رجاءً من أهلنا في الأرض المحتلة عام 48
كل التحية والتقدير والمحبة والاحترام لأهلنا الصِّيدِ الكرام، الشُمِّ الأباةِ، الشجعان الكُماةِ، الصامدين في أرضهم، الثابتين على مواقفهم، المتمسكين بحقوقهم، القابضين على جرحهم، والصابرين على ألمهم، الذين حافظوا على أرضهم وثبتوا فيها، وتمسكوا بها وعمروها، وضحوا في سبيلها وقدموا أرواحهم من أجلها، فحافظوا بوعيهم وعلو همتهم، وأصالتهم وصدق وطنيتهم على هويتهم الفلسطينية ولغتهم العربية ودينهم الإسلامي والمسيحي، وعمروا بأنفسهم وحياة أجيالهم مساجد فلسطين وكنائسها، وعَلَّوا مآذنها ورفعوا أجراسها، وصبغوا بعراقة انتمائهم وأصالة نسبهم أرضهم بالصبغة الفلسطينية والهوية العربية.
كل التحية لأهلنا في الأرض المحتلة عام 48، في الناصرة واللد، وفي الرملة والخضيرة، وفي حيفا ويافا وعكا، وفي العفولة وسخنين، وفي كفر قاسم وكفر كنا، وفي أم الفحم وقلنسوة وجت، وفي عموم أرضنا الوطنية الفلسطينية، الناطقين بالعربية، والمحافظين على لهجاتها وعاداتها، والمتمسكين بقيمها وتقاليدها، والحريصين على حجابها، والمفاخرين بأثواب مدنهم التراثية، اللافتة الأنظار بألوانها الزاهية، وتطريزاتها الجميلة، والمميزين بسحناتهم السمراء التي لوحتها شمس فلسطين الساطعة.
فضلُ أهلنا في الأرض المحتلة عام 48 على الشعب الفلسطيني عموماً فضلٌ كبيرٌ، ولهم علينا دينٌ غير يسيرٍ، فقد تحملوا أكثر من غيرهم وأعطوا أفضل من سواهم، وبقوا في أرضهم راسخين كصخرة، وثبتوا فيها كالجبال عُلُّواً ورُسوَّاً وفي الأرض عمقاً، وتصدوا لكل سياسات الاحتلال العنصرية وواجهوها، وكانوا خير سندٍ لشعبهم الفلسطيني في كل مكان، وساهموا في صمود أهلهم في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وكانوا أول الثائرين من أجل القدس ودافعاً عن المسجد الأقصى المبارك، وأكثر المرابطين وأكرم الناس في البذل والعطاء، وأسرعهم في النصرة والمساعدة، وأصدقهم في النخوة والمروءة.
أحببنا أهلنا في الأرض المحتلة عام 48، وتعلقنا بهم وعلقنا عليهم آمالا كبيرة، وقد رأينا منهم ما يسرنا ويسعدنا، رغم أن بعضاً من شعبنا وأمتنا العربية قد أساؤوا فهمهم قديماً ولم يحسنوا إليهم، وظنوا فيهم سوءً وخالوهم شراً، إلا أنهم كانوا أكثر أصالة من أن ينقلبوا على شعبهم ويتنكروا لأمتهم، وأثبتوا لهم مع الأيام وبالتجارب العملية أنهم أكبر من الظن السيء، وأنهم طهرٌ صادقٌ وعملٌ مخلصٌ وثباتٌ راسخٌ.
ولعلهم بمواقفهم الوطنية أغاظوا العدو وأربكوه، فقد انتفضوا مع أهلهم، وثاروا مع شعبهم، وغضبوا لأجله وهبوا لنجدته، وما مواقفهم الأخيرة المناصرة لأهلنا في القدس وحي الشيخ جراح، ورباطهم في الليل والنهار في باحات المسجد الأقصى، وغضبتهم الوطنية إبان حرب سيف القدس عام 2021 وغيرها، لهي خير دليل وأصدق برهان على أنهم أمناء على الوطن، ومخلصون للشعب، وصادقون في حمايته والدفاع عنه، ومقدامون في التضحية والفداء وفي البذل والعطاء.
أردت بهذه المقدمة التي هي دون حقهم وأقل من فضلهم، ولا تكفي لشكرهم، أن أتقدم إليهم برجاء، وأن ألتمس منهم التفهم والقبول، عندما يلقاهم أحد في المطارات أو خلال سفرهم وتجوالهم، ويسألهم عن جنسيتهم أو المكان المتوجهين إليه، ألا يصدموهم ويقولوا لهم أنهم من "إسرائيل"، وأنهم متوجهون إلى "تل أبيب"، فهذه الكلمات رغم علمنا أنهم لا يقصدون شرعيتها ولا يؤمنون بها، وأنها ليست إلا للتعريف وتحديد الوجهة، فنحن لا نشكك فيهم ولا نقلل من صدق انتمائهم وأصالة وطنيتهم، إلا أن هذه الإجابات العفوية تزعج السائلين، وتقلق العرب المتضامنين، كما أن كلماتهم تثير حفيظة أطفالنا، وتدفعهم للسؤال والاستغراب، وهم الذين يشعرون بشرف الانتماء إلى هذا الشعب العظيم، الذي يعيش في أتون النار وفي قلب العاصفة، ويتحدون بإيمانهم ووطنيتهم صلف الاحتلال وعدوانه.
يشعر العدو الإسرائيلي بالزهو والفرح وهو يسمع الفلسطينيين وهم يجيبون السائلين عنهم أنهم من "إسرائيل"، أو أنهم متوجهون إلى تل أبيب، خاصة أنهم يتكلمون العربية ويجيبون السائلين العرب الفرحين برؤيتهم والحديث معهم، لكنهم يتوقعون منهم إجابةً أخرى تفرحهم وتسعدهم، وتشعرهم بعمق الرابطة معهم، ووشائج القربى وإياهم، ويكون الأمر أشد سوء وأكثر وجعاً عندما يسمعونهم يتحدثون مع بعضهم البعض باللغة العبرية، بينما هم عربٌ أقحاحُ، ويجلس بالقرب منهم عرب وفلسطينيون.
أهلنا وأحبتنا يا تاج الرؤوس وفخار الأهل، يا مهجة القلب وقرة العين، هذا ما نريده منكم رجاءً وليس أمراً، وطلباً وليس قسراً، فمثلكم يأمر ويُطاعُ، ويقول فَيُسمعُ، ويطلب فَيُجابُ، أاعلموا إننا نحبكم، ونحب أن نرى ترجمان عزكم ولسان فخركم، بلسان عربي مبين، وبعالي الصوت وشموخ الرأس وعزة الانتماء، تجيبون كل سائل أياً كان، الأجنبي قبل العربي، والإسرائيلي قصداً وعمداً قبل الفلسطيني، ليشعروا أنكم أبداً لم تنسوا ولم تفرطوا، ولن تساوموا أو تتساهلوا، وأن الجواز الذي تحملونه قهراً، والجنسبة المفروضة عليكم غصباً، لن تمنعكم أبداً من الانتساب إلى الأصل والحنين إلى تحرير الأرض واستقلال الوطن ولَمِّ الشملِ وجمعِ الكلمة، وعودة الشعب وفرحة الأهل، ورحيل العدو وزوال الاحتلال.
ألفُ تحيةٍ وسلامٍ لكم أيها الشعب الأجلُ مكانةً والأعظم منزلةً........
المتباكون على المناخ متآمرون عليه
لا شك أن الكون في خطر، وأنه بات يواجه تحدياتٍ كبيرةً ومصيراً صعباً قاسياً، فالمتغيرات متسارعة، والتبدلات المناخية مطردة، وتقلبات درجات الحرارة مربكة، وارتفاع مستوى حرارة البحار والمحيطات وذوبان جليدها ينذر بكوارث كبيرة وفيضاناتٍ مدمرةٍ، ونسبة الكربون في تزايدٍ مستمر، وثقب الأوزون في اتساعٍ دائمٍ، والتلوث يطغى على أغلب مدن العالم، وقد أخذ يزحف إلى القرى والأرياف البعيدة، والغازات السامة المنبعثة من عوادم السيارات ومداخن المعامل والمصانع تكاد تجعل الحياة مستحيلة، والمياه الجوفية باتت ملوثة، وفيها ترسبات كثيرة عجيبة وغريبة، بما لا يجعلها صالحة للشرب وحتى للري والخدمة، والآثار المترتبة على تدخل الإنسان في شؤون الكون خطيرة، والأمراض المستجدة والأوبئة المفاجئة أكبر من قدرته على التصدي لها ومواجهتها.
لا ننكر كل هذه المخاطر وغيرها، ولا نستخف بها أو نقلل من شأنها، ولا نستهين بنتائجها أو ندعي السيطرة عليها، ولا نطالب قادة دول العالم بتركها وعدم مواجهاتها، أو الاستسلام لها والهروب من أمامها وعدم العمل للتصدي لها أو التقليل من أخطارها، فهذه مسؤولية سكان الأرض من البشر، الذين قاموا على مدى أكثر من ثلاثة قرون مضت بإفساد الحياة على ظهر وجوف الكوكب، فقد جعلوا منه كوكباً فاسداً قاتلاً، مثقلاً بالأمراض والأوبئة والمخاطر والتحديات، وقد كان نظيفاً نقياً أخضراً يانعاً، منعشاً صحياً، معتدلة حرارته ولطيفة أجواؤه، وغنيةً أرضه وسخيةً سماؤه.
اليوم يجتمع أغلب قادة دول العالم للمرة السابعة والعشرين في قمة المناخ، لمناقشة كل هذه التحديات وغيرها، واقتراح أفضل الحلول لها، وتوفير الميزانيات اللازمة لمختلف الأبحاث العلمية لضمان التوصل إلى أفضل الحلول للتخلص من العيوب والمشاكل، أو لإجراء التعديلات وتحسين الأداء والتخفيف من الآثار المدمرة للانبعاثات الغازية للمصانع والمعامل والسيارات، ولحث دول العالم على الكف عن إجراء التجارب النووية، ودفن المخلفات النووية في جوف الأرض أو في أعماق البحار والمحيطات.
وصل إلى شرم الشيخ بمصر أغلب قادة دول العالم للمشاركة في أعمال القمة، ملوكاً ورؤساء وأمراء ورؤساء حكوماتٍ وآخرين، وكان في استقبالهم جميعاً الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، للدلالة على أهمية القمة، التي تناقش أزمات الكون كله وتحديات المناخ المستجدة، وقد بدت عليهم الجدية الكبيرة والمسؤولية العالية، وسبق وصولهم تصريحاتٌ كثيرة ووعودٌ كبيرة، وكان ممثلوهم قد أعدوا جيداً للقمة وحضروا لمختلف مواضيعها، لضمان نجاحها وتحقيق أفضل الإنجازات المرجوة.
قد لا أرغب في الحديث عن النقاشات التي جرت في جلسات قمة شرم الشيخ، لأنها لم تختلف أبداً عما جرى في مثيلاتها السابقة، التي ناقشت نفس القضايا وبحثت في ذات العناوين، وحضرها قادة أعظم الدول وأكبر زعمائها، حيث لا يوجد أدنى تغيير إلا في الوجوه الحاضرة والشخصيات الممثلة لدولها، ولو أن تغييراً قد طرأ خلال السنوات الماضية، أو تحسناً ملموساً شعر به سكان الأرض، ما كنا لنسمع الأصوات العالية لممثلي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وغيرهم، الذين يحذرون من الارتطام الكبير والسقوط المدوي لكوكب الأرض.
المتابع لجلسات القمة يجد أن قادة دول العالم قد انشغلوا عن هموم الكوكب بهمومهم السياسية، فعقدوا على هامش القمة عشرات اللقاءات الخاصة، لمناقشة العلاقات الثنائية والمشاكل البينية، بعيداً عما يشكو منه سكان الأرض ويعاني منه كوكبهم الصغير، وكأنهم قد وجدوا في قمة المناخ فرصةً للتلاقي والحديث والتآمر والتخطيط، وبناء الأحلاف وتشكيل الكتل، وقد كان حرياً بهم أن يركزوا جهودهم فيما جاؤوا إليه واجتمعوا من أجله، بدلاً من إصدار المواقف وإطلاق التهديدات ضد دولٍ بعينها وحكوماتٍ تشاركها القمة وتتعاون معها.
الحقيقة التي يجب أن نعرفها هي أن المجتمعين في قمة شرم الشيخ، وإن تغيرت وجوه بعضهم، لموتٍ غيبهم أو استقالةٍ حرمتهم، أو إقصاءٍ وعدم انتخابٍ منعهم، هي أنهم هم أنفسهم سبب هذه المخاطر والتحديات، وأنهم مسؤولون عما يجري في هذا الكون من خرابٍ وفسادٍ، وأنهم يتحملون المسؤولية الكبرى بجشعهم وطمعهم، واستئثارهم وأنانيتهم وسياساتهم التي ستقود حتماً إلى انفجار الكون وانتهاء الحياة فيه.
فقادة الدول الكبرى المجتمعين في شرم الشيخ، هم الذين يجرون التجارب النووية ويلوثون الأرض والسماء، ويعدمون الحياة في البحار والمحيطات، ويتسببون بمصانعهم في تلويث الأجواء وتخريب البيئة، وهم الذين يفرضون الحصار على الدول والشعوب، ويحرمونهم من فرص الدراسة والأبحاث العلمية لتطوير الحياة والنهوض بمستوى العيش في بلدانهم، مما يتسبب في تأخر بلادٍ كثيرة وحرمانها من النمو الطبيعي، إضافةً إلى سياسات العقوبات الاقتصادية الجماعية المدمرة لحياة الدول والشعوب، الأمر الذي يتسبب في تراجع فرص تخليص البلاد من عوامل التلوث وأسباب عدم التقدم.
العالم ليس في حاجةٍ فقط إلى العمل على السيطرة على حرارة كوكبه، ومحاربة كل أشكال التلوث والتغير المناخي السلبي، بقدر ما هو في حاجةٍ إلى تغيير السياسات الاستعمارية للدول الكبرى، وتبديل أولوياتها القائمة على الجشع والطمع والسيطرة والاستعلاء والتحكم، والعمل على ترسيخ مفاهيم العدالة والمساواة والتعاون، ومنع الظلم والتغول والاعتداء، والتخلي عن سياسات الاحتلال والاستعمار التي نشأوا عليها قديماً، وحافظوا عليها حديثاً لكن مع تبديلٍ في الأشكال وتغييرٍ في الوسائل والأساليب.
الكيانُ تحت سيف العقوبات الدولية
قد يكون حلماً وضرباً من الخيال، أو أمراً مستحيلاً وصعب المنال، أن يخضع الكيان الصهيوني لسيف العقوبات الدولية، وأن يفرض عليه المجتمع الدولي عقوباتٍ دبلوماسية واقتصادية، وحصاراً سياسياً وعسكرياً، وعزلةً دولية وتحريضاً عالمياً، على خلفية استمرار احتلاله لفلسطين ومخالفاته للقوانين الدولية، وسياساته العنصرية العنيفة ضد الفلسطينيين، التي تطال أرواحهم وحياتهم وحقوقهم وممتلكاتهم، ومقابرهم ومقدساتهم، وتعتدي على مستقبلهم وأجيالهم، وهويتهم وحضارتهم، وعقيدتهم وطقوسهم الدينية، وتحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية في العيش الحر الكريم فوق أرضهم وفي وطنهم وتحت ظلال علمهم.
هو أمرٌ مستغربٌ ومستنكرٌ جداً وغير متوقعٍ ربما أبداً، لأن المجتمع الدولي قد عودنا على الظلم ومساندة الظالمين، واعتمد سياسةً قديمةً جديدةً يحافظ عليها، تقوم على دعم الكيان الصهيوني ومساندته، ونصرته ومساعدته، والوقوف معه وعدم التخلي عنه، ورفض إدانته ومنع محاسبته، والاعتراض على أي قرارٍ دوليٍ يدينه أو يشجب عمله، ورفض أي عقوباتٍ تفرض عليه، والتصدي لأي إجراءاتٍ قاسية قد تتخذ ضده، لدفعه على احترام القانون الدولي، أو لإلزامه بتنفيذ الاتفاقيات الدولية والالتزام بها، والخضوع لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي في القضايا والمواضيع ذات الصلة بالشعب الفلسطيني.
لكن الإسرائيليين أنفسهم يتحدثون اليوم أنهم أصبحوا أقرب من أي وقتٍ مضى إلى العقوبات الدولية، ويبدو أن فرضها بات مسألة وقتٍ ليس إلا، فالمبررات موجودة، والمسوغات منطقية، والأدلة على وجوبها كثيرة، والشواهد على مخالفتها للقوانين الدولية عديدة، والدول المؤيدة لفرضها أو الممتنعة عن الدفاع عنها في تزايدٍ مستمرٍ، وقد تكون الحكومة الجديدة هي بوابة سلسلة العقوبات الدولية، وأحد أهم أسبابها ودوافعها، وأطرافها لا ينفكون يقدمون للمجتمع الدولي ما يبرر خطوتهم الجديدة ويشجعهم على الإقدام عليها، ولعلهم لا يخفون نواياهم، ولا يغلفون سياساتهم، ولا يلطفون تصريحاتهم، ولا يترددون في التعبير عن مواقفهم العنصرية وسياساتهم العدوانية وأفكارهم المتطرفة.
التغيير العام في المزاج الدولي تجاه الكيان الصهيوني في الفترة الأخيرة، وإن كان نسبياً أو محدوداً، فهو غير مرتبط بالحكومة اليمينية الجديدة حصراً، إذ إنه سابقٌ لها ومتقدمٌ عليها، كون الخروقات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني كبيرة، ولم تتوقف يوماً أو تتراجع، بل تزداد عنفاً وتتطرف فكراً، وتتشدد فرضاً وتقسو فعلاً، ولما تستلم الحكومة الجديدة مهامها وتمارس دورها وتنفذ سياساتها التي تدعو إليها وتحرض عليها.
من المؤكد أن الحكومة الجديدة ستمارس الأسوأ وتتبنى الأعنف، فهي الأكثر يمينيةً والأشد تطرفاً في تاريخ الكيان، ولكن من سبقها يكاد يشبهها فعلياً ولا يختلف عنها عملياً، سوى أن أطراف الحكومة الجديدة صريحون في سياساتهم، وواضحون في مواقفهم، ولا يخفون نواياهم، ولا يجملون مخططاتهم، بينما السابقون ناعمون لطيفون، متلونون مخادعون، كاذبون منافقون، وفي حقيقتهم خشنون عنيفون، يمارسون العنف حتى آخر مدى، ويعتدون على الفلسطينيين بلا حدود، ويطبقون سياسة العصا الغليظة ولو أنهم يلوحون كذباً وزوراً بالجزرة السراب بأيديهم.
أمام موجة العنف الإسرائيلي السائدة والمتوقعة ضد الفلسطينيين، ارتفعت بعض الأصوات الصهيونية تحذر من مغبة الانزلاق إلى مقصلة القوانين والأحكام الدولية، خاصةً بعد بعض التقارير الأوروبية التي شبهت ممارسات جيش الكيان تجاه الأطفال الفلسطينية بممارسات النازية ضد اليهود في أوروبا، مما أثار استياء وغضب الخارجية الإسرائيلية، التي أعلنت أن هذه التصريحات محبطة وتضر بمصالح "دولة إسرائيل وشعبها"، وطالبوا الحكومات الأوروبية التي عبرت عن غضبها واستيائها بالتراجع عن تصريحاتها، وسأل بعضهم إيتمار بن غفير إن كان مستعداً لتلقي عقوباتٍ دوليةٍ، أو يستطيع أن يواجه سياسةً أمريكية وغربية تجاه حكومته، في إشارةٍ إلى أن كيانهم الذي تأسس ونهض بفعل الدعم الدولي، لا يقوى على مواجهة الحصار أو العقوبات الدولية.
رغم أن هذا الاحتمال مستبعدٌ ومخالفٌ للمألوف، ولا ينسجم مع تاريخ العلاقات الغربية مع الكيان الصهيوني، وقد يكون مضيعة للوقت ومخيباً للآمال، إلا أننا يجب أن نبني عليه ولا نهمله، وأن ندعو إليه ونشجع عليه، فدول أوروبا الغربية باستثناء بريطانيا غير راضية عن السياسات الإسرائيلية، وتدين ممارساتها، وتقف إلى جانب الفلسطينيين في بعض قضاياهم، وتؤيد مطالبهم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وشكواهم أمام محكمة الجنايات الدولية، واستفساراتهم أمام محكمة العدل الدولية، فلعلنا نتمكن من كسر الحصار المفروض علينا وفرضه على الكيان، وجمع الأمم حولنا وفضهم من حوله، والإصغاء إلى روايتنا ونصرة قضيتنا، ودحض روايته ونفي سرديته.
المشهدُ في الضفة الغربية بعينٍ أمنيةٍ إسرائيلية
تنظر سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى العام 2022 بقلقٍ شديدٍ، وترى أنه عامٌ متفجرٌ ملتهبٌ، صاخبٌ مضطربٌ، وأن أحداثه ساخنة وعملياته مستمرة، وأن مشاهده متعددة وأطواره متغيرة، وأن فصوله تتوالى تباعاً، وتتواصل أحداثاً ولا تتوقف عنفاً، مما ينذر بخروج الأوضاع العامة عن السيطرة، ويفشل مختلف الإجراءات الأمنية في ضبطها وإعادة الاستقرار والهدوء إليها وإلى القدس والضفة الغربية على وجه الخصوص.
ويبدو لهم أن الضفة الغربية ومعها القدس قد خرجت عن السيطرة، وثارت على القيود، وانتفضت ضد السياسات الأمنية والعسكرية المتخذة ضدها، ولم تعد تجدِ معها عمليات الاعتقال التي فاقت هذا العام وحده الثلاثة آلاف حالة اعتقال، ولا عمليات القتل والتصفية التي تقترب من المائتي شهيد، فضلاً عن استمرار سياسات نسف بيوت المنفذين، ومعاقبة ذويهم وعائلاتهم، واعتقالهم وحرمانهم من العمل في الداخل، ومئات الاقتحامات والاجتياحات التي اقتربت من ألف عملية اقتحام عسكرية وأمنية، مصحوبة باشتباكاتٍ مسلحة، وإطلاق نارٍ مستمرٍ.
كما لم تجدِ الإجراءات الأمنية المختلفة في إحباط العمليات وضبط المخططين لها والمشرفين عليها قبل تنفيذها، رغم حالة الطوارئ القصوى التي أعلنتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، واستخدمت فيها آلاف الكاميرات المزروعة في كل مكانٍ، ومئات المناطيد الطائرة في سماء الضفة الغربية، وتقنيات التجسس الحديثة ومراقبة الخطوط والاتصالات الهاتفية، ومتابعة مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، واعتماد البصمة الصوتية في ملاحقة المطلوبين ومتابعة النشطاء والفاعلين، فضلاً عن المعلومات المستقاة من المعتقلين خلال استجوابهم والتحقيق معهم، والتنسيق الأمني الفاعل مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وغير ذلك مما تلجأ إليه سلطات الاحتلال منفردة أو بالتنسيق والتعاون مع دولٍ أخرى إقليمية ودولية.
تؤكد سلطات الاحتلال أن فصائل المقاومة الفلسطينية تزداد قوةً، وتتنافس فيما بينها على العمل في القدس والضفة الغربية، ولا يقتصر العمل والتنافس على حركتي حماس والجهاد الإسلامي، إذ يبدو أن كل القوى الفلسطينية قررت خوض غمار المواجهة، فضلاً عن تشكيلاتٍ عسكرية جديدة مختلطة، لا تتبع فصيلاً بعينه وإن كان جُل عناصرها من حركة فتح، وإنما هي مزيج من الشبان الراغبين في حمل السلاح والتصدي لمحاولات الاقتحام والاجتياح التي يقوم بها الجيش والأجهزة الأمنية، ومنها كتائب عرين الأسود في نابلس وكتيبتي جنين وجبع وغيرهم.
وتشير التقارير الإسرائيلية نفسها التي تتحدث عن سنة النار واللهب في 2022، أن حركة فتح بدأت تعود إلى المواجهة بأشكال مختلفة، فبعض عناصرها الشبان باتوا يشكلون مجموعاتهم الخاصة، أو يلتحقون بالكتائب المشكلة، ولدى هؤلاء أسلحة رشاشة ومعدات قتالية أخرى، يحصلون عليها من مخازن الأجهزة الأمنية التي يوجد بحوزتها آلاف البنادق، أو تزودهم بها عناصر أمنية تنتمي إلى المؤسسات الأمنية الفلسطينية، ممن يؤمنون بالمقاومة، ويبدون استعدادهم للتضحية بالوظيفة مقابل تنفيذ عمليات عسكرية موجعة ضد أهدافٍ إسرائيلية تطال الجنود والمستوطنين.
لا تستبعد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي رصدت تزايداً ملحوظاً في عمليات إطلاق النار من بنادق آلية، أن تلجأ القوى الفلسطينية إلى عمليات التفجير عن بعد، وتفخيخ السيارات، فيما سيشكل نقلة نوعية بعد عمليات الطعن والدهس وإطلاق النار من بنادق قديمة ومسدساتٍ باليةٍ، تتعطل أكثر مما تعمل، وقد لوحظت محاولات تهريب أسلحة من الجانب الأردني إلى الضفة الغربية، وعلى الرغم من وجد 25 كتيبة من الجيش تعمل في فرقة الضفة في المنطقة الوسطى، أي بزيادة 12 كتيبة عما كانت عليه قبل سنتين، فإن ضبط الأوضاع في الضفة الغربية بات أمراً صعباً.
تنتقد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومعها قادة أركان جيشهم عملية "كاسر الأمواج"، التي مضى على انطلاقها قرابة سنة وما زالت، إلا أنها لم تؤدِ الغرض الذي انطلقت من أجله، بل إن عمليات المقاومة الفلسطينية قد ازدادت، في الوقت الذي تضاعفت فيه عمليات الاقتحام والاجتياح والاشتباكات مع عناصر المقاومة الفلسطينية، حيث سجلت عمليات المقاومة في صفوف الجيش والمستوطنين حتى نهاية شهر نوفمبر 31 قتيلاً، فضلاً عن عشرات الجرحى والمصابين، في زيادةٍ ملحوظة في أعدادهم منذ العام 2005.
ويحذر قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حكومتهم من أن أي محاولة لإعادة اجتياح مدن الضفة الغربية في عمليةٍ تشبه السور الواقي عام 2002، فإنها لن تتمكن من إخماد ثورة الفلسطينيين، ووضع حدٍ لعملياتهم العسكرية، بل على العكس من ذلك فإنها قد تقود إلى انتفاضة جديدة، يشارك فيها مئات المسلحين، ويعززهم عشرات آلاف المدنيين، وحينها ستكون أحداث 2022 مجرد لعبة بالمقارنة مع ما قد تشهده المناطق الفلسطينية من مواجهاتٍ وأحداثٍ، خاصة إذا صادفت الأحداث غياب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، حينها ستفلت الأمور حكماً من أيدي الجميع، وستكون الأرض والميدان هما السيد والحكم.
كما يحملون المسؤولية إلى قادة المستوطنين ومسؤولي الأحزاب الدينية والقومية المتطرفة، الذين يحرضون على العنف، ويدعون إلى المزيد من التشدد في التعامل مع الفلسطينيين، فعمليات اقتحام المسجد الأقصى وانتهاك حرمته، والتضييق على المصلين فيه، والاعتداء على بيوت الفلسطينيين وقراهم ومزارعهم وأشجارهم، وإطلاق أيدي المستوطنين لترجم الفلسطينيين بالحجارة، واعتراضهم وقطع الطريق عليهم وتحطيم سياراتهم، كل هذا من شأنه أن يزيد من حالة الاحتقان، ويرفع منسوب الغضب والثورة، ويشجع أجواء التحريض والتعبئة، التي ستقود حتماً إلى تفجر الأوضاع وخلق حالة من التنافس والتقليد المميت.
تلك هي صورة القدس والضفة الغربية من وجهة نظرٍ إسرائيلية، تقف على أبواب انتفاضةٍ قادمة كبراميل بارود متفجرة، ثائرة غاضبة، ناقمة متألمة، رجالها كالأسود يربضون، وشبانها كالليوث ينهضون، وفي كل يومٍ لديهم جديدٌ يفزع وحدثٌ يرعب، فلا تبشرهم أيامها القادمة بخير، ولا تعدهم بالأمن، ولا تسمح لهم بالعيش بسلامٍ.
اللهم احفظ ضفتنا بخير، وصُن قدسنا بوعدك، واحفظ شبابنا بحولك، واحم أهلنا برحمتك، واجمع صفنا بإرادتك، ووحد كلمتنا بأمرك، وصَوِّب رميتنا بقوتك، وانصرنا بعزتك.
عملية القدس المزدوجة في الميزان الأمني الإسرائيلي
لم تتوقف المواقف الإسرائيلية تتوالى طُرَّاً تجاه عملية القدس المزدوجة، التي صدمت المنظومة الأمنية وأربكت القوى السياسية الحاكمة، وأخرجت تلك التي تنتظر الحكم عن طورها، فقد انهالت التصريحات السياسية والأمنية والعسكرية، وبرزت مواقف إعلامية وشعبية عبر عنها المستوطنون وقادتهم، بعضها يهدد ويتوعد، ويطالب الحكومة الجديدة باستخدام المزيد من القوة والضرب بيدٍ من حديدٍ، واعتماد وسائل جديدة في التصدي للفلسطينيين ومواجهتهم، وتغيير القواعد المتبعة في الإجراءات الأمنية وضوابط إطلاق النار على المشتبه فيهم.
وبعضها لم يستطيع أن يخفي خوفه وقلقه من احتمالية العودة إلى سنوات التسعينيات من القرن الماضي وبدايات الألفية الثالثة، عندما اجتاحت المقاومة الفلسطينية أرضها المحتلة، وهاجمت المستوطنين الإسرائيليين في كل مكانٍ، وفجرت الحافلات والسيارات، ومحطات الركاب وتجمعات الجنود، ولاحقت جموعهم في الشوارع والطرقات، وفي المقاهي والحانات، وجعلت حياتهم مستحيلة وهروبهم من فلسطين حلماً وأملاً في النجاة، وعجز الجيش والأجهزة الأمنية عن وضع حدٍ للعمليات الاستشهادية وحماية مستوطنيهم من القتل، الذي بات رعباً يرافقهم وفزعاً على مدى الأيام يسكنهم.
لكن الذين صعقتهم عمليةُ القدس وصدمتهم، هم قادة الأجهزة الأمنية ومعهم الجيش وقادة أركانه، الذين كانوا يترقبون ضربات المقاومة في شمال الضفة الغربية، حيث الأوضاع الساخنة في نابلس وسلفيت وكذلك في جنين، حيث تهيأ الجيش لمواجهتها، واستعدت الأجهزة الأمنية لإحباط عملياتها، وكثفوا جهودهم وركزوا عملياتهم فيها، ورفعوا درجة النفير والاستعداد إلى الدرجات القصوى، بعد عمليات عدي التميمي ومحمد صوف وما سبقها من عملياتٍ في تل أبيب والخضيرة وغيرها، التي كبدتهم خسائر مؤلمة، وقتل فيها منهم خلال أشهر هذه السنة فقط ثلاثون مستوطناً وأصيب عشراتٌ آخرون.
ولكن الأثر المعنوي كان أسوأ وأكثر قسوةً عليهم، إذ تراجعت روحهم المعنوية، وانتشر في قلوبهم الوهن والضعف، وسكنهم الخوف والفزع، وانتابهم قلقٌ من الغد وتوجسٌ من الغيب، وقد فقدوا أكثر من ذي قبل ثقتهم في جيشهم وأجهزتهم الأمنية، وأخذوا يتقاذفون المسؤولية عما حل بهم وأصابهم، ويحاول كل طرفٍ أن يلقي باللائمة في العجز والتقصير على الآخر.
كانت الأجهزة الأمنية تشكو من عمليات الذئب المنفرد، التي يقوم بها شبانٌ بأنفسهم، منفردين لا أحد يساعدهم، ممن لا تربطهم رابطة تنظيمية بالقوى والفصائل الفلسطينية، وإنما يخططون بأنفسهم، ويقررون وحدهم، وينفذون ما عزموا عليه دون مراجعة أحد أو التنسيق مع أي جهةٍ، مما صعب على الأجهزة الأمنية التنبؤ بعملياتهم أو استباق تنفيذها وإحباطها، أو ملاحقة خيوطها وتفكيك شبكاتها.
اليوم باتت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في مواجهة طفرة التسعينيات، وتفجيرات المقاومة الصاخبة، ومعامل تحضير العبوات وأماكن تصنيعها، وعليها أن تجيب حكومتها ومواطنيها عمن يقف وراء عملية القدس المزدوجة، التي قد تكون فاتحة عملياتٍ جديدة، يعمد إليها الفلسطينيون ويبرعون في تقليدها، تماماً كما باتوا يقلدون كل العمليات الفدائية، ويطورونها ويزيدون فيها، ويترك منفذوها فيها بصماتهم الخاصة وأساليبهم المميزة، مما سيعيدهم إلى سنوات الرعب الأولى وسني المواجهات الدامية.
أمام الأجهزة الأمنية الإسرائيلية العديد من التساؤلات والتحديات التي يجب أن تجد لها حلولاً وتفسيراتٍ عملية، أولها من يقف وراء العملية، ومن خطط لها وأمر بتنفيذها، وهل لغزة علاقة بها أم أنها من إنتاج وإخراج رجال الضفة الغربية فقط، وهي الذريعة السهلة التي يلجأون إليها لتبرير عجزهم وتفسير فشلهم، وكيف وصل المنفذون إلى مكان زرع العبوات الناسفة وهي أماكن عامة لا تخلو من المارة، وفيها تجمعاتٌ صهيونية دائمة، وكيف بالصدفة توقفت الكاميرات عن التصوير وتعطلت في المنطقة.
كما عليها أن تجد إجاباتٍ مقنعة عن كيفية تصنيع هذه العبوات وأين، وكيف جرى تصنيعها ومن هو الذي قام بتصنيعها وتجهيزها، وهل هم أمام يحيى عياش جديد وظاهرة التصنيع القديمة، ومن أين وكيف حصل المصنعون على المواد الأولية اللازمة لإعداد مثل هذه العبوات، وأين كانت عيونهم والأجهزة الأمنية المتعاونة معهم، وكيف لم ينتبهوا إلى مخططاتهم ويعرفوا نواياهم.
وليس أخيراً كيف وصلت العبوات إلى مدينة القدس، وتجاوزت الحواجز والإجراءات الأمنية المعقدة، أم أنها صنعت في مدينة القدس نفسها، وفي مكانٍ قريبٍ من أماكن زراعتها، مما سهل على المخططين نقلها بلا خوفٍ أو مغامرة.
لا تخفي المواقف والتصريحات الإسرائيلية حنقها وغضبها، وخوفها وفزعها من هذه العملية، التي تحكم فيها المنفذون عن بعد، واطمأنوا إليها قبل تفجيرها، ولم تكلفهم حياة أحدٍ منهم، إذ لم يقتل المنفذ كالعادة، ولم يعرف أو يلاحق، وما زال الكشف عن اسمه وهويته يكتنفه الغموض، وقد كان يرضي غرور المستوطنين ويخفف من حزنهم ويواسيهم في ألمهم، قتلُ المنفذين وهدم بيوتهم واجتياح بلداتهم وقراهم، ولكنهم بعملية القدس حصدوا الألم وجنوا الوجع، ولم ينالهم منها غير الرجيع والصدى، وبات لزاماً عليهم أن يتوقعوا الجديد المفاجئ والقادم الصادم، أين وكيف ومتى وما هو......
عظمَ اللهُ أجر فلسطين والأمة بشهداء جباليا
بحزنٍ وأسى وحرقةٍ وألمٍ ودع عشرات الآلاف من سكان مخيم جباليا، المخيم الأكبر للاجئين الفلسطينيين شمالي قطاع غزة، شهداء عائلة "أبو ريا" الواحد والعشرين، الذين سقطوا ضحية الحريق الهائل الذي اندلع في المبنى الذي اجتمعت فيه العائلة للاحتفال بابنها العائد الطبيب المتفوق، وقد التأم شمل العائلة صغاراً وكباراً، زائرين ومقيمين، فرحاً وسعادة، وقد جاؤوا بزينتهم وهداياهم للتهنئة والمباركة، وكأنهم كانوا على موعدٍ مع القدر، فما تخلف منهم إلا القليل ممن كتب الله لهم الحياة، ولكن قدر الله عز وجل كان الغالب، فأدركهم الموت واستبقوا جميعاً إلى خالقهم، فنحسبهم عنده سبحانه وتعالى شهداء يرحمهم، ويدخلهم فسيح جناته، ويجمعهم بمن سبقهم من الأنبياء والصديقين والشهداء.
الحادثة أليمة قاسيةٌ والمصاب جللٌ كبيرٌ، والفاجعة تحرق القلوب وتفتت الأكباد، إذ تكاد تكون عائلة بأكملها قد ذهبت ضحية الحادث، فالشهداء جميعهم من أسرةٍ واحدةٍ، أقاربٌ وأشقاءٌ وآباءٌ وأبناءٌ، ولكن أحداً لا يملك رد القضاء وصد القدر، ولا يعرفٌ أحدٌ أين حتفه ومتى موته، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وعظم الله أجر شعبنا وأمتنا بهذه المصيبة، ونسأله سبحانه وتعالى أن يكلأ من بعدهم بحفظه ورعايته، وأن يكرم من بقي من ذويهم بالصبر الجميل والسلوان والحسن، وأن يجعل من رحلوا فرطاً لأهلهم في جنان الخلد والفردوس الأعلى، يستقبلونهم في أعلى مقامات الجنة.
خرج عشرات الآلاف من سكان مخيم جباليا ومن مختلف أرجاء القطاع، يتقدمهم وجهاءٌ ومسؤولون، ومقاومون وحكوميون، وعسكريون ومدنيون، ونوابٌ ومخاتيرٌ، وشيبٌ وشبانٌ، ورجالٌ وأطفالٌ، في مشهديةٍ عظيمةٍ تذكر بجنائز عظام الشهداء، وتعيد المجد إلى أيام الانتفاضة المجيدة، وتذكر الشعب والأمة بأيام الله الخالدة، حيث سبق لهذا المخيم العظيم، المشهود له بالبذل والعطاء والتضحية والفداء أن قدم آلاف الشهداء، ورسم بسيرتهم العطرة ودمائهم الزكية أعظم الصور الملحمية وأروع المشاهد في المواجهة والجهاد، وفي المقاومة والصمود، وفي التحدي والقتال، حتى غدا بحق مخيم الثورة ومهد الانتفاضة.
قد لا تمضي الأيام القادمة في مخيم جباليا بسهولةٍ كسابقاتها، كما مضت مريرةً صعبة قاسيةً مؤلمةً على أهل مخيم النصيرات قبل سنواتٍ قليلةٍ، عندما عصف بهم حريقٌ كبيرٌ فّجَّرَ خزانات الوقود ومولدات الكهرباء، وحرق المحال والمعامل والبيوت، وقُتلَ فيه حرقاً عددٌ غير قليلٍ من عامة المواطنين، وأصيب عشراتٌ آخرون بجراحٍ بليغةٍ ربما ما زال بعضهم يعاني منها حتى اليوم.
شوارع مخيم جباليا وحي تل الزعتر قد اتشحت بالسواد، وغادرت بيوتها البسمة، وأغلقت فيه سرادقات الزفاف وصالات الفرح، وأعلنت سلطات غزة حالة الحداد العامة، وأبدى الفلسطينيون عموماً وأهل قطاع غزة المقيمون فيه والبعيدون عنه سفراً وعملاً، ودراسةً وعلاجاً، وإبعاداً وطرداً، حزنهم الشديد وتعاطفهم الكبير مع ذوي الضحايا، ولعلهم كثيرٌ وأنا وأهل بيتي منهم، فنحن من سكان مخيم جباليا، ولدنا فيه وترعرعنا، وعشنا فيه وتعلمنا، ونعرف أهله وسكانه، وبيننا وبينهم علاقات قربى ونسب، وروابط محبةٍ ومصاهرةٍ، وبقية أهلنا وعامة عائلاتنا فيه يعيشون، فأصابنا ما أصاب غيرنا من الهم والحزن، فلم ننم ليلتها ونحن نتصل ونسأل، ونتابع ونسمع، فالمصاب مصابنا، والضحايا هم أهلنا.
مما لا شك فيه أن التحقيقات قد بدأت، وأن السلطات المعنية في قطاع غزة قد باشرت العمل لمعرفة أسباب الحادث، والظروف التي كانت وساعدت على اندلاع الحريق وسرعة انتشاره، وستكون معنيةً جداً بمعرفة مدى استجابة فرق الدفاع المدني وسرعة تلبيتها النداء، ودورها في محاولة استنقاذ المواطنين وإخراجهم من المبنى، ومن المؤكد أنه سيكون هناك تقريرٌ نرجو أن يكون مهنياً صادقاً شفافاً، لا يحابي سلطةً ولا يداري مسؤولاً، يكشف فيه عن الحقيقة، ويبين الأسباب، ويوضح السلبيات التي كشفتها الحادثة، والعيوب التي ظهرت في أجهزة الدفاع المدني ومدى استعدادها وجاهزيتها، وسرعة تلبيتها وجهوزية طواقمها، وملائمة تجهيزاتها ومعداتها.
قد تبقى الجراح على مَرِّ الأيام غائرة وبيوت العزاء مفتوحة، ومآقي العيون بالدموع تسبح، والقلوب من الحزن تتمزق، وعلى الأحبة والخلان تكاد تنفطر، فلا تعود الحياة حلوة كما كانت، وجميلة كما أرادوها بِلَمِ الشمل واجتماع الأهل واستعادة الذكريات، وهي المدينة ومخيماتها التي اعتادت على المحن والابتلاءات، وعلى المصائب والنكبات، وشهدت الحروب والاقتحامات، والعدوان والاغتيالات، ولكنها كانت دائماً تصبر وتصمد، وتتعالى على الجراح وتسمو، ومن كبواتها كانت تنهض، ومن أحزانها تخرج، وعلى جراحها تنتصر.
رحم الله الشهداء، وتغمدهم وبواسع رحمته، وأكرم أهلنا في مخيم جباليا وعموم قطاع غزة الصبر الجميل والسلوان الحسن، وعوضنا وإياهم عمن فقدنا العوض الحسن، وإنا لله وإنَّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اليمينُ الإسرائيلي لم يَعُدْ والتطرف الصهيوني لم يَغِبْ
مخطئٌ من يظن أن الكيان الصهيوني قد تغير، وأن سياسته قد تبدلت، وأن نتائج الانتخابات الأخيرة قد صدمت الفلسطينيين وأخافتهم، وفاجأت دول العالم وأربكتهم، وأنها جاءت عكس التوقعات ومخالفة للعادة، وأن المنتخبين منبتين عن أصولهم ومختلفين عن أسلافهم، وأن أفكارهم العنصرية جديدة وسياساتهم الفاشية مستحدثة، وأن من كان قبلهم كانوا وسطيين معتدلين، ولم يكونوا متطرفين متشددين، ولا عنصريين فاشيين.
كما أننا لسنا أمام "إسرائيل" جديدة، مختلفة عن سابقتها، ولا تشبه تاريخها، ولا تكرر ذاتها، ولا تعيد إنتاج سياساتها بتبديل وجوهها وتغيير أحزابها، رغم أن الكثير من المنتخبين ليسوا جدداً، بل كانوا موجودين وفاعلين، ولو أنهم كانوا في المعارضة وخارج الحكومة، إلا أنهم كانوا حاضرين بأفكارهم، وطاغين بعنصريتهم، ويفرضون أنفسهم بتصرفاتهم، وفي مقدمة العائدين زعيمهم ورئيس حكوماتهم السابقة بنيامين نتنياهو.
الحكومات الإسرائيلية السابقة، ومعها قيادة الجيش الذي لا تتغير سياسته ولا تتبدل نظريته، وإن كانت أدواته تتطور ووسائله تتنوع، لم تتوقف يوماً عن أعمال الإرهاب وجرائم العنصرية والفاشية، فقد أرست الحكومات السابقة دعائم الدولة اليهودية القومية، وأنكرت حقوق الآخرين في العيش في فلسطين، وصادرت أرضهم وخربت ممتلكاتهم، وحرقت زروعهم وخلعت أشجارهم ودمرت بيوتهم، وقتلت رجالهم واعتقلت أبناءهم، وبنت مئات المستوطنات، وصادرت آلاف الدونمات، وسرقت المياه الجوفية وخيرات فلسطين النفطية والغازية، وحرمت الفلسطينيين وهم أصحاب الحق وأهل الوطن من كل حقوقهم المشروعة.
وهي الحكومات نفسها التي أطلقت يد المتطرف العنصري اليميني إيتمار بن غفير، وسمحت له بالإقامة في حي الشيخ جراح، والتضييق على أهله وطرد سكانه، وشكلت له حماية كاملة خلال عمليات اقتحامه المتكررة للمسجد الأقصى، وأيدته في حملته لطرد الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم، وترحيلهم من مناطقهم، وسكتت عن حمله السلاح وتهديده المواطنين الفلسطينيين، وسمحت له بالتحريض والتعبئة، وتوجيه الجيش والمستوطنين نحو مزيدٍ من التشدد والتطرف في التعامل مع الفلسطينيين، وعدم التهاون معهم، أو التخفيف في تعليمات إطلاق النار عليهم.
أما بسليئل سموتريتش فقد كان وحزبه، كما إيتمار بن غفير، ممثلاً في دورات الكنيست السابقة، وكان له دوره وأثره، ومارس من موقعه تطرفه حتى النهاية، وعبر عنه بكل سفورٍ ووقاحةٍ، ولم يدخر وسيلةً أو سبيلاً في الإساءة إلى الفلسطينيين إلا استخدمها، ولم يستغن عن كل الأدوات القذرة في تنفيذ سياساته والتعبير عن رغباته، وبالتالي فقد كان موجوداً ولم يغب، وكان حاضراً فاعلاً ومؤثراً، بما لا يجعل من عودته إلى الكنيست أو احتمال مشاركته في الحكومة تغييراً في السياسة، أو تبديلاً في المواقف.
وبالعودة إلى حكومات نتنياهو السابقة، ألم يكن حليفه في بعضها القومي المتشدد أفيغودور ليبرمان، وكان وزيراً في أكثر من حكومةٍ، قبل أن يصبح وزيراً للخارجية التي لعب فيها دوراً كبيراً في الانفتاح على الدول الأفريقية، وخلالها هدد مصر بتدمير سدها العالي، وتآمر عليها في سد النهضة مع إثيوبيا، وكذلك كان وزيراً للحرب التي كان ينفخ في رمادها ويسعر جمرها، ويدعو إلى إشعالها، وقتل قادة الفلسطينيين واستئناف سياسة الاغتيالات القديمة.
كذلك كان حليفه وربيبه نفتالي بينت، وهو اليميني المشدد، والصهيوني المتطرف، ومعه إيليت شاكيد التي لا تقل عنه تطرفاً وعنصرية، وكما كانت شاكيت وزيرة للعدل، فقد كان نفتالي بينت في ظل حكومة نتنياهو وزيراً للحرب، وكان كلاهما يدعوان إلى قتل الفلسطينيين وإخراجهم من أرضهم، وكانا يسعيان إلى تشريع الاستيطان وتسريعه، وتأمين المستوطنين والاستجابة إلى طلباتهم، وتحقيق الحلم اليهودي باقتحام المسجد الأقصى والتمكين لهم في باحاته، وفرض تقسيمه على العرب أو الحلول مكانهم والاستيلاء على مقدساتهم.
لا تغيير حقيقي في العقلية الإسرائيلية أو الجبلة اليهودية، ولا تبديل في المنهجية العسكرية الاستيطانية للاحتلال، فالسياسات التي كانت ستبقى، والإجراءات التي كانت متبعة ستتواصل، والخطط التي رسمت ستنفذ، والمشاريع التي أقرت ستفرض بالقوة كما كانت تفرض، والممارسات القمعية المتبعة في التعامل مع الفلسطينيين ستستمر وقد تزداد وتيرتها وتضعف كما كان شأنها في الحكومات السابقة.
ربما يدرك الفلسطينيون أكثر من غيرهم أن الجلبة المثارة حول نتائج الانتخابات التشريعية الإسرائيلية جلبةٌ كاذبة وجعجعةٌ قد اعتادوا عليها وعرفوها، وخبروا سوءها وذاقوا مرارتها، وعانوا من قادتها وواجهوا سياستها، فهم لا يخافون من الاحتلال برمته، ويرونه عدواً مبيناً أياً كان قائده ورئيسه، ويعرفون أنه لا تغيير ولا تبديل في جوهرهم، كما لا اعتدال ولا وسطية في سياستهم، وأن تطرفهم إن غاب حيناً فهو لسبب، وأن عنصريتهم إن توارت مرةً فهي لغاية، فهم امتدادٌ لأصلٍ خبيثٍ، وخلفٌ لسلفٍ فاسدٍ، وذريةٌ لأقوامٍ ضالين، ويمينهم المتطرف ما غاب أبدً ليعود اليوم، وعنصريتهم البغيضة ما اختفت تاريخياً لتبرز من جديدٍ.
سيجار وشامبانيا وسجاد لراحة نفس سارة ونتنياهو
من جديدٍ وقبل ساعاتٍ قليلةٍ من نهاية المشاورات النيابية الملزمة التي يجريها رئيس الكيان الصهيوني يتسحاق هرتزوج مع رؤوساء الكتل النيابية الإسرائيلية، لتسمية الشخصية المكلفة بتشكيل الحكومة القادمة خلال مدة 28 يوماً، قابلة للتمديد مدة 14 يوماً فقط، عادت إلى السطح من جديد قضايا فساد رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق بنيامين نتنياهو، وهو الشخصية الأكثر ترجيحاً لتسلم مهام تشكيل الحكومة الجديدة، كونه يرأس الحزب الأكثر تمثيلاً والكتلة اليمينية الأكبر في الكنيست الجديدة.
رغم أن نتنياهو غير قلقٍ أو خائفٍ من تحريك ملفات الفساد المتهم بها، التي قد تسقط في الأيام الأولى لتوليه المنصب وعودته إلى مكتبه القديم، إذ سيشرع القانون الفرنسي الذي سيحميه ويمنحه الحصانة، وستسقط عنه الملاحقة والمحاكمة، وسيعيد حلفاؤه تنظيم وزارة العدل، وتشكيل أعضاء المحكمة العليا بعد تقليص صلاحياتها وكف يد قضاتها، إلا أنه سيكون منزعجاً جداً من المثول أو وكيله القانوني في المحكمة أمام النيابة العامة، للدفاع عن نفسه أمام الباعة وأصحاب المحال التجارية، والتجار ورجال الأعمال، الذين سيدلون بشهادتهم أمام القضاء في التهم الموجهة ضده وزوجته سارة، بأنهما تلقيا على هيئة هدايا ولمراتٍ عديدةٍ كمياتٍ كبيرة من السيجار الفاخر والشامبانيا والسجاد.
لم يعد نتنياهو قلقاً وخائفاً كما كان، فهذا الاستدعاء يختلف عن الاستدعاءات التي سبقت، فهو اليوم أقوى ما يكون، وأقرب مما كان عليه في كل المرات السابقة إلى كرسي رئاسة الحكومة، في ظل أحلامٍ كبيرة بأن حكومته ستكون قوية ومستقرة، وأن أطراف ائتلافه لا يملكون من أجل البقاء والاستمرار إلا الدفاع عنه وتخليصه من هواجسه ومخاوفه، وتأمين شخصه ومنصبه، وحتى القضاء نفسه بات خائفاً يترقب، وقلقاً يتوجس، فاحتمالات إعادة ترتيب بيت القضاء باتت قريبة، وسلطة وزير العدل الجديد ستكون أقوى وأشد على كل من يحاول المساس بنتنياهو أو الاقتراب من ملفاته، وإعادة فتحها أو التلويح بها.
أياً يكن قرار المحكمة التي طال أمدها وقد يطول أكثر، فإن نتنياهو سيتمكن من دفن كل ملفات الفساد الموجهة إليه، وسينجح من خلال تحالفاته اليمينية المتطرفة من طي صفحة ماضيه القذر، مقابل رشىً جديدة سيقدمها إلى الأحزاب الدينية والقومية المتشددة، ليسترضيها ويبقيها معه وإلى جانبه، كي تمنحه أصواتها في الكنيست وتحول دون سقوط حكومته من جديدٍ، مقابل تسهيلاتٍ مالية يقدمها للأحزاب الدينية، وقوانين استنسابية تخدم توجهاتهم الدينية وتدعم سياساتهم وتلبي رغباتهم.
كما سيكون ملزماً في سبيل إسقاط التهم الموجهة إليه وتحصينه بالقانون الفرنسي، بتسهيل عمليات اقتحام المسجد الأقصى المبارك وانتهاك حرمته والاعتداء على المصلين والمواطنين، وسيستجيب إلى مطالب المستوطنين وزعمائهم، وسيشرع بؤرهم الاستيطانية وسيوسع القديم منها، وسيمنح وزير حربه الجديد تراخيص بناء جديدة لهم ليرضوا عنه، ولعله جاهز شخصياً لتقديم هذه التسهيلات قناعةً منه وإيماناً بها، فهو الذي مهد وأسس لها خلال سنوات حكمه السابقة.
أما الرشى الأكبر التي سيقدمها لحلفائه مقابل الرشى التي تلقاها، فهي تتعلق بتوزيع المناصب الوزارية، إذ سيكون مضطراً لاسترضاء إيتمار بن غفير بما يريد من وزارات، ومنها وزارة الأمن الداخلي التي يتطلع إليها، ويضمر من خلالها سياسات وإجراءات جديدة تتعلق بالفلسطينيين، وكذلك سيسترضي بتسليئل سموتريتش الذي لا يقوى على غضبه أو حرده، وسيمنحه وزارة الحرب التي سيكون بيدها مفاتيح الاستيطان والاقتحام والانتهاك والقتل والاعتقال والمزيد من الإجراءات القاسية بحق الفلسطينيين.
يبدو أن نتنياهو وزوجته سارة وكذلك أبناءه قد تمتعوا جميعاً بالسيجار والشامبانيا والسجاد وبكل ما أهدي إليهم وقدم لهم، واستمتعوا على مدى سنواتٍ طويلة بها وفاخروا بها وبغيرها، وبالتسهيلات الكثيرة التي منحت لهم ولأصدقائهم ومعارفهم، وبالهدايا التي أغدقت عليهم، والرحلات التي قدمت لأصدقائهم ومعارفهم، ولن يكونوا مضطرين أبداً إلى دفع الثمن والخضوع لأي عقوبةٍ جراء المخالفات التي ارتكبوها، وستعود سارة كما كانت سيدة القصر وحاكمة البيت تطلب وتأمر وتشير وتوصي وتنهى وتقصي وتقرب، وحلفاؤه من بعده يصرون على شرعية الهدايا وأنها كانت جميعها لراحة نفسه وزوجته، وقد قرروا بما يملكون من تفويضٍ العفو عنه ومسامحته، وتنظيف سجلاته وتبرئته.
حصادُ الرئيس الإسرائيلي في قمةِ المناخ
لم يَعُد رئيس الكيان الصهيوني يتسحاق هيرتزوج والوفد المرافق له من قمة المناخ في مدينة شرم الشيخ المصرية خاوي الوفاض لم يحقق شيئاً، ولم يرجع منها بخفي حنين يجرُ أذيال الخيبة، بل عاد منها مزهواً سعيداً، فخوراً بما أنجز، وراضياً عما قدم، وفرحاً بما نال وحقق، وقد سبق ذلك كله حُسن الاستقبال وبشاشة الوجوه، وحرارة اللقاء ولطف الأحاديث، التي أظهرتها صور ومشاهد وصوله واستقباله.
ومثله عاد مرافقوه من الوزراء والمساعدين سعداء منتشين، فقد حققوا الكثير مما تمنوه، ونالوا من الاهتمام والتقدير أكثر مما توقعوا، إذ وقعوا على اتفاقياتٍ قديمةٍ، وعقدوا صفقاتٍ جديدةً، والتقوا ضيوفاً من مختلف دول العالم، وصافحوا ملوكاً ورؤساءً ما كان لهم أن يلتقوا بهم في غير هذا المكان وهذه المناسبة الأكبر، التي تشارك فيها أغلب دول العالم، وقد بلغ عدد المشاركين في هذا العام 197 دولة، فضلاً عن الأمين العام للأمم المتحدة ومساعديه، وممثلي المنظمات والمؤسسات والهيئات المهتمة بشؤون البيئة والمناخ والأمن الغذائي والسلام العالمي.
لم يكن رئيس الكيان الصهيوني مهملاً أو مغموراً في هذه القمة، فقد حظي بترحابٍ لائقٍ من المضيف المصري، وجرى استقباله ووفده المرافق وفق برتوكول استقبال الرؤساء، وألقى كلمة كيانه بحضور قادةٍ وزعماء عرب وغيرهم، رسم فيها صورةً مثالية لكيانه، وصورها بأنها خالية من التلوث المناخي، وليس فيها انبعاثات غازية، ولا تعاني من الانحباس الحراري، ووصفها بأنها صديقة البيئة، خضراء تستفيد من الطاقة الشمسية، وتسعى للحصول على الطاقة النظيفة.
رئيس الكيان الصهيوني كان يعلم أنه يكذب في خطابه، ويخدع المشاركين في أعمال القمة بمعلوماتٍ غير صحيحة، لعلمه والأمم المتحدة والمنظمات الدولية المراقبة، أن كيانه يعاني من الارتفاع السنوي في درجات الحرارة بمعدل أسرع من المتوسط العالمي، وأن نسبة التلوث فيه عالية، وأن مناطق كثيرة فيه مهددة بالغرق، فضلاً عن المخلفات النووية الناتجة عن أنشطته وتجاربه النووية.
إلا أنه كان ممثلاً بارعاً ومتحدثاً ماكراً عندما أظهر في كلمته أسفه الشديد وكيانه على ما آل إليه العالم، والتهديدات التي تتربص به، فتباكى على ظروفه الصعبة، ونبه إلى أن الشرق الأوسط يقف على حافة الهاوية، وأنه على شفير كارثة كبرى، لكنه استثنى كيانه من الأخطار المحدقة، واستغل منبر المؤتمر ليشير إلى تميزه في كل شيء، وأنه يحارب التلوث البيئي، ويساهم إلى حدٍ كبير في منع الاحتباس الحراري، ويخصص ميزانيات كبيرة للأبحاث العلمية بقصد محاربة الظواهر المناخية السلبية.
لكن الإنجاز الأكبر الذي حققه رئيس الكيان الصهيوني ووفده المرافق، تمثل في محاولات خرق جدار المقاطعة العربية، إذ تبادل الكلمات والابتسامات مع بعض ممثلي الدول العربية، وشارك وفده في جلسات وندواتٍ لم تقاطعها الوفود العربية، وساهموا إلى جانبهم في النقاشات الجارية حول مختلف المواضيع والعناوين البيئية والمناخية، ولم تسجل عدسات الإعلام أي انسحابٍ للوفود العربية التي اعتادت ألا تشارك علنياً في أي لقاءاتٍ فيها ممثلون عن الكيان الصهيوني، اللهم إلا الموقف القومي العربي المشرف الذي قام به فخامة الرئيس الجزائري عبد المجدي تبون، الذي انسحب بجرأةٍ، وغادر بلا خجلٍ أو ترددٍ، رافعاً رأسه بشممٍ وكبرياء، وعزةٍ وكرامةٍ، رافضاً الاستماع إلى كلمة رئيس وزراء كيان العدو.
وكان الرئيس الإسرائيلي قد حرص في كلمته على إبراز دور كيانه وقدرته على تطوير الطاقة الشمسية والاستفادة منها في خلق بيئة نظيفة، وتزويد دول أوروبا بها، وحرصها على الاستفادة من مخزونها المائي في مساعدة وتزويد دول الجوار التي تعاني من نقصٍ في المياه، وهي الكلمة التي سبقت توقيع اتفاقية التبادل المائي والكهربائي بين الأردن والكيان الصهيوني، علماً أنه قد تم التوصل إلى مسودة اتفاق بين الطرفين قبل أكثر من عامٍ، إلا أن التوقيع عليها قد تم في قمة شرم الشيخ المناخية.
كما استغل المنبر الأممي في إبراز قدرة كيانه على تحقيق الأمن الغذائي لدول المنطقة، وخاطب دول الجوار باسم كيانه ومصر التي شكرها على حسن الضيافة والتنظيم والاستقبال،، داعياً إياهم للنهوض بالشرق الأوسط، والاستمتاع بالعيش الآمن فيه، وكانت عيونه تجول على وجوه أعضاء الوفود العربية، وكأنه يستحثها على الاعتراف والتطبيع والتعاون المشترك، ولعله قرأ من بعض النظرات والكثير من الابتسامات بعض القبول الذي يتطلع إليه وكيانه، مما شجعه على تكرار دعوته إلى خلق شرق أوسط متجدد ضمن نظام إقليمي للسلام المستدام، يكون كيانه فيه الشريك الأساس، الذي يقدم أَجلَّ خدمات الطاقة النظيفة الشمسية الخضراء إلى دول أوروبا وآسيا وأفريقيا.
للأسف يبدو أن الكيان الصهيوني قد كسب الكثير من قمة شرم الشيخ، ورجع رئيسه وقد جمعت شباكه أسماكاً كبيرة وأخرى صغيرة كثيرة، ومهد للكثير من العقود والصفقات المستقبلية، رغم أنه لم يبذل جهوداً كبيرة لجمع غلاله وحصاده، إلا أن الظروف العربية الرسمية لبعض الأنطمة قد خدمته، مما دعاه إلى الاستبشار بالمستقبل فتحدث عن صورة كيانه في العام 2050، ظاناً منه أنه سيعيش حتى ذلك اليوم.
صناديدُ الشعب الفلسطيني ورعاديدُ الجيش الإسرائيلي
أظهرت جريمة قتل الشهيد عمار مفلح حجم الخسة والنذالة التي يختال بها جنود الكيان الصهيوني ومستوطنوه، وكشفت عن كبير جبنهم وعميق خوفهم الذي لا يستطيعون إخفاءه، ولا يتمكنون من إنكاره، فهم يخافون من كل شبحٍ، ويخشون من كل فلسطيني، ويصعقون من كل صوتٍ، ويهابون من المواجهة، ويهربون عند المجابهة، ويرهبون النزال على الأرض والقتال في الميدان، ويفزعون مما يحمله الفلسطينيون بأيديهم، ويقلقون مما يحلمون به في مناماتهم، ويساورهم الشك من خيالاتهم، ويظنون أن الموت يلاحقهم والقتل يتربص بهم، ويحسبون كل صيحةٍ عليهم، وجوههم صفراء كالحة، وأصواتهم صاخبةٌ خائفة، وعيونهم تدور في محاجرها حائرة، فلا نامت أعين الجبناء.
رأى العالم كله صور الشهيد عمار مفلح وهو يتعارك بيديه المجردتين كفارسٍ نبيلٍ مع الجندي الإسرائيلي اللئيم، الخائف المضطرب رغم أنه مدجج بالسلاح، إذ كان يحمل بندقية ومسدساً وجعبةً مليئةً بخزنات الطلقات والقنابل اليدوية والغازية والمسيلة للدموع، وسكيناً تشبه المدية في طولها ونصلها الحاد ورأسها المدبب، وبالقرب منه جنودٌ آخرون يحرسونه ويحمونه، ويبدون استعدادهم للتدخل إلى جانبه والاشتباك مع الشبان الفلسطينيين، ورغم ذلك فقد اشتبك الشهيد عمار مع الجندي الإسرائيلي بكل قوةٍ وجسارةٍ، وجرأةٍ وشجاعةٍ، وصارعه بيديه غير مبالٍ بما يحمل من أسلحةٍ، وغير خائفٍ من الجنود الآخرين الذين ينظرون إليه ويتربصون به.
إلا أن الجندي الصهيوني الذي هالته شجاعة عمار وقوته وجسارته، وأرعبه إقدامه وإصراره، قد شعر بالخزي لضعفه والمهانة لجبنه، وتراجع أمامه خوفاً، وابتعد عنه رهبةً، فقد فضحه عمار وكشفه، وأظهر حقيقته وجيشه، فأخرج مسدسه وأطلق النار عليه وقتله، رغم علمه أنه لم يكن يحمل بيده سلاحاً، وأنه كان يقاتله راجلاً ويبارزه فارساً، ولكنها الفطرة اليهودية والطبيعية الصهيونية، المجبولة على الخوف والمسكونة بالرعب، والتي لا تقاتل إلا من وراء جدرٍ أو من خلف حصونٍ تحميهم، هكذا كانوا قديماً وهكذا أصبحوا اليوم، لا يقاتلون وجهاً لوجه، ولا يبارزون عدواً بشرفٍ، ولا يعرفون الفروسية النبيلة ولا العسكرية الشريفة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يسفر فيها الإسرائيليون عن جبنهم، ويظهرون خستهم ونذالتهم، فهم اعتادوا على قتل الأسرى، والاجتماع على الأطفال، والاعتداء على النساء، وإطلاق النار على الجرحى، والإجهاز على المرضى، وإطلاق مئات الطلقات على الشبان الفلسطينيين رغم أنهم يعلمون أن طلقةً واحدة تكفي لقتلهم، لكن الرعب الذي يسكنهم والخوف الذي يسيطر عليهم، يدفعهم إلى إمطار المقاومين برصاصهم، ربما لأنهم يخافون من هذا الفلسطيني الذي قد ينهض كماردٍ، أو ينطلق من بين الرصاص كعمالقة فلسطين وكنعانيهم، فيعاجلهم بضربةٍ تسكنهم أو طعنةٍ نجلاء تقتلهم.
لم يكن عمار مفلح هو الفارس الفلسطيني الوحيد الذي يفضح جنود الاحتلال ويخزي مستوطنيه، فقد سبقه الكثير من شبان فلسطين ورجالها، الذين قاتلوا العدو بشجاعةٍ نادرةٍ وجرأةٍ لافتة، ولست مضطراً أن أستدعي الماضي وأقلب في صفحات التاريخ الكثيرة التي تؤكد هذه المعاني وتبرزها، ويكفي أن نذكر من سجل أيامنا الأخيرة الشهيد عدي التميمي الذي نال منهم في شعفاط، وعجزوا عن النيل منه أو الوصول إليه واعتقاله، إلا أنه أصر على ملاحقتهم ومهاجمتهم، وذهب بنفسه إلى مستوطنة معاليه أدوميم وأطلق النار على حراسها، واستمر في إطلاق النار عليهم رغم عشرات الطلقات التي أصابته، إلا أنه بقي يقاتل واقفاً وقاعداً وزاحفاً حتى لقي الله عز وجل شهيداً.
وليس بعيداً عن الشهيد عدي فقد انبرى كفارسٍ أعظمٍ ومقاتلٍ أشد، الشهيد الشاب محمد سامي صوف، الذي قاتل الاحتلال ونال من جنوده ومستوطنيه، تارةً بسكينٍ وأخرى بمسدسٍ ثم بسيارةٍ دهسهم فيها، ولم يتمكنوا منه وهم مئاتٌ وهو بينهم وحيداً، ينتقل من مكانٍ إلى آخر ويباغتهم، ويذيقهم الموت صنوفاً وهم من أمامه يفرون جزعاً وخوفاً من تجرع كأس المنون على يديه.
رغم هذه الحقائق الدامغة التي يعرفونها عن أنفسهم، ويسجلها التاريخ عنهم، ويشهد عليها جيرانهم ومن عاشوا معهم، وتظهرها بجلاء تفاصيل أيامهم وأحداث كيانهم، ويحفظها القرآن الكريم عنهم، الذي أظهر حبهم لأي حياةٍ مهما دنأت، وخوفهم من الموت مهما عَظُمَ شأنه، ونال المُنى والشهادة من لقي في الوغى حتفه، فإنهم يدعون كذباً وزوراً أنهم خلقوا ليعيشوا فوق أسنة الحراب، وأنهم أشجع من ألسنة اللهب وأسرع من الرياح إذا هبت، وأنهم اعتادوا العيش بين الحروب، وخوض المعارك بينها، وشق الحياة لشعبهم بين الصخور وأعالي الجبال.
طوبى لشهدائنا الأبطال الصناديد، الرجال الشجعان الكماة الأباة الأسود، وألف رحمةٍ من الله عز وجل عليهم، ورفع شأنهم وأعلى ذكرهم، ولعنة الله على بني صهيون الخبثاء الجبناء الرعاديد، وأذلهم وأخزاهم، وجعلهم أثراً بعد عينٍ، ورماداً بعد جمرٍ.
الإسرائيليون وكأس العالم في قطر شروطٌ وضوابطٌ
شأنهم شأن الكثير من المتابعين، يحرص مشجعو كرة القدم الإسرائيليون على متابعة مباريات كأس العالم، ويرغب كثيرٌ منهم في السفر إلى قطر لحضور المبارايات في الأندية والملاعب، وتشجيع فرقهم الرياضية التي يحبونها، وألا يكتفوا بتأييدها من خلف الشاشات، أو معرفة أخبارها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد أعلن الاتحاد الرياضي الإسرائيلي أن آلافاً من المستوطنين قد اشتروا بطاقات دخول، رغم علمهم أن هناك إشكالياتٌ كثيرة وعوائق تحول دون سهولة دخولهم إلى قطر ومتابعتهم المباريات فيها، إلا أن ذلك لم يمنعهم من شراء بطاقاتٍ ودفع أثمان كبيرة لبعضها.
على الرغم من وجود علاقات مشتبهة بين الدوحة وتل أبيب، واتصالاتٍ مباشرة وغير مباشرة بينهما، إلا أن قطر تعلن أنها لا تعترف بالكيان الصهيوني، ولا تطبع العلاقات معه، وترفض تسيير رحلات مباشرة بين الدوحة وتل أبيب، وبغض النظر عن الدعوى القطرية، وما إذا كانت صحيحة أو مخالفة للحقيقة والواقع، فإن مشاكل كثيرة قد وقعت بين الجانبين خلال فترة الإعداد للمونديال، شارك في بعضها الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا"، في محاولةٍ منه لحل المشاكل وتذليل الصعاب بين الطرفين، خاصةً ما يتعلق منها بدخول الإسرائيليين إلى قطر لمتابعة المباريات، والشروط التي وضعتها لتيسير دخولهم إليها.
لكن قطر لم تتمكن من فرض شروطها بالكامل ولا تستطيع ذلك لو أرادت، إذ إنها تلتزم بشروط الاتحاد الدولي لكرة القدم، وتتعهد بتسهيل دخول الراغبين في متابعة المونديال أياً كانت جنسياتهم والدول التي يأتون منها، ولا تملك الحق في التضييق عليهم ورفض دخولهم، وإلا ما كان لها أن تستضيف مباريات كأس العالم، ولعلها تضحي بالكثير من ثوابتها وتتنازل عن العديد من شروطها أمام فرصة استضافتها للمونديال، فهذا شرفٌ عملت لأجله طويلاً وضحت في سبيله كثيراً.
وقد رحب كلٌ من رئيس الحكومة المنصرف يائير لابيد، والمكلف بنيامين نتنياهو بحضور الإسرائيليين مباريات كأس العالم في رحلاتٍ مباشرة، وذكر لابيد الذي بذل فريقه جهوداً كبيرة مع قطر والفيفا للتوصل إلى حلولٍ عمليةٍ، وشكرهما على الصيغ المقترحة، أنه تم الاتفاق على فتح مكتب إسرائيلي في قطر لرعاية المشجعين الإسرائيليين، وكذلك رحب خلفه نتنياهو بحضور مستوطني كيانه مباريات كأس العالم، وأعرب عن سعادته البالغة بالرحلات المباشرة بين تل أبيب والدوحة، وتمنى للمشجعين الإسرائيليين تجربة كرة قدم رائعة.
لسنا ندري مدى صحة ما تسرب من أخبار، التي تقول بأن قطر قد حذرت الحكومة الإسرائيلية من مغبة التصعيد الأمني والعسكري في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة إبان فترة المونديال، وأنها تتطلع إلى فترة هدوء وعدم اعتداء إسرائيلي ضد الفلسطينيين، ليقينها أن الأوضاع في فلسطين المحتلة حساسة جداً، وأنها تؤثر على المزاج العربي والإسلامي كله، وتتسبب في ردود فعل واضطراباتٍ غير محسوبة، مما قد يؤثر سلباً على فعاليات المونديال، إلا هذا ما ذكرته وسائل إعلام إسرائيلية ودولية.
لا شك أنها، شأنها شأن أي دولةٍ أخرى تستضيف مبارياتٍ أو اجتماعاتٍ دوليةٍ، تريد نجاح المونديال التي قاتلت لأجل الفوز به، وأنفقت مليارات الدولارات استعداداً لاستقباله، وبنت ملاعب جديدة، وشقت طرقاً، وأفردت مساكن، وأخلت فنادق، وتعاقدت مع دول الجوار والمناطق المحيطة، وعملت أقصى ما تستطيع لضمان نجاحها، واتفقت من كبريات شركات الأمن الأجنبية، المتخصصة في الأمن الاستباقي والميداني، للحيلولة دون وقوع أي خطأ من شأنه أن يتسبب في فشل المونديال.
لأجل ذلك يبدو أن الحكومة القطرية قد أبرمت عدداً من الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني، تتعهد من طرفها بتسهيل دخول ومشاركة المشجعين والمتابعين الإسرائيليين، وضمان أمنهم وسلامتهم، وحمايتهم من أي اعتداءٍ عليهم، وتأمين رحلاتٍ مباشرة من تل أبيب إلى الدوحة، تقوم بها شركاتٌ خاصة يتم التعاقد معها بهذا الشأن، لمهمةٍ محددةٍ ولمرةٍ واحدة، وأملت قطر شروطها على الحكومة الإسرائيلية، وإلا ستكون مضطرة لإلغاء الرحلات المباشرة، وربما التضييق على دخول المستوطنين الإسرائيليين من أي دولةٍ يأتون منها.
تقدر الأوساط الرياضية الإسرائيلية أن قرابة 10.000 – 15.000 إسرائيلي قد يحضرون مباريات كأس العالم في الدوحة، إلا أن هذه الأرقام ترصد عدد الإسرائيليين الذين سيصلون الدوحة من تل أبيب مباشرة، ولا تشير إلى أن آلافاً آخرين من المشجعين الإسرائيليين قد يأتون من دولٍ أخرى سيحضرون المباريات، سواء ممن يحملون جوازات سفر إسرائيلية، أو من أولئك الذين يحملون جوازات سفر أجنبية، علماً أن أغلب الإسرائيليين يتمتعون بجنسياتٍ مزدوجة، ويحملون أكثر من جواز سفر، وهو الأمر الذي يسهل عليهم دخول البلاد العربية بجنسياتهم الأجنبية.
كم كنا نتمنى على الحكومة القطرية أن تنتصر لفلسطين وأهلها، وأن تقف إلى جانبهم وتتضامن معهم، وتصر على شروطها بمنع المستوطنين الإسرائيليين من الدخول إليها وحضور المباريات الدولية فيها، وأن ترفض على الأقل تسيير رحلاتٍ مباشرةٍ بينها وبين الكيان، إن كانت لا تستطيع الوقوف في وجه الفيفا ومخالفة شروطها، أما وأنها قد سمحت لهم وأذنت بدخولهم، فلتسمح بالفعاليات الفلسطينية، ولتتيح المجال للفلسطينيين والمتضامنين معهم لاستغلال فترة المونديال في استعراض قضيتهم وبيان مظلوميتهم، وفضح الممارسات الإسرائيلية العدوانية ضدهم.
فلسطين في المونديال مواقفٌ ومشاهدٌ
لا يوجد منتخب وطني فلسطيني ضمن تصفيات كأس العالم في قطر، ولولا ظروف الاحتلال وشتات الشعب وانشغاله في المقاومة والسعي لتحرير لوطنهم واستعادة حقوقهم وتطهير مقدساتهم، لربما كان للفلسطينيين المتميزين على مستوى العالم بنجاحاتهم وإبداعاتهم، والمتفوقين في أعمالهم ومواقعهم، والمتبوئين لأرفع المناصب وأسمى الوظائف، والحائزين على أعلى الدرجات العلمية والمتخصصين في مختلف الفنون والدراسات، منتخبهم الوطني لكرة القادم، وفرقهم الرياضية المختلفة، وربما كانوا قادرين على النزال والمبارزة، والتحدي والمنافسة.
فلدى الشعب الفلسطيني المنتشر في الوطن والشتات على امتداد العالم بأكثر من أربعة عشر مليوناً، الكثير من الطاقات الخلاقة والمواهب الرائعة والقدرات المميزة في مختلف الفنون والمهارات الرياضية، ما يجعلهم أقرب إلى منافسة الكبار وتحدي الأقوياء، وحجز أماكن دائمة لهم في مختلف التصفيات الرياضية وفي المقدمة منها كرة القدم، التي تسترعي انتباه العالم كله وتشغله، كونها الرياضة الأغلى والأكثر كلفة التي تتربع على عرش الألعاب الرياضية.
إلا أن الفلسطينيين شأنهم شأن سكان الأرض جميعاً، وإن لم يكن لهم منتخبهم الوطني، فإنهم يتابعون المونديال ويحرصون على مشاهدة كافة المباريات، ولديهم أنديتهم المفضلة التي يتابعونها ويشجعونها، ويرفعون علم بلادها ويحفظون أسماء لاعبيها، قد سعدوا كثيراً باستضافة دولةٍ عربيةٍ لمباريات كأس العالم في سابقةٍ غير متوقعةٍ، إلا أن قطر التي أنفقت مليارات الدولارات في تجهيز النوادي والملاعب وتحضير البنى التحتية لضمان نجاح المونديال، أثبتت أنها على قدر التحدي، وأنها قادرة على تقديم أفضل النماذج في استضافة مباريات كأس العالم، وقد شهد بقدراتها وتميزها مسؤولو الفيفا والمراقبون الرياضيون والمتابعون وأخيراً المشاهدون.
رغم فرحة الفلسطينيين لقطر التي حظيت باستضافة المونديال، وتحدت الكثير من دول العالم ونجحت في تحديها، إلا أنهم يعيبون عليها إدخال المستوطنين الإسرائيليين إلى أرضها، والسماح لهم بحرية الحركة والتنقل، والعمل والتصوير ونقل الأخبار، فضلاً عن موافقتها على فتح خط الملاحة الجوية المباشر بين الدوحة وتل أبيب، رغم الشروط التي وضعتها والضوابط التي فرضتها، إلا أن هذا لا يخفف من حجم الأسى والحزن الذي انتاب الفلسطينيين والعرب لوجود المستوطنين الصهاينة في شوارع وملاعب الدوحة.
لكن الحضور العربي والإسلامي والفلسطيني في قطر عَوّضَ الخلل وعالج العيب وصَوَّبَ الموقف القومي والإسلامي، إذ تصدوا بمختلف جنسياتهم، وبأشكال مختلفة ووسائل عديدة للمشاركين الإسرائيليين، ورفضوا حضورهم واستنكروا وجودهم، وعمدوا إلى مقاطعتهم وحصارهم، والتشديد عليهم وتضييق حركتهم، فلم يفسحوا لهم المجال لنقل أجواء الاحتفالات ومظاهر البهجة التي عمت الشوارع القطرية، وصرخوا في وجوههم "قتلة ... إرهابيون"، ارحلوا عن بلادنا لا مكان لكم بيننا، وأسمعوهم كلماتٍ تسيئهم وأخرى تزعجهم، حتى أعلن مراسلوهم، وبثت وسائل إعلامهم، أن أحداً من العرب لا يقبل بهم ولا يتعاون معهم، حتى إن مواطني الدول المعترفة بهم والمطبعة معهم، كانوا عليهم أشد قسوةً وأكثر كرهاً لهم.
ورفعوا في وجوههم الأعلام الفلسطينية، وزينت معاصمهم الرموز الوطنية واعتمروا الكوفية الفلسطينية، وغصت شوارع الدوحة بالصور والشعارات الوطنية الفلسطينية، واستغل الفلسطينيون والمتضامنون معهم السياسة القطرية التي سمحت للمشاركين والحضور بالتعبير عن وجهات نظرهم، بما لا يخل بالعقيدة الإسلامية والأخلاق العامة، فبثوا الأناشيد والأهازيج الفلسطينية، ونشروا عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فنية وأخرى سياسية، تعبر كلها عن العنصرية العدوانية الصهيونية، وتوضح المظلومية والمعاناة الفلسطينية.
نقل الإسرائيليون أنفسهم صوراً عن حالتهم في قطر، وأظهروا للعامة بؤسهم وشذوذ وجودهم، وصوروا كيفية معاملة القطريين وعامة العرب والمسلمين القاطنين في قطر وزوارها لهم، فذكر مراسل قناة "كان" العبرية دور هوفمان، أن سائقي سيارات الأجرة في الدوحة، وهم من الجاليات العربية والإسلامية، كانوا يرفضون نقلهم، وإذا تبين لأحدهم بعد ذلك أنه إسرائيلي، فإن السائق يوقف سيارته، ويطلب من ركابها النزول منها، ويرفض أن يأخذ منهم أموالاً، معتبراً إياها أمالاً نجسة وحراماً.
ولقي الإسرائيليون المصير نفسه من عامة المواطنين العرب والمسلمين، الذين رفضوا إدخالهم إلى مطاعمهم، وامتنعوا عن تقديم الطعام لهم، ورفضوا أن يلتقطوا صوراً معهم، أو أن يظهروا إلى جانبهم، وانتزعوا الكاميرات وحذفوا الصور التي تجمعهم بهم، ورفضوا أن يذكروا اسم "إسرائيل" على أسنتهم، بل أصروا على "فلسطين" ورفعوا أصواتهم بها في وجوههم.
ربما لم يحظ مراسلٌ إسرائيلي بضيفٍ عربي ليسمع رأيه في مباريات المونديال، أو يناقشه في أجواء كأس العالم، حتى رفع المراسلون الإسرائيليون أصواتهم شكوىً وضيقاً، أنهم لا يجدون من يرحب بهم ويقبل بوجودهم، وأن العرب جميعاً يكرهونهم ولا يريدون التعاون معهم فضلاً عن الاعتراف بهم، ولا يوجد من بينهم من يتجرأ للظهور معهم أو الدفاع عنهم.
هؤلاء هم العرب الأصلاء، وهؤلاء هم المسلمون الصادقون، الذين يعبرون عن حقيقة انتمائهم لفلسطين وحبهم لها، ولا يترددون في إظهار مواقفهم من العدو الصهيوني وبغضهم له، فهم خير من يمثل هذه الأمة ويعبر عنها وينطق باسمها، وهم خير من يرسم صورتنا الأصيلة ويعلن مواقفنا الحقيقة، فأمتنا مع فلسطين، تحبها وتؤيدها، وتساعدها وتساندها، وهي ضد الكيان الصهيوني، ترفضه ولا تعترف به، وتقاومه وتقاتله، فهو العدو الغاصب، المحتل الظالم، القاتل الباغي، الذي لا تمتد إليه اليد المخلصة بالمصافحة، ولا تلتقي به العيون الصادقة ولو بالمصادفة.
مونديال قطر يخنق الكيان ويعزله
لم يكن يدور في خلد الكيان الصهيوني خلال السنوات الأربع الماضية التي تلت فوز قطر باستضافة مباريات كأس العالم في دورة 2022، أن المونديال سيكون لعنةً عليه ووبالاً على مستوطنيهم، وأنهم سيعانون فيه وسيعزلون، وسيكونون فيه غرباء وحيدين، وضيوف منبوذين ومقاطعين، بل مكروهين فلا يقترب منهم أو يرحب بهم أحد، ولا يفرح باستضافتهم أو الاستفادة من أموالهم أحد، وتتبرأ منهم الشعوب العربية وتنفر، ويرفض أبناؤها التعامل معهم أو الاقتراب منهم، ويعرضون صفحاً عن لقائهم، وقد كانوا يظنون أن المونديال في قطر سيكون لهم فرصةً للاختلاط بالمواطنين العرب والتعامل معهم، وسيستغلونه في كسر حواجز الرفض النفسي والعداء معهم، وسيتيح لهم الفرصة للتواصل المباشر مع المواطن العربي.
لكن الحقيقة كانت عكس ذلك وأسوأ، فقد شعر الإسرائيليون بحجم الهوة بين الواقع الرسمي العربي والحقيقة الشعبية العربية، وبين القشرة الخارجية والمجاملات الرسمية وبين القلب الحقيقي والمواقف الصريحة، فقد وجدوا أن الأنظمة الرسمية العربية في وادٍ وشعوبها في وادٍ آخر، فهي تخطط لنفسها بعيداً عن شعوبها، وتعمل لمصالحها ولا تلفت إلى إرادة شعوبها، التي لا تصغي لها ولا تسمع، ولا تطيعها ولا تتبع، ولا تؤمن بسياستها ولا تخضع، وتصر بعالي الصوت وصريح العبارة أن الكيان الصيهوني عدوٌ للأمة العربية والإسلامية، وأنه لا مكان له بيننا ولا وجود له أصلاً في أرضنا، وأنه يجب أن يطرد منها ويستأصل من جذورها، ويشطب من خارطتها ولا يعود له اسمٌ فيها، بينما فلسطين هي الأصل، وهي التي يجب أن تعود وتسود، وأن تبقى وتعيش.
شعر الإسرائيليون بالإحباط وذاقوا مرارة العزلة والحصار، وتجرعوا الإهانات المقصودة والشتائم المباشرة والتوبيخات القاسية، وأدركوا أن الموقف العربي الحقيقي هو ذلك الذي ترسمه الشعوب وتعبر عنه كلماتها، التي ترفض وجودهم وتصر على قتالهم حتى زوالهم، وأنها لا تخشاهم ولا تخاف من قوتهم، وأن اليقين لديها بالنصر ثابتٌ لا يضعف، وراسخٌ لا يتزعزع، وأنهم يصرون على مقاومتهم، ويرفضون الاعتراف بهم والتطبيع معهم، ويشعرون بعار التعامل معهم والاحتلاط فيهم.
أخذ الإسرائيليون الذين صفعتهم كلمات العرب في شوارع الدوحة، وقد أدركوا صلابة الموقف الشعبي وعمق العداء القومي والديني، يتوارون عن الأنظار، ويخفون معالمهم وينكرون حقيقتهم، ولا يكشفون عن هويتهم، ويظهرون بجنسيةٍ غير جنسيتهم، ويتحدثون لغةً غير لغتهم، ويزيلون كل العلامات الفارقة الدالة عليهم وعلى وسائلهم الإعلامية، وحاروا في البحث عن سياراتٍ تقلقهم، ومطاعم تستقبلهم، ومرشدين يرشدونهم، ومعاونين يساعدونهم في التصوير وإجراء المقابلات، وقد انتابهم الخوف على أنفسهم ومصالحهم، ودخل الروع إلى قلوبهم على كيانهم ومستقبلهم.
يتغابى الكيان الصهيوني أم يظن أن الشعوب العربية غبية، أو كما يقول المثل العربي "ضربني وبكى وسبقني واشتكى، إذ في الوقت الذي يمنع فيه وسائل الإعلام الدولية والفلسطينية من نقل صور عدوانه ووحشية ممارساته ضد الفلسطينيين، ويطلق النار على الصحافيين والطواقم الإعلامية، ويقتل بعضهم ويصيب آخرين بجراحٍ ويصادر كاميراتهم ومعداتهم، فإنه يطالب قطر والفيفا بضمان حرية الإعلام الإسرائيلية، والسماح للصحافة الإسرائيلية بتغطية فعاليات المونديال وتسهيل عملهم ووضع العراقيل أمامهم، وتيسير استضافة المشاركين عرباً وأجانب ومحاورتهم، وعدم ممارسة التمييز العنصري ضدهم.
أما الأمن القومي الإسرائيلي فقد اجتمع أعضاؤه على عجلٍ، وتدارسوا ما يتعرض له مستوطنوهم في قطر، فأبدوا استياءهم الشديد مما يحدث، وعبروا عن إحباطهم وخيبة أملهم، وقرروا تقديم شكوى إلى الفيفا ضد الممارسات التي يتعرض لها جمهورهم، والتضييق الذي يمارس عليهم، وكذلك أمروا بعثتهم المؤقتة في الدوحة، برفع شكوى عاجلة إلى وزارة الخارجية القطرية، ضد الممارسات العنصرية وسياسات التمييز الذي يتعرضون لها خلال مباريات المونديال.
لم يخفِ رئيس حكومتهم المنصرف يائير لابيد الذي رعت حكومته التفاهمات الأخيرة مع حكومة قطر، ورئيس الحكومة المكلف بنيامين نتنياهو الذي يتطلع إلى المزيد من التطبيع والاعتراف العربي، مخاوفهم من سراب الاتفاقيات ووهم الزيارات وشحوب الابتسامات، فلا شيء يبشر بالأمن لهم، ولا يوجد ما يطمئنهم على مستقبلهم ومصالح كيانهم، ونسوا أنهم سبب الكره ومبرر العداء.
عجيبٌ أمر هذا الكيان الصهيوني وقادته، يقتلون الشعب الفلسطيني ويحتلون أرضه، ويمارسون البطش والإرهاب المستمر ضده، ويعتدون على حرماته ومقدساته، وينتهكون حرمة المسجد الأقصى ويدنسون ساحاته، ويطلقون العنان لقطعان مستوطنيهم يجوسون كالثيران خلال المدن والبلدات العربية، يخربون ويدمرون ويقتلون ويعتقلون، ثم يريدون من الشعوب العربية أن تسكت على جرائمه، وأن تغض الطرف عن ممارساته، وأن تغفر له وتسامحه على كل ما ارتكب في حق الشعب الفلسطيني، وأن تبش له وتضحك، وأن ترحب به وتقبل، وأن تصدقه فيما يقول، وأن تقبل تبريراته وتتفهم دوافعه وحاجاته، وألا تصغي إلى الرواية الفلسطينية وتصدقها، وألا تؤمن بما تراه عيونها أو تسمعه آذانها.
خامسُ الفائزين وأولُهم أسودُ الأطلس ومغربُهم
استكمالاً لمقالي السابق ووصلاً به، واستدراكاً للحقيقة التي يستحقها والمكانة التي حققها، أثبت هنا أن خامس الفائزين المغرب، مملكةً وشعباً ومنتخباً، بل هو أولهم وأسبقهم، وأصدقهم وأنبلهم، وهو الرائد العربي الأوحد الذي تقدم وكد وتعب، والفارس الذي انبرى وأعلى الراية ورفع العلم، والفائز الأكبر والفريق الأجدر وإن كان للكأس لم يتأهل، إلا أنه حقق رفعةً نتوق إليها، وتفوقاً نتطلع إليه، وجعل لنا اسماً نَحِنُ إليه ونتمناه، وقد علقنا عليه الآمال ليصل، ويوماً ما نظنه بإذن الله قريباً سيصل، وسيكون بطل العالم، وسيحوز على الكأس، إذ كان أداؤه رائعاً، وتعاونه جميلاً، وثقته عالية، وإصراره قوياً، كما استحق مدربه الإشادة والتنويه، لقيادته الرشيدة، ومتابعته الدقيقة، وتبديلاته الموفقة.
إنه الفريق الفائز الذي ما سقط من مقالي سهواً ولا أهمل قصداً، بل هو ثابتٌ أصلاً وأولٌ حكماً، وكنت قد كتبت عنه ابتداءً، وخصصته بمقالٍ دون غيره، سموت به وحلقت، وتغنيت به ومجدت، وأشدت به ومدحتُ، كونه حصان العرب الذي ما كبا، ولا ساخت أقدامه وهوى، بل سما وعلى هام الزمان مضى، أملاً يرتجى وحلماً يبتغى، فكان مقالي "عرينُ الأسود وأسودُ الأطلس صفحاتُ عزٍ وتاريخُ مجدٍ"، خاصاً بهم وتقديراً لهم، وقد قرنته بعرين الأسود المقاومين في نابلس، وجعلت ما قدمه على أرض الملاعب رفعةً للعرب وذكراً لهم، ومقاومةً عربيةً نعتز بها ونفخر، ويتردد صداها نصراً في فلسطين، وعزةً لدى الفلسطينيين، وقهراً بين الإسرائيليين، وغيظاً يكاد يمزق نفوسهم ويفتت قلوبهم.
كنت قد ظننت أنني قد اكتفيت بمقالي عنهم، وضمنته ما أريد من المعاني والأفكار، وعبرت فيه عما أشعر وكل العرب والفلسطينيين تجاه أسود الأطلس الأماجد، ورجاله الشجعان، وأبطاله الصِيدِ الكُماة، الذين شقوا بأقدامهم طريقاً للمجد، وخاضوا في ملاعب الكرة معارك الشرف، وصنعوا لنا مجداً تليداً ولو كان في ميادين الرياضة، إلا أنني وقد حصرت في مقالي السابق "الفائزون الأربعة في مونديال قطر 2022"، شعرت بأنني قصرت وأخطأت، وأنه كان يجب علي أن أضعهم في الصدارة والمقدمة، فهم حقاً أول الفائزين وأشجع المغامرين، إذ إنهم الذين سبقوا العرب إلى رفع العلم، والهتاف باسم فلسطين، وفرض قضيتها على العالمين، وكادوا بمواقفهم العدو ومن تحالف معه.
إن كان فريق أسود الأطلس قد نجحوا في ملاعب الكرة، وأثبتوا رغم ضيق ذات اليد، وقلة الميزانيات وضعف الإمكانيات المالية، أنهم رياضيون مهرة، ولاعبون مدربون، ويمكنهم منافسة الكبار وبزهم، ونزالهم وهزيمتهم، فقد أثبتوا أيضاً أنهم أبناءٌ بررةٌ، يحبون بلادهم، ويبرون آباءهم ويلتمسون البركة منهم، ويتطلعون إلى الفوز برضاهم عنهم ودعائهم لهم، فرقصوا وأمهاتهم، وقبلوا أيديهن عرفاناً بفضلهن وشكراً لهن، وهو ما أغاض البعض وحرك ضغائنهم، ودفعهم للسخرية والتهكم، ممن يبغضون العرب ويكرهون أواصرهم، ويحاربون تماسكهم الأُسري وبنيانهم العائلي.
أسود الأطلس وجمهورهم والشعب المغربي بأسره، يستحقون كأس المونديال وأن يكونوا أصحاب اللقب الأول في كأس العالم 2022، فلهم باسم فلسطين وشعبها، وبلسان العرب وأحرارهم، نرفع القبعة تقديراً واحتراماً، وتشخص عيوننا إليهم أملاً ورجاءً، وتعلو أصواتنا لهم شكراً وعرفاناً، فهم أسود العرب وأبطال الأطلس، خير من يعبر عن الأمة ويعكس مواقفها، فهنيئاً لهم نصرهم الذي تحقق، وحلمهم الذي تجسد.