كان من الممكن أن أسحب إحدى القصص الكثيرة التي كتبتها من قبل عن تجربتي في الحرب, غير أن الأصدقاء قبل النقاد ربطوا اسمي بتلك التجربة, كأنني لم أكتب سوى عن تجربتهم لا عن الإنسان في شخصي, وكأني إنسان بلا حياة ولا تجارب.
من شدة وطأة المؤامرة, أفكر في حيلة لا يستطيع الناقد أو القائم على الصفحة الأدبية أن تبين له.. أكتب عن الحرب وكأنني أكتب عن حياتي, أو أكتب عن حياتي وكأنني أكتب عن الحرب!
سحبت ورقة بيضاء من غير سوء, خططت الخطوات. بداية من الهدف.. وهو كتابة قصة (اكتشفت منذ فترة طويلة أنني لا أجيد إلا كتابة القصة, لم أعتد على اليوميات أو المقالات). فالقصة وحدها القناع الخفي الظاهر الذي أتخفى من تحته، فلا يستطيع أحدهم أن يتهمني بسوء الأدب حتى لو شرحت أحوال اللذة وأنا هائم في أسرار النفس البشرية أسعى لإبداع متعة بديلة! فالذي لا يعرفه البعض أنني لم أتزوج حتى تاريخه لقصر ذات اليد, بينما أسعار الشقق في حاجة إلى يد طويلة، حتى عبرت سني الزواج، ولم أعد أصلح إلا لتربية العصافير في الشرفة.
بالقصة لن يتهمني أحدهم بأنني من قوى المعارضة المشاغبين, عندما أجمل في مساكن الإيواء التي يقطنها سكان ضواحي القاهرة والمدن الكبرى, فأجعل من السرقات بالإكراه التي زادت, وسيلة للحياة فأكرر حكاية "أدهم الشرقاوي" بحيلة بسيطة؛ أستبدله بأحدهم يدعي "طلحة" أو "شبارة" أو أي اسم يبدو بلا معنى.. ولأنني ممن درسوا علم الجمال والنظريات النقدية, سوف أتعلق بنظرية "جمال القبح"!
(أحد خبثاء الفنانين التشكيلين من سكان حي السيدة زينب, التقط مشهد المخلفات فوق أسطح المنازل التي يطل عليها من نافذة شقته العلوية, وسجلها –كلها- في لوحاته, ولم يرسم غيرها) بالقصة فقط لن يتهمني أحدهم, على الرغم مما تسببت له من ألم وفضائح, لن يجرؤ على مواجهتي بتهمة السب أو القذف! لن يحرر محضرا في قسم الشرطة ضدي, بالاعتداء على كرامته.. أن أدير دفة القصة بحنكة وخبث ناحية من أقصد سبه وقذفه. كأن أسجله باسمه وأقول تشابه في الأسماء, وأن دليل التليفونات مليء بالاسم محل الشكوى!
أخيرا أميز ما تتميز به القصة أنها تحميني من سطوة جهات خفية, تعلم أنني من هؤلاء المتابعين الفاهمين ولكنني من الخبثاء, فلا أفصح عما أريد, ولم أعبر الخطوط الحمراء, من يفهم يفلح, ومن لم يفهم.. فهم الغالبية, في كل الأحوال أستطيع أن أقسم بغليظ الإيمان أمام القاضي وأنا أضع المصحف على صدري.. أنني لا أعنى ما يتهموني به.. خبيثا ذلك الذي اخترع القصة, وعلمني كتابتها!
عادة أبدأ القصة وأنا على مشارف عنوانها, إن لم يكن مكتوبا بالحرف والكلمة على الترتيب. لكن الغريب أن تلك القصة التي قررت أن أتخابث بها إلى الجميع, بدأت بلا عنوان, وهو ما جعلني أشعر بشيء من الضجر والقلق.
أصبحت من محترفي كتابتها, أعرف أن أبدأ بفكرة واضحة أو حتى ملتبسة، لا يهم. ثم أقرأ بعض من الشعر, ثم أحتسى القهوة التي تبدو وكأنها السحر الساحر, وأدخن, مع كل فكرة جديدة أنتهي منها, وأي جملة لم تكن على الخاطر, أكافئ نفسي بسيجارة. ثم قبل ذلك كله أفتح النافذة على مصراعيها, إن صيفا أو شتاء.
فيما سبق كنت أستخدم –غالبا- ضمير المتكلم, حتى ظن النقاد قبل الأصدقاء أنني أكتب عما حدث لي شخصيا, أقسم أنني لم أر جنديا إسرائيليا واحدا طوال فترة الخمس سنوات التي قضيتها في السويس أثناء المعارك وما قبلها.. لا يصدقني أحد.. يرددون في ثقة: (البطل, دائما متواضعا, ويخجل الحديث عن نفسه.. أنت بطل, يا بطل).. يبدو أن الناس تريد بطلا.
لا يهم, موافق؟!..
سوف أستخدم ضمير المخاطب, لا أريد أن يخلقوا صورة كاذبة عني, سوف أخاطب عقولهم لا خيالهم, ربما ينتبهون. المشكلة تتجدد, سوف يضعني ضمير المخاطب هذا في ورطة. أتذكر يوم أن استخدمته للمرة الأولى, وتبت بعدها، حين قدمت القصة إلى المحرر الوقور المجهد المشعث وقد غلبته أشياء لم أدركها في حينها .. لكنني وصفتها بأنها ضرورات الفن والصحافة.. كثرة التدخين, أن ينظر إليك مجهدا ملولا, أن يكتب ثم يسرع ويمزق ما كتبه, وأشياء أخرى قد تبدو فردية.. كأن يفعل ما قلته لك وعندما تهل كاتبة مجهولة الهوية يبدو منفرج الشفتين من الأذن إلى الأذن على حد وصف المثل الأمريكي.
يوم أن قدمت القصة إلى المشرف الأدبي.. سحب الورقة من يدي, أقول شدها بملل وزهق وقرف قائلا: (هات..)
كنت قد نويت قراءتها له, فضل أن يقرأها بنفسه. ومع السطر الأول تبدلت كل ألوان الطيف على صفحة وجهه, بعد الفقرة الأولى رمى نظرة من تحت نظارته الطبية المعلقة وسط عظمة أنفه. بعد الفقرة الثانية سحب شهيقا عميقا, وقبل أن تنتهي الصفحة والقصة ضرب المكتب بكفه الصغيرة: (تقصد من يا أيها الصعلوك النكرة الهلفوت ..أنا أم الأستاذ)
حتى الآن لم أعرف من هو بالضبط الأستاذ؟ وقتها لم أكن قادرا حتى على تبرير استخدام الضمائر في القصة ولا في الحياة!
موضوع الضمائر مع المشرف الأدبي في أول قصة أستخدم فيها ضمير المخاطب, سبب لي عقدة.. في القصة والحياة. أوضح لك المسألة أكثر.. إذا استخدمت ضمير المخاطب في الحياة فأنت مضطر لاستخدام ألفاظ غير المعتادة حتما, مثل سيادتك وحضرتك ومعاليك وسموك وكلها باتت شائعة, جيلي الآن يستخدمها بأكثر من استخدامها قبل ثورة 52 التي الغت الالقاب. قبل الثورة كانوا يسبقون الأسماء أو يلحقونها بلقب بيك أو باشا ودمتم. الآن المسألة تعدت البيه والباشا.. "الباشا عبود" بكل ما نعرفه عن ثروته كان يملك خمسة ملايين جنيها مصريا. أقسم أن الحاج "قرمة" جزار العمارة التي أقطنها يملك أكثر من عبود باشا لكن العملة بالدولار.
سوف يتعدى الأمر مسألة استخدام مفردات خاصة, الوضوح في الفكرة والإشارة وهو ما يعنى تحديد المسئولية المباشرة للمخاطب, سوف يوقعك في ورطة توجيه التهم للآخر. تخيل أن القصة تتناول الشرير الذي استولى على تيمة فكرة قصة حول موضوع "الحرب" وتجربته (مثلا) وكيف أنها لم تعد هي المقاتلة والانتصار الدائم والبطولة والفرح؟
أصبحت تعنى البحث في دخائل الشخصيات وإبرازها تجاه تجربة خاصة, وأثناء لحظات يصعب على المرء التفكير فيها أو إقرارها أو حتى تخيلها, ولولا أنني رأيتها بعين رأسي, ما كتبت عنها.
تجربة الحرب في القصة التي أريدها, لا تصرخ فرحا, بل تندم على سوء الفهم والغباوة التي يمكن أن تمتلك جماعة أو حتى دولة بأكملها. كما أنها تعنى الموت في مقابل الحياة, إذا كان ضروريا ولابد من الموت, بدلا عن العيش في هوان أو مذلة سرقة الأرض والشرف. يبدو أنني سأتكلم مثل الجميع, وأعود إلى مقولاتهم الجاهزة, بينما أريد قصة غير مسبوقة.
نعم, نعم.. التجربة الحربية التي أتناولها في قصتي، سوف تعنى تأمل الجديد.. مثل لحظة لا نعرف لها وصفا يقرر فيها أحدهم أن يلقى بنفسه على فوهة المزغل الذي يحمى مدفعا سريع الطلقات للعدو.. ماذا كان في رأس الدفعة "عواد" الجندي الصعيدي أثناء اقتحام حصن خط بارليف أثناء معارك 73م؟! وما كان يفكر فيه وهو يسرع الخطو, يتقدمنا, كي يلقى بنفسه على فوهة مدفعهم.. ليموت وينقذنا من الموت، يموت من أجلنا؟!
لو نجحت في إبراز الأسباب بطريقة فنية, غير مفتعلة ولا منفعلة, سوف يعترفون أنني كتبت قصة حربية غير مسبوقة, وأن تجربتي الخاصة جدا في الحرب, ليست هي, تجربتهم. ما ذنبي وأنا أرى الجندي "سلامة" في ميدان التحرير, يهل على وهو يعرج فرحا أن رآني ثانية, وقد نلت الوظائف العليا في الدولة, وشاهد صورتي في إعلان خاص عن الشركة التي أتبوأ مكانا مميزا فيها, بينما لم ينجح أحدهم من نزع الرصاصات من قدمه, وأصبح ساعيا في دهاليز ديوان وزارة الأوقاف, وبلا عمل حقيقي. آه يا سلامة, كنت أقوانا, وأشجعنا, أتذكر جيدا خبثي وكلانا داخل الحفرة البرميلية الغائرة, ولفترة زادت عن الساعتين, زهقت, طلبت منك أن نخرج لأننا لسنا جبناء نبقى هكذا تحت الأرض بينما الزملاء يقاتلون ويردون الرصاص بالرصاص.. هاجت حميته المعتادة, وخرج مندفعا من أعلى الحفرة البرميلية, وأنا أقذف به بكل طاقتي كي يخرج وحده, و... ولم أتبعه!
سمعت فجأة صرخة, حتى حدود الحاجبين رفعت رأسي من الحفرة, رأيته مصابا, مدرجا في دمائه... لماذا تذكرت سلامة؟ ربما من المناسب أكتب قصة تصف لحظة أن فقد ساقه وظل يدافع عن موقعه حتى فقد بقية جسده ثم روحه.. يعنى أجعله بطلا, هو يريد ذلك, والناس. أشعر الآن بعدم الرغبة في استكمال القصة. ناقشت الفكرة, فتبعثرت. ناقشت تفاصيل التقنية الفنية واستحضرت خبرة كل ما قرأت وسمعت.. فتبعثرت .
قررت أن أهون على نفسي, وأن أقضى بعض الوقت أمام شاشة التلفاز, لعلي أرى إحداهن ترقص وأخرى ترقص أيضا.. اعتدت أن أخفى الصوت وأنا في حالة الكتابة أو التمهيد لها حتى لا تشوش رأسي بما أسمع.. يكفيني جدا أن أراها ترقص. لم أر راقصة, رأيت بركة دماء, وبيت يتهدم, وطفل معلق بشجرة, يبكى على جذعها وهو بتابع البلدوزر يذبح لوحة الشطرنج وكرته الكاوتش وكراسته.. ورأيت مئذنة رأيتها منذ أعوام كنت أمامها في زيارة إلى ضريح "على" ومقهى بشارع "أبى نواس".. في بغداد. سألت رأسي وجعلتها لعبتي حتى آخر الليلة.. هل ما رأيت هي العراق أم رفح فلسطين أم جنين سوريا؟ وحتى نهاية الليلة, لم أفتح صوت التلفاز, ولم أعرف الإجابة! نسيت موضوع كتابة القصة.. لعنت قصتي وكل قصص العالم والقاصين, وكل الضمائر التي استخدمتها من قبل والتي سوف يستخدمها قلمي وقلم كل الناس في المستقل!
************