين أم الريح بتاعتك، قلت لك قبل كده الأونطة دي مش عليا.
قَلَبَه على وجهه، والعناني يحاول التملص سريعاً، فكر أن أبو الليل يمكن أن يفعلها. ..................
انقطعت الريح يومين.
في الفترة الأخيرة ازداد غيابها، كأنه كان نذيراً، لكنه لم ينتبه.
هذه المرة، لون الكركم أفضل من لونه، سواد بصفرة عليلة.
صعد مئة مرة، قل مئة وواحدة، وعرقه أصبح مرقه، وبرد، برد شديد ينخره.
خائف.. مرعوب:
..حيروح منك كل اللي تعبت فيه،
حتروح فيها.. يا خبر اسود.
هرت قواه، وعزيمته، لكن بقيّة من طمعه ما زالت صامدة، بقية كبيرة لم تنقص رغم الرعب.
الطمع كالمغناطيس، يشفط البعيد، يحيل النحاس حديداً، ويجذب السمك بقوته إلى الشبكة.
والسيد قال من قبل، إن للطمع وجهاً حسناً.
تأخذه الفكرة، تضربه في أبعد حائط...
على الأقل يحتاط...
يحتاط ممن؟، الدنيا كلها خربانة وطماعة.
فليذهب لمحروس، يرابط عنده، عله يقتنص فرصة يفيق فيها ليسأله.. لمن يعطي السر؟.
أياً كان، محروس هو الباقي، وهو المعلم أبدا، سلم لك بالسر دون طمع أو سخرية، وحتى لو سلم به لأن الأمر لا يعنيه، ولن يؤثر فيه سر أو غيره.
يصرخ، يكتشف أنه يكاد يفرم أصابعه في بعضها:
بهذه البساطة يا عناني، تريد أن تسلم السر، حبيبك، كأنك تسلم شوال أرز أو قمح.
تريد أن تعطي السر هدية لأحد، وتحت قدميه.
..ليخرج سرك الإلهي قبل أن تسلمه أحداً، حتى ولو كان محروس.
اظهر، اظهر على حقيقتك يا عناني، أنت لا تريد، أنت لا تريد، حتى لو أخذته معك لسابع قبر.
لا، لا، يجب أن تبلغ أحداً يا عناني.
لا، لا ..
لا تبلغ أحداً.
.. هو انت آخر واحد ما بلغش، الدنيا كلها كده.
ثم أن تسليمه يعني أنك ستموت.
هل تصدق كلام هذا الرجل المعتوه، ثلاثة أيام وسبعة وغيره، لعله يكون قد مات.
.. وبعدين يعني حيعملك إيه بعد ما تموت؟ حيجيلك في القبر.
قل له إنك سلمت السر لمحروس.
يغيب يغيب، ثم يستفيق:
.. هو انت ناوي تموت يا عناني؟
افعل ما تشاء يا عناني، افعل،
تأخرنا، باقي يوم واحد للريح.
أمامك الآن كل شيء، يجب أن تتخذ قرارك وبسرعة.
افعل يا عناني.
الرواية لا بد أن تكتمل، والشخصيات يجب أن تعرف مصائرها.
ليس المهم أن تعرف مصائرها، المهم أن تطمئن أنت على مصيرك، ماذا سيفعلون بدونك.
والعقدة ؟، العقدة يجب أن تُحَل حتى تنتهي الرواية وينام المؤلف.
العقدة التي لم يستطع أن يحلها إلا أقل القليل، واحد فقط تحبه، والباقون تكرههم، واحد أصليّ، والباقون تقليد كاذب، خردة، والذي تحبه نائم الآن في المستشفى.
كنت في نصف هدومك. وأنت تعطي العقدة لمحروس ليفكها.
لا لعب مع محروس ولا هذر، لكنك أدخلتها من باب المداعبة:
- آخد منك نص فدّان لو ما فكيتهاش.
.. حافكّها.. واديك النص فدان كمان .
باقي يوم، يوم واحد، وعليك أن تسلم الأمانة لصاحبها بشروط السيد.... أن يحل العقدة، بأكتاف عريضة.. ولا يورثها..
والله يا عناني لو كان عندك ولد لورثتها له غصباً عن عين التخين .
كل واحد الآن يورث ابنه مكانه، حتى لو لم يكن له في الكار.
عبد المقصود ورث ولده، وغيره وغيره، حتى أبو العشم ورث عزت ابنه الموضوع إياه.
وحتى فرج ورث السواد والهم والحظ الدكر.
.. انت فاكر الورث بس في المناصب.
ألا تخاف من السيد يا عناني؟
لا، لا تخف، لو كان من كان، حتى لو كان ابن جمال عبد الناصر ذات نفسه، لن تستغني عن السر.
لن تفرط فيه بسهولة أو بصعوبة.
إذا كان السيد يسيّر الأقدار، فالأقدار تتبعك، حتى ولو تأخرت وغابت ريحها.
صحيح تأخرت من قبل كثيراً، ونغصت عليك، لكنها في النهاية كانت معك، ودامت لك.
احترق إخوة محروس الثلاثة، هؤلاء الذين كانوا طامعين طامحين، وموغلين،.. بالمكر لا بالحلم ..
واقفين بالنبوت.. خلف طمعهم وجشعهم، وإن أخفوا، لو وجدوا فرصة، لو استطاعوا، لأكلوا محروس حياً وأكلوك.. والوادي، وأهون الأشياء أن حجروا عليكم.
صدق أو لا تصدق، محروس كان شوكة في زورهم، رغم أنه هو الذي جعل لهم جوفاً.
يضرب جبهته...
كأنك تكتشف الآن، كأنها أول مرة، أن محروس هو الذي كان يحميك دون أن تدري، وأن ظله يلعب لصالحك دون أن ترى ذلك، لأنك لا تملك عيناً واحدة طيبة من الاثنتين.
احترقوا في لحظة واحدة، ولو بقي واحد منهم حياً لحرق محروس أولاً، بعد أن احترق خوفه في قلب النار، رآه يشتعل أمامه، سمع فرقعته، خرج بدونه وعاد بقلب ميت.
..مش قلت لك يا عناني، الحظ واقف معاك.
لكنهم أخذوا معهم فرج.. فاكهة الوادي.
.. فاكهة سوده أكيد يا عناني، ويمكن تكون فاكهة الجنة.
احترق حلمه في قلب طمعهم.
أنت تحبه لأنك كنت تأمل أن يكون تابعاً لك، تعتقد ذلك، ولأنه أسود فربما كان جناً أسود.
نعم، نعم، الأقدار تقف معك.. صدق نفسك حتى ولو أخذتّ فرج غيلة، وحتى لو مرمطت روحك وانتظرت طويلاً، حتى تأخذ ناصر سيىء الذكر.
أخذته في رجليها، فرّجت عليه أمة محمد، حتى تشفي غليلك.
قضت عليه في لحظة من أجلك وحدك، بعد أن غطى بشرّه تاريخ الأولين واللاحقين.
حجاج آخر، النسخة الغبية الساذجة.
نعم .. نعم:
أنت الملهم يا عناني.. والباقون أتباعك أو عبيدك.
تجمعت فيه- الله لا يرجعه- كل المواصفات: حل العقدة، وأكتافه عريضة...
قريب من الورث، وبعيد عن شبهته، وعمه محروس.
من نفس الحبل وإن كان ليس من نفس الصلب، لديه كل المواصفات، وشرير، بل سيد الأشرار.
يتحسس عمامته...
لم تكن لتفعل معه أي شيء، لا تأخذ غلوة في يده، ولا تستطيع أن تدير وجهك وأنت نائم على المخدة ناحية القبلة إلا بإذنه.
لم يكن ليسحب منك السر فقط، كان سيجعلك ترفع يدك بالموافقة على موتك وأنت تبتسم، أو تهرع إليه لتطلب منه أن يتنازل ويقبله، رغم أنه خاط فمك وحركتك.
كان سيجمع القوم.. ليجعلك توقع أنت الوثيقة أمامهم، وربما اشترى كاميرا أو استحضر مصوراً من البندر ليصورك في تلك اللحظة، ليخصيك أمامهم، ويضع لك الصورة على حائطك ونسخة على حائط الجامع ناحية القبلة، لتموت حياً ألف مرة، لتتساقط نسيلة نسيلة،أو يُقشّر جلدك طبقة طبقة دون انتظار لنار جهنم.
.. يا ألطاف الله ..، يزعق.
فات من الشر واحد، أعتاه، ونفذت بجلدك.
يتمخط ويبصق، كأنه يبصقه.
والفناجيلي.. حتى الفناجيلي الطيب، كان يمكنه تسلم السر، وقعت القرعة عليه، حل العقدة، عريض الأكتاف، ومن نسب آل البيت دون وراثة، وغير طامع.
هو الوحيد غير الطامع... وشكله مجذوب... الصورة المثلى.
والناس الذين لا يأخذونه على محمل الجد، يأخذون كلامه ساعة الجد .. يخشون نبوءاته ويخافونه.
لكنه ليس مجذوباً وإن أوحى، وليس شريراً وإن أوقع. واقع في سره، أو قل مشدود اليه.
ربما هنا خطورته يا عناني، يبحث عن سر الأسرار، عن الموت، ملكهُ وخطوطه، ولو استطاع العثورعليه و الإمساك به لملك الدنيا كلها.
لا لا.. لا ينفع يا عناني، ولو بقشرة بصلة.
لكنه كان عاشقاً، عاشق جنات، والسر للعاشق.
السيد هذا كان خرفاً على الأرجح.
العشاق لا يكتمون، وإن كتموا تبوح عيونهم، بل تبوح روائحهم، تفضحهم وتفوح.
اسمع يا عناني، اسمع ..
السر لعزت، نعم لعزت.
فك العقدة، وكل ما به عريض، ليست أكتافه فقط .
وعاشق ابن عاشق .
لكنه غارق في النساء والحمير بالجسد فقط، والعشق يحتاج الروح.
صحيح أنه ابن أخ محروس.. وزوج ابنتك، يمسك مفاتيح الجنة من الناحيتين، وله قدم في كل باب.
لكنه ليس مؤدباً بما يكفي لحمل سر، أي سر.
نعم، ليس مؤدباً، ينام مع ابنتك في دارك، ويجعل صوتها يخرق آذانك ليغيظك :
.. إديني يا عزت، إديني مما أعطاك الله.
- حتى انتي كمان بتتكلمي بالأونطة زي أبوكي.
السر يحتاج كياسة، لا حمق ولعب صغار.
ثم أنه لا مانع لديه أن يفشيه على مؤخرة ممرضة أو ....
اسمع، اسمع..
تاهت... ووجدتها.
نشأت بن غزلان، أليَق واحد للسر، جاء من نطفة معجونة بالعشق، عاشق أصيل، عريض الأكتاف والهموم.
حل العقدة، وهاجر كما يهاجر الأنبياء، لف الدنيا وعاد صامتاً، خرج بسر، وكأنه يحمل سر الأسرار.
يستطيع أن يشيل أصعبها ولا يومئ، يكفيه أنه تدرب من قبل على حمل سر أمه.
ليس طماعاً ولا طامعاً.
وهو ابن غزلان... اسمه مقترن بأمه، ربما كانت هذه علامة لم يقلها السيد.
نعم، هو أصلح واحد.. يقولون إنه عاد ويسكن على أطراف الوادي، لم يره أحد لكن طيفه يخايل الذين يعبرون المكان ليلاً.
ويضيفون أنه أقسم ألا يظهر إلا إذا قام محروس.. رجلي على رجله.. ليعودا معاً.
لكنهم قالوا أنه عندما انكشفت حكاية أمه بكى بحرقة، والسر يجب ألا تفشيه حرقة، يجب أن يعلو عليها.
ماذا تفعل إذن؟
حك ذقنه بحرقة أيضاً حتى وصل المنابت.
حتى الوحيد الباقي، الذي تنطبق عليه كل المواصفات كأنه خلق بها، أبو الليل، صاحب السبق في حل العقدة... تكرهه كره العمى، يسخر منك ومن سرك، ولو طال السيد نفسه لسخر منه، وربما بال عليه.
كاد يفعلها معك مرة، لولا خشيته أن تموت فيها.
يرفض السر، ليسرقه، كي يطيب له ويستطيبه، ليغيظ السيد ويغيظك.
ثم إنه حرامي..، ولا أحد يعرف أسراره ابداً.
أيكون هذا الأجرب الأبرص هو الشخص المناسب ليحمل الشعلة من بعدك، هذا الذي يكره شوفتك كراهة التحريم، ولا مانع لديه أن يتبول على السر نفسه أمام الجميع.
ثم إن قلبه طيب.. أنت تعرف ذلك رغم كرهك له، والأمانة لا يجب ايداعها لدى أصحاب القلوب الطيبة.
يدعك جانبي رأسه ويسحب شعرة:
أنت على حق.. على حق يا عناني، لا أحد من هؤلاء يستحق السرّ،..
هو لك وأنت له، ولن يجد السيد من بعدك أحداً يسلمه له، ولك أن تتبجح وتتحجج بأنك لم تجد أحداً .. ضاع الوقت في البحث، وإنك كنت تأمل حتى آخر لحظة...
من يستغني عن الريح الباردة، عن لسعة الكمون في المناخير، عن سر الأسرار تحت جلده.
بعد فترة سينسى الناس اسم الملعون جلانطه.. لن يقول أحد وادي جلانطه..
وادي العناني، وادي العناني.. زي بندر فلان، ومصر علان وعلتان.
تأخذه لحظة زهو، يعبث بشاربه، يمد ساقيه، يتمطع:
.. حتى محروس ذات نفسه لا يملك سراً مثلك.
لا، لا، اعقل يا عناني، لا توسعها فتصدّق نفسك، اعرف حدودك.. محروس غطى على الدنيا كلها صاحياً ونائماً، لا يحتاج لعقدة ولا لسر، أنت تعرف جيداً أنه العقدة وأنه السر، ولولا قوته وتسامحه وقدرته على بلع الصغائر، لما كنت كما أنت.. وحيث أنت.
تلعب الأسماك في المحيط، تأكل غيرها، لكنها لا تستطيع أن تشرب البحر.
تموت الفقاعات ويبقى البحر.
ثم إنه عاشق، أنت حمار يا عناني، كلهم عشاق عداك.
حتى أنت عاشق! لكنك لست عاشقاً بالرغبة أو الروح، أنت عاشق باليمين، عاشق السلطة، والعشق بالشمال ناحية القلب.
نعم محروس عاشق، وسيد العشاق.
وله مريدوه..
شجرة ضاربة في الأرض، مهما جار خريفها فربيعها قادم، وصيفها.
اذهب إليه الآن حيث يرقد، وبلغه الرسالة التي لن يسمعها.. تضحك على السيد وتحتفظ لنفسك بالحكاية، وتستطيع أن تلعب على الحبلين.
أو قل للسيد إذا جاءك، إنك أعطيت السر لمحروس، وإلى أن يصحو يحلها الحلال.
يهبط من السطوح مسرعاً.
قالوا لي تاخد البيض
قلت السمر أحسن لي.
يأتيه صوتها.. يقطع عليه صحوته .
يمد رأساً من الباب، يجدها نشوانة، تتطوح، عزيزة العمشة، تلاعب أبو الليل وتخبط على صدره بحنية.
لا يصله كلامهما، لكن ضحكتها المتغنجة تزحف على ساقيها، وتحملها الريح.
- فيه حاجة يا ابو الليل..
لا يعيرانه أدنى اهتمام ...
- فيه حاجة يا عزيزة ..
يقترب منهما، يتهامسان:
..قلت لي حلمتي بفرج بيعمل إيه يا بت؟، ده حلم ولا علم.
- وحياتك..
الضحك على آخره، يتدحرج من وجهها.. يكاد يغيب الكلام فيه:
- وحياتك قلع هدومه، وحط...
توشوشه.. يكاد يستلقي على ظهره.
- حين يلمحانه عن قرب، يأخذها من يدها، الضحك من القلب يسّاقط خلفهما.. ويمتد في الأمام.
- والعناني البائس يتوقف، يكز على أسنانه:
آآآآآآآآآآآه .. آه يا ولادالكلب.
(16)
... نفسي يموت قبل ما أموت.
تقول، وهي تزم عينيها، تكزّ بهما، وتفقع ضحكة عالية.
بسرعة تلمها، تسحب طرحتها على فمها لتخبئها، لكن
عيونها تفضح بقيتها وتتكفل بها.
تربت على كتف أبو الليل، الوحيد الباقي من رائحة فرج وسيرته، الفتلة اليتيمة من الثوب الأبيض، تشم رائحته في طلته.
تسرح..
- رحتي فين يا عزيزة؟
وجه فرج الذي يتفجر إباءً، يخفي تحت جلده انكساره.
وقوة أبو الليل التي تصل حد الجموح، رغم وجعه.
واحد يجري سواده على ألسنة الناس، وواحد يجري جذامه، واحد يرتفع بعزة النفس وبدوره كخطيب ومُقرئ، وآخر يسخر علناَ من الخلق التي تسخر منه، وتكيل له خفية.
- رحتي لبعيد تاني يا عزيزة .. سرحانه في ايه.
تربت على كتفه ثانية، والعناني المغتاظ يتلفت متلمظاً، يكمل مراقبته وحنقه عليهما... واستهزائهما به.
.. شوف هو بيدبر في إيه، واحنا بالعافية بنحلم بإيه.
- بيحلم زينا، بس حلم اسود بعيد عنك.
..نفسي يموت قبل ما اموت واعدد عليه بالغنا.
تكمل ضحكتها.. وأبو الليل ينسحب خفيفاً لينتشر في العتمة، يلملم دموع ضحكته.
في الاتجاه المعاكس تمضي، نفس الطريق الذي يؤدي لخارج الوادي، قطعته أشواطاً طويلة مع فرج، نهباه معاً، تصحبه ويصحبها.. صيفاً وشتاءً، ليلاً ونهاراً، .. هو ليقرأ القرآن على روح الميت، وهي لتعدّد عليه، وبشيء من الخجل، بتودد خفيف تسأله:
- بتاخد كام يا شيخ فرج؟
بعد تردد:
..خمسين جنيه يا عزيزة.
- يا لهوي،
تضرب على صدرها:
- انت رايح ترحمه تاخد خمسين، وأنا رايحه اجحمه آخد ميه.
يتناقران، تفرش له الأرض ضحكاً وغنجاً.
.. كل واحد وعلامه،، أرزاق يا عزيزة.
جاءتها الفرصة، تدخل في الموضوع:
- يعني انت لازم تتجوز واحدة بنت عيلة، ما لهم اللي على باب الله؟
تعرف جرحه، يحلم أن ترضى به واحدة من عائلة كبيرة، أو ترضى به العائلة فتمنحه احدى بناتها، ليمسح الماضي بسواده، لبسته الحكاية وغرق فيها، وهي تحاول صادقة أو طامعة أن تنتشله، يأنس لها، وهي نفسها فيه، عينها منه، لكنها لا تعرض نفسها كليّة عليه، لا ترمي جثتها، تومئ ولا تفصح، ترمي الغنج ومنديل المحبة، وتبقي الجسد ومفتاحه، ترمي ولا ترمي.
عزيزة حبيبة الكل، فاتها القطار بعدة محطات، لكن ما زالت هناك بقية، عمشاء صحيح، لكن جسدها الفالت المنحوت بإزميل صدئ يشعل أتخنها خيال، روحها الخفيفة وطلتها الحلوة يعوضان عمشها، مع أنف نافر من الناحيتين مثل مهرة شبقة، يومئ إلى شرر أكيد عند المواقعة.
- أمّا حتة مره يا له!.
وفم شهواني يليق بالمغنيات، بشفتين كأنهما مدهونتان بالزبدة، ممتلئة بحساب، وجلباب نظيف ورائحة حلوة.
لم ينظر لها أحد يوماً على أنها عروسة، المغنيات لا يتزوجن، وحتى إن فعلن يخترن أو يختارهن أبناء كارهنّ، وحتى الذين تماحكوا في أنفاسها الساخنة طمعاً، تحججوا عندما أدارت وجهها، بعمشها وغنائها:
..أسمر سُمَيّر، وكل الناس حبوني..
تضحك.. رغم غلالتها السوداء، تمضي دائماً في اتجاه معاكس لهيئتها، لم تركن للعديد الذي ورثته عن أمها وجدتها، علمت نفسها الغناء حتى لا تجلس دائماً وسط السواد، ناضلت بصوتها وأشيائها القليلة، لملمت أغاني الأفراح ودندنت بها، وعلت رنة موالها على نواح العديد، حتى أطلقوا عليها اسم " لهلوبة "، وكاد الناس ينسون عزيزة، ولولا حبها لمصاحبة فرج ورغبتها في الإيقاع به، لاعتزلت العديد وصفت للغناء.
لكنّ غناءها ازداد كثيراً هذه الايام، خف العديد على الموتى بعدما كثر الموتى، لكن القلب حمال، يعبئ ولا ينفض، والعيشة بعد الأحبة سواد في سواد.
السواد الوحيد الذي كانت ترضى به، لو رضي، سواد فرج.
فرج الذي يمشي بكبرياء على يمينها، يرجع صدره للخلف ليعبىء الهواء فيه، وينفخ في وجه من ينفخون في وجهه.. نفس المشية، اصطنعها ولبسته، وهو صاحب القلب الطيب لكنه لا ينساها، حتى وهو عائد من البندر.. يحمل كيلو اللحم على كتفه، يدفعه لأعلى كأنه جندي حاملاً بندقية طويلة على كتفه، وحين يقطع طريقه أيُّ كان بسؤال عابر أو طلب، يشير بإصبع يمنى لكتفه الشمال، وبأنفة وبطريقة آلية:
- أرَّوّح اللحمة بس، وأجيلك.
تضحك، وحدها تضحك، وهو يكاد يغضب وتخرج عفاريته، لولا نظرة عين حانية يعرف أنها تحبه، تحبه كثيراً.
- لو الناس بيحاسبوا على القلب بس يا عزيزة.
.. قلبك حليب وقشطة.
- قشطة سوده بعيد عنك .
تعاودها غريزة الاقتناص :
.. بس أنت شاور.
ولتقطع عليه خط الرجعة، تلحم جملتها بأخرى، لعله يفكر.. ويرخي حباله.
اسمر سميّر، وكل الناس حبوني
كل ما يفتحوا علبة الصايغ يلاقوني
بين المزانق وبين النهد حطوني.
يدير وجهه المخضب، ثم يعود .
بنعومة تزيد:
.. أكتاف تشيل أكتاف، ويتساندوا.
- ثماري على ثوادك حيطلعوا إيه يا عزيزة.
يلثغ أحياناً حين يتكلم، خاصة حين يغضب، لكنه لا يفعلها حين يخطب أو يقرأ القرآن.
تشد الحبال بسرعة وتحكم اللجام.
.. علشان نحفظ السَّمار للدنيا يا سيد المشايخ، وتبقى لنا قصة يرووها زي قصة سامية وجمال، وسارة وعمارة.
صامتاً ... لا يرد، يشد كلماته من نقطة بعيدة في الداخل.
.. السَّمار نص الحلاوة، ونص مني ونص منك.
يقهقه عالياً ثم ينطفئ، توجعه الحكاية، يحاول أن يغيّر الموضوع، وأن ينزعه من قلبها:
- لما أموت حاضحك، علشان خلصت من نكد الدنيا.
.. اطلع للنور يا راجل، ما تبقاش ضلمه بره وجوّه.
والطريق طويل يا عزيزة، بلا رغبة في الوصول.
تمشي وحدها.. تظنه على يمينها، ونفس الابتسامة المختفية على وجهه عند عودتهما من واجبهما في العزاء، يمد يده فجأة، يشبكها بيدها، يضغط .. يسحبها إلى داخل غيط القمح، يفترشان القش، في وسطه تماماً، لا أحد، الطيور جاءت من كل فجّ، تحوم فوقهما، تغني، تنفرط بعيداً وتغني، وعرقهما سقى الأرض والنوى.
في كل عام، في نفس الميعاد، تطلع وسط غيط القمح نوارة فول، أرضها مبللة حتى ولو زرعت قطناً.
يمشي على يمينها الآن، تكاد تراه..
تراه، ينظر للسماء ثم يستدير ناحيتها ليقول أي كلام :
هي هنيّة بنت ست الكل سخنة ولا لا يا عزيزة.
لا توجعها مراوغته، تأخذه على كفوف الراحة:
.. هنية بعيد عنك ما بتخلفش، وما أعرفش إذا كانت سخنة ولا لا.
تعض شفتها السفلى، تغمز له:
.. لكن اللي أنا متأكده منه خالص زيّ مانا متأكدة منك دلوقتي إن أنا سخنة.... وملهلبة.
(17)
وحده كان يؤمن أن ما فات سوف يعود، وأن محروس سينتصب من جديد على صفحة النهر، صوتاً وصورة، وأن عكارة الماء لن تدوم ولن تلوث الماء. حتى ولو أطالت ولعبت في القاع القراميط، حتى ولو عكرتها وسودت وجهها، حين تغرز نفسها في الطين، وتعود به لصفحته لتسرق لونه.
يمشي جنب القناة بمحاذاة داره، يرمي حجراً بقوة قرب رؤوسها التي تظهر تحت مياه رائقة..
عما قليل سوف تعود لمخابئها وتعرف قدرها، حتى لو صعدت على السطح أحياناً في غفلة، تلعب وتمرح بذيلها وتخلط العاطل بالباطل.
ستعود، لا تدري أنها في حمى الماء، تتفرج عليه يعبرها هازئاً من عبثها.
وحده أبو الليل يعرف أن ما فات سوف يرجع، وأن ليله سوف يظهر قمره ونجومه.
كل ليلة يخرج، يفرد عباءة الليل، يشمها، يمرح في طياتها حتى تنفرد تماماً، وتشبع من امتداداتها.
يحكي له حكايات النهار الأخير،.. التي وقعت في غيبته، وحين يشم رائحة النهار الجديد خلفه، يشده من ذيله، يطويه تحت إبطه ويعود، يعود من حارة لأخرى، حتى لا يراه محروس، يسمع صوته، ويشّتم رائحته من آخر الدنيا.
يعرف أن محروس يخرج في هذا الوقت بالذات، ليتيقن أنه عاد، ولم يأخذه ليله لبلاد بعيدة، لا يعرف أحد موضع أوتادها.
حين يفاجئه، ودائماً يفاجئه، يدير وجهه بعيداً حتى لا ينظر في عينيه.
- انت جيت يا بو الليل.
ليس سؤالاً، بل هو جواب الاطمئنان بحضوره، كأنما الرجل يبعثه لنفسه، ليسمعه بنفسه.
لا يكاد يرد، ليس هناك إجابة على جواب.
وحدك يا أبو الليل تعرف أنه سيعود، لا تنتظر مثل الناس عودته، أنت تعرف أنه سيعود.
.. ناس أغبيا، اللي زي ده ما يموتش.
إذن قم لما تنوي، افعل ما تحب وما لا تحب، قم الآن واصنع مركباً..، خض به البحر، تلسع جذامك الشمس علها تحنو، ويخفض عليك القمر نوره والنجوم ترياقها.
كان مبهوراً ومغتاظاً من الرجل الذي عمل مركباً وحده، شق خشبه ورتب الألواح، العاشق في المعشوق، يشم رائحة صمغ الغراء ..وكان يغني.
يشعر بلذّة طافحة حين يراقبه، يوماً بعد يوم، حتى استوى، كأنه صنع طفلاً كبيراً في أحشاء الطبيعة، مركب لا يحتاج شراعاً، شراعه روح صاحبه، والمسافات قريبة والبحر ليس عميقاً.
يضحك...:
..على آخر الزمن تعمل مركب يا وله،
أنت، أنت يا أبو الليل.
يسرح بذاكرته للبعيد حتى يصل أمس بأول أمس، يفتش في تاريخه الأبيض، وتاريخه الأسود:
..دا أنت حرامي يا أبو الليل.
ضحكه يصل لآخر الليل.
حين انقطعت ريح العناني تسللت الثعالب والملائكة إلى ليل الوادي، والناس ضجوا من التهامها لطيورهم، تتسلل إلى قلب المخازن وأحواش الدور، تسرق الأرواح.. تشبع دنيئتها، والليل متواطئ..
ضجوا.
.. يسرقوها، وأنت موجود يا بو الليل.
ولأن الحاجة أم الاختراع، تفتق ذهن عزت العايق، بائع الوهم والاختراعات عن حيلة ذكية مثله، ربما صادفها في بلاد كان يعط ويدور فيها.
وضعوا الطيور في أقفاص، مددوا لها الحبال من السقف، بارتفاع معقول عن الأرض حتى لا تطالها الثعالب، بل وضعوها أحياناً في الشوارع المأهولة، في الأمان.. حتى لا تفكر بالاقتراب منها.
جاء الاختراع على مراد مراده، بدل أن ينط حيطان الدار، وقد يمسكه أحد، وهو العفيف الذي لا يجتاز حائطاً لأحد.
..والله، وجت لحد عندك يا وله.
يدخل بالحمارة أسفل القفص، حتى يستوي أمامه تماماً، بصعوبة يحرك جذامه، جذامه الذي لا يسعفه كثيراً، ليضبطه، وبأسنان فئران حادة قاطعة يجز الحبل دون أدنى عناء، لتستقر الغنيمة في حضنه ويمضي.
وبدل أن تضيع الطيور، ضاعت الطيور والأقفاص، بجريدها العصي على الكسر.
..أما عزت ده حتة وله .
اصنع مركباً إذن يا أبو الليل، وطف به، تعبت أقدامك من اللف، وليلك سيأتيك سيأتيك.
جمع الأخشاب ولفافات الكتان، استعارها بالطبع من غيطان أصحابها.. لتغرد في البحر بدل أن تدفَن برائحتها العطنة على الشط.
..وجريد الأقفاص التي كومّتها في كوخ بعيد .. سينفعك يا أبوالليل، اصنع قفصك الآن، قفصك المفتوح.
ودع دنياه، ترك الليل وحيداً دون حارسه، وإن لم يطاوعه قلبه أن ينام فيه..
وراح يصنع المركب.
باغتته روائح أخرى.
مركب يحمل فيها عزيزة، والفناجيلي وإنصاف، لا، لا، دع إنصاف عند حبيبها.
هلّت عليه رائحة فرَج، الليل فسد بدونه، كانا يخرجان دون اتفاق مسبق، ولا مرة اتفقا، ليتقابلا عند نقطة يذهبان إليها ببوصلة الروح ليشربا سيجارتين، واحدة حراماً وواحدة حلالاً، يعفرانهما في وجه الخلق والضيم، يعودان معاً، في منتصف الطريق ينسحب كل إلى حاله دون اتفاق، دون كلمة وداع.
في منتصف الطريق أيضاً..، حين استوى قاع المركب على الأرض، فوق مداميك الحجارة التي تحمله، توقف فجأة، سقطت علبة الصمغ من يديه، طوّح بلفافات الكتان على طول ذراعه، مد بصره بعيداً بعيدا..
لا يرمش، كأنما لاح له شيء يراه جيداً:
البعيد ليس لك الآن، لا تسرح ومحروس نائم، لا تبتعد عن الشط وهو بعيد، وقتما يصحو.. افعل ما تشاْ، در في الدنيا على رجل واحدة، حين تعود ستجد رجلك الثانية بانتظارك.
انحنى، وبدأ يفكك الألواح دون مرارة، وفي وسط العتمة تماماً، بين البناء والهدم لاحت له فكرة أخرى:
راح يصنع أرجوحة، أرجوحتين، حتى لا يفتئت الأولاد على حق البنات. وحتى يتعودوا على عاهات بعضهم بعضاً من الصغر، يصاحبوها ويهضموها.
واحدة بفلوس، وواحدة للغلابة بدون، ودون أن يشعر أحد.
..لا لا، كله من غير فلوس.
أرجوحة مثل أرجوحة البندر، بصناديق خشبية.
أكمل الصندوقين، أكبر من قفص الطيور قليلاً، لا عيد دون أراجيح، ورائحة العيد قريبة، نصبهما في قلب ملعب الكرة، لا أحد يلعبها في العيد، ولا تجرَّأ أحد أن يسأله أو يزاحمه.
راح ينظر بفرح، والصندوق يعلو ويهبط، متأرجحاً بفرحة الصغار، وضحكاتهم المنفرطة قرب الأرض، وفي قلب الجو..
على دكة يجلس قليلاً، يراقبهم، ينخلع قلبه لشقاوتهم الزائدة، ويضحك جواه.. حتى هبطت عزيزة .. ..حتمرجحني يا ولّد الليل.؟
بسرعة أخذها من يدها للفارغة، كأنه كان ينتظرها ويحلم بها.
.. أشوف فرحتك يوم ما يرجع محروس.
صعدا، لم يباليا لأحد، طارا في الهواء، يحلمان معاً دون أن يسرا لبعضهما، أن يظلا هكذا بعيداً عن الأرض.
وبصوت عال :
.. تفتكر محروس حيرجع يا أبو الليل؟
- حيرجع، والأيام الحلوة حترجع، وهو ده سؤال بالذمه.
.. بتقول ايه؟.
- اللي زي محروس ما يموتش يا بت.
يطيران، يطيران، وعينه على الأرجوحة الأخرى، الأطفال يرتفعون عالياً، أولاد الإيه، صرخاتهم وضحكاتهم تحوم فراشاتٍ حول الأرجوحة.
بغتة، انخلع الصندوق، طار بأطفاله في الهواء، طار وارتفع..
يسبح في الهواء، ليلحق بسرب الحمام الذي يرفرف بعيداً، وقلب أبو الليل في ذيلهم.
تذكير2
حتى أبو الليل وفرج مثلهما مثل عزت يجب ألا يمرا مرور الكرام، الحقيقة أنهما لم يغضبا من بعضهما أبداً، عاشا داخل الرواية نفساً واحدة مقسومة على اثنين، سمناً على عسل، لم تدخل بينهما هبة ريح ثقيلة أو خفيفة.
إلا هذه المرة .
مرة يتيمة دخل فيها الشيطان برجله اليمين، وبكل عدته.
في كل مجلس عزاء يصعد فرج يقرأ ويغمض عينيه، وحين يفتحهما يجد أبو الليل في مواجهته أو جنبه تماماً .
حتى عندما يتأخر لسبب يعرفه أولا يعرفه، يثبت نظره أمامه، لا يلتفت.. وفي لحظة غير متوقعة من الاثنين، بين آية وأخرى، يدير وجهه ناحية الباب، يجده يشق الصفوف متجهاً نحوه..
إلا هذه المرة .
كان العزاء عند أصدقاء ليل لأبو الليل، تجار مخدرات في بلد مجاور، كان هازئاً من الميت وأهله، ورغم ذلك ذهب فرج معه لمجاملته، ليقرأ دون مقابل.
بدا من الموضوع أن أبو الليل هو كبير الليلة، وفي وقت الغدا، في لحظة غير متوقعة وضع لفرج تعميرة حشيش صغيرة وسن أفيون أصغر في قلب سلطانية الشوربة، التي استطعمها فرج وشفطها كاملة، وراح يدق على بطنه، وأبو الليل يزغطه اللحم من كومه وكوم الآخرين :
.. عاوزك تدينا ربع جامد من سورة يوسف، بالصلاة على المصطفى.
وصعد فرج، تنحنح كغول ثم انطلق يتعوذ، وبعد البسملة عاد للنحنحة وهو يتحسس دماغه مرة وبطنه مرة، ودخل في سورة طه:
طه...
طه...
مرة ثالثة ورابعة والناس تنتظر حتى العاشرة.
طه ..
وأبو الليل الذي ضرب ضحكه فجأة جدران العزاء يصيح من بعيد :
- انت بتدور عليه فين ..هو أنت مش لاقيه ولا إيه.
انتهى التذكير.
(18)
هذا هو المشهد الأخير مع بعض الإثارة من عندي.
..قوم بقى يا محروس ، انت ناوي تخلّد هنا ولا إيه.
وجهه طافح دون تعبير، يحرك يده اليتيمة، يشيح بالأخرى في غير اتجاه وينادي بأصابعه، تنفرج شفتاه، ينادي، ينادي بصوت غير مسموع، غير موجود.
.. خليك في روحك، اللي راحوا بياخدوا العقل معاهم.
مغمضاً يقلب جفنيه، من أسفل لأعلى وبالعكس، كأنهما تستعصيان على الفتح، كأنه يحلم.
تقترب منه، إنصاف، تحاول أن تفتح عينيه بحنان ..:
افتح عينيك واحلم وأنت يقظ .
كأنك لم تحلم أن يحدث كل ذلك.
سنوات طوال، عليك أن تستعيدها أو تمحها في ثوان قليلة.
.. انت لازم تفتكر كل حاجة قبل ما تمشي.
لا عاصم اليوم يا محروس، أنت خارج الوادي، والوادي يموت ببطء وأنت بعيد.
المعجزات قريبة .. بينك وبينها خطوة.
اليد التي طارت منك ستستعيدها.
وهو يحدق في الفراغ، كأنه يحلم بالرحيل، كأنه يستعيد أحداً.
.. رايح فين يا محروس؟
تنضغط ملامحه، تبّهَت، تكاد تنمحي، كأنه يدرك البؤس الذي غُـرِز فيه حين مر بإخوته وأبنائهم، ليلقي التحية على غفواتهم وغفلاتهم.
..الداخل مفقود والطالع مولود،
وأنت لا داخل ولا طالع.
استدارت، تتلفت حولها، تائهة، تفكر في كوز ماء بارد لتحممه، ليبرأ.. أو ليأتي الملاك ليأخذ كل شيء دون أن يوقظه.
المطاردة طويلة، والمستشفى يكاد يفر من الأرض، يفر معه قلب انصاف .
الموت يترجل من جلبابه في كل لحظة، يكاد ينتصر عليك، الملائكة تترجل من قمصانها، على شفا الاستعداد، تريد أن ترتاح من قطنها وأختامها.
لا عاصم اليوم يا محروس، والريح مقطوعة.
.. بندقية الموت عجوزة، وانت أسد أصيل ..
قوم،
كفاية كده.
قُم لدارك التي سكنتها الشروخ، شجراتك احنت فروعها ، وحمارتك تدلت أذناها وأغمضت عينيها على صورتك، حتى أنفها أغلقته كأنها حبست رائحتك جواها، تأكل بالعافية وتعاف كل أحد سواك.
لا تأبه للأرواح التي تزورك، لا تعطها وعداً، أدر وجهك عنها، أنت مربوط بخيوطك.. خيوط الحياة.
خيطك الحقيقي مربوط بمكانك، ولا كتف عريضة هناك، أبو الأكتاف العريضة نائم هنا بيد يتيمة، في أيام يتيمة بدونك.
.. محدش حيبكي عليك.
انهض يا محروس، بيتك يفتح شبابيكه للريح.
اسمع.. الحمام يبكي، وماكينة الطحين تبتلع صوتها.
قم فارساً، أو مت كما أنت فارساً، لا تحتاج لأحد لينقل عظامك أو يحمل نعشك.
انتفض واخرج، أوقد نارك ثم مت، لا تمت عطشان، اشرب نصف البحر ودع الباقي لعروسه.
الفناجيلي قال إن الملائكة تعبت، كانوا يعتقدون أنهم سيرتاحون.
..خد روحي وقوم بقى،
يا لهوي يا محروس.
انتبهت على جلبة، جاءوا جميعاً دون اتفاق، لكنهم لم
يمروا بمحروس، صعدوا السلم المجاور لغرفته لأعلى المستشفى.
رأتهم من الخلف بربطة المعلم، العناني، أبو الليل، عزت، غزلان، وعزيزة العمشة دون صاحباتها.
صعدوا، ودون اتفاق أيضاً، اتجه كل منهم إلى ركن بعيد عن الآخر، يتقدمهم العناني.. يتحسس جواله الذي حمله على كتفه، مملوء بصوره التي أخذها يوم أن نال السر، ولم يوزعها بعد على بيوت الأتباع.
يخرجها.. يتأملها واحدة واحدة كأنها غير متشابهة، يقربها لوجهه، يكاد يضمها لحضنه.
فجأة كأنه استغنى عنها، أطلقها دفعة واحدة لتذهب إلى حيث مبتغاها وربما مبتغاه.
عزت ترك المشهد يغلي، راح يخرج صور ممرضاته وغزواته، التي أخذها من عند غزلان، يتأملها بعيون واسعة، وهم يرقبونه.. بائع الوهم خانه وهمه .
رفع يديه عالياً، مزّقها وأرسلها في ظهر صور العناني، ثم عاد ليتكئ على حافة السور، يقلب عينيه ليتلصص على واحدة تنشر الغسيل والملاءات، يتحسس جيوبه ليطمئن على مسحوقه.
لم يكن أبو الليل لينظر عالياً، ليبحث عن نجمته الغائبة، ربما يحلم بصندوق آخر، بأرجوحة تحمله إلى الأعالي.. وجدها أم لم يجدها.
بغتة فغر فاهاً، شاهد خيط ناصر يمرق في السماء حتى وصل قمر الظهيرة ..عقدته الدهشة، والقمر بدا كهلال مسنون، كسكين ناصر تماماً، ضوى ضوى، ثم انطفأ،
وبصوت عال:
.. طوال ما محروس عايش، كل واحد يقدر يحلم اللي على كيفه.
غيمة كأنها تقترب من رأسه وتمرق .. تتلوها أخرى مثل بالون أبيض كبير، يلوح منها واحد كفرج بأسنانه البيضاء اللامعة الضاحكة وسط سواده، وأخرى يتقلب فيه رجال كأنهم إخوته، وواحد يدق بالطبل لهم كأنه عبد المقصود.. تمرق فوق رأسه، تدور ثم تغيب فجأة، وبصوت أعلى:
.. طوال ما محروس فيه نبض، كل واحد يقدر يحلم اللي على كيفه.
يبتعد قليلاً، يشيح بيديه كأنه يكلم نفسه :
كل واحد كان عاوز يبقى محروس، بس على طريقته.
والعناني يقترب منه:
- هما دخلوله ولا لسه.
... قديمة وبعيد عن شنبك، ولما يطلعلك شنب الأول.
العناني الذي يبكي كمداً ريحَه الغائبة، يثقل خطوته ويضيع الوقت قبل أن يهبط ليسأل محروس، علّ روحه تطير - قبل أن يسأله - مع صوره وصور عزت.
الوقت يمر، لا ريح، لا كمون، ولا نسمة توحد الله تمر لتناغش روحه.
وحدها غزلان كانت تبتسم رغم أنها انزرعت مكانها، محروس الذي رغبته ولم تنل المراد، موجود برائحته على الأقل.. على حافة قدم منها، وهوالذي سيحضر لها ابنها الغائب بعد قيامه.
وحده الفناجيلي لم يكن موجوداً كعادته، وحده يجهز تربة بروحين، وينتظر ليدخل معه.
وإنصاف صعدت لترى، أول مرة تترك غرفة محروس، بعد أن أغلقتها بالضبة والمفتاح وراءها.
ومحروس انتفض، قطع الخيوط، رمى المحاليل، اندفع في اتجاه دورة المياه، خرطوم ماء كأنه خرطوم حنفية الحريق، قوياً حتى خرجت الصراصير من مكامنها، طويلاً عفياً حتى خرجت الفئران من مخابئها، والطبيب المذهول يرقب الموقف، ويبحث بعينيه عن النعش.
عادوا بسرعة، جميعاً، دون اتفاق ايضاً، الطبيب يصرخ، الفئران تتجه إليه، في غير اتجاه يصرخ ويهرب، والعناني في ذيله.
والباب يترجرج، كأن الموت يدق حوافره عليه، كأنه أغلق دون الملائكة.
فتحته انصاف، وهم في كعبها، تسمّروا،
كان قد عاد من قبل، وضع كمامة الأوكسجين فقط على فمه، وراح في نوم عميق.
لم يتحركوا، ولا شالتهم أقدامهم، يبصّون في اتجاه واحد، كأعمدة زرعت مكانها.
النعش على باب المستشفى
والملائكة تفرقت.
تيتر الرواية :
____________________
الراوي : النعش على باب المستشفى والملائكة أيضا.
محروس : الكبير لا يهان حتى ولو من موت.
انصاف : أموات الدنيا بتنادي على أموات الآخرة..
انصاف : الموت بيجري ورا البني آدمين .. وانت
بتجري وراه.
الفناجيلي : يلتقط وشوشة الملائكة.
الشيخ عثمان : والله ما عيان إلا اللي عنده عيان.
أنصاف : . أموت مكانك يابا .. أموت مكانك.
الطبيب : هو طالع من قتل حتقتله تاني.
العناني : حندفنوه ازاي ده، وحنجيبوله نعش منين؟
المأجور : لو قلت أنا مره يا محروس مش حاطخك.
الراوي : العيار الطائش الذي دوى في الجو يدوي الآن
في قلب الغرفة.
الطبيب الجديد : حقنة هوا واحدة يرتاح وأرتاح.
محروس : والله ماحسيبك يا عبد المقصود الكلب.
العناني : كان فيها ايه لو مد لي العهد على عزبة
إسرائيل.
أبوالليل : الوسّع في الروح يا عناني.
الراوي : الكف تفتح وتغلق وأصابعها لا تتوقف.
الناس : اتشاهد يا محروس.
محروس : مش وقته، مش وقته، هاتوا البندقيه من الترعه.
فرج : بوس ايده انت، دا سيدك لوحدك.
: يانار كوني برداً وسلاماً على الشيخ فرج.
أبوالعشم : أبوك مدوّب النسوان، وأنت بتاع حمير.
امرأة : شفتي الواد يا بت؟؟، رجله التالتة طول إيه؟؟
امرأة : هو هيجيبها من بره، طالع لأبوه يا ختي.
عزت : آه يا ملبن حاشيينك ملبن..
زوجة عزت : يانا.. يا الحمارة.
: اديني كل فلوسك وانا اديك كل عواطفي.
عزت : الموت ده مش من عاداتنا يا بني، اقتل
خوفك منه، اقتله.
عزت : لكن روح العفريت لا تموت، حتى ولو غيَّرت
فانوسها، أو صدات جدرانه.
الفناجيلي : لو راجل اطلع لي يا موت، اطلع لي يا بن
الكلب.
الراوي : طلعت روحها ومقشتها في يدها.
أبوالليل : حرامي جيوب أحسن من حرامي عقول.
أم ناصر : الايد الغريبه نجسه على البيض يا بني.
العناني : وحدوووووووووووووووووووووووووه.
الطبيب : انت ما بتموتش ليه.
عبد المقصود : قولوا لربنا لو الفقر طار ورايا بحصان مش
حيلحقني.
الراوي : عبد المقصود هو الحكومه، والحكومه عبده.
امرأة : عامل راجل على مره.. الحقني يا محروس.
عبد المقصود : الكرباج ده نبوت الحكومه .. للتأديب وكسر
المناخير، ولما الحكومة تبطله حنبطله .
غزلان : توسع هدومها فتفضحها الريح، تضيقها
فتأكلها..ويتبادلن القتل.
نشأت : يابني صوت امك طالع في الشارع وواصل
للسما واحنا عندنا بنات وخايفين عليهم.
عزيزة العمشة : الحزن الكبير يسرق المواويل.
أبوالليل : حرامي جيوب أحسن من حرامي عقول.
العناني : لحية وسبحتان وعيون ضيقة.
انصاف : الداخل مفقود والطالع مولود، وانت لا داخل
ولا طالع.
وحيد الطويلة : النعش ليس على باب المستشفى والملائكة
تفرقت.
كتبت الرواية في المقاهي الآتية:
(تونس)
مقهى السقيفة .. لصاحبته نجوى .. تعلق غلاف رواية (العاب الهوى) على الحائط، وتحكي للزبائن كل ليلة أحد عن" المصراوي" الذي كتبها.
مقهى اللازوردي.
مقهى درة. .. تكاد تطرد الزبائن لأكتب وحدي.
مقهى رندة وفاطمة
مقهى علاء الدين
مقهى الاوبرا
(قطر)
مقهى سهارى " طلب مديرها محمد ، وهو طلع بلدياتي بالمناسبة، كتابة اسمه وهدد بعدم صدور الرواية حال عدم