لا شك أن الأدب النوبى حفر لنفسه طريقا إلى العالمية، لتعبيره عن الحياة المجتمعية فى بيئة شديدة الخصوصية، فكان أدبها شديد الخصوصية، تولى التعبير عنها عدد من مبدعى تلك المنطقة التي عانت مرارة التهجير لأكثر من مرة، مثل إدريس على و يحيى مختار وكاتب هذا النص الذى تفضل بمنح المجلة هذا الفصل من روايته القادمة "الرحلة البحرية إلى مملكة التبر والألماظ" كتعبير عن تلك الخصوصية.

الرحلة البحرية إلى مملكة التبر والألماظ

حـجّـاج أدول

 

الليلة السادسة:

مولاي الملك الرشيد ذو الرأي السديد. نستمر في الحكاية، حكاية مركب العنقاء التي قضت شهورا في جزيرة المسالمين، ثم انطلقت في أغوار بحر الظلمات. أيام شمس وأيام سحب وأمطار. الربان رغم أن المركب تتجه غربا، فهو دائما ينظر حوله عله يرى نافورة حوت منطلقة لينطلق ناحيتها، لكن لا حيتان ولا نافورات مياه ولا الصوت الذي ننتظره قائلا فووووف.

الكل ارتدى ملابس تحميهم من البرودة التي وصلت. الرياح الباردة تدفع العنقاء تجاه سلسلة الجبال. المركب العظيمة في خط سيرها مستمرة. ملل مستمر سواء مع الأيام الصحو أو أيام السحب والأمطار. فأين ما هم فيه، بأيامهم في جزيرة المسالمين؟ لا الرقص والغناء ليلا يخفف الضجر، ولم يعد أحد لا ذكر ولا أنثى يفكر في نكاح. أيام وتحول الملل ضجرا، أنتعش الجميع حين ظهرت قمم حاجز الجبال البيضاء. منصة الدفة عليها الربان إيهابو والريس أبو كتف والدِفَاوي الممسك بالدفة. العنقاء تقترب بهدوء من الجبال، وكلما اقتربت ظهرت قمم الجبال العالية ناصعة البياض من كمية الثلوج التي تكسوها. المركب بحرص والدفة بين يدي الدِفَاوي القويتان. العيون تبحث عن المضيق.

الحاجز سلسلة جبال ممتدة من الجنوب للشمال بلا توقف، والمركب الراغبة في عبور تلك الجبال، عليها أن تبحث عن مضيق العابر لن يعود. العنقاء تبحر موازية لسلسلة الجبال البيضاء وقد انتعشت وانتعش كل من عليها. برقت الأعين وكأنها تتنفس مثلها مثل الصدور، تدفقت الدماء في الشرايين فسخنت الرغبات الجسدية. مسعودي يرفض أن يُعامل على أنه صبي غرير، فقد جامع الكثيرات ولم يعد صبيا جاهلا. العوراء العشيقة الخاصة بشَرْبَشَة. سكنت معه في حجرته ولم تعد من نساء المتعة. أبو كتف حاول الاعتراض، وإعادة العوراء لتنضم لنساء المتعة، فتكون مشاعا للجميع، لكن شَرْبَشَة رفض وكانت المرة الأولى التي لم يستطع تجاوز مضايقات أبو كتف له. كاد أن يضرب أبو كتف وهو قادر على ذلك. تدخل هرماني بينهما بحزم واتهم أبو كتف بأنه يغار من شَرْبَشَة، لذلك يريد مضايقته عن طريق العوراء. ثار أبو كتف، لكن هرماني لم يتزحزح وهدد بشرح حقد أبو كتف لإيهابو، فاضطر أبو كتف للرجوع عما يريد فعله، خاصة أنه تأكد أن شَرْبَشَة سيضربه ويهينه، وإيهابو سيميل هرمانيوشَرْبَشَة.

البحث عن الممر أخذ من العنقاء شهر كامل، وفي نهار يوم صاح المراقب مشيرا لزاوية..

-المضيق. المضيق. المضيق.

المركب العنقاء تتجه للمضيق وكل أفراد العنقاء في رهبة وخوف على سطح المركب يراقبون. العسكر المتبقون 35 عسكريا، كلهم بملابس القتال شاكي السلاح. رماحهم وسيوفهم وأقواسهم وأسهمهم على أهبة الاستعداد. يقفون منتبهين على جانبي المركب ومقدمتها. البحارة في عملهم. أما النساء وعمال الخدمات ففي المنتصف يتابعون. إيهابو على منصة الدفة وبجانبه الريس أبو كتف. الريس شَرْبَشَة. يتابع العمل مع الملاحين. هرماني ومسعودي خلف عسكر المقدمة. التوتر يعم الكل، فها قد وصلوا لأخطر مفاصل الرحلة، مفصل المضيق القائل إن العابر لن يعود، فهل يعودوا أم الموت ينتظرهم؟

المضيق بالكاد يسع عرض العنقاء. تدخل العنقاء المضيق ومياهه مندفعة مع اتجاهها. الجبال من الجانبي بعلو هائل. المضيق يلتوي بجباله والعنقاء تلتوي معه في المجرى الضيق في حرص بالغ. المضيق كأنه أنبوب هواء ضخم يستجمع الرياح لتكون تيارا قويا يدفع المركب، أمر إيهابو بطي بقية الأشرعة، واستكفي بقوة الرياح في جسد الركب وعنفوان تيار مياه المضيق. يفكر إيهابو.. إن كانت مركب آتية من الجهة المقابلة، فما العمل؟ ينفرج المضيق فجأة عن شبه بحيرة ضيقة ثم يعود ضيقا. على المركب لا أحد يتكلم. صمت رهيب. قلوب البعض تقول.. يا ليتني ما جئت في هذه الرحلة الوبيلة. المضيق لا يستقيم أبدا، التواء يمين ثم التواء يسار، ثم يسار اليسار وكأن المضيق سيعود للخلف، ثم بحيرة صغيرة ثم عودة للضيق الخانق الذي يكاد يحتك بجانبي المركب، وإن احتكت المركب سوف تصاب وتتكسر ألواحها. الجبال من الناحيتين على علوهما الهائل الذي لا ينحني. المضيق يستقيم فجأة فرأى البحارة في الأمام وعلى اليمين، جُرم الجبل ينسحب للخلف تاركا هضبة صغيرة قصيرة نوعا مسطحة، الهضبة تعلو سطح المركب بقليل. الأشجار التي على الهضبة ضخمة، أشجار صفراء جافة. تقترب العنقاء من الهضبة، وازتها تماما واكل ينظر للأشجار بجذوعها الضخمة. المراقب من أعلى الصاري صرخ..

-ما هذا؟! احترسوا.

وفي نفس الوقت، امرأة لم تصدق عينيها وقد لمحت كائنا خلف جذع شجرة يراقب المركب. لم تتكلم، فقط أشارت لجذع الشجرة، آخر شاهد كائن آخر خلف جذع شجرة أخرى. وفجأة ظهر من خلف جذور الأشجار مساخيط بشرية عارية لكن أجسادها مغطاة بكاملها بالشعر الطويل. مساخيط متوحشة تسرع لتهجم على المركب العابرة وهي تصرخ صرخات ترعب الأسود. العسكر كلهم تجمعوا على الحافة اليمنى حيث الهجوم. وفورا أطلقوا سهامهم فأصابوا عددا من المساخيط وأسقطوهم قتلى قبل أن يصلوا لحافة الهضبة، لكن أكثر المساخيط وصلوا للحافة، وبدون أي تردد قفزوا على سطح المركب بتهور غبي. من وصلوا أولا طعنتهم حراب وسيوف العسكر فماتوا سريعا بدون أن تصدر منهم صيحات ألم،! بقيتهم وصلوا للسطح ولم يهتموا بالقتال، بل كان همهم الإمساك بنساء المركب اللاتي يحاولن الهرب لباطن المركب هن وبقية رجال الخدمات. من يمسكون بها، في لحظة يلقونها على ظهرها صائحين في ابتهاج، ويهبطون عليها ممزقين ملابسها استعدادا لنكاحها. وقبل أن يفعلوا فعلتهم تكون حراب وسيوف العسكر قد طعنتهم في ظهورهم فيموتوا راضين فوق النساء، وكأن هذا هو المبتغى. المساخيط تصرخ وهي تثب تصرخ وهي تهجم على النساء تصرخ ولا يهمها طعنات السيوف والرماح التي تقتلها فلا تصرخ وهي تُطعن وتموت. هبط إيهابو والريس أبو كتف من منصة الدفة وشاركوا في المعركة المحتدمة، وتركا الدِفَاوي يقود العنقاء وحده. تكالب مسخوطان على مؤخرة تخاين، وتخاين يصرخ مستغيثا حتى أتاه عسكري وطعن المسخوطين وقتلهما. هرب تخاين لباطن المركب لينضم للمحسس الأعمى الذي يبكي رعبا. هرماني ينقذ مسعودي من مسخوط ألقاه أرضا على بطنه ومزق ملابسه وكشف عورته، وأراد أن ينكحه. هرماني طعن المسخوط في ظهره ثم أبعده عن ظهر مسعودي والذي يحاول تغطية مؤخرته. ثم فوجئ هرماني بمسخوط يهجم عليه ليمزق ملابسه من الإمام. يطعنه هرماني فيصدر المسخوط صرخة رضاء أنثوية، إنها امرأة مسخوطة!

مازال المساخيط يأتون من الهضبة ويثبون على ظهر العنقاء. السهام تقتل منهم لكنهم مستمرون. ثلاثة على جَمَسة السمنية يمزقون ملابسها وهي تصرخ وأظافر المساخيط تجرح ثدييها وبطنها ووجهها. أنقذت بوصول عسكريين قتلا المساخيط الثلاثة. تمكنت بقية النساء من النزول في بطن المركب. لحق بهن في الداخل ثلاثة من المساخيط فهبط خلفهم سبعة من العسكر. دارت معركة فتم قتل الثلاثة. المساخيط لا يرتعدون ولا يرتدعون، وكأن الموت لعبة يلعبونها ويسعدون بها. يمسكون برقاب العسكر ويغرسون فيها أظافرهم الطويلة، أو يهجمون ليعضوهم عضات وحشية. يتلقون الطعنات القاتلة ويستمرون في الصراخ، صرخاتهم بعد هروب النساء، اختلطت بها الحسرة. العنقاء مستمرة في سيرها حتى تخطت هضبة، المساخيط من لم يلحقوا بظهر العنقاء، وثبوا في مياه المضيق ليسبحوا ويلحقوا بها، وهم لا يجيدون السباحة! وثوبهم انتحار أكيد لا معنى له. استمرت المعركة حتى تم قتل آخر المساخيط.

وفي باطن السفينة وجدوا ثلاثة من المساخيط قتلى وعسكري مات ممزق العنق، وامرأتين مساخيط لحقوا بهما فمزقوا بطنيهما خلال تمزيق ملابسهما. كتب أيهابو في دفتر المركب أن القتلى تسعة.. أربعة عسكر، واثنان بحارة، وامرأتين وشغال.

العنقاء مستمرة في العبور، والعسكر يمسكون بجثث المساخيط ويلقونها في المضيق. وجدوا مسخوطا جريح بطعنة سيف لكنه لم يمت. الجرح عميق والمسخوط لا يتألم، بل صار وجهه مستريحا. ثم بدأ يتبسم راضيا! رفع عسكري حربته ليستكمل قتله، لكن صيحة هرماني وصلته وأبعدته. ركع هرماني بجوار المسخوط. ينظر للمسخوط مستفهما والمسخوط ينظر إيه مبتسما. قال هرماني..

-آتوا له بجرعة مياه.

       شرب المسخوط راضيا. البحارة مشغولون والعسكر عادوا على حواف العنقاء في استعداد لأي معركة تالية. مع مرور الدقائق وجه المسخوط وجسده يفقد شعره الكثيف. هرماني يسأله عن حكايته، فحكى المسخوط ببساطة..

-نحن بشر سخطنا الله.

-لماذا؟

-غضب علينا.

-ماذا فعلتم؟

-إنه زنى المحارم. كل منا اغتصب إما أخته أو ابنته، أو حتى أمه. ومنا الذي اغتصب أخاه الصغير، وبعض النسوة معنا، اغتصبن ذكورا محرمين عليهن. وكلما مات أحدنا قبل أن يتوب ويستغفر ربه ليتوب عليه الله. يُسخط مثلما رأيتمونا، يُسخط بشعا مقيتا ويُقذف به لجهنمنا الأولية ليتعذب هنا قبل موتته الآدمية، تلك الهضبة الملعونة، الهضبة الجرداء إلا من شجر أصفر ميت ثماره علقم. والهضبة لها عمق في باطن الجبل، عمق ملئ بالسراديب العطنة، ومجاري مياه عفنة. نبقى سويا مساخيط بشعة نتشاجر مع بعضنا كل لحظة، نتضارب ونصيب بعضنا في مقتل فتسيل دماؤنا ولا نكف عن النزف لكن دمائنا لا تنضب، ولا يأتينا الموت الذي نتمناه، فلا موت لنا فالموت بالنسبة لنا راحة. فنحن هنا لا حياة ولا موت. ليس لنا شيء سوى الضجر الخانق والسخط الحارق. محرومون من الطعام والشراب والنكاح، محرومون من الراحة فلا نوم لنا ولا حتى مقدرة على الجلوس أو التمدد على الأرض، كُتِبَ علينا أن نظل وقوفا حتى نموت، فنسقط أرضا ونتمدد ونستريح. هنا كل وقتنا ليلا ونهارا قتال فيما بيننا وسباب غليظ، لا يطيق أحدنا الآخر. وقت توقف السباب والقتال نستغرق في البكاء واللطم. هذا هو ما نحن فيه ونعانيه، عذابنا أشد من الحرق فيما نظن. نتمنى الموت ولا نجده، نضرب رؤوسنا في صخر الجبل، ننزف لكن لا نموت، نسف التراب ونأكل الثمار العلقمية لنعذب أنفسنا. فرصتنا الوحيدة في الموت، هي مرور مركب فنهاجمها غلا وحقدا وطلبا للراحة من عذاب هضبتنا. ونجد أنفسنا نحاول فعل ما فعلناه في دنيانا، من اغتصب أنثى محرمة يحاول اغتصاب أنثى على ظهر المركب، إن اغتصب ذكرا محرما، يحاول اغتصاب ذكر. النساء فينا من اغتصبن محرما، تصر على اغتصاب رجلا من رجال المركب العابرة. ومن يموت في هذه المحاولة، يموت فعلا ويستريح. فرحتنا أن مركبكم مليء بالنساء، لذلك كان اندفاعنا أكثر حماسة مما سبق. فقد مرت من هنا حوالي ثلاثين مركب لم يكن على ظهرها سوى امرأة عجوز. تكالب عليها كل المساخيط فماتت، ومات كل من وصل للمركب ومن وثب في المضيق. مات كل المساخيط مع مرور آخر مركب، ليأتي غيرهم وهكذا.

       كل دقيقة شَعر المسخوط يخف ويختفي، وبشاعته تنسحب لتظهر هيئته الأصلية البشرية. هرماني يتابعه في اهتمام. يسأله..

-كيف عرفتم هذا ولم تكونوا متواجدين وقتها؟

-داخل السراديب لوحات جدارية سطر فيها تاريخ مساخيط الهضبة، إنها من سبعة آلاف سنة. لقد مرت من هنا مائة وعشرون مركبا متجهة غربا، وعادت ستة مراكب شرقا، ومن تعود سريعا، يكون عدد المساخيط قليل، فكل شهور يرتكب أنسي الفعل البشع، اغتصاب المحارم، وعندما يموت يتم قذفه لجحيمه هنا. لذلك حين تأتي مركب كل خمسين أو ستين أو سبعين سنة، نلقي بأنفسنا عليها وطينتنا النتنة تتحكم فينا فنحاول أن نزني بركابها، يقتلونا ويتحقق موتنا المعتاد السعيد مثل بقية البشر. حين نهجم لنغتصب، نعلم أننا لن نستكمل. لكنا نريد الموت، فالموت رحمة لنا هنا، وندعو الله أن يرحمنا هناك. والآن.. أنا أموت.

       مولاي