في العــــــراء
يُفترضُ بي أن أعيد تشكيل معرفتي وأنا أتابع سنيناً مضت، وأسردُ حياةً لم تعد قائمة. كل الذي يمت اليها بصلة كان قد توقف عن أن يكون: الناس والمكان. في وقت الأحداث وهي تجري كنت أفكر كيف لو أنها حدثت بشكل مغاير وبصيغة أخرى. وأتخيل الشكل المغاير والصيغة الاخرى. وأبدي ردوداً وأخلق أفكاراً. كنت أراه بعين داخلية، فيما الحدث يجري في الواقع ويكون قد تم بصيغته المقدرة. في هذا المكان يستيقظ شكي. أسأل: أيهما حدث فعلا؟ ما وقع وكنت منشغلا عنه ولم أنتبه كفاية لمجراه، أم هذا الذي إستغرقني التفكير فيه وأخرجته كما أعتقد؟ ما حدث في الخارج، أم الذي صار في الباطن؟
تُراودني فكرة من أني كنت أكثر من واحد عاشوا الزمن ذاته، أو واحد عاش زمنين. أهرع الى المرآة فلا أرى أحداً. من عاش إذن تلك السنين؟ أدوخ وأنا أراقب ذاكرتي تتكور ثقيلة كالزئبق وتتشظى حالما أجسها. أغلب الأحيان أجَمّدُ أنفاسي كي لا يترجرج سطحها فتهرب الصورة. أوضح الأحداث يتموضع في مكان لا يفضي إلى طريق يمكن الإشارة إليه. هنا إشارة مرور ملقاة على الأرض. ليس في نيتي تحقيق سلطتي عليها وأرفعها لتشير إلى جهة ما. هذا يعنى أن أبقى حيالها في العراء...
لا أتوقع من ذاكرتي ما هو خارق، ولا اكتشافات ما وراء العمر تغيّر موقفي. أنا أعرفها، كما أعرف أن الفشل نصيبي. لكنه فشلي أنا، رمادي، ولن أمسحه عن جبيني. إنه مادتي الخام التي أقف بصددها. مشروعي الذي استهلكته في استيعاب الآخرين وفهم العالم. حطبي الذي دفأني ودفأهم، ربما أحرَقهم بلا ذنب. الآن! حان وقتهم لإستعادة وجودهم في حياتي. أقصد ما تبقى من حياتي. عليهم أن ينهضوا في دمي كما أتوقعهم أرواح مهيبة تتكلم. من أجلهم ومن أجل نفسي؛ سأتحلى بصبر باحثي الآثار وجَلَدِهم، وهم يمسحون التراب عن قطعة عظم بائد بفرشاة صغيرة. في هذا المنحى يبدو لي أنّ عليّ إنتاج ذات من طراز آخر. ذات متسامية تُعاينُ ذاتها القديمة بعدالة، وترمم ذاكرة بُترتْ أطرافها ونَجتْ بما تبقى. ذاتٌ لا تاريخية.
ليس لي مكان مفضل أعاين منه عمراً محدداً. كلاهما المكان والعمر أمسيا حالة واحدة. نسخة سلبية لما كنت عليه. كينونة ماضية. كل ما دونته من يوميات: أفكار ورسائل، راحت في تصفياتي للمراسم التي هجرتها. أضعافها كانت التخطيطات ومشاريع الرسم، والكتب. ثلاثة وعشرون مرسما في حياتي، كانت مأهولة بكل ما أحب، تركتها ورائي. أنقذت منها ما كنت أعتقده عزيزاً وما يمكنني حمله، وأهب للنار وللآخرين ما عداه. التفاصيل الصغيرة التي صنعتني والتي لولاها لما كنت. تلك التي غرقت في تأملها وغبت عن ما سواها. الوقائع العابرة التي شكلت الزمن الحقيقي لحياتي، والأشياء... الأشياء الوفية لصمتها التي نضجت بينها، أين يمكن، اليوم، العثور على كل ذلك؟
لقد أحرقتُ أيامي ولم يعد ما ينيرني غير قلقي. بعض البدائيين يحرقون ما يجنونه طيلة العام في احتفال سنوي بمثابة عيد، ويتبارون في الحرائق. الأكثر كرماً فيهم من يحرق أكثر. "إقتصاد عبثي" كما يسميه "ماركس". على جريرتهم، من جانبي، كنت أحرق إقتصادي كل مرة، وأعيد أنتاج نفسي مما تبقى من رماد. على نحو شخصي مَثّلَ هذا "العبث" ضرب من يأس لا ينضب، وإدمان على إنتظار وعد آت من بعيد، لم يصل حتى اليوم، أو قد يكون وصل ولم أنتبه. أنا ذاهب الى أيامي المقبلة وأنا أفقر مما كنت. سأستهلك نفسي وأحرم الدود من وليمة يحلم بها. أغادر بلا لحم يُنهش، بلا صراخ يُوقد في الظلمات، بلا ذاكرة، بلا ألم.
آخر مشغل هجرته كان في تونس. كل ما كان فيه لا تستوعبه الحرائق: صناديق من ريش الطيور. كنت جمعتها لمشروع "الأغاني" الذي لم أنجز منه إلا أربعة أعمال. ملايين من الأجنحة الصغيرة تركتها في العراء تنفخ فيها الريح، تأخذها الى السماء، وتأخذني قبلها. أحلام اليقظة أكثر واقعية من الحاضر: هذا ما حاولت بيانه في "الأغاني" التي ما فتأت همهماتها في صدري. أنا أحلم أني أفكر بأني أحلم.
هل أتخيل ما كنتُ عليه واستعيرُ شخصية أخرى أتكلم عنها، كما لو كنت أنا؟ أأكتب ما كنت أتمناه أن يكون، كما لو أنه كان فعلا، كما يقول "سرفانتس"؟ هناك من يبحث عن ذاته، وقد يصادفه ما يخدعه في طريقه. وقد تكون الطريق ذاتها هي الوهم. وهناك من يبحث عن هوية ذاته، والشك يكمن في بنية الهويات مهما بلغت نقاوتها. أما أنا، فمقيم فيها... أُنقّبُ؛ فمن يخذلني غير معولي؟
سقطتُ الى الوجود تتقدمني هيبة طقوس صابئية لأبن من عرق كهنوتي نقي لا مراء فيه، قادم على رأس أربع بنات، لامٍ فقدت ولدها البكر، مهددة بزوجة ثانية؛ إن لم تنجب ولداً آخر بديلا. فكنت البديل المبالَغ في حقيقته، المطلق. في باحة شاسعة تُكنَسُ كل يوم وتُرَشُ لتبرد ويُرص ترابها، تفوح منها رائحة ظلال عتيقة، زحفتُ. تحت النخيل بين حيطان طين سميكة تنتأ منها عيدان التبن أينما تعرضت للمطر، يتشقق سطحها ويتساقط مثل لحاء، أخذتُ أقضم أيامي الطيّعة بدلال بالغ الترف. لم يكن هناك أجمل من سماعهم ينادوني باسمي؛ أنه أكثر الكلمات التي اسمعها إطراءاً. كان ذلك كافيا ليطربني ويأسرني في الأحضان؛ فلم أكن أنزل الى الأرض. كنت محبوباً ومباركاً. ولدت في أقدس أيام الصابئة المندائيين: أيام الخلق. لطالما خامرني أحساس يشي أن لي ربا يحميني أينما كنت ومهما فعلت.
لدى الصابئة المندائيين طقوس وأساطير تستمد سرّانيتها من دهور موغلة في القِدم، وسنن صارمة متعنتة لا تقبل الإجتهاد. لأني من عرق كهنوتي كنت منذوراً لطقسين: أولهما مدعاة للفرح، يرتبط بالعرس الذي من فرائضه إنشاء بيت للعريس. هو بيت إفتراضي: عبارة عن قفص كبير من القصب يدخله العريس والكاهن ووسيط مكرس بينهما. هناك تتلى نصوص دينية معنية بالزواج، ويتناول العريس لقمة فيها سبعة عناصر: جوز ولوز وزبيب وتمر و... و... وسمك مجفف. على عتبة "البيت"، عند أقدام العريس قبل دخوله، تٌكسرُ جرة (مشربة) من الفخار بمثابة قربان. تحتم الديانة أن يكسرها طفل طاهر؛ فكنت أنا مَنّ يُبحَثُ عنه. أقف مثل جندي عتيد بانتظار الأوامر، أحمل الجرة عاليا. أهوي بها أرضاً حالما ينطقون بذلك، فيما الأطفال يتدافعون لالتقاط الحلوى التي تنثر على الرؤوس. حتى أنجز مهمتي المقدسة لا يبقى لي شيء على الأرض غير هشيم الفخار المتناثر. كانت حصتي محفوظة دائما لدى أخواتي. منال سهل يحرمني من سباق مع الآخرين وتدافع للعثور على قطعة بين الأرجل. كان الأطفال أكثر إجتهاداً، يحصلون على حاجاتهم بعرق الجبين، بينما كانت متيسرة لي حين الطلب. لم أكن أملك مواهبهم. موهبتي الوحيدة: أني مدلل. تعطلت همّتي واستسلمتُ لكسل وثير.
وكنت منذوراَ لطقس الذبائح الذي يجري عادة على شاطئ النهر. ساعات طويلة يتم فيها ذبح الطيور للعوائل المؤمنة. كانوا ينقدونني شيئا لأقف صامداً وأشهد أن الذبح يجري حسب السنن المندائية. فيها يجلس الكاهن القرفصاء على ضفة النهر يلبس ملابسه الدينية البيضاء. تغدو، بعد أن يغتسل في النهر العكر، بلون الطين. أقف خلفه واضعاً يدي اليمنى على كتفه الأيمن. وحالما ينحر الطير، رافعا إياه في الهواء، أنطق: "أنا سهدخ"، وتعني: أنا شاهد. لم أكن معنيا بكسوة الكاهن وتراتيله المكرورة المبهمة، ولا بسكينه البدائية المطروقة، ولا بغصن الآس في يده. كنت منشغلا أتابع تساقط قطرات الدم على الطين. نهر أحمر رقيق ينحدر صوب نهر أزرق عظيم، يسعى اليه ولن يصل. كان الدم يتخثر في طريقه ويجمد في الحفر. كنت أشهد على الموت: موت دم حلال. الطيور المذبوحة، معقودة الأجنحة، ترفس في الأواني النحاسية المُبَيَضَة. دون أن أفقه كلمة واحدة مما يُرتل، شهدتُ على ذبح مئات الطيور على ضفاف الأنهار. يا ويلي! من كان يشهد على براءتي؟
مرأى الدم المراق يوقظني على الهاوية ويخضّني من الداخل؛ فتنتابني قشعريرة وحشرجة في الحلق. أصابت عيني اليسرى نقطة بيضاء. حينها كنت في الخامسة. أخذني أبي الى البصرة لطبيب مختص. قشط النقطة، وأوصى أن يُقّطر في عيني دم حي. تجند شباب القرية في مهمة صيد؛ فهوت الحمامات والعصافير صرعى من الأشجار. كانوا يذبحونها فوق عيني وهي ترفس. دم حار، لزج، كثيف، يُراق على وجهي، ينزل في أذني، يتخثر على رقبتي، أختنق بزنوخته ويأخذني الغثيان.
لم أحسد، ولم أكذب، ولم أسرق، لكني كنت أبكي مراراً، ولوحدي أحيانا. لدي دموع فائضة. كنت محاطا بحذر وخوف عائلي، وبحماية صارمة لدن أختي زاهدة: راعيتي المنذورة لي. كنت موضوع حياتها، كل أهميتها. الناس من حولي يأنسون بي كدمية نادرة، حلوة. كل ذلك لم يدرأ عني نكبتي الأولى: مصرع كلبي. كان أبي اشتراه بدرهم وجاء به من البصرة، فسُميَ: دريهم. فطنتُ عليه ينام بجواري. أنا وإياه صغيران بحجم واحد. شعره أسود فاحم يلمع كالقطيفة. في الشمس يغدو كأنه صدر الحمام. فوق عينيه تماما دائرتان حنطيتان. يبدو من بعيد كأن له أربع عيون. إذا أغمض عينيه ونام يكون له عينان احتياط لا يغمضا. تناسق أعضائه تليق بآلهة. خطمه وأذنيه وجسده الرشيق، أقدامه وذيله تربطها نسب ذهبية. في عينيه الكستنائية فرح واعتراف بالجميل: كوني صاحبه وكونه لي. كان ينظر في عينيّ طويلا ويكاد ينطق، وكنت أفعل بالمثل. منه تعلمت التحديق بالأشياء وابتلاع الكلام. قُتلَ غيلة في صباح يوم طفولي. كان يفترض به أن يتمسح بي على عادته. إفتقدته وخرجت من البيت أناديه: دريهم... دريهم! لم يصبر أهلي وأجابوني: قتلوه! لم أفهم لماذا يقتل كلب منزلي صغير، فيما القرية تعج بالكلاب المتوحشة؟ لم أره وهو ميت. قالوا أن "القاتل" القاه في النهر. النهر الذي لا يتوقف عن الجريان. إغتياله فتح عمري بوجه الموت. الموت الذي يخفي الأحياء الى الأبد. بعد واحد وستين عاماً من ذاك اليوم، مات "القاتل". إنه من عمومتي. ذهبتُ الى مراسيم دفنه. وهو في قبره، قبل أن يهيلوا التراب عليه، سألته: لِمَ قتلت الكلب؟ لم أسمع إجابته؛ فغادرتُ المقبرة بلا صلاة.
توالت الميتات حتى غدت غلالة تغلف الهدايا الحية التي كنت أحظى بها. كان لجدي "خضر الخميسي" أصحاب يعيشون في هور "الجبايش"، واصلوا الوفاء للصداقة بعد وفاته، ولم ينقطعوا عن زيارتنا بين عام وآخر. كانت "شميعة": الزوجة، تعتمر عصّابة سوداء كبيرة تستقر على رأس مرفوع. لها قامة نحيلة مستقيمة ووجهٌ تتقاسمه خطوط الوشم الخضراء. جاءتنا بصحبة زوجها "أحَيمِد" مرة واحدة. بعد وفاته كانت تأتي بصحبة إبنها "عذيّر". يوم وصولهما يكون للبيت رائحة وأصوات لم تزل ندية قادمة من رياض الجنة. كانت تنزل طيور حذاف، وغرنوق ناصع البياض، وبرهان رمادي يميس برأسه، وأرانب، بضيافتنا السخية. على الارض تنبطح حزم قصب السكر والعنقر. في قفف مقيرة يجلبون طحين "الخرّيط" الأصفر: لقاح ناعم جدا ينطوي عليه عرنوص البردي الذي يملأ أهوار العراق، يُطبخ على البخار. كانت عمتي "زكية" تجيد تحضيره مخلوطا بالسكر وحب الهيل والسمسم.
نهارالضيوف يقلب مذاق الطعام والأحاديث، ويبدد أنانيتي، ويحمّلني مسؤولية الأحياء الجدد: الغرنوق والبرهان. كنت أحبسهما في قفص من الجريد، وأغدق عليهما بالشعير والماء والحنان. ماذا يلزم الكائن أكثر من هذا ليحيا؟ لم تقف على أقدامها إلا أياما، ثم تلوي أعناقها، تترنح، وتنهار.
بيتنا في "اللطلاطة" لا يشبه بيتاً آخر سكنته في حياتي، ولا أي بيت دخلته، كما أنه لم يأتِ في أحلامي حتى هذه الساعة. كان مكاناً مخصصاً للطفولة. بُنيَ على مقاساتها وأهوائها البدائية. رحل من على وجه الارض مع رحيلها. لولاه لما كنت طفلا. هو عبارة عن أرض شاسعة مقطوعة نصفين: النصف الأمامي للسكن، والخلفي مُراحُ الأبقار. رتاج البيت واسع من خشب بلا دهان. لونه بلون التراب. يتوسطه من الداخل مزلاج خشب يستقر في عين من حجر في الحائط. يفضي الباب الى طارمة يستقر سقفها من جهة البيت على عمودين خشبيين. مساحتها تشمل نصف واجهة البيت، ونصفها الآخر على اليسار تحتله ديوانية كبيرة: غرفة معزولة تتميز دون غيرها؛ أن واجهتها من الخارج مبنية من الطابوق. في الأعياد تُفرشُ ببسط ملونة ووسائد. لها شباكان واطئان. في ركنها القريب من الباب محمصة القهوة الحديدية: ذراع طويلة تنتهي بطاسة مفلطحة. في المفصل ما بين الذراع والطاسة، من الأسفل، ذراعان صغيران تستقر عليهما؛ لتبقى عالية عن النار. كأنها فرس النبي من حديد. كانت هذه من شؤون أبي، عندما يأتي ويستقبل ضيوفه كل عام أو عامين.
ترافق المحمصة ملعقة طويلة الذراع: شيش حديد بطول ذراعين له رأس مدورة مطروقة؛ لتقليب القهوة وهي تتحمص على النار. كانت الملعقة هذه سيفي وقت الملمات وأنا أطارد أخواتي. صراخهن وطلب النجدة كانا يمنحان السيف شرف المعارك. إنتصاراتي الدونكيشوتية كانت تحفزني على اختراع وسائل حرب أخرى؛ هو كل ما يقزز ويخيف: ضفادع كنت أحملها من الضفاف في سلة خوص صغيرة سفّتها لي زوجة عمي"رفيعة" لأجني بها الرطب، وأفاعي ميتة يابسة، وأبو بريص حياً. كنت أدير دولاب العواطف العائلية متى هبت رياحي، ومتى فرغت طاحونتي من الدلال. بجانب المحمصة جرن من حجر الكرانيت الأحمر لدق القهوة، ضاع مهراسه. فعوّضه أبي بحجر صوان رمادي اللون: إسطوانة ملساء بطول ذراع، نُحتَ لها رأس ليمكن الإمساك بها؛ فغدت مثل قضيب هائل يقيم في حفرة الجرن طيلة الأيام.
البيت يضم أربع غرف مبعثرة، على أطراف ساحة شاسعة، تتجنبها نخلات ثلاث، غطاءها سماء زرقاء. يربط الغرف كلها سقف واحد يغطي مساحات فارغة تفصل بينها بمثابة طارمات. الطارمة المحاذية للديوانية كانت مطبخا صيفيا مفتوحا من الجانبين. طارمة في آخر الساحة تفصل بين غرفتين تؤدي، عبر باب سائب، الى المُراح: مملكة الأبقار الحلوبة والدجاج السائب والهوام. في صدره يتربع تنور كبير محاط بأكوام الحطب: سعف يابس وعاقول وفضلات الأبقار اليابسة معجونة مع التبن وممطولة على شكل أقراص واسعة. على جانبه الشرقي سقيفة الأبقار. كنا نلوذ تحتها لقضاء الحاجة على الأرض. فيختلط كل شيئ.
كل ما في البيت كان للطبيعة. كنا عنصراً واحداً من عناصرها الحية. من الصعب التمييز بيننا والعناصر الاخرى؛ فلم نكن وحدنا نعيش فيه. معنا كانت الديدان، والخنافس، والنمل، والنمل الفارسي، وأبو بريص، والعناكب، والعقارب، والحمام، والبلابل، والفئران... والسنونو؛ يعشش أعلى الحائط تحت السقف في أعشاش طينية مخروطية الشكل يبنيها من كرات طين صغيرة بحجم الحمصة. يلصقها ويتأكد من ثباتها. كان يأتي بها من الضفاف قريبا من وجه الماء، حيث الطين أكثر نقاءاً وأكثر طراوة. ومعنا أفاعي في السقوف بين القصب. كان معنا أصدقاء وأعداء نلهو معهم في النهار وننام تحت رحمتهم في الليل بلا أحلاف موَثقة. مرة سقط ثعبان يلف أنثاه في حضن أختي ليلى وهي تخيط. العجائز سألنها إن عثرت على فص شفاف سقط منهما؛ إنه يحمي من شر الأفاعي! ولكن من يحمي الأفاعي من شرورنا؟ كنا نختار أطول القصب وأمتنها، نشق رأسها مثل ملقط وننتظر حية كانت تعشش في السقف. تنسل من ثقب وتتسلل الى آخر. يتدلى جسدها عاريا فوق رؤوسنا، فنضع القصبة في وسطها ونلفها، مرة ومرتين. تشتبك الحية والقصبة في اختبار لقوة الحياة. يعلو صراخنا فتطردنا أمي بقناعة أنها حية بيت مسالمة وأمينة علينا. سمعت جدتي "حيهن" تقول:
- القنفذ ألد أعداء الحية.
عثرتُ في قولها على حكمة تبرر افتتاني. كنت أطاردها في البساتين. تتكور على نفسها وتبقى دون حراك في مكانها؛ فاصطادها: كرة من الشوك تنطوي على وداعة واستسلام. أقلبها على ظهرها، فيبرز من بين الاشواك خطم دقيق ينبض، يشم فرحي. أجمعها في شليلي. أضمها الى صدري وأتسلل سراً الى فناء الدار وأطلقها، لكنها سرعان ما تختفي، وتبقى الأفاعي تتأرجح في السقف.
أخذتُ أغفو، يقظاً، أسمع دقات قلبي، أتقلب ما بين أشواك القنافذ في صدري وانسياب الأفاعي فوق رأسي. الظلمة تسكن فناء الدار؛ فكنت أنده أمي لترافقني إذا ما خرجتُ لحاجة. في جوف الظلمة كانت الأفكار تنصب لي فخاخا أتعثر بها. أزمنة غابرة يعفرها التراب تلتصق في الزوايا، يغطيها "مخاط الشيطان"، يعلق بأهدابي فافركها. أرى الظلال تقوم واقفة تترنح على الحيطان. الحيطان تتهامس، بفحيح ما بينها، وكنت أسمعها: "ها هو...ها هو...ها هو". واحد كان طويلاً، أشعث الشعر، يتسلق النخلات. يخرمش جذعها بأضافره ويتأرجح بسعفاتها. يتدلى لسانه بارداً، دبقا، يبحث عني، ويلحس رقبتي. ثمة ليل خرافي مسكون بالأرواح كان قد حقق هويته في طفولتي.
البيت واحد من ثلاثة وعشرين بيتا في "اللطلاطة". تتوزع على أربعة قواطع. تقع على شارعين متصالبين. يملؤها نوى التمر منذ الخليقة. الشارع الأطول/شارعنا، يبدأ من جرف النهر الحاد ويمتد بعيداً. يشطر المقبرة نصفين ويختفي في أفق مترب. بيوت الشيوخ الكهنة: آل زهرون وأهلهم (الارستقراطية الدينية) والمعبد الخاص بهم (المندي) تطل على النهر. العوائل الأقل حظوة (النجارون والحدادون) على تخوم المقبرة في الخلف. عبرها كنا نرى القادمين من بعيد. المسافة المكشوفة تبدد المفاجأت. بعضهم يفضّل أن يقطع طريقاً أطول عبر البساتين من الطرف الآخر للقرية؛ طمعا بالظل ونسائم النهر الكريم.
الحلاق "عبد اللطيف" كان يسلك الطريق الأقصر عبر المقبرة. قادما من السوق يحمل حقيبته وتختة ً يجلس عليها الزبائن في ظل يوفره النخيل طيلة الأيام. إنه أول من حلق لي، وأول مقص أسمع طقطقته على رأسي. لم أكن أطيق دغدغة ماكنة الحلاقة على رقبتي فأدخل رأسي بين كتفيي. كان يدفع رأسي الى أمام بقوة ليكمل الحلاقة، ورأسي يقاوم بصمت. لم أفهم لِمَ يعيد الكرّة مرات ومرات! لماذا لا ينهي حلاقة الرقبة في جرة واحدة؟ كل مرة، حيث يبدأ من أسفل الرقبة الى أعلاها، كنت اعتقد أنها المرة الأخيرة. لكنه يكرر لعبته المفضلة... ويكرر. فرحي بنجاتي من تحت يديه، كان مدعاة لأقفز في طشت الماء بدون عناد.
تركتُ نفسي في العراء، بمعية الأشياء، في زمنها السري تنضج بلا إكراه ولا مصائب. بخدوش على قوالب الطين الحرّي الجاف التي كنت أنزعها من صفاف السواقي بعد انحسار الفيض، بسكين صغيرة غاب لونها، تُفتحُ وتُطوى، حفرت وجهاً. خلقت بديلاً ملموساً وواضحاً لأفكاري كنت أحاوره؛ فابتلع لساني. يدي الأكثر صدقا والأعمق ثقة بددتْ خرسي. في الطين أكتشفت كيانا خفياً آخر غير الذي أحمله، ينطق بقدراته؛ ما أن أمد يدي وأحفر السطح المتاح. هل قيّضت لي تلك الواقعة العفوية أن أكون فناناً وحفاراً فيما بعد؟ ربما! لكني لا أزكي تفكيراً تسويغياً كهذا ولا أثق به. لا أحيل حياتي الى وقائع أولية تنتج حقائق فيما بعد، وإلا لكنت الآن بصدد إنسان آخر تماما لست أنا المعرّف بجملة صفات: الفنان، السياسي، الأستاذ، الأب، العرفاني، الربوبي. لو استرسلتُ بخطواتي على الطرق المأهولة الجانبية التي كنت عليها يوما الى نهاياتها؛ لكنت كائناً آخر غير هؤلاء. في الحقيقة كنت كل هؤلاء وكنت الضد في آن واحد. كنت في أعماقهم أنا الحقيقي الذي ينجو بنفسه من هيمنة الآخر، هيمنة الصيغة الجاهزة. وكان قريني يزّن في أذني: إهرب... إهرب! فهذا ليس مربط الفرس.
كان أبي الصائغ "عبد الشيخ خضر الخميسي" قد ترك في البيت أدوات صياغة: مناقيش، وكلاّبات دقيقة الرؤوس، ومباضع حادة، ومبارد، ومطارق. الآلة تحفز العقل وتثير فضول طفل خالي البال، معافى، يفعل ما يشاء. كنت اطرق أيامي اللينة على سندان ثقيل يتربع على الأرض، مكتفيا بوحدته الباردة، لا شأن له غير الاستجابة لمطرقتي الرعناء وأنا أمطل الرصاص الطيّع واسلاك النحاس. كان أبي يأتي بأشياء غير مألوفة عقب سفراته الطويلة الى البحرين. تعلقت بصندوق التصوير الأسود الصغير. يخرج من مقدمته خرطوم من الجلد تتوسطه عدسة وله نوابض على الجانبين. أحدها يفتح غالقا يغطي العدسة، يفتحها ويغلقها. مرات ومرات كان الواقع يتضح ويختفي فيها. من خلال بؤرتها الزجاجية كان البيت يبدو أصغر وأكثر ترتيباً، مؤطراً، أقل إنارةً، أبعد بقليل من مكانه. ربما كان أقرب بقليل. من خلالها، وأنا في مكاني، هيمنتُ على مكان فسيح ومترام. بنقرة وجيزة على النابض، من دون عناء، كنت أمتلك ما حولي. كان الصندوق عيني الداخلية التي يشاركني فيها أحد، ومدونة طفولتي، وحافظة أسراري.
وكانت لي كرة سلة حمراء صلبة، وثقيلة. لم أفهم كيف قدر أبي أني سألعب بها! كان الكبار يتوسلونني ليلعبوا بها بمثابة كرة قدم. إنها الكرة الوحيدة في "اللطلاطة". كنتُ أقف خارج الساحة وهي أرض خلاء بعيدة عن البيوت، أبعد من المقبرة، أراقبهم يلعبون. أقفز مع كل ركلة لها. أتابعها وهي تنط الى السماء. إنها كرتي التي قيّض لها أن تتخبط في الشوارع لثلاثة عشر عاما حتى تخرجي من المدرسة الثانوية. تركتها بالية كالحة الوجه. كان لدي ما يشبع أهمية بملكية نادرة وفريدة يغذيه إعجاب الآخرين وقبلاتهم.
كانت الخيالات تأتيني أشعة تعشي البصر. تعبر خلال خوصِ سعفٍ تهزه الريح. تتراقص على وجهي، وأنا مستلق على تراب بارد تحت جذع النخلة، أشم عفناً حلواً، أستنشقه وأغفو. كانت مسارات الضوء تتكسر كلما أوغلت عيناي في العمق. ضوء ينبعث من الأشياء، من تقاطعاتها. يسقط على سطوح أخرى، ينكسر ويرتد اليّ. أنه صورة عقلي وانكساراته.
أنا مَشاءٌ. أمشطُ أفكاري وأذرها في الطرقات التي لم أعد اليها مرة أخرى كما كنتُ. بمعنى أني أنسى بماذا بدأت وبماذا انتهيت. حسبي بعد عودتي أذكر أمراً واحداً؛ أني كنت أفكرُ. في موسكو في بداية الثمانينيات، كتبتُ عن خطواتي الأولى خارج البيت. عن ولد صغير، وإغواءات بساتين مأهولة بالبلابل والدبابير. كتبت عن أعشاش تحتضن بيوضاً مرقطة، وخطوات خفيفة متوجسة في مقبرة عامرة بقبور الأجداد... عن أسرار كنت أعثر عليها مصادفة أو أتسلق الحيطان لأحظى بها. إستيقظتْ نزواتي فيما الأموات ترقد خلف الجدران. في الليل كنا نلعب "عظم لاح"، وكانت هكذا: نرمي عظماً، عظم فخذ أو لوح كتف، بعيداً في قلب الظلمة ونبحث عنه. كنت أختبر أذني على تحديد مكان العظم وهو يرتطم في المتاهة، وأمرنُ قدماي على افتراض المسافات. لم أعثر على عظم يلمع غير عظامي وهي تصطك. كنت أربي قلبي على الخوف، وعينيي على الظلام.
كتبتُ في وقتها ثلاث وريقات. عن هذا تمخض الجبل! عنونتها "انكسار الضوء". أعدت صياغتها فتشوّهت. قرفت منها ورميتها جانباً، لكنها اندست مثل عادة سرية بين الأوراق. عندما يجتاحني الإفلاس وهو حالة مزمنة، أنبش الماضي؛ لأني على يقين أني نسيت شيئا ورائي لم أُكمله وتركته ناقصاً. أصبح حاضري عبارة عن بواقي ماض تختلط ببعضها؛ فيصعب تقدير نَسَبِها، ويتعذر عليّ فرزها. حاضر يجر وراءه ماض ناقص يعبر الى مستقبل غير مكتمل. لم أبدأ تماما ولم أنته تماما. حرف وصل بين جملتين، بين حياتين: هذه هي صورتي. كي أعيشُ بلا ندم وأبرئ ذمتي من ذنب، كان لزاما عليّ أن أصفي حساباتي الماضوية. وهل لي ما أفعله غير ذلك وقد كثرت ذنوبي؟ تلك التصفيات التعسفية المتكررة راح ضحيتها رزم أوراق مرسومة، وكتابات في صيغتها الأولية، ورسائل، واختفت عشرات الأسماء والأماكن.
- هل سبق وقلت ذلك؟
- نعم، اللسان يذهب الى السن المنخور دائما.
في عام 2003، قبل احتلال العراق بأيام، أقمتُ معرضاً لأعمالي في "كالري الكوفة" في لندن. كانت المرة الأولى أزور فيها تلك المدينة. قضيت وقتي مبعثراً بين الأصدقاء، والمتاحف، والمكتبات، ومعالم لندن. في أروقة تاريخ أمسك بتلابيبنا نحن العراقيين. في حينها، كنت أتعثر بأذيال حب فضفاض. أشتريت آنذاك "نصّيات" لمؤلفه ج. هيو. سلفرمان: كتاب غني وكاتب في منتهى الذكاء. إنطوى على مقاربة في نصوص مختارة للسيّر الذاتية. في متن الكتاب ورد عنوان "إنكسار الضوء". وكان سيرة "ديكارت" الذاتية. قوة جبارة قذفتني من مكاني. يا الله، ما هذا؟ الملعون سرق عنواني. قبل ثلاثمائة وستون عاما سرق ديكارت عنوان يومياتي. هكذا أقنعت نفسي. فليس لدي تفسير آخر أن يعنون سيرته الذاتية بهذا العنوان؛ إن لم يكن قد سطا على أفكاري قبل أن أُولدُ. ولكن من يتهم ديكارت؟ كان هذا كافيا لمضاعفة إهمالي لما كتبته. غير أنها لم تذهب ضحية حروب اليأس الداخلية المزمنة. ليس بسب ديكارت؛ بل لأنها كانت تنطوي على وصف لشخصية كان وجودها قوياً في حياتي، يشبه ما كان لهارون في حياة نبي الله موسى: صديقي الأول "زهرون شلش". ليس غريبا أن يتشابه الأسمان. إنهما ينتميان لعرق إثني واحد. ذاك عبراني وهذا مندائي.
من نكون عندما يدخل أحدهم في بنية ذواتنا البدائية، بين طيات أنسجتها الرقيقة وهي في طور الصيرورة، وينضج مع نضجها؟ أياً منا كوّن الآخر؟ والسيرة لمن تعود؟ أنا سيرته أم هو سيرتي؟ نتذكر هؤلاء، فيستولون على حاضرنا لحظة بلحظة، يتنزهون معنا، يأكلون، ينامون. إنهم يعيشون بدلاً عنا!
كان زهرون يعيش في بيت مثل بيتنا، إنما أصغر منه. بابنا يقابل بابهم. وجهي في وجهه كل يوم. تمتد أهوائي وتتسلل اليه بلا عناء، كأهوائه عندما يقف قبالة الباب ويشير إلي. ولدنا في عام واحد. تعمدنا سوية. دجلة يشهد على ذلك. ذك الصباح ناديته وهرولنا للبستان. إستيقظ النخيل مبكراً يهدهد الأعشاش ويراقص الفراخ الجائعة. تململ النهر وانطوى الى الضفة الاخرى. تسلقنا حفاة. أحصينا غنائمنا وقدرّنا ثروتنا الطائلة. سمعنا صراخ نسوة وعويل قادم من البيوت. جده الأعمى زلت قدمه وسقط من على سطح الدار. كان يفترض بزهرون أن يعينه على نزول السلم الطيني المتداعي، كما يفعل كل صباح. كان يفترض بالعجوز "جبارة" أن يصبر، حتى يعود حفيده من غزوته. كان يفترض بالبيوض أن ترجئ التفقيس. كان يفترض بي أن أترك الغواية جانباً... غير أن الموت، السريع والخاطف، يلغى كل فرضية عداه.
الأطفال أول من يهّب لإستقبال الغرباء. في تلك الساعة، لم يكن القادم ككل الغرباء. كان مشعوذ طويل القامة، اشعث الشعر واللحية، يعلق برقبته أطواق خرز ولفائف وخيوطاً ملونة. هذا كل رأسماله واقتصاده الملون الذي يروج له بصوت يعبث بالسماء. كانت تقطن في طرف القرية إمرأة يعمل زوجها بعيداً، يزورها بين حين وآخر. تعاني من نوبة عصبية يعلم الله مبعثها. نادت تطلب الساحر. بالكاد تخلص منا كما يتخلص من ذباب هائج من حوله. دخل اليها وأغلق الباب خلفه. قال زهرون:
- تعال!
ركض الى خلف دارها فلحقته. تسلق الشباك. نزل مبهوراً وطلب مني أن أصعد. خلل فردتي الشباك كان الساحر ينثني أرضا. ظهره العريض يغطي المشهد. أنزلني زهرون، وصعد مكاني. سألته:
- ماذا ترى؟
أمرني بالسكوت. كنت تحت الشباك أنتظر ما لا أعرفه بعقل بليد عاجز عن التصور. نزل وهمس في أذني:
- قفزها!
- شنو؟ سألته.
رمقني بعنين جاحظتين وبصمت طويل. كنت أعرف أن "قفزها" تعني ما يفعله الثور في البقرة. عندما كنت أرافق أمي الى بستان "عبد المولى" كنت أرى ثوره الأحمر، الجامح، المستثار، وهو يقفز البقرة. غير أن الساحر كان قد بطحها أرضا.
كان "زهرون" مصدر معرفة أولى دامت سنينا حتى اكتشفت طبيعتها وفعلها في الحياة.
لدى "زهرون" عم أعرج أسمه "مُرّان". مصاب بكساح طفولي، بائس ومسكين. مساء دخلته، أخذه شباب القرية ذوي الخبرة الجنسية في جولة يعلمونه كيف يكون أخذ المرأة. رسموا له على الأرض خارطة الكنز الدفين بين فخذيها. وضّحوا له في حركات الأيدي أين يكمن موضع الثأر، وكيف يناله. تكلموا معه طويلاً؛ يشحذون فحولته. كنت أسمع منهم كلمات من قبيل التي تدخل الذاكرة لأول مرة ولا تخرج منها. في تلك الليلة لم يفلح "مران" في تنفيذ مهمته. لم أنس تلك التعاليم. بعد سنين خلت مثل "مرّان" لم أفلح أنا الآخر في مرتي الاولى... لابد أنها كانت تعاليم كاذبة.
"زهرون" بديهي. يُسرع في الأجابة نيابة عني حين يراني أتلعثم أمام سؤال العائلة المرعب: أين كنت؟ لم يقل لهم أننا كنا نتلصص من فوق الطوف على فتاة قاصرة العقل، تتغوط في ركن باحة دارها؛ ونضحك من عرّيها. لم يقل لهم أننا كنا نقف في عرض القناة الصغيرة نعترض الماء بثيابنا نصطاد السمك الصغير، ونعيده الى الماء خشية افتضاح أمرنا. فمن أين أتانا السمك الصغير؛ بغير هذه الطريقة، لو حملناه الى البيت؟ لم يكشف سبب الخدوش على قفا أكفنا التي كنا ندسها بحذر شديد بين أشواك العاقول؛ لنحظى بثماره الناضجة، نلحسها كما تفعل الثعالب. كان يقلب الأمور على جنباتها، ويعثر على عذر لها، فيما كنت أستغرق بالظواهر، بطعم الأشياء، تحملني مشاعري بعيداُ وأنا الهو بعقلي. لم يكن يكذب، ما دام ينقذني من ورطتي كل مرة، وما دمتُ عاجزاً عن الكلام.
في عامي الرابع أصابني مرض التهاب السحايا: مرض مميت يصيب غشاء المخ. سمعتهم يقولون:
- من ينجو منه يصاب بالجنون، أو يصبح عبقريا.
يبدو أن الطبيب "أمين جريديني" الذي أشرف على علاجي في مستوصف قلعة صالح، لم يكن لديه وقت كافٍ ليدقق بالأمر؛ فغطّسني في حوض من الثلج ليخفض حرارتي الملتهبة، ويبقيني حياً كما أنا: بلا جنون ولا عبقرية. لم تنته علاقتي بالأمراض بهذه النتائج. بعد عام من هذا، شملت العراق حملة تطعيم ضد الجدري. كانت فرق طبية تجوب القرى والمناطق النائية ترافقها الشرطة لإجبار الناس؛ وإعطاء الحملة مهابة حكومية. كنت أتلصص خلف الباب على ما يجري في ركن الشارع. عند بيت "سلمان خلف" على ضفة النهر، كانوا يقتادون الطفل كالأسير. يأخذونه بقوة ويمسكون بذراعه ويبضعونها بمشرط. كان صراخ الأطفال كافياً ليضغطني الى أصغر حجم في الوجود. خلف الباب كنت أتضاءل وأنسحق؛ فغدوتُ صيداً سهلاً لهم. كل ما أبديته من رفسات وصراخ زاد الشرطي إصراراً على تطويقي والإمساك بذراعي، وتقديمها مشلولة للموظف الصحي صاحب المشرط. إنهارت قواي، تراخت أعضائي، وبلتُ على نفسي، ونقعت الشرطي. غشاني الحياء ونسيت ذراعي تحت رحمتهم. رجعت الى البيت منقوعاً، مجروح الساعد، والقلب. لكني ثأرت لكرامتي المهدورة: كنت قد بلتُ على الحكومة.
تتحرك قافلة الأطفال من "اللطلاطة" كل يوم وهم يحملون الكتب، في جيبي أنا "خلال مطبوخ". يجتازون بستان الحاج فرعون بمحاذاة النهر. يعبرون محطة الوقود. كنت أهرول تلك المسافة المشبعة بالنفط الأسود وأنتظر الأخرين تحت سدرة وارفة في نهاية البستان. أنا أكره تلك الرائحة. ندخل "قلعة صالح" مروراً ببيوت "آل سام" باتجاه مدارسنا. كانت مدرستي: مدرسة الأندلس الإبتدائية للبنين، أولى المدارس على الطريق. تطل على دجلة قبالة عوامة تعبر الى الضفة الأخرى، حيث طريق السيارات، كلما إمتلأت بالناس والدواب والبضائع. العوامة مربوطة بحبل حديدي طويل بين الضفتين يلف حول بكرة ضخمة مثبتة على جانبها، مغطاة بالشحم الاسود. يلفها إثنان، فتعبر بسلاسة وبطء. كلما ركبتها كنت أختبر نفسي في تحديد منتصف النهر؛ فألتفت يميناً ويساراً. ما أن تصل، في تقديري، منتصفة التفتُ لأتثبّت من صحة التقدير... تكون العوامة قد فاتت المنتصف. كانت بوابتنا الوحيدة على العالم وإليه. بوابة عائمة. كنت أصل كئيبا الى الضفة الأخرى. ماذا لو أنها استرسلت على مهل، لتحملني في رحلة أبدية؟ فلدي الوقت كله، العمر كله. زمنها لا يشبه زمني، ولا زمن الأشياء. لا هو صاخب ولا هو أخرس. كان ما بين بين. زمن مائي سائب، غمرني.
كنت لا أجيد القراءة، إنما أجيد الكتابة. أنسخ الكلمة وأرسم صورتها باتقان، ولا أكلف نفسي قراءتها أو معرفة معناها. الولد الصغير الذي كنته لم يسأل نفسه عن معنى الأشياء ما دام يرسمها. كان الرسم هو المعنى الجديد لها في عقله. مفارقة حيّرت المعلم "جليل وهّام"؛ فابتدع لي طريقة لم أشهد مثيلاً لها في المدارس: عبارة عن قطعة كارتون، أقتطعت من علبة سكائر. يفتح في وسطها نافذة مستطيلة على حجم كلمة واحدة. يضعها على كلمة ما في الصفحة ويطلب مني قراءتها. كيف كان لي أن أعرف كلمة منفردة، معزولة عن الجملة، في سطر مجهول، دخلت الذاكرة مع كلمات أخرى؟ فأين منها هذه التي في النافذة؟ كنت أحزرها في سري، وأشك بنفسي، وأعيد أحزرها من جديد. كان ذلك يستغرق وقتاً طويلاً؛ فيثقل لساني وتضيق حنجرتي ويصيبني الخرس. إقتنع المعلم بأني فاشل، وأبلغ أمي بذلك. رسبتُ في درس اللغة العربية في الصف الأول الإبتدائي. بداية قبيحة لإبن جميل ومدلل. تكفلت أختي الكبرى ليلى بتدريسي؛ لإجتاز الإمتحان التكميلي. هل عليّ أن أقرأ الكلمة؟ ألا يكفي رسمها بخط جميل؟ الإجابة: لا، وكنت أعرفها. تدربت على طريقة "جليل وهّام" وازدادت خبرتي في تخمين الكلمات، وتقدير مكانها في الصفحة، حتى وأنا مغمض العينين؛ فنجحت. نجاحي العسير بعد معاناة طويلة لم يعفن من الأصابة بكساح لغوي، خَلَفَ لدي عاهة لا تخطؤها العين.
القيـــــــــــــم
رحلنا الى مدينة العمارة صيف 1953. آنذاك بلغت الثامنة. عمري هذه الساعة، وأنا أكتب، سبعة وستين عاماً. توقفت طويلاً عند فعل الماضي "رحلنا" فقط لأتحقق من أنه وقع معي فعلا. أظن أن الذي يكتب هذه الساعة ليس الذي رحل مع أهله، إنما صبي آخر. إنه الذي لم يرحل، أو ربما، الذي عاد خلسة فيما بعد الى دياره. هنا أدرك مفهوم الرحيل ودلالته الخاصة. وهكذا أفهمه: إنه لا يتم في المكان، بل في الزمان. في الحياة أننا لا نرحل، بل ندور حول أنفسنا وحول بعضنا. سعيد من يدرك الدائرة الاخيرة ويفطن نهايتها.
خرجنا قبل الظهيرة في سيارة خشبية يعلو سقفها سعف أخضر ويابس، وكرب، وبواري قصب، وحصران خوص، وتخوت. إنها ليست تذكارات قروية، إنما حياتنا الطبيعية بصيغة صامتة. في داخل العربة أخذنا مقاعدنا بين حقائب حديدية، وصناديق، وأكياس قنب مليئة، وفرش، وبسط، وقفف، وخصافات تمر مكتنزة تنز منها قطرات "دبس" كثيفة... وسيف جدي "سباهي".
البيت الكبير المترامي الارجاء، الذي لم تعد زواياه ملاذاً لي، نُزعت مفاصله، تفككت وحدته وغدا اشياءاً متفرقة في أكياس. خردة تكومت في حيز ضيق بين الأرجل. نحن أبناؤه إختَزَلَنا الرحيلُ الى درجة الصفر أيضاً. لا يشحن الناس أسرارهم، إنهم يبقونها في مكانها؛ فركبتُ خاويا خفيفا. البقرة البلقاء لم يكن لها مكان بيننا، فشحنت وحدها في عربة خاصة. لابد أنها تساءلت عن ما يحدث. كانت قلقة وهي تُربط عنوة الى هيكل الشاحنة. عيناها الواسعتان، أسيتان ترنو اليّ.
أحاط بنا الأهل والجيران يزخرفون الوداع بما يليق به. كانت الدموع أرخص ما يقدم في مناسبات كهذه. لم التفت. كنت أعرف أن النهر الهَرِم ورائي يجري على عادته، والطريق المتعرجة عبر المقبرة كانت أمامي، وعلى يميني البساتين يعشش فيها الأمس لا يحرك ساكناً. في اللحظة الأخيرة توقف كل شيء. توقف النهر عن الجريان، والشمس، والريح، والذباب. توقف دمي. خرس الكون. تعطلت نواميس الطبيعة. وحدها روحي كانت مشغولة بانكار الواقع، يتفشى في ثناياها فشل أكيد.
فيما العربة تتعتعنا، هدأ بكاء أمي. ببكائها أُختَتَمتْ التراجيديا الرعوية أول فصولها. أخذت الأشياء تستأنف جديتها. العجلات تثير زوبعة غبار تطارد العربة. بعض النخيل يقف غامضاً خارج البساتين تحت الشمس. دخان القرى البعيدة يصعد الى السماء ورعاً. قضيتُ الوقت أتفرس الطريق وأحفظ معالمه وكأني سأعود عليه ماشياً. هنا كوخ، وبعده تنور وحطب. على يمينه أعمدة خشبية مغروسة في الأرض كرماح أهملها فرسانه. ليس بعيداً عنها كنف تلوذ في ظله أبقار وعجول وليدة. على هامش الطريق تتسكع كلاب كسولة جففها القيظ لا تبحث عن شيء، تستعرض موكبنا صاغرة. في الهواء زنوخة صيف رعوي، وروث محروق، وذباب ملول. في إطار النافذة المربعة كان رأسي يتذبذب بين شيء يفوت وشيء يأتي، مثل رقاص ساعة تحركة قوة فناء أزلية.
في المدينة دخلت حياتي طوراً جديداً، إذ بلغت طفولتي حتفها. توقفت عن النمو وأخذت تجف عروقها، وكفّت عن التنفس. أمست مومياء رافدية. لم يشهد فقدانها غيري. قريني وحده يؤمن، حتى اليوم، بأنها مازالت حية ترزق. وهو يبرهن على ذلك في كل ما يفعل ويفكر. لم أدفنها من أجله. تركتها تحت الشمس في الهواء الطلق، يقتات عليها الطير والديدان، تذريها الريح، تتشرد في الأبدان.
في الطرف الآخر كانت "اللطلاطة" تشهد هجرة جماعية. نفير تاريخي ونفور حضاري تعاضدا على نبذها من الوجود. روح عظيمة كانت تشد أرواح الصابئة الى أرضها أتمت دورتها الكونية فيها ورحلت؛ فرحلوا بعدها. يقال أن أجدادي أول صابئة حلّوا في تلك البقعة على خاصرة دجلة قبل أن ينعطف الى قلعة صالح في نهاية القرن التاسع عشر. جاء جدي "خضر الخميسي" مهاجراً اليها مع زوجته "حسنة آل زهرون". أنجب أربعة أبناء: عبد الشيخ وزكية وعبد النبي وصغير آخر توفي مع والديه بمرض الكوليرا. لابد أن أمراً جلل طرده من دياره: "الزكية"، إحدى قرى العمارة على نهر دجلة. من ثم تبعه أهله وعشيرته. في كنف مجتمعها الجنيني عاشت بعض العوائل بعيدة النسب. إستوطنوها مائة عام ونيف. خلال السنين تغرب رجالها وأبناؤهم طلبا للرزق. إشتغلوا يتنقلون في الأرياف والمدن. بعضهم راح أبعد، الى الكويت، والبحرين، ودبي، والشارقة، وفلسطين. منهم من هاجر الى أمريكا. تزوجوا وأنجبوا أجيالا جديدة، ودفنوا أجيالا قديمة. خلال فترة وجيزة رحلوا جميعا. النداء الذي حدا بهم اليها عاد وطردهم منها. في غيابهم هوت سقوفها الى الأرض وغابت معالمها. رجعت ترابا. علّ للتراب ذاكرة.
كان هناك غموض يتعلق بحياتي جاهدت لإيضاحه. وخلصت الى أنها مجموعة كينونات. لكل كينونة عمر خاص ومحدد، تعزل ما بينها مناطق رخوة، سالبة. فترات تضمحل فيها الصلة والشعور بالوحدة العضوية مع الماضي. لكل واحدة سيرة. نعم! إنها قضت عمرها في جسد واحد، لكنها لا تتعدى كونها سلسلة تواريخ تربطها بيولوجيا قابلة للتفسخ. وغير هذا، فهي قطع مبعثرة في حقيبة أحملها باهمال تعرضت محتوياتها للسرقة والضياع أكثر من مرة. لم أع كيف تقطّعت حياتي الى أعمار شبه متساوية هكذا: في قلعة صالح ثمانية أعوام، وعشرة في العمارة، وفي بغداد أحد عشر، وثمانية في روسيا، وفي ليبيا أحد عشر، ومثلها في النرويج. ما بينهما شهدت حياتي سنوات خاوية. كانت أيامي تتساقط أمامي دون أن أأبه لها. تخللتها سنوات قليلة كثيفة الزمن. كانت نشوة من خارج العمر. لم أدرك أيضأ الى أين منها يتوجب تقديم الوفاء؟ الى التي ضيّعتها، أم الى التي ضيّعتني؟ الى التي دخلتُ تاريخها، أم الى التي دخلتْ تاريخي؟ أكنت فعلا في تاريخها حين كنت أتبعثر على طرقاتها وأنام على سواحلها، أسقط مخمورا في حاناتها، وأعرض في معارضها وأجوب صحرائها... التهم ثقافتها بنهم وأرطن بلغاتها؟ ... والنساء! أليس النساء تاريخ الرجال وموطنهم؟
قريني يتساءل:
ـ حسنا، مادمت وفيا هكذا لتلك المدن، لم هربت منها وكأنك تطارك الخطيئة الاولى؟
أقول له:
ـ كان من غير الممكن البقاء فيها. الاممكن كان هو اليقين الممكن المتوفر ولا شيء سواه.
يرد عليّ مستعينا بقول مأثور على عادته حين لا يجد رداً خاصاً :
ـ يا نوح... قد جادلتنا، فأكثرت جدالنا.
طفولتي: هي ذاتي البدائية، دلالتي ورمزي الوجودي. هي هويتي الإثنية، إسمي المندائي الذي دخلت فيه الى الدنيا بصرخة عزلاء، والذي سأخرج فيه صامتاً. بعدها، بعد أن تحول العمر الى عادة، لم تعد تعنيني سخافة الحياة وخشونتها ولا عطاءاتها العابرة.
تقلص البيت من حولي وصغرت السماء فيه. غيّر النهر الرعوي شواطئه، وقطّعَتْ الجسور جسده الملتوي. لا نخيل أتسلقه، ولا بلابل أربيها. عوّضتها بقفص حديدي وبلبل واحد. مرة نسيت باب القفص مفتوحا؛ فطار البلبل وعاد اليه في المساء. لم أقفل بابه ثانية، حتى قرر الهجرة الى الأبد. أكان رسولا؟ نأت البساتين باعشاشها، وقنافذها، وهداهدها. أمسى بيني وبينها فراسخ ومخاوف.ورائي تركت الاموات يحرسون الفراغ. أصبحت زائداً عن الحاجة، عاطلاً عن الحب، يملأني السأم، لا مكان لي غير مدرستي الجديدة: مدرسة السلام الإبتدائية للبنين. مبنى كبير بطابقين قريب لبيتنا على ضفة النهر مباشرة. فيها مئات التلاميذ. لا أذكر منها غير مديرها الذي كنت أزوره كل شهر في مكتبه لأمر لا علاقة له بالمدرسة ولا بالدروس. كان يشهد على توقعي على الصكوك المصرفية التي كان أبي يرسلها بأسمي. كنت ذو شأن في العائلة: ولي أمر عمره عشر سنوات. في كل مرة كان يتحقق من هويتي، وفي كل مرة كان يمنحني إجازة للخروج من الدرس الأخير لغرض لا يتقنه غير الرجال: معاملات مصرفية.
آنذاك كان يشتغل في المصرف شاب من عمومتي "أمين عمارة". بعد إستلامي المبلغ يعود بي الى البيت. كان يكبرني بخمسة عشر عاماً أو أكثر. وسيم وطويل كأبيه. توطدت علاقته بالعائلة، وكان يزورنا باستمرار. دعاني مرة الى السينما. ثمة رجل يحسب حسابي!
كانت "سينما غازي" الصيفية المكشوفة تقع على طرف المدينة الآخر. إنها مرتي الأولى بمواجهة جدار أبيض مع "سيرانو الشاعر". نسائم ليالي الصيف، وصعوبة قراءة الترجمة، وتكتكة ماكنة العرض؛ دثرتني بالنعاس. كان البرد يلسعني فأفتح عيني؛ يدخل فيها مشهد وأعود أغلقها. كانت الحصيلة مجموعة مشاهد متناثرة ينظمها خيط نعاس رقيق عرّفني على "سيرانو": رجل ذو أنف طويل، فارس يعلق شيشا في حزامه، عاشق مات في حضن حبيبته مخضباً بالدماء. ما اجترحه "سيرانو دي برجراك" في حياته، التي عرفتها فيما بعد، لم يكن أعظم مما أنجزه بعد مماته؛ إنه تركني أسيراً في صالات السينما وقصص الشعراء.
في السينما إثنان تبدلا الأدوار على أستلابي؛ رعاة البقر ذوي القبعات المعقوفة، وسراويل الجلد، والأحذية ذات الكعوب العالية بمهاميز حادة، والرصاص الحاذق، والهنود الحمر ملوني الوجوه يعتمرون الريش، والبراري، وخبب الخيول على أنغام الهورمنيكا. طيلة حياتي اللاحقة كنت أشتري أشكالاً وأحجاماً من هذه الآلة وأنفخ فيها... وطرزان الذي لا يضاهى؛ كليم الحيوان، البدائي المتواضع، الأعزل شبه عاري. آنذك كان يكويني حنين للبراري لا شفاء منه.
بعد "سيرانو" فهمت مغزى الصور الكبيرة للنساء الشقراوات، والرجال ذوي الشعر المصصف اللماع، المحمولة على عربة "ربل" تمر في شارع بغداد وسط المدينة. أدركت العلاقة بينها وبين ما كان يُعرض على الجدار الأبيض الشاسع داخل صالات السينما. بعضها كان مقدمات أفلام ستأتي. كنا نضحي بفترة مشاهدتها لندخل بعدها إثنان بتذكرة واحدة. كنت دائما مع أخي عاطف. نقف خلف الباب يتناهى الينا صوت محمد عبد الوهاب ترافقة فرقة نسائية ناعمة الأصوات: أنا والعذاب وهواك، عايشين لبعضينا... تررم. أخرتها إيه وياك... وياك، أخرته إيه وياك... يالي أنت ناسينا، يالي أنت ناسينا... تررم. بعدها يأتي صمت وترقب، وينهمر أزيز الرصاص، وسنابك الخيل، وصافرات الأولاد في مقاعد "أبو الاربعين". كلما تُفتح باب القاعة ليدخل المشاهدون، نلتقط مشهداً أو مشهدين ونتصور الباقي. المقدمات تفسد المفاجأت. نهمس لبعضنا: سنراه كاملا في الأسبوع القادم.
أما الكتب فستكون جدران قبري العميق ولا ريب؛ قد تستهويني قراءتها من جديد: "الزنبقة السوداء"، "غادة الكاميليا"، "الأرض الطيبة"، و "البؤساء" الذين هربت معهم الى دهاليز ومجاري باريس بنكران ذات تعلمته منهم. و "روايات الهلال" ومجلة "المختار". بين كتاب وآخر كنت أعبث مع "أجاثا كريستي" في إكتشاف المجرم المختبئ بشخصية الخادم أو طبيب العائلة أو زوج الأم، قبل أن تكتشفه الشرطة. الهث وراءه مسلوب العقل والشهية. كنت أحبط لعبتها، أغشها، وأقرأ نهاية القصة أولا. أخذت بهذا التحايل، على نفسي، أقرأ بروية وأستمتع بصياغات لعبتها ولغتها اليقينية السلسة. العب بأبطالها وكأنهم بيادق، أستبدل البريء بالمجرم حتى تثبت براءته. كنت مأخوذا بالمسعى لا بالنتائج، في سيرورة الكتابة لا بخاتمتها. يتدخل قريني، على عادته، في كل ما أفعل، وأسمعه يتشدق:
- أنت تقلقك النهايات وتخاف صورتها.
أقاطعه لأسد الطريق عليه ولا يكمل خطبته، فأنا أعرف وسائله الخبيثة في تعذيبي، وقلت له لأشبع غروره:
- صدقت! لهذا فشلتُ أن أكون كاتباً.
وهذا ما كان يرمي اليه؛ أن أعترف بفشلي وأنا صاغراً.
أخذ "جبران خليل جبران" أعظم وقتي. كنت أنسخ صفحات منه في دفاتر الواجبات المدرسية بعد أن أمحو واجباتي القديمة. وأصل الى الامتحانات بدفاتر لا علاقة لها بالرياضيات ولا التأريخ ولا الجغرافيا، مكتفيا بدرجة نجاح على الهاوية.
"سأرجعُ مع المدِ؛ فيشربني الماءُ، كما أشربُه"
كنت أعتقد أني من كتب هذا وجبران من نسخه عني. هذا هو النجاح الذي كنت أسعى اليه؛ أن أكونه وأتعذب مثله، وأنحت على غراره ذاتاً فاهمة. كانت كتبه تطبع مزينة بصورته الشخصية التي رسمها بريشته: تخطيط بقلم الرصاص، بشارب كثيف، ونظرة تخترق الصمت رسمتها عشرات المرات، وحفظتها على ظهر قلب. لم يكن لدي أعز منه. قبل ثلاثة عشر عاما في "ليفانكر" في النرويج، عثرت على "آلهة الارض" مركونا على رف المكتبة المحلية. هبة لا مثيل لها في معسكر اللجوء حررتني من أسري. نسخت الكتيب بخط جميل، وقضيت وقتا خارج ذاكرتي، ونسيت أني قد تحولت عن "جبران" منذ أمد بعيد، لكني في العمق غالبا ما أعثر على موجاته تجتاح سواحلي، فأرجع مع المد.
بعد ثورة تموز 1958 غزت العراق أسراب الكتب والمجلات، وأكلت أيامنا اليابسة والخضراء. ولكن من يملك يوما أطول من أربع وعشرين ساعة؛ ليقرأ؟ كسرت رأسي من "إليا أهمبورغ" في "سقوط باريس". تمرمرت في قراءة "الطاعون". وكنت نبياً مع "تولستوي" ذو رسالة للبشرية. أما مع "ليرمنتوف"، فكنت "بطلا من هذا الزمان".
بعد كل يوم كنتُ أضيف حياةً جديدةً، ببطولاتها، وأفراحها، وعذاباتها، وتناقضاتها إلى حياتي. كانت الكتب مزوقة بصور الكتاب، والموسيقيين، والفلاسفة، وأبطال الروايات. كنت أرسمها وابذخ بما أبتزه من أمي لشراء الورق وأقلام الفحم... وبعض الشكولاتة، وقمر الدين. رسمت العشرات: بتهوفن، فاغنر، ليست، سقراط، إفلاطون، تولستوي، جبران خليل جبران، بوشكن، وعبد الكريم قاسم... كانت صورة شوبان للرومانسي ديلاكروا أكثرها سحراَ، فرسمتها. توفرت لي بطاقات بريدية تحمل تخطيطات لمحمود صبري وواحدة لكاظم حيدر، حاولت معها دون جدوى. لم أكن أعرف عن الرسم غير أنه بديهة تلازم نفس الإنسان. يبدو أن أمي قدّرت ذلك. مع إنها تنهرني لإهمالي واجباتي المدرسية، لكنها كانت تتركني أرسم. وأسمعها تقول لأخواتي: دعوه يرسم! وكأنها ما خلقتني إلا لهذا التية. أخَذَتْ تتباهى أمام صديقاتها بموهبتي. وأخذتُ أتباهى بتبديد العمر في ظلمات "الفحم". كنت مطلوباً لمساعدة البنات اللواتي يجهلن الرسم. صرفت ساعات طوال أرسم وهن ينحنين عليّ بغنجهن، مأخوذات بما أفعل. ما كنت أفعله في الحقيقة؛ أني أطيل وقت الرسم، أستنشق أُنوثتهن الخام، وأذوب على الورق.
لا أذكر أمي قبل هذا الزمان. لم أكن قد إنفصلت عن مشيمتها تماماً. لم تسع المسافة بيننا لمراقبتها ككيان مستقل؛ ولأراهما بوضوح. كانت مشغولة عني لا أراها إلا في الليل وهي ترتاح. ساعتها أكون قد نعستُ، فأضع رأسي على مخذها وظهري الى الموقد. ولَدَتْ تسعة غيري، لكنها عاشت كل حياتها تُسَمى أم يحيى.. إنها لي كلها، حتى وأن غص البيت بالأبناء. خارج البيت كانت تعرف بمجسات روحها أين أكون وماذا أفعل. كنت هبة الكون لها ورسالتها للعالم. أمي "داخلة شيخ حاتم شيخ يحيى" ذاتٌ حساسةٌ مرهفةٌ تختبر الحياة بذكاء حاد، وبسلاسة كأنها تتنفس. كان هذا كافيا لنا، نحن أبناؤها، لنعيش بأمان وننجوا من المخاطر. روحها كانت درعنا الواقي، قوّتنا الخفية الإحتياطية. إنها لم تخسر إلا مرة واحدة. في شبابها المبكر فقدت ولدها الأول "طارق". كان هذا الحدث، الذي هز حياتها، رسالة سماوية أن تفتح عينها على أبنائها ولا تسهو عنهم. وكان كذلك: تنام مغمضة العينين بروح وعقل يقظ. بعد أن فقدت البصر أصبح الأمر تحصيل حاصل. طيلة أعوامها الثلاثة والتسعين أغدقت علينا حناناً كنا نتعثر به كرداء فضفاض. لكنه كان يليق بها ويناسب مرؤتها خالصة العيار. بلا كلل كانت تدقق وتسأل عن الجميع: عن البنات الست، والأبناء الثلاثة، وعن واحد وأربعين حفيداً موزعين كالبريد على كافة بلدان العالم. بعض الأحفاد لم يرها ولم يعرفها، لكنها كانت تعرف أسماءهم وتواريخ ميلادهم ولمن يشبهون.. تتمادى أبعد من هذا في تذكر صديقاتها وأبنائهن؛ أين يقيمون ، وماذا حل بهم، واحفادهن اللذين تطشروا في بقاع الأرض. مرة، إسترسلت معها في الحديث... ذكرتني بمضمون رسالة أرسلتها لها قبل خمسين عاما من لوبليانا. حينها طلبت معونة، إذ كنت قد صرف كل مالي. قضيت أياماً بلياليها في محطة القطار. بعت كل ما لدي من أشياء ثمينة، وبقيت بلا سكن حتى نهاية دراستي. إختلت عواطفي. قبل سفري بأيام ضربت فتاتي في مقهى. سكرت ليلتها، وانتهى بي الأمر في مخفر الشرطة، وأنا أشتم "تيتو" حتى الصباح. قالوا لي، وهم يحققون معي، أنهم اقتادوني من البار، لأني ضربتُ رجلا على رأسه بكامرتي "كانون" الثقيلة، وأدميته. لم أكن أعرف الرجل، ولا أسباب العداوة التي استشرت في روحي ليلتها. يقول "جان أنوي": دائما، هناك متسع لنكون تعساء بلا قيمة.
إنفتحت طاقات السماء وانهمر المطر لأيام معدودة. غمر شوارع المدينة، وملأ النهر حتى فاض. لم يكن طوفان نوح، لكنه يشبهه. كنت في متوسطة الماجدية للبنين. بينها وبين البيت مسير نصف ساعة. خرجت من المدرسة ظهراً. كانت أمي تحمل مظلة أبي السوداء، مبتلة كأنها أُنقذت لتوها من الغرق، وقد غاصت في كل الأوحال في طريقها حتى وصلت. تحت جناها عدت الى البيت ناشفا، ودافئاً. في اليوم التالي، كنت مع مجموعة طلبة من بينهم إبن حاكم العمارة. قال لي:
- الله ربك، أنقذتك الخادمة من المطر أمس!
صعقني كلامه؛ فخرجت جملتي تقطر مرارة:
- إنها أمي.
بعد المدرسة عدت الى البيت جائعاً. كانت منشغلة بالتنور. إختطفت منها خبزة ساخنة وهربت.
في أعوامها الأخيرة، بعد فقدانها البصر، كانت ترانا أوضح مما كانت في شبابها. قبل وفاتها بأشهر زرتها الى الدنمارك حيث كانت تعيش، وتأخر وصولي ساعتين. وجدتها واقفة عند الباب تنتظر! ماذا كانت ترى؟ ليس مهماً، فهي تعرف من القادم. قلبها كان يسمع خطواتي على الطريق اليها. دائما كانت تسوّرني بحرص وخوف وعناية تفوق طاقة البشر، وطاقتي على التحمل. مرة كشفت لي من أين كانت لها تلك الطاقة. قالت، أنها تستمدها من روح أبيها "شيخ حاتم شيخ يحيى"، وأن روحه كانت ترفرف عليها ساعة تستنجد به. لقد كانت هي خلفته الوحيدة التي بقت على قيد الحياة من بعده. سألتني إن كنت أصدق ذلك. الآن يمكنني الأجابة: نعم أصدق! كانت تلك طاقتها الذاتية، غير المرئية، الباطنية. أما طاقتها المعلنة، المحسوسة، تكمن في ذاكرتها الدقيقة، البراقة. كما الأوراق على الغصن تترتب الأحداث والشخوص. تتسلسل كما جاءت، كل في وقته وفي مكانه. قد تسقط ورقة، ولكن ما ضر الغابة لو أسقط الخريف أوراقها؟ ذاكرتها شبكة عنكبوت مرهفة، حساسة، يعلق فيها كل ما يصطدم بها ويبقى في مكانه. حياتها وحياة الآخرين بكل تفاصيلها محفوظة في أدراج. أدراج في الصميم، خُلقت من خامة مقاومة للتلف والنسيان. في رأسها مدونة لها فهارس غريبة، هكذا: إسم مكان، مثلا، يندرج تحته كل من ولد فيه ومن عاش ومن مات. إسم عاشلة؛ ينطوي على كامل شجرة العائلة ومن ناسبها. أو إسم طفل، وليكن من يكون، تتذكر كل الأسماء وما شابهها. كل لحظة في حياتها تنظمها في خيط مسبحتها؛ مسبحة طويلة، طويلة جداً، أطول من الأعصاب. تفردها بسلاسة بأناملها الرقيقة، حبة حبة منى تشاء. كانت سجلا مدنياً عمره ثلاثة وتسعين عاماً. كانت مدينة وشعباً. كانت أمي تاريخ أمة.
ثلاث نساء في حياتي، غير أمي، تقاسمن حبي: زوجة عمي "رفيعة"، التي أمتلكها. ملاذي الدافئ، البدين، المعطر بالسعد. عاقر قضت أربعة عشر عاما دون أن تنجب. قال لها طبيب العائلة "داوود كباية"، أن قناة "فالوب" مغلقة؛ فلا بيوض تنزل في الرحم. كنت أمنيتها الخفية وهي تحظنني وتتنهد. وعمتي "زكية"، التي تمتلكني. عانس بلغت الثانية والاربعين بلا زواج. كانت لهما أمنيا قصدتا من أجلها الأولياء: الكاظم، وعلي الغربي، وعلي الشرقي، يطلبان منهم مراداً: مراد النساء. ربطتا بشابيك المقامات أشرطة، ورسائل، وأقفال، ولطختا الأبواب بالحناء. كان عليهن الإنتظار طويلاً؛ فقبلهما أعداد غفيرة طلبت مراداً كهذا.
في يوم ربيعي جميل وقد تفتح كل شيء للحب، أخذنا خروفاً/ضحية وتوجهنا الى "العزير"، أنا وأمي وعمتي وزوجة عمي. له مقام بدائي قبل القرنة على ضفاف دجلة بين البساتين. قبته من الداخل عالية، مصبوغة بالأخضر تقشر لونها، وأعيد صبغها. ثقل طلاؤها وتساقط، فأعادوا ترقيعها. يسبح فيها بخور وأدعية وأمنيات. بعضه التصق على حديد قفص الضريح. بعضه على نتوءات الحائط، حتى تفسخ وغاب لونه. بعضه ما زال يبحث عن مكان. تحت القبة نزعت كل منهما شالها "شيلتها" وكوّرتها والقتها عالياً. صراخهما وهما يقذفان كرات القماش السوداءالى أعلى القبة، أيقظ "العزير" وهز أركان القبة، فاحتقنت بالرجيف. في سماء القبة توقفت الكرتان برهة... برهتين، ثم هبطتا ببطء شديد كما لو أنهما خارج الجاذبية. إنفتحت واحدة، إنفرشت وهبطت بورع، خفيفة تتهادى مثل حمامة تعب الريح في جناحيها. "الشيلة" الأخرى تأخرت قليلاً. كادت أن تنفتح في طريقها، لكنها تلكأت وعلقت بقفص الضريح، ولم تنزل بسهولة. لا بد أن للعزير شأن خاص بها! كانت "شيلة" عمتي.
نذرنا، وتصدّقنا، وأكلنا. كنّ منشغلات بالطبيخ يتمتمن. عبر دخان الموقد وكتف عمتي، سرت نظراتي صوب فتاة بجوارنا، تنحني على نار موقدهم تنفخ فيها. كان زيقها المفتوح يفضح نهديها، ويفضحني. عمتي، التي للتو طلبت من "العزير" أن يسهل لها زيجة ويمنحها رجلاً لم تحدد مواصفاته، نهرتني وحرمتني من متعتي الساذجة:
- إستحِ... ويلك!
وطلبت مني تغيير مكاني. فكرتُ أن أدخل قبة العزير، وأطلب منه أن لا يستجيب لمرادها. لكني كنت أحبها وأتمنى زواجها.
في الصيف، بعد أربعة أشهر من زيارة "العزير"، أصيبت "رفيعة" بحمى التيفوئيد. لثلاثة أيام متتالية كانت حرارتها تصل حدود الموت وتتراجع عنها. بفعل السخونة العالية إنفتحت قناة "فالوب"، ونزلت البيضة التاريخية، التي طال انتظارها، تبحث عن من يلقحها. حبلت إمرأة عمي، وقضت أيام الحمل ويدها على بطنها، تتحسس جنينها وتحصي نبضاته، تطمئنه على مستقبله في أحضانها. في موعدها أنجبت ذكراً، دخل الخمسين منذ أعوام. في آخر عمرها فج رأسها بضربة وطردها من البيت. لم يمض عام على نزيفها، حتى سأل عنها ربها وأخذها الى جواره. بعد أشهر تزوجت "زكية" من "شيخ فرج شيخ سام": شيخ صابئي بلغ من العمر عتياً. حبلت ولم تقض أشهر الحمل كلها وأنجبت إبنا سمته "يحيى". إجتاز عتبة الخمسين الآن... لا شيء يعصى على الأنبياء!
كانت عمتي تمثل القوانين الوضعية في البيت. لا قرار يعلو قرارها؛ فهي خليفة أبي وحاملة إرادته بلا أختام. بعد زواجها ورحيلها من البيت، سقطت سلطتها البطرياركية، فجاءت ببديل لم تسقطه الأيام: حب غامر لا تسعه ضفاف الحياة فيفيض عن شواطئها. طيلة أيام حبسي، كانت تجلس قبالة السجن تحمل رضيعها. علّ الحرس يحن عليها، أو يخرج إبن أخيها صدفة، فتراه. ضاق الحرس بوجودها اليومي، فأخذوا منها ورقة تسأل عني. كتبتُ لها جواباً يطمئنها.
ثالثة النساء: جدتي "حيهن". مخلوق مكتفٍ بذاته. لاتطلب شيئاً ولا تأخذ شيئا. لقد اكتفت بعطية الله: إبنتها. زادها عطايا في أحفادها التسعة. لا أذكر صوتها. لا أذكر أنها تكلمت. تغيب على غفلة دون أن تلفت انتباهاً. جسدها الكروي الصغير إذا تحرك لا تحزر وجهته، وإذا استقر لا تحزر متى يتحرك. يكفيها في العيد "دشداشة" واحدة أو "شيلة". يكفيها أنها ترانا نتحرك ونأكل وننام. عندما دخلتُ السجن انفطر كبدها، تورم. ماتت قبل إطلاق سراحي بأيام. ماتت كمدا.
في العمارة اختفت الأماكن والأشياء التي الفتها. بت أراها وأنا مغمض العينين، مضيئة ساكنة في زاوية صافية من عقلي، في أحلام اليقضة. تعلمت كيف أستدرجها وأنا أُمرجح "الكاروك" الكبير الذي احتوى طفولتي. إشترته أمي من "نعيمة" الخياطة: يهودية كانت تخيط ملابسنا في قلعة صالح. كان كل ميراثي الذي حملناه معنا من القرية. ميراث يتأرجح مابين الواقع واللاواقع. في الواقع كنت يقظاً بلا أحلام أطوف في مدينة مكسوة شوارعها بقار يسيح تحت الشمس. تتقاطع شوارعها في ساحات يقف في وسطها شرطي أنيق، يرفع يداً ويخفض يدا. يلتفت ثم يستدير، ويرفع يداً باستقامة، ويحرك الأخرى، ويستدير، ويلتفت. كان يأسرني هندامه وثقته بنفسه. الكل يتحرك بإشارة من يده. نموذج لسلطة النظام. مرة في العام كان الجيش يخرج على وقع الموسيقى. يتقدم الموكب عسكري بزي أزرق بخطوط حمراء. في يده علم ملفوف على سارية كان يلوح بها. ينقلها من يد الى أخرى. يلفها فوق رأسه، ويرميها الى أعلى، ويلتقطها من غير النظر اليها. وأبواق واسعة الفم، ملتوية، صقيلة بلون الذهب. زطبول كبيرة معلقة بأشرطة ملونة في الأعناق... والصنوج تقرع. كانت موسيقاهم تصدح في أعماقي وأنا أشيعهم الى آخر المطاف. موكب ملكي مهيب، أعود بعده منتشياً ومازالت خطوتي تشتغل على إيقاع الطبول بانتظام باطني.
أخذتُ أتشذبُ وأتمدنُ. إعتدل جسمي واخشوشن صوتي. لبست بدلة وربطة عنق. علّمني "صبيح سباهي" كيف أربطها. أصبح الرصيف حيزاً محصوراً للمشي. بلا كلل كنت أصطاد الخطوات، وأختلس النظرات على طول شارع الكحلاء. هناك ترتفع سارية "المركب الغرقان" في الصيف. يقال أن ثوار "العشرين" قد أغرقوه في المنعطف. أغلب الإغتيالات وأكثرها مضاءاً تقع في المنعطفات.
كنت أخذ من "محمد عبد الله" ما يقرأه أبوه، الموظف الصحي، من كتب: "كتاب الجيب" لحلمي مراد، مجلة "المختار" و "روايات الهلال". كنت التهمها، فنمت على لساني لغة جديدة. مفردات كنت أحاول استخدامها في حواراتي مع أصدقائي. بلاغة مفتعلة كانت تأتي في غير محلها أحياناً. كان "شاكر شميل" يتكلم عن الأخلاق، فقلت له: أنا أفحمك! معتقداً أنها تعني: أخالفك الرأي... السخرية التي جنيتها لفشلي تفسير الكلمة، حملتني أسيراً الى القواميس، وأجبرت أهلي على شراء واحد بحجة أنه الزامي للدراسة. اخذت ذاتي المدنية تتكيف وتتشكل. كانت الحقائق الجديدة ترتطم بجدارها وتحفر فيه. في كل مرة تتصلب خامتها. وفي كل مرة تتسع الحياة من حولي.
بجوار المدرسة تماماً كانت "الثكنة البحرية". ترسو أمامها زوارق بيضاء نظيفة عليها مدافع طويلة الأعناق مكممة الأفواه، ورشاشات وهياكل حديدية مركبة. عليها جنود يلبسون الأبيض. يقابل الثكنة، في وسط حديقة واسعة، بيت إنجليزي أبيض أيضا. كان مقرها وبيت أقامة قائدها. كان أبنه بدينا "منغولي"، قاصر العقل، يقضي نهاراته في الشرفة المطلة على الشارع. كان غريمي؛ يعشق "فاتن حمامة". كاد مرة أن يلقي بنفسه من الشرفة لأن أحدهم أغاظة وشتمها. مولع مثلي بجمع صورها من المجلات وأغلفة العلكة. كنت أتي له ببعض الصور. أُلوّح له من بعيد وأدسها من تحت باب الحديقة؛ فيأخذ ينبح باسمها بلا انقطاع. وجدته أجدر مني بحبها، فأنا لم أعشقها بهذا الجنون. أهديته كل ما أملك من ذكرياتها، وتخليت عنها. تضحية كبيرة ونكران ذات، أن يتخلى المرء عن أحلامه... وأوهامه.
صمتي الكثيف وشرود الذهن لا يتناسبان وصخب أعماقي واتقاد عواطفي. فكانت كلها من نصيب القرين، الذي أخذ يستحوذ على ما هو أكثر حرارة وإخلاصاً في أيامي. كان يقوم بما يلزم من خيالات، وانفعالات، وأحلام ليلية. الحب من نصيبه ويتكفل بالسهر والبكاء، ويترك لي ما هو بليد وعمومي وواقعي. لطالما هاجرت إليه لأنعم معه ببعض السعادة الخالصة.
في الفرصة الطويلة بين الدروس، قدم لي شريكي في طاولة الدراسة، عجينة هشة، حلوة بلون القهوة، مغلفة بلب جوز الهند. سألته إن كان اشتراها من حانوت المدرسة. أبلغني أنه يحصل عليها هدية في كل إسبوع يذهب فيه إلى الكنيسة في المستشفى الإنجليزي. ذهبنا سوية في صباح الجمعة. كانت الراهبات بأزيائهن الكنسية بانتظار الأطفال. إستقبال وحفاوة ناعمة. ألم يقل: إدعو الأطفال اليّ! إقتادونا إلى صالة معتمة على جدارها المقابل شاشة بيضاء صغيرة. بدأ عرض الفلم: مريم العذراء تحتضن صغيرها على حمار يسوسه يوسف النجار، وملوك يهديهم نجم في السماء، وكأن كواكب الكون قد اختفت، وزريبة خربة في ركنها "الإبن" في مذود ينحني أمامه ناس يحملون له الهدايا. شاهدت الفلم وحفظت مشاهده، لكثرة عرضه في الأسابيع الاحقة. خرجنا إلى الحديقة فكانت الحلوى بانتظارنا.
تكررت زياراتي إلى الكنيسة. تعرفت على كبير الأطباء، الذي كان في البحرين يوما ما، وقد تعرف على أبي هناك. أنا شخصية معروفة، إذن! شعرت بالفخر وأخذت الزم نفسي بالحضور كل جمعة. بعد خمسين عاما التقيت هذا الرجل في حفل للفرقة السمفونية العمانية في مسقط. كان قد أمسى شيخاً متداعياً وفاقداً للذاكرة. لقد نسى كل شيء. فشعرت بالظلم أنه قد نسى تاريخي ، نسي الحادثة الحلوة بلون وطعم القهوة التي غيرت حياتي كلها. لِمَ يُسبب الناس أفعالاً يجهلون نتائجها؟ قريني يهمس في أذني:
- لن نكون أسباباً مهما طالت إرادتنا. نحن نتائج في ولادتنا، ونتائج في مماتنا... البشر مصادفات كما يقول "ريلكه".
أجبته: نعم، صدقت!
أمست زيارتي ملهاة إسبوعية تتخللها مشاهدة أفلام، وتناول حلوى، وتنزه في حدائق كلاسيكية عامرة بأشجار اليوكالبتوس والخرّوع والعفص... ولغة أجنبية برفقة نساء رقيقات لا مثيل لهن في حياتي: نماذج مصنوعة بإتقان وحرص. خارج هذا المكان كانت "العمارة" مكاناً بائساً، وأنا حَمْلٌ ضائع عن القطيع يُغري بالهداية، وناي فارغ من الأغاني.
بتُ أرى عيسى إبن مريم رجلاً مسربلاً بالغموض والسحر، يطوف في القرى، يتبعه ناس، ويهرول وراءه مجذومون وعميان. الصلب: مأثرة المسيح ومعجزته، شقت طريقها الى نفسي، تجر حشوداً من الأسئلة، سقطت مع صرخته مثل نيزك عظيم في بحيرة أعماقي الراكدة. إلهي... إلهي لم تركتني؟ ألمْ يكن يعرف أن الله كان معه، وأنه سيبعث حياً؟ في عشائه الأخير الذي لم يكمله، كان يعرف أنه سيموت، وسعى بهذا السراط بإرادته وذاته العارفة، إذن لِمَ يصرخ بربه؟ لِمَ تخل عنه ربه في أضيق زمن في حياته: ساعة موته؟ هل كان تخليه عن "إبنه" إثبات لبرهان ما؟ ألفت نفسي محملة بأعباء أثقل من طاقتها، مسحتني بحزن لا يليق بعمري؛ فإنقطعت عن الكنيسة، وتركت المسيح يصرخ على صليبه بلا إجابة.
بعد ثلاثة وعشرين عاماً وصلتني إجابته: تزوجت في الكنيسة تحت صليبه من إمرأة كاثوليكية "نيران كيلانو"، ومازلتُ أقضي معها السنين. حينذاك أدركتُ أني ما تركته على الجلجلة؛ إلا لأسعى في طريقه، الذي صادفتها فيه. وكانت هي: هي إجابته المتأخرة الأكثر موضوعية وصدقاً على أسئلتي... شكراً لك يا أخي!
لم أسع وراء أحد، ولم يتبعني غير ظلي. كنت قشة عائمة على سطح الأيام، خفيفة، مطمئنة، تركس في مكان وتنبثق في مكان آخر غيره. لا يتعدى معناها أبعد من برهانها الوجودي: حياتها. الروح خلقت هكذا يرافقها من يحميها: أثيري غير مسمى. كنت أكلمه ولا يكلمني، وأفعل بما أسره به ما دام لا يعترض. أنا أصارحه بالأفكار، وهو يصارحني بالإشارة؛ فوقع إختياري عليه. إنه قريني: النبي الذي أتبعه وأشك برسالته.
لم يسألني الأهل على عادة العوائل: ماذا ستكون عندما تكبر؟ كنت معفياً من إختيار صفتي فهي لا تقلقهم ولا تقلقني، كأنها حُسمت سلفاً مع مجهول. لم أكن أنام القيلولة. فكان قريني يغويني أن أتبعه متسللاً، أمشي على أصابع قدمي، أو أزحف على بطني. كانت تأسرني رائحة الراتنج المنبعثة من منشرة الخشب القريبة. أقف عند باب واسع يكشف عن مكائن حديدية جاثمة على الأرض. نشارة خشب متناثرة، الواح صقيلة، وأزيز منشار كهربائي تتغير نغمته كلما تعمق في جسد اللوح... أسمع ترترة في النهاية.
قلت: أكون نجاراً!
قال: لن تكون!
كانت النوايا تطرق قلبي ولا أحد يسمعها غيره؛ فيجيبني في الحال. أثملتني رائحة الأصماغ. عدتُ الى البيت منتشياً، وصفقتُ الباب خلفي. إستيقظ أبي من قيلولته أحمر العينين. قبل أن أجيبه على سؤاله: أين كنت؟ أخذت العصا، على فخذي، تحفر مكانها. ولطالما كان حضن عمتي ملاذي الآمن، وأترك قريني بين يديه ينال ما تبقى من عقاب.
بعد ورشة النجارة بخطوات كان دكان صغير لنجار بلغ التسعين أو فاقها: "عجيل". يكون خال أمي. كان الدكان بالككاد، يستوعب العجوز مع قطع خشب وحزمة خيزران تتكئ على الحائط. بجانبها كانت معلقة فأس، ومنشار، ومخرم، وقوس بوتر. كان يستعمل أطرافه الأربعة في العمل. يمسك قطع الخشب بقدميه وينجرها. يلقط طرف عود الخشب بإبهام وسبابة قدمه ويخرمها. كان كله مع الدكان والخشب كيان واحد. وهو يخرط الأخشاب كان يتطاير نثارها ويملأ حضنه، ويعلق بلحيته الكثة الطويلة. كم مرة هممت أن أنكثها له، لكن وقاره وهيبته كانت تحولان عني. على عتبة دكانه كنت أحظى ببعض النشارة وبنظرات ذابلة ندية يغشيها دمع رقيق، تغمرني بطمأنينة تاريخ يرفض المغادرة. كنت أعود منه مكللاً بغبار الخشب وبشعور رجل كادح يعود من عمله وهو راض تفوح منه رائحة المهنة.
لدى أمي صديقات كثيرات، يكثرن من زيارتنا. منهن واحدة أرملة أربعينية. مرة وهي تغادر البيت، أخذتني إلى حضنها ورصتني بقبلة شهية من فمي. دَبتْ عروقي وانتفضت، وسرت قشعريرة في ظهري. في المساء حذرتني أمي من السماح للنساء بذلك. وقالت بلهجة صارمة بطعم التأنيب:
- لقد كَبَرتَ!
كنت فعلا قد كبرتُ، فسعيتُ لصداقة إبن الأرملة. أخذت أتحين الفرصة لزيارتهم، أبحث عن ذاك الدبيب في العروق. جاءت قبلاتها، هذه المرة، لا تشبه الأولى. أخذتُ أغمضُ عينيي وأنا أتناولها طويلة، رطبة، بفؤاد متقطع الأنفاس، في حضنها وهي تتأوه. نتائج مبكرة، فجة، القتني صريعا خارج العمر. في هوة يشغلها النفور والإعياء من أسرار جسدي الجديد. فوق الهوة كانت تلهث إمرأة شديدة الشبق. سألته:
- لماذا تركتني وحدي؟
أجابني: كنتُ معكَ، لكنكَ أهملتني ودخلتَ اليها وحدك.
قلت متوسلاً: لا تفارقني!
لم أعد إلى بيتها بعد ذلك، وأخذت أتجنب لقاءها. لقد خنتُ نفسي واعتقدت أن جسدي أصابه الخراب. رممت ما تهدم بقناعات ملفقة سرعان ما كان يلغيها نشاطي الجنسي المزدهر. عرفت من أصدقائي أن الرجولة تكمن في ذلك السائل الذي كانت تقلقني غزارته. أصبحت موضوعاً لنفسي أطيل البقاء فيها. كنت حقيقة خارج الحاضر، صورة جميلة لعيون أخرى أجهلها، في أغاني تذيبني وتشعل قلبي: أغاني عبد الحليم حافظ.
كلما توغل زمني مسافة أبعد، كان الشعور بالخيانة يندثر تحت ركام الكتب التي كنت التهمها، والرسوم بقلم الفحم، والأفلام، والصداقات الجديدة، والأحلام الجميلة. على الرصيف المحاذي للنهر، بعيداً عنها، على وجه الماء، كنت أفكر. طهّرت نفسي ودوّنت ذنوبي بذمة قريني، الذي أهمل واجبه في حمايتي. كان ذلك أسهل الحلول وأكثرها خبثاً. مذاك الزمان، كان عليّ أن أرصد محطات خياناته، وأحصي كم خذلني وكم خذلته. لكنه كان واثقاً من سهوي وعدم اكتراثي به؛ فتركني وحدي أغلب الأوقات. غير أنه كان لي كالهواء في رئتي، وفياً لمكانه في حياتي. إنه ضميري الذي لم أتخل عنه يوماً.
دخلت الحكومة الملكية العراقية، بعد الحرب العالمية الثانية، في دوامة الحرب الباردة ضد الشيوعية. أعدمت ثلاثة من قادة الحزب الشيوعي العراقي، وحكمت على آخرين بمدد طويلة، وبأحكام مؤبدة شاقة. كان "عزيز سباهي" (إبن خالة أبي، وزوج أختي ليلى فيما بعد) واحداً من الذين سجنوا في "نقرة السلمان": سجن في متاهة الصحراء، لا مفر منه إلا للموت. قرر أبي زيارة إبن خالته، التي ربته صبياً، يتيماً في الثانية عشرة من عمره، بعد وفاة والديه في وباء الكوليرا. كنت حينذاك في الثامنة من عمري. سافر معنا آخرون، أغربهم كان إبن عم "عزيز" الساحر "شبيب". إنضم للرحلة لزيارة أخيه السجين أيضاً والوصول للصحراء بحثا عن سحالي، وعظام، وأحجار يستخدمها في سحره. إستغرق الطريق يومين وليلتين. كانت الليلة الأخيرة في جهنم. ركبنا سيارة خشبية كبيرة من السماوة، على سقفها كانت خراف بعدد أكبر من الركاب. أين أضع رأسي الثقيل؟ بول الخراف الذي كان ينهمر علينا، واختضاض العربية المتداعية، قَلَبَ معدتي؛ فما كان فيها غير القيء. توقفت العربة رأفة بنا. غسلتُ وجهي وفتحت عينيي، إنهمرت فيهما سماء بدوية تعج بالنجوم، غير التي أعرفها. أكانت حلماً؟
بتنا في مكان مخصص للزوار. في الصباح ذهبنا الى السجن. جاء السجناء في أرجل بعضهم سلاسل. واحد منهم كان يجر كرة حديدية عالقة بسلسلته. أن يؤسس الإنسان ذاكرته بمشاهد كهذه لا بد أن تنمو على ضفافه غابات بطولة وإيثار. إنقضى الوقت العائلي وكانت الدقائق الأخيرة أكثرها حميمية. بعد الظهيرة تسللنا: ثلاثة أطفال يقودهم ساحر. همنا على وجوهنا، فلا أبواب للبراري. توغلنا ورؤسنا إلى الأرض. كانت الشمس تهبط، كلما رفعت رأسي أراها قد هبطت أكثر. الضوء كان كافيا لأرى وجه البرية، عبارة عن أحجار محروقةوألواح كتف كبيرة منخورة. التفت... كان بناء السجن قد اختفى والأرض عالية، وكنت قريبا من السماء. سمعته يصرخ: يحيى... يحيى...أأأ. صرخت بشبيب الذي لم يكن غير ضباب يدب بعيداّ، يطوي الغيب. يممت وجهي نحو الصوت. رميت غنائمي الصحراوية وطرت، يحملني الرعب على كفيه. كانت الموت ذئباً يشم رائحتي، يتصيدني، يلف حولي، بيني وبينه لحظة غروب. رأت أبي يهلرول بعباءته السوداء. مثل صقر يحط على طريدته اختطفني من العدم، وحلق بي. همس في صدري: لا تخاف!
لم أكن أعرف أبي. هذه حقيقة لطالما حاولت تفكيك بنيتها. فهو لم يعن حياتي، غير أني نطفة منه، وأني نصف اسمه الرجولي الشائع: أبو يحيى، وهو رجل له ولد يسمى به. نشأت في كنف إنثوي: أمي، وجدتي، وعمتي "زكية" وزوجة عمي "رفيعة" وأخواتي الست: ليلى، ساهرة، عجيبة، زاهدة، كوثر ومها. تهرّب أبي من واجباته التربوية. كان مصدراً أقتصادياً لا غير، وفرحة مقتضبة بما يأتي به من هدايا عند عودته إلينا، سرعان ما يبددها سلوكه القسري، وغضبه السريع، وعقابه القاسي. كان لا يطيق الأقامة معنا أكثر من شهرين، يزرع جنيناً في رحم أمي ويعود إلى أسراره. ولدنا في تسلسل زمني نادر: سنتين بين واحد وآخر. في نيسان ولدتُ، وفي نفس اليوم بعد سنتين ولدت أختي كوثر، بعدها، في نيسان، ولد أخي عاطف، بعده بثلاث سنوات، في أيار، ولد أخي سلام. أخالني، الآن، أقدر ليالي الحب التي كان يهتز لها السرير الخشبي فوق السطح في غفلة من النجوم... يرحمكما الله.
كنا تسمع منه قصصا عن ضباط الجيش والبحرية البريطانية في البحرين، ونشاهد صور ضباط يقفون معه في دكانه خلفهم مصاغاته الفضية البراقة. كان يكثر من الخمر ويتحاشى الحديث عن النساء: موضوعه القاتل. مات في حضن إمرأة بحرينية صعد اليها سلالم عالية وهو مصاب بجلطة قلبية. تكتم الناس على الأمر وأشاعوا، أنه صعد يطلب ماءاً ! كان أمياً يتكلم الإنجليزية بطلاقة، وشيئاً من الفارسية والإيطالية، ويرطن مع الهنود. قضى حياته في الموانئ: البصرة وحيفا والكويت والمنامة. تلبسته فكرة أنه على ظهر مركب لا يرسو إلا ليبحر بعد حين؛ فعاش مسافراً. إذا كانت مصادفات حياتي قد صاغت مني ما أنا عليه الآن؛ فهل مصادفات أبي فعلت بي هذا؟ هل يبعث الله فينا ما كان في آبائنا؟ هل يطارد فينا ذنوبهم أيضاً؟
- سأدفع فديتك وفديتي... يا أبتي.
كان يتميز بصوت شجي، ريفي يشبه صوت "داخل حسن"، ويغني أغانيه. لكنه كان يؤثر "ناصر حكيم" عليه. وفرت له هذه الفضيلة ليالي بلا فجر. جماله الأخاذ، يشبه الممثل الأمريكي "كلارك كيبل"، ولسانه العذب، يسرا له فرصاً لقلوب عشيقات متيمات. كان يطفر الحيطان ليحظى بهن، فيما الأزواج نيام تشخر. كان ينظم الشعر الشعبي "أبو ذيه"، وينقش على الفضة. عاش صباه يتيماً بعد وفاة والديه وأخيه في وباء الكوليرا. قال لنا أنه أخذ ما بقى من عائلته: الصغيران، أخيه وأخته، وهرب بهما الى مكان ناء، حتى اختفاء الوباء. في حياته لم يتمكن منه غير الموت.
في زياراته الصيفية، كان يصطحبني معه إلى المقاهي، ويجلس يلعب النرد. يطلب لي "بيبسي كولا". كانوا يقدمونه حاراً. أول كرعة منه تملأ فمي بالرغوة. يصعد الغاز إلى أنفي؛ فأشرق بريقي، وأبزقه بعيداً. كان يؤنبني؛ فأترك القنينة على الطاولة. أجزي الوقت أراقب تصاعد فقاعات الغاز الكسولة من قعر القارورة الى عنقها، وتنطفئ... وأنا قبالتها أنطفئ من الملل. تخت الخشب والحصيرة الخشنة تؤلم عجيزتي. الدم ينصل إلى أقدامي. ظهري يتيبس لا ينال المتكأ. لم أجرأ على مد يدي إلى شرابي الأحمر. أنتظر حتى لحظات المغادرة وأخذ آخر جرعة منه. يكون قد فقد طعمه. سميته: البول الأحمر.
في المقهى كان يشتغل "حسين كيصون" نادلا: رجل ضخم البنية، ذو رأس كروية حليقة، وكرش نافرة منفوخة. أشيع عنه بأنه يبلع الأطفال بلقمة واحدة. كان كلما يجلب شرابا للزبائن، يقف أمامي يربت على كرشه ويمسحها، يتلمظ ويخزني بثبات. كنت أدير وجهي وأبقيه في زاوية عيني. كان يعرف بخيرته الطويلة مع الأطفال، أني أرصده بطرف عين؛ فيبقى في مكانه عازما على نيته في ابتلاعي. كنت ألوذ بخاصرة أبي، فيدفعني عنه جانبا ليلعب بلا منغصات... فمن يحميني؟
دفعني أبي عن حياته، وغاب عن حياتي. زرته في المنامة عندما بلغت الثانية والعشرين. حينها اشتغلت مدرساً للفنون في الدمام، إحتفى بي برجولة وكرم عظيم. عرّفني على أصدقائه ومعارفه، وكان فخوراً بابنه الشاب المغترب مثله. أقام الولائم، ودعى الناس على شرفي... سكر وغنى. مات بعدها بستة أشهر، ودفن هناك في مقبرة عامة. إختار "دلمون" وطناً أبدياً.
كنت أحظى بعناية فائقة في البيت، وكانت أخواتي يبالغن في أناقتي بصيغة تثير الإنتباه. في الشارع كنت ألقى تناقضين: صداقة ورفقة ناعمة لمن يشبهني وكانوا قلة، وخشونة من آخرين كان "عبلي" واحداً منهم. يتيم تربيى في السوق منذ الصغر. طويل جداً وأرعن. كان كلما صادفني في الشارع، يمشي ورائي ويردد: يحيى لحية... يحيى لحية. كلما تجاهلته كان يمعن في مطاردتي. كنت أتجنبه وأمتنع عن اللعب. أقف عند باب البيت أراقب الأولاد. مثلي كان جارنا يراقب اللعب قبالة دارهم. إنه صبي بعمري، مريض ومعلول أغلب الأيام. يتلفع بمعطف سميك فضفاض. يلف رأسه بكوفية أبيه ويقرفص في الشمس طيلة الوقت. مرة وقف "عبلي" وغطاه بظله الوارف. طلب الصبي منه أن يتنحى عن وجهه ولا يحجب الشمس عنه. حرن "عبلي" ولم يستجب. وسأله ما باله يتدثر ويطلب الشمس دائما. رد عليه الصبي؛ بأنه مريض ويعاني من البرد. قال له "عبلي": ستشفى إذا بلتُ عليك! قبل أن يرد عليه الصبي بكلمة كان عبلي قد رفع رداءه وأخرج عضوه وشخ على الصبي. فقد المسكين توازنه ولم يستطع الوقوف، ظلَ يتخبط على الأرض، محاصراً برشاش البول، حتى أفرغ عبلي مثانته وهرب. بعد أيام قليلة خرج الصبي بلا معطف، حاسر الرأس، يركض. كان مريضاً بالوهم، وكنت مريضاً بالكبرياء.
في حملة إنتخابات نقابة المعلمين في العمارة ربيع 62، قررت منظمة "إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية" -الإسم والمهنة تشيران الى حالة العراق يومذاك- قررت أن نصطحب المعلمين من بيوتهم وحتى مركز الإنتخابات ونعود بهم، نحميهم من أي إعتداء قد يتعرضون له في الطريق. كنت مع مجموعة شباب نقوم بذلك. في الطريق صادفني "عبلي". آنذاك كان يشتغل في ورشة لتصليح السيارات وقد غدا عملاقا، يطوح الهواء بذراعين كمجذافين في محيط. رمقني مستغرباً. خامرني شك أن يفعل بي كما كان في الصبا؛ يتبعني ويسخر مني. حييته بحذر ودعوته ليرافقنا. رأيت في عينيه سحر دهشة عتيقة، وعرفان بالجميل، و ود عميق. إصطف إلى جانبي. رفع صدره إلى أعلى وسار مثل جندي مخلص لوطنه في استعراض عسكري مهيب. فازت القائمة الديمقراطية. كان من حقه لو إعتقد أن فوزها قد تم بفضله. في إنقلاب الفاشية عام 63 خاف وهرب إلى أخواله في إيران، كما هرب العشرات.
لا عوز ولا جوع ولا خوف يهددني، فمن أين تأتي الأسئلة لصبي مثلي؟ مرة تمنيت أن أكون فقيراً معدماً، علّ روحي تخلع ترفها. علّ عقلي يفكر بضرورات الحياة وواجباتها. عليّ أجوع. عليّ أموت لسبب. كنت أحسد الفقراء على تقشفهم، وأتحرج من أناقتي في حضرتهم. سعادتي بلا حدود كانت وأنا أمنع الأولاد من مطاردة المخبول "تعيّب"، أهرع الى البيت وأختطف رغيف خبز وأقف قبالته. في المرة الأولى وأنا أقدم له الخبز لم يكن ينظر إليّ، بل من خلالي الى روح أخرى. عينان عميقتان القتني في قرار بئر سحيق، في غياهب الغيب. في المرات الاحقة لم يعد ينظر إليّ، أصبح سلبيا، يأخذ الخبز من يدي بلا مبالاة، وكأني خادمه. أسمع الأولاد يركضون وراءه، يطاردونه بالهتاف:
- تعيّب أعبر مامش عيشة.
بعد أيام سمعت أنه عبر بإرادته الى الموت، الى عيشة أخرى. مات في الخلاء بعد أن هدم صدره بصخرتين كان يمسك بهما، يضرب جوانحه وهو يصرخ:
- مامش عيشة... مامش عيشة.
أشهد بالله، لقد كان على حق!
أيامي طويلة. ثمة ساعات فائضة. من أين كان يأتي كل ذلك الزمن؟ ملل من لا شيء، وأنا أكره المدرسة. أختبئ في النهار بين الورق والكتب، وأحزن في الليل، أن نهاراً قادما سوف يكون مثل سابقه. شيء ما خفي في جسدي أو خارجه، في جهة ما من حولي، بعيداً، فيما ورائي، فيما أمامي ثمة حقيقة للحظة واحدة كان عليّ استيعابها قبل أن تنطفئ. في لحظة سأم اكتشفتها في منعطف مجهول من عقلي، وأذهلني اكتشافي. لا غبطة فاقت غبطتي، وأنا أعثر على حقيقتي: أني ناقص ! وأن هناك شيئا ما ينقصني.
في تلك الأيام قَدِم الى العمارة، لغرض الدراسة، شاب وسيم من عمومتي: "بهجت حمد آل زهرون". شيوعي مفعم بالطموح والأحلام. كان يسعى ليصبح عسكرياً. آنذاك كان الشيوعيون يدفعون عناصرهم إلى أخطر مفاصل الدولة: الجيش. أوصته أمي أن يهتم بي؛ فتكفّل بمساعدتها. أخذت أرافقه في بعض أيامه. كان يسكن في قسم داخلي للطلبة في وسط المدينة. من حوله كان شباب آخر من أبناء الريف. سحرني فيهم ثقتهم بما يقولون ويعرفون، ولم يكن ينقصهم "شيء ما". هكذا رأيتهم. كانوا ثلاثة شباب: خلف جودة، عليل، أصفر الوجه، ذابل الصوت، مات بسبب التعذيب الذي تلقاه على أيدي "الحرس القومي". وطلحة: مات في الطريق إلى إيران هربا من العراق أثر الإنقلاب الفاشي في نفس العام. وناصر: كان بلا رقبة، بعثي، أخفى ملفي الذي بحوزة "الحرس القومي" في العمارة؛ لينقذني منهم في شباط 1963. كانوا يشكلون قطبا فعالا للحركة الطلابية قبل ثورة 58، وصورة واقعية لمعدن الانسان وأخوّته. الإنسان: ثقة بالنفس. هذا ما كان لديهم. ال "شيء ما" الذي كان يعوزني، أن أثق بنفسي أني أصبحت رجلاً. فذهبت في طريقهم وأصبحت أصغر عضو في إتحاد الطلبة العام. عمري آنذاك كان ثلاثة عشر عاماً. رجولة مبكرة ومبتكرة، ذات ثمن يضاهي حياة اللهو، والوقوف ساعات في منعطف الشارع.
إشتبكت في حياتي الواجبات، والأخلاق، وأهواء المراهقة. كيف أسلك؟ وماهو السلوك؟ أليس في هذا مبالغة من غلام على عتبة رجولة غير متعينة، أن يخط له سلوكاً؟ وفرت لي ثورة تموز إجابة وبرهاناً واقعياً على أن البطولة بداهة وشأن عادي، بسيط، نعثر عليه في الحياة، وليس حكراً على الأساطير. إنها صياغة ذاتية تتشكل سبيكتها من بضعة قيم، ومعايير نقية، وموقف صريح. صهر العناصر الثلاث هذه تستدعي قلباً شجاعاً، ووعياً حاذقاً، وطريقة. العراق آنذاك كان البوتقة والآتون، وكنت أنا الخامة البكر.
الى مدرستي: متوسطة الماجدية للبنين، كنت أعبر جسر الكحلاء الخشبي الضيق كل يوم. أخترق شارعاً يعج ببؤس حي، ومتجدد. أبعد من المدرسة، كانت مدينة أخرى من الصرائف: عشش يسرح فيما بينها بقر، وخراف، ودجاج، وكلاب، تقيم فيها روائح عطنة. بعض أكواخها كانت للدعارة. أبعد منها كانت فلاة يلعبون فيها كرة القدم، تدربنا فيها على ركوب الدراجات. في ظهيرة ربيعية إستأجرنا، كنا أربعة فتيان، دراجتين متداعيتين، وخرجنا بإتجاه قلعة صالح. كنا كل إثنين على واحدة، نتناوب على قيادتها. كان الحنين الى الديار، واليقين بأني على طريقها، يضاعف طاقتي. عبرنا الجسر وقطعنا مسافة طويلة. عطلت واحدة من الدرجات قبل أن نصل المبتغى، فعدنا أدراجنا. واحد على الدراجة العاطلة، والآخر يركض الى جانبه. طريق العودة طويل، والشمس أسرع منا تختفي خلف البساتين. أعيا صاحبي الركض، وفقد قدرته على السير. أركبته الدراجة، وقطعت ما تبقى من الطريق راكضاً. لم أسمح لأحد منهم أن يأخذ مني هذا الفخر والشهامة. القلق كان نصيب أهلي في البيت، والتضحية كانت من نصيبي... أنا الفادي.
في مساء شتوي عام 58 طرقَ "طلحة" باب البيت. لم يكن أهلي يعرفون أني أقيم علاقة مع شباب أكبر مني عمراً. أخذته الى حديقة قريبة على جرف الكحلاء. سلّمني ورقة ملفوفة وكأنها حجاب سحر أسود، وطلب مني تسليمها الى "عبد الرحيم" في الصباح. كل الناس، بل كل العالم، كان يعرف أني أحرز ورقة سرية ملفوفة، وعليّ الحفاظ عليها، ربما الدفاع عنها حتى الموت. هكذا قضيت ليلتي: مرة أقبض عليها وأغفو، ومرة أدسها بين الكتب، ومرة أنسى أين وضعتها. وصلت المدرسة في الصباح. كان مديرها "فيليب" يقف في بابها بدلا من "الفرّاش"، والباب مغلق. كان يخزرني من بعيد. نظراته سحبتني اليه كما تسحب السنّارةُ السمكةَ. أيكون قد عرف بأمر الورقة؟ وقفت أمامه. مد يده خلف ظهره وفتح لي فردة الباب. كان الباب أضيق من سم الأبرة. مرقت منه. لو طال الأمر لحظات اخرى؛ لسلمته الورقة ومت. دلفت عبر الخوف الى الساحة، وكنت أثقل من الرصاص. كان الطلبة يتجمهرون فيها. إقتربت من "عبد الرحيم"، فانحنى كي يسمعني، لقد كان طويلاً جداً. ريقي ناشف وقد كنت بالكاد أفتح فمي، ووضعت الورقة في يده. علا صوت الهتاف، وانفتح باب المدرسة. أي سحر كان في الورقة التي كنت أحملها؟ بعد أعوام، عندما اندلعت الحرب مع الأكراد، كتبت ألافاً مثلها بخط نسخ عريض تندد بالحرب، لُصقتْ على جدران المدينة، وعربات نقل الركاب. هو السحر بعينه الذي انقلب علينا وأودى بي، قبل أن أبلغ سن الرشد، وآلاف مثلي الى السجون.
كانت حياتي الدراسية في ثانوية العمارة (60-62) متوترة، وقلقة في قلب مجتمع طلابي موبوء بالتناقضات. مجتمع خشن، قاس، ناعم، وشاذ، وأنا رقيق وجميل أكثر من اللازم. في أعماقي فكرة طهرانية عظيمة عن ذاتي، وكبرياء معرفة غنوصية المنحى بالحق الخالص. لم يكن لي خيار آخر غير نفسي، وصياغة بطولة على مقاسها. خلال عملي في هيئات "إتحاد الطلبة" تحققت قدرتي على التأثير بمن حولي. كنت أراهن على نكران ذات برجماتي وفر لي تميّزاً ومكانا في الطليعة. عمدتُ على قيادة أخشن الطلبة سلوكاً، ومنهم من كان يتعرض لي. إخلاصي ووضوحي وحفنة الثقافة التي كنت أكتنزها، وفرت لي بعض السطوة على قلوبهم، أما عقولهم، فلم أكن أعرف بماذا كانت تشتغل، وأنا أقودهم ضد أخلاقهم، ضد انفسهم.
في مرسم المدرسة كانت دروسي المنتظمة قد قطفت ثمارها على يد معلمي "منعم مسافر": شاب أشقر، وسيم. كان يدس يسراه في جيبه ويحرك يمناه وهو يمشي. فيبدو وكأنه يمشي على جنب. متواضع، رقيق، أرستقراطي السلوك، ورسام انطباعي. تحت إشرافه أنجزت رسوما واضحة ونهائية، ووقعّت عليها بلا تردد. منحني شرف لا يضاهى أن أعرض أعمالي إلى جانب أعماله في معارض المدرسة السنوية، ولقب "رسام جيد" كنت أسمعها منه كلما أنجزت عملاً جديداً. ضاعفتُ أوقات إشتغالي في المرسم، وتعرفت فيه إلى شابين كانا يتقدان حماسة للرسم، رافقاني في حياتي الاحقة: "شاكر حمد" و "إبراهيم زاير". إكتشفت فيهما جسران يعبران فوق هاوية الحياة العادية إلى ضفة أخرى تزخرفها أفكار جميلة وأسماء فنانين غريبة. إندفعنا ثلاثتنا لدراسة الفن في بغداد. كنا في السنة الأولى إعدادي.، فلم يصبر إبراهيم حتى يكمل السنة الأخيرة. ضحى بعام دراسي، والتحق بمعهد الفنون الجميلة. كان هكذا، لا يصبر على رغبة، لا يصبر على الحياة، طفر لى نهايتها بسرعة، واختتمها برصاصة. أكملنا الثانوية، والتحقنا، شاكر وأنا، بأكاديمية الفنون. عتبتها الأولى وضعتني على برزخ بلا انتهاء.
الخُـــــروج
كما خرجت من رحم أمي ولم أعد اليه أبدا، خرجت من أرحام ثلاثة أخرى: من رحم الدين، والوطن، والعقيدة. وكأني أخرج شوكة من القلب؛ كان الخروج منها طويلاً وشاقاً ومعذباً، ولم ينته بعد. في الحقيقة لا أرغب في نهايته؛ فأختلق في كل مرة موضوعاً جديداً يشغلني وأفتي لنفسي بمفهوم مغاير له. غدت المهمة بمثابة "المَطْهَرُ" مابين الجحيم والفردوس. أفترض أني لست من سكنة الجحيم، لكني لست طاهراً كفاية لأرتقى إلى الفردوس، لهذا أقمتُ في هذا البرزخ لأتطهر مما اعتراني. وهكذا جرى الحال:
صادف دخول العراق تجربة الثورة الوطنية عندما دخلت أنا فترة المراهقة. إنتصرت وسقطت ثورته في الأعوام التي نهضت وأنكفأت مراهقتي. ليس لهذا السبب وحده أرى أنها تشبه المراهقة التاريخية في حياة الوطن، بل لأنها كانت كذلك في الكثير من أفعالها وردود أفعالها ونتائجها. مجدها وهي تذبح على يد الفاشية في الثامن من شباط 1963، أنها وضعتنا وجهاً لوجه بلا أمل أمام أنفسنا. تعرت عن قساوة ودموية وتناقض. بعد سقوطها راح واحدنا ورأسه في التراب يتفرس في ظله، فهو مرة وراءه، ومرة أمامه، ومرة يختفي... ومرة هذا، ومرة ذلك. دخنا وكنا "نحمل المصباح في وضح النهار" نفتش عما فقدناه. في خريفها، قبل سقوطها بأربعة أشهر، إلتحقت بأكاديمية الفنون الجميلة العليا ببغداد. آنذاك كانت قوى الردة تحوك في العلن والخفاء خيوط مؤامرتها، فيما السجون تعج بالسياسين (شيوعييون، وبعثيون وديمقراطييون، وقوميون عرب وأكراد).
في بداية آذار 63 دخلت السجن. في نهاية تموز خرجت من السجن. كنت أرسم والصورة في بداية تشكلها. لم يقرر النهار سحنته بعد، والأشواق بلا عنوان يميزها. دخل زميلي "عصام عبد الله" من "الحرس القومي" يطلبني. أستاذنا أرتموفسكي كان قريبا مني. شك في الأمر ونظر إليّ مستفسراً. كانت سحنتي المخطوفة كافية ليعرف وجهتي. ألقيت قلمي وأخذت حقيبتي: حقيبة صغيرة تشبه الصندوق كانت لجندي فرنسي شارك في الحرب العالمية الثانية، عليها رقمه، وإسمه، أهداني إيها أستاذي "فائق حسن". قطعنا المسافة من نهاية مبنى المعهد حتى البوابة، نمشي على ممر مكشوف مستقيم. كان "سجّاني" يقودني فخوراً بمهمته: مهمة بلا ذنوب ولا أوسمة، يسوق رجلاً يعرفه إلى مكان يعرفه. كنت إلى جانبه أمشي واضحاً كخاتمة لا طائل تحتها. سلّمني لهم وتوارى خلف إهمالي للعالم. صعدت السيارة المسلحة أعزلاً تماماً.
الشاب الذي أقتيد إلى السجن ذاك النهار، قبل بلوغة سن الرشد، شهد يوم ميلاده الثامن عشر بين جدرانه في القلعة السادسة.
لم يكن لدي ما أفعله هناك؛ فقضيت الوقت أراقب الناس بفضول وكأني أرسمهم. تفرست فيهم وكنت أرى ملامحهم بلا نِسب، الصحيح والخطأ معا: البطولة، والخيانة، والمروءة، والنذالة، والدناءة، والشهامة، والجبن، والخسة، والطهارة. كلها كانت تمشي على الأرض وتنام إلى جانبي في عنابر كبيرة عالية السقف. داخلها أدركت حجمي الحقيقي، يحيطني سياسيون عتاة، وخونة، ومنهارون، ولواطيون؛ فانتبذتُ ركناً قصيا. وأنا أوقع أوراق إطلاق سراحي بكفالة "شيخ فرج شيخ سام" زوج عمتي، تلمست في قلبي الحجم الهائل للكراهية والقرف، التي نبتت وأزهرت خلال خمسة أشهر. كان على لساني مرارة، وبصاق، وكلمات بذيئة... لكنه، في الهواء، سرعان ما يتفسخ الماضي.
خرجت من بوابته وتأكد لي ذلك، فقلت لنفسي: يا يحيى خذ الكتاب بقوة! لا تدع أحداً ينال منك مرة أخرى. خارج السجن المركزي كان الليل قد تجاوز منتصفه، وبغداد التي لا أعرفها هاجعة، وأنا ذاهب إلى البيت دون أن التفت إلى الوراء. لكني كثيراً ما أعود في خيالي إلى زاوية جمعتني مع "سعدي الحديثي" و"بسام الوردي". غالبا ما كان مجلسنا؛ أغاني، وقصائد، ونوادر، وحكايات، وكل ما يقذف بنا خارج السجن. واحد من بغداد والآخر من حديثة والثالث من العمارة ؛ ثلاثة مشاريع لثلاثة مصائر. لطالما تذكرت "بطرس" مسؤول الطعام الذي كان يُطبخ في القلعة الخامسة. كان أشرح العينين يحكهما باستمرار. سمعت أنه رافق "فهد" في سجن الكوت. كان يطلبني لمساعدته في حمل (قزانات) الطعام الكبيرة. أرافقه إلى المطبخ، وأقضي نصف نهار في مكان غير مكاني مع سجناء جدد. كان هذا يمنحني أحساساً بحرية غير واثقة من مصيرها. أعرف أنها لاتنقذني، لكنها كانت حرية على أية حال. حرية خروج من بوابات حديدية، ودخول بوابات أُخرى. حرية فتح أقفال، ومرور عبر ممرات طويلة. حرية توسيع رقعة الأرض تحت أقدامي، فنحن كنا نطوف في مربع ضيق في قلاع بين جدران سجن عملاقة، كأننا ثيران مربوطة إلى ناعور ماء.
كنت أتكئ على سياج الحديقة مزهواً بصفتي طالبا في أكاديمية الفنون. كان ذلك في تشرين الأول من عام 62. مشمسة وواسعة كانت الحديقة تنحدر صوب النهر. بجواري كان يقف صديقي وأبن مدينتي "شاكر حمد"، قريب منا كان بعض الطلبة يتحدثون في جملة مواضيع في آن واحد. تقدم منا طالب وردي اللون ممتلئ الوجه، ناعم، ينم عن عافية ودلال. بثقة زعزعت استرخائي، مد يده مبتسما وقال: أنت يحيى الشيخ... ممكن سؤال؟ وتنحى بي جانبا وهمس في أذني:
- وصل ترحيلك الحزبي!
ولم يبلغني كلمة السر! كانت ثقته بنفسه سره الخاص، كافية لكل الأسرار؛ فصدّقته.
بعد أيام وجدتني وبسام الوردي في كل مكان. كان أكثرها إثارة وإحراجا زيارتي معه إلى أحد بيوت آل الوردي. أعتقده كان في العطيفية. يعج بأهله؛ فتيان، وبنات، نساء، ورجال، تهت بينهم. أعتقدت أن كل العيون كانت ترصدني، فصعب علي ابتلاع لقمتي. كان الطعام كميات كبيرة من اللحم، غريب النكهة لم أعتد على تناوله، فلم أستسغه. يبدو أن بسام لمس حرجي وأضطرابي، فأخذني إلى بيت قريب منهم، كان مرسم الفنان "خليل الورد" ومتحف مقتنياته. إنه أول مرسم خاص أدخله في حياتي. شاهدت هناك عشرات اللوحات والتماثيل والمسابح الثمينة وقطع الأثاث النادرة وبعض المخطوطات. من خلال صحبتنا عرّفني على شعر مظفر النواب. وكنت أول مرة أسمعه منه. فهو يحفظه على ظهر قلب ويرزح تحت سطوته. أعتقد بسب ذلك تلكأ بسام في المضي إلى كتابة الشعر الشعبي. كان ينظمه من وقت إلى آخر. من تلك الأيام أخذ بسام ينغرس في حياتي، وفي أكثر المواضع حساسية وخصبا.
عندما وقع انقلاب شباط كنت في العمارة لقضاء العطلة الشتوية مع أهلي. عدت إلى بغداد في بداية آذار. لم يكن بسام في الأكاديمية ولا أنور الغساني ولا هاشم سمرجي ولا ودود، ونوفير الأرمنية كانت قطعت الدراسة وقررت الهجرة. تأكد لي أن غيابهم يعني القاء القبض عليهم. من منهم أبلغ عني؟ لقد خرجت من العمارة سالما فكل من كان لي صلة بهم اختفوا، أو فروا إلى إيران، ولا يعرفني في بغداد إلا هؤلاء.
قضيت ثلاثة أيام في موقف السراي. حالما دخلت خرج أحدهم وأهداني مكانه، عند الباب المحاذي للمرحاض. النعالات والأحذية تتكدس أمام عتبته كما في المساجد. سيق بيّ بعدها إلى الموقف العام في باب المعظم. صباح ربيعي مشمس لم يزل ينطوي على بقايا برد شتاء قاسي حل ذلك العام. أدخلني الشرطي القلعة السادسة وأغلق الباب خلفي. حتى يحيط المرء بعينيه بأرجاء القلعة وباحتها المنقسمة نصفين، يستغرق ذلك وقتا محسوباً. تبددت دهشتي بصيحة بسام من وسط الموقوفين في أقصى الساحة. عند كل موجة ترحيل، من وإلى، يتجمهر السجناء لمعرفة منّ القادم، أو منّ المغادر. بين ذراعييه عثرت على مبرر واقعي لوجودي في السجن. كانت نظراتي كافية ليجيبني أنه لم يبلغ عني. كي تصل إلى روح بسام الوردي لا تحتاج إلى وسائط فأنت تجده قد وصلك قبلك. إنه يتشكل بسلاسة إلى نظير يندمج في النفس، ويختفي في طيات الوجدان. كنت أعثر عليه مرة في أعماقي ينبش أوجاعي، أو أمامي يشير إلى ما أنوي اليه. كان يخترق وحدتي وما كان مني إلا أن أكون أكثر شفافية لأنعم برفقته.
إلى السعودية سافرت مجموعة من خريجي الأكاديمية صيف 66. تناثرنا في الربع الخالي، وكان نصيبنا أنا وهاشم سمرجي في مدينة الدمام، أما بسام الوردي فقد ألقي به في الهفوف. آنذاك كانت الهفوف مكاناً لا يوصف إلا كونه بوابة للجحيم. لم يكن لديه غيرنا؛ فكان يقطع مئات الأميال ليقضي بيننا ليلة أو ليلتين، يسكر ويبث كل عذاباته ويفيض باسرار حبه. بسام طفل ماكر كانت أيامه معنا مفعمة بالضجيج، والمشاكسات، وبقصائد جديدة، وحكايات عن غبار الحياة في الصحراء من حوله. من جديد تمفصل بسام في أدق مراحلي وأكثرها غناً واضطراباً.
قامت الحرب مع إسرائيل في حزيران 67 وأغلقت المطارات؛ فقررنا العودة بالسيارات إلى البصرة عبر الكويت. كان الخليج على يميننا، تحت الشمس، مسافراً صبوراً. الحر، والغبار، والرطوية الخانقة، ودخان السجائر، والطريق اليباب يثير الأعصاب. غير أن بسام، كما لو أنه في رحلة مدرسية، كان يركّب الأفكار ويخلطها على هواه بطريقة خرافية، فيسرق الأخرين من أنفسهم، وينزع عنهم ركود أرواحهم. بعد أن يتعب من حمل الأخرين على جناح الخيال والسخرية من الواقع، ينشد مقطعه المحبب من قصيدة "المدينة" لكافافي:
"ما دمت قد خربت حياتك،
في هذا الركن المهجور من العالم،
فهي خراب لك،
أينما حللت".
يغط بعدها عميقا ثم ينتفض لينتج عبثاً جديداً. كان شاقاً عليّ أن أحتويه لفترة طويلة على حال واحدة. كان يقلقه جريان الأيام من حوله بلا مبالاة، فيقلقني معه. كثيراً ما كنت أقسو عليه وكنت على يقين أنه كان يحبني أكثر مما كنت أحبه. ما كان يعذبني أكثر عجزي عن مجارات روحه الوثابة. عاش بروح أخرى غير الروح التي تكشفت في حياته الأعتيادية. غالبا ما كان يلامسني أثيرها، وهو يبكي حباً، وهو يقرأ الشعر، وهو يقهقه عاليا، وهو يسرح بخياله إلى الأقاصي. روح لم يستنفدها بسام، وستبقى طويلا تحوم بيننا، حتى تعثر على من تسكنه يوما ما لتكمل مشوارها المضني... عبر خمسين عاما وآلاف الأميال أعود اليها أتعكزعلى ذاكرة تنز مرارة لأقول: السلام عليك... يا أخي.
في القلعة الخامسة التقيت زميلا لي في ثانوية العمارة. كان قد إعترف أنه عمل ضمن مجموعة حزبية كنت أقودها. مهمتها لصق الشعارات المنددة بالحرب ضد الأكراد في شوارع المدينة، والتي كنت أخطها! عرفت منه الأسماء التي أبلغَ عنها. قوى قلبي؛ فأنا هنا لهذا السبب! أعددت في ذهني حكاية أقولها عند التحقيق، ساعدني "كريم حسين" على صياغتها بلا خلل، كما علمني كيف أغسل ملابسي. قبل الفطور تم استدعائي مع مجموعة لم أحسب عددهم. كنت أحسب حساب نفر واحد فقط: أنا. بمحاذاة جدار عال كنت أشم من خلفه رائحة مستشفى، أوقفونا. واحداً واحداً كانوا يطلبوننا للتحقيق. الساعات تعود إلى الوراء. لم تكن من زمن. كانت من حقيقة ثقيلة أخرى أجهلها تتمدد بلا انتهاء وتستطيل. هطل دمي كله. إنتابت ركبتاي رعشه تأتي وتختفي. تضاعف وزني؛ فكان جسدي يهبط مثل عجينة وأعود أستقيم. إتكأتُ على الجدار. إلتصقتُ به فشعرت ببعض الراحة؛ أنه يحمل بعضا من أثقالي. إلتصقت به أكثر. دفعته وكأني أفتح فيه فجوة أدفن فيها جسدي وتحمله. ثبّتُ عليه قفاي وفخذاي وكعباي فتحولتُ إلى قطعة منه. في المساء لم يعد لي وزن أشعر به، وكنت قد وقعّتُ على أوراق أكدتُ فيها ما جاء عني.
على خاصرة دجلة من جهة الأعظمية، في العيواضية، قرب محطة الكهرباء، كانت أكاديمية الفنون الجميلة العليا تشغِل قصراً عريقا بحدائق تغص بأشجار معمرة. كما تنحدر الجداول الصغيرة نحو النهر العظيم، أنحدر إلى الأكاديمية فِتية وفتيات من كل أرجاء البلاد: من الموصل، وأربيل، والسليمانية، وكركوك، وبعقوبة، وكربلاء، والحلة، والعمارة، والبصرة، وبغداد... عرب وأكراد وأرمن. مسلمون ومسيحيون وصابئة، فقراء أبناء قرى، وبرجوازيون أبناء مدينة. شيوعيون، وبعثيون، وقوميون، وما بين بين. أشرف على تدريسنا ثلاثة أساتذة: فائق حسن لدرس الألوان، والبولوني رومان أرتموفسكي لدرسي الكرافيك والتخطيط، والمقدوني فيكتور لازسكي لدرسي الإنشاء التصويري والجداريات. إثنان من أوربا وعربي واحد درس في أوربا. يعني إننا كنا على تخوم ثقافة الفن الاوربي وتقاليده. باركوا اندفاع بعضنا للدراسة خارج العراق، فسافرتُ لدراسة الكرافيك في لوبليانا برسالة تزكية من أرتموفسكي وتشجيع منه.
أُلغِيتْ الأكاديمية، إذ اعتبرها الأنقلابيون كياناً مشبوهاً ينتمي لعهد عبد الكريم قاسم كان يرأسه الشيوعي "خالد الجادر"، وسميت "أكاديمية الفنون الجميلة العليا الملغاة". كنا دورتين فقط لا يتجاوز عددنا عشرين طالبا. لم تكن لنا أية مميزات ومحرومين من المخصصات، فنحن طلاب غير شرعيين: طردتنا وزارة التعليم العالي ورفضتنا جامعة بغداد. وعليه تم الحاقنا بمعهد الفنون الجميلة في الوزيرية لنكمل ما تبقى من أعوامنا الدراسية. بعد تخرجنا رفضت وزارة التعليم تشغيلنا؛ فسافر أغلبنا ألى السعودية للعمل.
في وسط غرفة مساحتها لا تربو على أربعة وعشرين متراً، كانت ماكنة الليثوغراف تتربع بحدديها الثقيل وذارعها المنتصب ذو الرأس الكروية، ورائحة الشحم في مفاصلها. مشهدها كأنها ماكنة قطار عاطلة. حولها كنا نأخذ أماكننا ونعمل. في الركن عند الباب كانت ماكنة طباعة الحفر. كنا نستأذن بعضنا لنمر من مكان إلى آخر. أستاذنا رومان أرتموفسكي بقامته الطويلة الممشوقة يتجول بيننا يراقب بصبر عظيم ما نفعله. باقل الكلمات كان يعلمنا، وبأكثر التطبيقات. تعلمت منه ما كان يسمح به الوقت، وكان من الصباح حتى المساء. ربطتني به صداقة تليق بأستاذ كبير، وتلميذ مجتهد.
حظيت في بغداد بصداقات حميمة ندرت في حياتي اللاحقة. كان إبراهيم زاير الذي وصل قبلي بعام قد تعرف على كثيرين فعرّفني بهم. كانت الطريق سالكة إلى قلب مجموعة كبيرة من الفنانين الشباب، والكتاب، والصحفيين، والشعراء: ماركسيون، قوميون، وفوضويون. كانت المقاهي تزدهي بأفكارهم و ضجيجهم. عثرت في طباعهم وغرائبهم وخيالاتهم وأفكارهم الجنونية وخطاياهم على ملامح من قرأت عنهم في صباي. أعمق صداقة كانت لي مع الطالب في معهد الفنون الجميلة "فائق حسين". أحببت فيه شفافيته وذكائه الحاد وخياله الجامح، إنما يرعبني مرض الصرع فيه. كان يولد من جديد بعد كل مرة يقع فيها طريحا على الأرض يرفس، ويزبد. في كل مرة يفتح عينيه يراني خائفا. معا كنا نلهو بمفارقات العقل ونلهث بحثا عن ينابيع جديدة. بعد سنوات الدراسة راح كل منا إلى طريقه الخاص فسافر هو إلى إسبانيا لدراسة الكرافيك، وأنا إلى يوغسلافيا لنفس الغرض. إتسعت بيننا الأرض، لكننا من بعيد كان يرنو الواحد منا للآخر عبر قناعات تحالفنا حولها وأعلناها في معرض للكرافيك احتضنه كالري "كونتاكت" في بيروت عام 72. نظمه وشارك فيه أبراهيم زاير أثناء إقامته فيها. خرجت الصحافة البيروتية في اليوم التالي بعنوان مثير(ثلاثة فنانون عراقيون يحرقون لوحاتهم في بيروت) يشير ضمنا إلى طليعية وحداثة المعالجات التي انطوت عليها الأعمال. بالمقابل لم نقبض فلسا واحداً ثمن ما بعناه.
كان لإبراهيم زاير أخوال يعيشون في هور "بريده"؛ فأغرانا ذلك بالسفر إلى هناك. أعددنا عدتنا: الوان، وورق، وخمر، وكامرة "زنث" روسية، وأشواق ترفرف، وزهو لا مثيل له كأننا سنكتشف القطب الجنوبي. في العطلة الربيعية بداية عام 64 إعتمرنا قبعاتنا القش وسافرنا: أبراهيم زائر وفائق حسين وخالد النائب وإسماعيل زاير، وكان أصغرنا. على أطراف ناحية الميمونة كان الهور يرخي ضفافه. مياه لازوردية وأفق أخضر وسماء لا شائبة في زرقتها. على عتبات مملكة المياه، مملكة البردي والقصب، مملكة الطيور المهاجرة، كان بإنتظارنا زورق وشابان أسمران يعبران بنا.
أخذنا أماكننا في قاع الزورق الأسود. بدفعة رشيقة من عصا الخيزران الطويلة بيد الربان الواقف متوازنا في المقدمة، إنساب الزورق على وجه الماء بهدوء وأدب جم كأنه يدخل أرضاً حراماً. أغرقت ساعدي في الماء وتركته سائبا كمجذاف يستريح صاحبه. عصا الخيزران تشق المشهد نصفين وتربط السماء بالماء. ولكن من منا تشغله المعادلات البصرية في تلك الساعة وطيور البجع العراقي العملاقة تعوم بجوارنا؟ كانت إذا اقتربنا منها ترفع رأسها ومنقارها ذو الجراب المتهدل تختبر سلامة نيتنا، لكن بعضها قد تعلم الحذر. حتى يطير يبقى يخبط الماء بجناحيه ويطبطب بقوائمه ذات الأخفاف مسافة طويله. وزنه ثقيل وحجمه هائل كأنه ديناصور نجا من العصر الجليدي. عندما يهبط يفرش قوائمه فينزلق يشق الماء ويطرطشه ويستكين بعد مسافة. أذكر أننا رسمنا لوحة جماعية وتركناها لأهل البيت. ماذا تعني لوحة تجريدية في أكواخ عائمة فوق الماء؟ لا شيء! لكن فنتازيا "فائق حسين" جعلت الأمر مهماً ومعقولاً وضرورياً أيضا، فتجندنا جميعا لانجازها بحمية.
رسمتُ في وقتها تخطيطات وصوّرتُ أفلام بالأسود والأبيض، وشرائح ملونة. طيلة أيامنا كان يرافقنا شاب يحرص على خدمتنا في النهار وينام معنا في المضيف ليلا. رسمته. أنتظرنا ليلة وليلتين أن يفارقنا وطلبنا منه ذلك، لكنه أصر على بقائه معنا، فهكذا جرت العادة. فما كان لنا غير أن نشرب خمرتنا خفية تحت اللحافات. في العام التالي سافرت بصحبة هاشم سمرجي في جولة إلى العمارة والديوانية والناصرية. على نهر الغراف وسط البساتين كان للمساء سحره. الحواس تُخَلق من جديد بعد الكأس الاولى. وكأني لم أسمع غناءاً من قبل، سمعت شابا يغني بصوت نادر "أنا بتبريح... ريشة بريح..." كان "حسين نعمة" قبل ظهوره العلني. وكنت فعلا بتبريح شديد.
عام 72... في مساء عابر زارني "رياض قاسم" على عادته اليومية. كان واجماً:
- إبراهيم إنتحر!
لم أستوعب الأمر. كنت بليداً وخاوي العقل. لم أعلق ولم أسأل. غابت عواطفي. لقد انطفأ نجم من سمائي. خرجنا. على طاولة الليل شتمنا كل شيئ وجدفنا على حياتنا.
عدت إلى البيت مساءً. خريف عام 65 كان يجرجر الريح وراءه وهو يغادر. المشي من الباب الشرقي عبر كرادة مريم وحتى الصالحية، يطيل من عمر النهار ويُسرّحُ لليل خيالات كافية لأحلام دافئة. في البيت كان بانتظاري "بهجت حمد". طيلة السنين منذ عام 1960 كان يدرس هندسة الرادار في "الإتحاد السوفييتي". كيف وصل إلى بغداد وهو عسكري شيوعي مطلوب دمه؟ لم يكن باستطاعته الوصول إلى أهله فكنت الوسيط بينهما. كان يحمل أسما آخر. كنت التقيه في ساحة الفردوس كل صباح جمعة في موعد نحدده. نقضي الوقت في سينما الفردوس؛ نشاهد شاري شابلن، ونتحدث عن حياتنا. مرة واحدة ذهبت معه إلى بيت في شارع فلسطين. كانت تقيم معه إمرأة شابة تبدو من جديتها وحذرها أنها شيوعية أيضا. إختفى بعد ثلاثة أشهر من لقاءات الجمعة. ربما يكون قد رحل، أو ألقي القبض عليه، أو خاف مني. يومئذن لم تكن لي صلة بالحزب. وهذا يعني لم أكن حذراً في علاقاتي؛ أرتاد المقاهي، والبارات، وأُجالس من أعرف، ولا أعرف. قد أكون في نظرهم مصدر ريبة! بعد أشهر عاد إلى بغداد وأخذت التقيه، إنما بطريقة أخرى ومكان آخر. سألته إن كان اختفى لخوفه مني. أجابني أنه كان خائفا من الحزب الذي تضاعفت مشاكله الداخلية وانشقاقاته. بقينا على صلة حتى غادر مرة أخرى.
تكللت السنة اليتيمة في السعودية عام 66 برسومات حرة بعيداً عن مراسم الأكاديمية، ومناخ الأصدقاء وتقييماتهم. وحدي، هذه المرة، مسؤول عن الرسم ونتائجه، لا يشفع لي غير حريتي، وإحساسي أني بعيد، كما لو كنت وحدي في هذا الكوكب. رهاني كان على تجريبية إزدادت تبلوراً عبرعمل يومي انتهى إلى مجموعة ورقية بالألوان المائية "كواش". آنذاك كانت رسومات رومان أرتموفسكي وشاكر حسن المائية، قد أكدت حضورها.
لأول مرة يجتاح ماضيي حاضري بهذه القوة. هل عبر ذاك البستان؟ بستان الذاكرة الذي على تخومها، وهو يحمل شيئاً من البقايا: أشكال أشنية، لحاء شجر متغضن، صفائح "جينكو" منخورة. بدت حقولا وهضابا محروثة لا لون فيها غير الأسود والأصفر مع شروخ بيضاء كأقلام الحراثة بتضاريسها. أنجزت المجموعة وشاركت بأربعة منها في أخر معرض للمجددين، وأخذت الباقي معي إلى لوبليانا وهناك ضيّعتها.( واحدة من اللواتي عُرضت إقتناها الفنان سلام عمر إذ عثر عليها ضمن مخلفات الفنانة سهام السعودي... يرحمها الله). بعد ثلاثة سنوات تحولت هذه الشروخ إلى خطوط عبور بيضاء في شوارع شاسعة حاول "رجال...ي" عبورها. عرضتها في معرضي الأول بعد عودتي إلى بغداد. (إقتنى منها المتحف الوطني العراقي عملين)
مات أبي نهاية تموز 67 وترك وراءه محل صياغة للذهب والفضة، وعائلة من تسع أبناء وزوجة، وأخ لا حول له ولا قوة. كنت آنذاك على وشك السفر إلى لوبليانا. أرجأت دراستي للعام التالي وسافرت إلى البحرين. وجدت نفسي في مهنة الأجداد التي لا أفقه منها شيئاً. مطارق، ومبارد، وملاقط، وسندان يتربع على الأرض، وبواتق لصهر المعادن، وشرائح فضة، وسبائك ذهب، وأفكار فجة. الأدوات ذاتها التي كنت العب بها في طفولتي، لكنها "الآن" ليست للّعب. علّمتُ نفسي كيف ألحم المعادن الثمينة، وكيف أصوغ أشكالاً. تدربت على نقش الفضة واستخدام المينا السوداء، فأنا حفّار وهذا مختبر عمل جدي بمعادن ثمينة. جرّبتُ، وخرّبتُ، ونجحتُ. إشتغلتُ، وبعتُ، واشتريتُ. إنتهيت إلى طريق مسدود بحقيقة عالية صلبة: إنها ليست مهنتي. أنا لا أفقه لغة السوق، ولا التجارة، ولا أجيد المساومات. عقلي مشغولٌ بالرسم، برموز الحياة وتجريدها. لقد علَقَتْ روحي بتلك الشبكة الحساسة؛ أذا تحركتُ منها تصيبني، وأذا بقيت فيها تصيبني. "أدخلني في خرم الإبرة، وقال لي أذا مر الخيط فلا تمسسه، وأفرح فأني أحب الفرحان" يسألني قريني:
- أليس الذهب والفضة من رموز الحياة؟
أجيبه: نعم، أعرف ذلك. لكنها ليست لعبتي.
تركت المهنة، وسَلَمّتُ المحل لعمي، وعدت نهاية نيسان 68 إلى بغداد.
كنت على يقين أني سأعثر على الأصدقاء في أحدى المقاهي. سأحدثهم عن البدو في الجزيرة العربية وصيادي اللؤلؤ في البحرين، أو أحدثهم عن بحر تحتضن سواحله هياكل مراكب في طور الإنشاء، أو هياكل من ودع منها الحياة. تعانقت مع "فائق حسين" وجلست. سألني متى وصلت، وماكدت أفرش حديثي على الطاولة سحب "سركون بولص" كرسياً وأنضم الينا. تعارفنا. أسمه، جبينه الواسع، وجهه المربع وشعره السبل الكث الأسود، تكشف أصله الآرامي. سألنا هل نعرف كم جناح للذبابة! حاول فائق اصطياد واحدة ولكن عبثا. كشف سؤاله ضعف علاقتنا بالعالم و فضح حيرتنا إزاءه. أضاف:
- أننا نقتل الذبابة، لكننا لانعرف كم جناح لها!
لقد واجهه سؤال في الإمتحان ذلك اليوم ولم يجب عليه. لم يكن سركون قلقا بشأن الإمتحان، بل بشأن طبيعة علاقتنا بالأشياء، وقدرتنا على الإنتياه لها، وعن مبرراتها ومبرراتنا. بعد حين مر بجانبنا نادل يسقي الماء. أخذ فائق كأساً وسأله عن اسمه. قال إسما غريبا. فسأله عن معناه. أجاب أنه لا يعرف! تعجب سركون:
- كيف ستموت وأنت لا تعرف معنى اسمك؟
رد الرجل: وما حاجتي بالمعنى ما دمت سأموت!
قضينا ليلة وحديثنا يجنح بين المعنى وجناح الذبابة.
سافرت صيف 68 إلى لوبليانا /سلوفينيا. مدينة همت بها كالدرويش. وكنت كذلك: تحت أبطي لفة ورق مدعوك، أستطلع مكانا تائها، وفي رأسي حقائق وأوهام. كان همّ واحد يقض مضجعي فيها؛ أن أتعرف على أهوائي، وعلى الأرواح التي تسكنني، وعلى المكان الذي أختفي فيه من عاداتي.
المكان! أنا دائما أعود إليه بالرغم من أنني أزداد تجريداً، وأختزالاً، فلا أبقي من شيء غير ما بقي في خيالي حياً أو بقى ملمسه في يدي. لكنه بقدر ما هو حقيقي وواقعي وكثيف، وبقدر ما أنا أختزل، وأمارس أسلبتي، كان هو من يغمرني، ويجدد روحي. كل مكان وطأته هو وطني. أحيانا أتساءل لو لم أقد نفسي إلى ألف مكان ومكان، هل كنت أستطيع أن أرسم؟ أليس الرسم مكان نؤثثه بالماضي ويستوطنه المستقبل؟ والحاضر ماذا يكون غير تصادم الزمنين وانفلاقهما! المكان: هذا الشيء الممكن والمعطى سلفا تحول في حياتي إلى خرافة استوطنت لوحاتي؛ فجاءت لوبليانا بعداً إضافياً له، أيقظ البرية التي أحببتها.
في الغابة "تيفولي" التي تتوسط المدينة عثرت على حبي السلوفاكي البكر، يفترش أوراق الخريف الذابلة: ذهب، وقصدير، ونحاس صدئ. أطلقت له نشيدي عارياً لا يسترني غير جذوع الأشجار العملاقة وشجاعتي. هناك أنجزت عملي الكرافيكي المتميز والخطير من بين كل أعمالي من ناحية تأثيره وفعاليته في رسمي لاحقاً. بما ينطوي عليه من طرائق عمل، وبناء، وفلسفة وجود: أننا والأشياء واحد. عنونته "إنشاء الإنسان والأشياء".
عنوان اللوحة مستهل واسع للعلاقة الجينية بيني والأشياء والمكان. في طريقي اليومي عبر الغابة، كانت أوراق الخريف تتطاير بين أقدامي تخشخش، تذكرني بوجودها. إلتقطت واحدة في طريقي إلى الأكاديمية، وقبل أن تفقد ذاكرتها؛ طبعتها على لوح زنك. الأرض في اللوحة كانت بمثابة ألواح خشب وأكف متداخلة مشتبكة مع خيوط وأسلاك ملتوية. بينها والسماء نصف أفق مائل. هذه اللوحة كانت ميثاقي الأول مع آلهة الفن. رسمت فيها حدود المكان الجمالية؛ فإحتلني هاجس وترقب مضطرب بإحتمال فقدانه على غفلة مثلما إكتشفته. مع فوضى الأشياء المبعثرة، وارتباك نصف الأفق المائل، وخلو السماء إلا من أوراق ذابلة، بدا المكان في اللوحة مرتبا بعناية ومؤثثا بإتقان، معفراً ببخور زمن غابر يشيع ألفة.
شاركت بثلاث لوحات كانت هي ضمنها في البينالة العالمي الثامن للكرافيك في لوبليانا صيف 69. أنذلك كان هو البينالة الأكبر والأهم في العالم. قبل الإفتتاح بساعتين كنت في المقهى المقابل له، وبقيت في مكاني حتى منتصف الليل، أداعب فتاتي وأحتسي الكونياك الألباني. بعد ثلاثة أيام زرت المعرض كأي متفرج غريب. رأيتُ البداية كأنها نهاية؛ فأوليتها ظهري. ما الذي كان يحدث لي؟
لوحة "إنشاء الإنسان والأشياء" كانت قسمة عادلة بيني وبين أشيائي من جهة، وبيننا نحن الإثنين، والمكان من جهة أخرى. أنها مساومة لا مناص منها للاحتفاظ بشرف العهد، وحبل الوصل بمشيمة المكان الأم. لقد أنجزت أكثر من عشر لوحات يستقطبها ذات المحور: غربة الأشياء وهاجس المكان. أما الإنسان فقد اختصت بضياعه وحيرته عشر لوحات أخرى (ليثوغراف على ورق الرايز الصيني) فيها يتكرر عشرات الناس المتشابهين في فضاء مفتوح أبيض مجهول الهوية. تشغل جانبا منه غابة من الخطوط المتوازية تعشي البصر. يدخلها أناس ضبابيون، غائمون، متخفون وراء بعضهم أو فارون من إطار اللوحة. مسامات هشة تشكل رجالا بالكاد يتماسكون ويدّعون الحركة. رجال قابلين للزوال. كتب عنها سعيد السعدي في متن نقده لمعرضي الأول عام 71: "... أنه إبتعاد عن الغايات، إبتعاد مأساوي ومدمر. إن المعادلة التي يوازنها الشيخ هي معادلة قاسية وصعبة ومؤلمة: شرعية أن تعيش تساوي شرعية أن تموت. شرعية أن تقطع المسافات تساوي شرعية أن لا تصل. إن الشيخ يمارس عملية الرسم بوعي وقصدية شاخصة، ولذلك فانه يدرك ويعاني تماما من انقسام العالم إلى ما لا نهاية ومن تجمعه إلى ما لا نهاية، كما يقول ايلوار..."
مع المعرض أصدرت بياني الأول "الحدث الفني". كنت تحت تأثير أفكار المثالية الأولى، أرى الأشياء تمارس حضوراً قصدياً طاغياً، وكأنها وعي مماثل.
تحول هؤلاء "الناس" إلى فدائيين وشهداء في ملصقاتي التحريضية في السبعينيات. أشهرها ملصق للمقاومة الفلسطينية صدر بمناسبة مهرجان الواسطي عام 72، لمقاتل مثقوب الجسد يخترق الفضاء الرصاصي الداكن، تؤطره أسلاك شائكة تنتهي بنجمة داوود. الملصق مذيّل بمقطع للشاعر شريف الربيعي:
"لأنه استطاع أن يضحك عبر الموت، أرعب ذل الصوت".
بعد عودتي إلى العراق عام 70 إنغمست من جديد بالعمل السياسي. أصبح أمراً طبيعياً أن يلتحق بي "رجال...ي" في نفس الخندق. هناك في قطب الصراع الدفين عام 73، أنجزت مجموعتي الكرافيكية المأساوية ذات النزعة التعبيرية: "شهداء الحدائق"، مع بيان تميز بحداثة لغته ومعالجاته. إتسمت المجموعة بشحنة تعبيرية حادة. كانت من وجهها الإجتماعي بحثا جمالياً في العدالة. البناء المسرحي ساد تكويناتها التشكيلية وتحكّم في حركة "الأبطال" وعلاقاتهم بالفضاء المحيط. أجساد تتلوى مذبوحة وأشلاء وعيون تقدح غضبا وأصابع تنشب بالأرض أظافرها على مسرح الأحداث اليومية في العراق. التعبيرية الطافحة في هذه المجموعة لا تسمح بتأويل أبعد مما يجري... إنها تعلن عن نفسها بوضوح تام وبعجالة تتناسب وذلك الزمن إذ لا وقت نضيعه في الأسئلة أمام الموت المجاني... إنها أجابات مقتضبة لفجيعة تاريخية دلالاتها أعمق من حب الحياة التي مات من أجلها "شهداء الحدائق".
أصبحت المجموعة مستهلا لمجموعة ثانية: "البسالة" عام 77. أنجزت منها لوحتين كبيرتين بالوان الزيت شاركت فيهما، عبر متحف الفن الحديث، في معرض "كان سورمير" في فرنسا عام 68، وغادرت العراق ولم أعرف مصيرهما فيما بعد. في "البسالة" كانت بيروت تحترق وبيروت التي تقاتل. لوحات تعج برجال عنيدين صلبين، بأجساد مبالغ بضخامتها يستأثرون بمقدمة اللوحة ويولون ظهورهم للمشاهد بغاية نبيلة. إنهم يقودونه ضد حرب مستترة في خرائب وسحب دخان أسود. البناءات ذاتها والمكان هو المكان ينطوي على غربة أعمق مما كان، إنما الرجال مقاتلون في هذه الجولة وليس صرعى في الحدائق.
وفرت السبعينات بعد تحالف حزبي البعث والشيوعي هامشا ملموسا للحرية السياسية، والحرية الشخصية أيضا. عام 1974 نافسنا حزب السلطة: البعث، على الفوز بالدورة الإنتخابية لجمعية الفنانين العراقيين بقائمة يرأسها الدكتور قتيبة الشيخ نوري. ضمت: محمد غني حكمت نائبا للرئيس، جودت حسيب سكرتيراً وعضوية على النجار، مكي حسين، بيمان سعيد للادارة والمالية، ومحمد مهر الدين وعضو آخر... وأنا. ظن البعثيون فوزنا جاء بفعل خديعة سياسية مارسها الشيوعييون؛ فالقائمة المنافسة الأخرى برئاسة إسماعيل فتاح الترك، التي عوّل عليها البعثيون، كانت تظم شيوعيان. في الواقع لم تكن خديعة، بل ضعف وخلل تنظيمي تلافاه الشيوعيون في الساعات الأخيرة قبل الإنتخابات، إذ انحازوا لصالح قائمة قتيبة الشيخ نوري التي فازت بفارق خيالي إستفز السلطة؛ فأعدت لنا العدة. بالمقابل وجد فيها الشيوعيون فرصة لإستعراض جماهيريتهم؛ فحشدوا قواعدهم وصحافتهم لدعم نشاطاتنا. ذلك أوقد في صدور البعض، وأنا منهم، عزيمة إذلال العنجهية التي أهانتنا يوما التي مثلتها سلطة البعث القائمة أنذاك. كما أوقد في قلوبهم هوايتهم التقليدية: تعذيب خصومهم و"لملمة الكل في شاحنة إلى الأمن العامة" كما تمنى أحدهم وهو يراقب نشاطنا. على نحو خاص، كان الثأر القديم في قلبي مازال يعتمل. فمن يكون هؤلاء الهمج المدجين بالسلاح؟
كنا مجموعة زئبقية متنافرة الأفكار والأهواء، احتار الحزب في قيادتها وتوجيهها كما يبغى. مجموعة تختلف كثيراً وتتناقض وتفلت من الزمام، لكنها تتفق على تحريك الحياة وتغيير طبيعتها بكل الصيغ المتوفرة. ولم يكن متوفراً في وقتها غير العناد والكرامة. كان لإرادة الأصدقاء من حولنا فعلها القوي في تثبيت قلوبنا في مكانها. عندما كنا نخضع للمساءلة الحزبية عن تقصيرنا في تنفيذ برنامجنا، كنا نلقي اللوم على قتيبة الشيخ نوري رئيس الجمعية وعناده وفردية قراراته. وعندما نخضع للمسائلة في أجتماعات الهيئة الإدارية للجمعية عن تمادينا السياسي في برامجنا الثقافية، وأننا فتحنا الأبواب مشرعة للشارع، وأضعفنا نخبوية الجمعية، كنا نلقي اللوم على الشيوعيين واجتياحهم "معاقلنا". بين الإثنين داخت السلطة ولم تجد وسيلة حرب إلا هذه: قطعت المخصصات السنوية (600 دينار) بدون سابق إنذار، وهي مخصصات رسمية تصرف للجمعيات كلها من قبل وزارة الداخلية. لم نتمكن من تسديد فاتورة الكهرباء؛ فقطعت. بعد يومين قطعواً الماء، وأخيراً منعوا حارس الجمعية "نجم" من مواصلة عمله... كملت!
أخذتُ في صباح اليوم التالي من الدكتور قتيبة صك بمبلخ 1200 دينار تبرعاً وتحدياً، غطت كل نفقاتنا. أما الذي غطى وجودنا فعلا كان وشيج قلوب الأصدقاء من حولنا. وكان هذا أعظم الإيمان. في ظهيرة ربيعية دخلتُ الجمعية. وجدت "جوشن إبراهيم" قد أغرق الحديقة وأخذ ينزع الأدغال بيديه العاريتين. كنا ننظف البناية ونكنس محيطها وموقف السيارات أمامها، والقيام بالخدمات الأخرى... وتنظيم الحياة الأدارية. في الحقيقة لم يكن لنا غير "الجمعية" رئة واسعة لهواء مليء بالأوكسجين، فيما التلوث كان يسري في العروق والعقول خارجها. فكان لنا أكبر مهرجان ثقافي لم تشهد البلاد مثيلا له: مهرجان التضامن مع الشعب الشيلي.
في أسبوع واحد زحف الآلاف من بغداد والمدن القريبة إلى حدائق الجمعية ليشاهدوا الأفلام ومعرض اللوحات ويسمعوا الأغاني والقصائد. حارس الجمعية الذي منع من مواصلة عمله لدينا، كان يأتي كل مساء بسيارة كبيرة محملة بأهالي مدينة "البياع" لمشاهدة الأماسي. طبع لنا "ناظم رمزي" مطبوعات المهرجان مجانا. في نهاية إحدى الأمسيات همس إسماعيل فتاح الترك في أذني "الجماعة فقدوا عقلهم"، سمعتها وفرحت. إقتنى متحف "سلفادور اليندي" في المانيا الشرقية (سابقا) ثلاث لوحات عرضت في المهرجان. كانت لصلاح جياد، ولحيدر محمد ولسعد مبدر... أتمنى وأنا أتذكر تلك الفترة أن لا تخذلني حساسيتي للماضي. لقد كنا، بلا مغالات، جيل يدفع التخوم بصدر عريض. حرثنا الأرض وبذرنا بنكران ذات وتواضع، ولم يسعفنا الوقت لنحصد غير نقمة الفاشية وإذلالها.
لم يبق للسلطة من وسيلة إلا إتهامنا بالتزوير والأخلال بنظام الجمعية! مجرد التهمة كانت كافية لإغلاق الجمعية وتجميد عملها. ليلا بعد أن أنجزنا مهامتنا الإدارية، دخل علينا "ف. خ" يستدعينا مع وثائق الجمعية لإجتماع في محطة الإذاعة والتلفزيون يترأسه "الصحاف". كنا: السكرتير جودت حسيب ومدير الإدارة والمالية بيمان سعيد وعلي النجار وأنا. أخذنا قراراً جماعيا بالذهاب إلى جحر الأفعى، نحمل وثائقنا على رماح شجاعتنا. في الخارج كانت سيارة عسكرية بانتظارنا. على طاولة الإجتماعات تحلق فنانون ومسرحيون نعرفهم: إخوة لنا في المهنة... من ألقى يوسف في الجب؟ على طاولتهم كشفنا سجلات الجمعية وماليتها ومراسلاتها وقرارات العضوية، كلها سليمة ورسمية لا غش فيها. الأغلبية لا تفكر بالتزوير. نهاية الإجتماع هطلت المجاملات والتطمينات واستعراض الثقة بالنفس. خرجنا من الإجتماع وتركنا الأفعى في جحرها تبلع سمها.
خلال ذلك العام فتحت الجمعية فروعها الجديدة: في الموصل والحلة ودعمت فرع البصرة. سافرنا أنا وجودت حسيب للإشراف على تأسيسها وعملها. تواصلت نشاطاتنا بزخم أكبر. أنجزنا إسبوع التضامن مع ظفار وفلسطين الذي عقدت فيه اللجنة العليا للجبهة الوطنية أول وآخر إجتماع جماهري في تاريخها. إمتنع قتيبة الشيخ نوري عن حضور الأمسية، وانّبني على دعوتهم لعقد الاجتماع لدينا. كان يكره الطرفين. غطت وزراة الإعلام نفقات المهرجان، وحضر الوزير "حامد الجبوري" حفل الإفتتاح وحفل العشاء برفقة عدد من سفراء الدول الذين لبوا الدعوة. بعد شهرين أنجزنا إسبوع الطفل. كان إستعراضاً للخيال. فرشنا الأوراق والألوان في قاعة المعرض؛ فتكوم الأطفال على بعضهم يرسمون. صوّرهم "ناظم رمزي" طيلة الأيام. كنا بمثابة وزارة ثقافة موازية. ثقافة أحرار كان بامكانها أن تصنع وطنا جميلاً لو خُيّرت.
أراني الآن بعد ما يزيد على أربعة عقود من ذلك التاريخ والرماد في يدي؛ لست متحمسا لتفاصيل تلك الفترة كلها: معارض نوعية، ملصقات، جوائز، معارض عالمية، تصاميم كتب ودواوين شعر ونشاطات مهنية وحزبية... وإحتراقات الحب. تضافرت الأحداث اليومية على نحتها مع أنها كانت خياري الخاص والحر. إني معني هذه الساعة في البحث تحت رمادها عن "الميثاق الأول": المكان الذي أهجس، والمكان الذي أفتقد.
في صيف 75 فاض قلبي بعمل مركب وكبير: "الرمانة" – إقتناها قتيبة الشيخ نوري - مستدرجا خبرتي السابقة في ألوان ال "كواش" والورق المنقوع التي دفعها الكرافيك إلى خلف إهتماماتي طيلة السنين الماضية. رسمت رمانة كبيرة أسقطتها في أعلى اللوحة: رمانة محتقنة تبذر حباتها ذات العافية على سهول وهضاب تعج ببشر هائمين على وجوههم. عمل إيحائي ينطوي على سوريالية ذات حلم رقيق. حبات الرمان كأنها مطر مفعمة بالخصوبة تهطل على هضاب ووديان ناعمة كالأنثى. إستند البناء التشكيلي للعمل على قواعد الإنشاء التشكيلي لـ "انشاء الإنسان والأشياء". إسترخاء وشبق وخصوبة يشيعها الأصفر المختلط بالأسود: ألواني في رسوماتي الأولى. المكان في اللوحة مرتاح، ممتد ومسترخي، لا تثقله غير الرغبة المختبئة في الأجساد وكأنها تمارس طقوس عبادة أمام آلهة الخصب. كانت "الرمانة" أول قراءة دم بعد "إنشاء الإنسان والأشياء" إختبرتُ بها فاعلية ميثاقي الجمالي، لكنها فاجأتني بقراءة جانبية جديدة تنتسب للفرويدية ضمن تصوراتي عن الطبيعة وأشيائها. وكانت تلك المرة الأولى التي أجنح بها نحو هذا اللون من العواطف، لكنها لم تكن الأخيرة. بفعل إختلاطات الحياة التي عشتها فيما بعد، غار دمي "النباتي" عميقا واختفى خلف رهانات باطلة لمستقبل قريب لأزمة الوطن.
قررت الخروج من البلاد في نهاية 77 والسفر إلى روسيا، بعد زواجي بعام وأربعة أشهر. خروجان في آن واحد: خروج من الدين، فزواجي من مسيحية في الكنيسة يعني اقصائي عن دين الصابئة، وخروجي من الوطن. لا وقت للتفكير الطويل في مفترق الطرق. "المكان ضيق والزمان قصير"؛ فسافرت وحدي وتركت زوجتي في شهرها السادس. بعد أربعة أشهر استقبلتها في مطار موسكو وفي حضنها "مريم" ذات الأربعين يوماً. لم نعد للوطن حتى اليوم!
لم تبخل موسكو على رجل شبه صحراوي مثلي بغاباتها ومروجها الشاسعة. هناك حل في شراييني رعاف خفيف للدم ذاته. فعدت إلى أوراقي الذابلة في عمل كرافيكي صغير عام 1980. كذلك كانت: ورقة تطوف فوق سطوح القرميد لا يرقى اليها دخان المنازل الثقيل. لعلّ العمل يقدم برهانا آخر على ديمومة هواجس المكان وصلة قرباه بالنبات .
أبان دراستي هناك أنجزت عملي الكرافيكي التعبيري ذا المحتوى الروائي: "المفاصل" مستنـدا إلى يقيني بالعدالة الإجتماعية وخلاصة خبرتي في الرسم. المجموعة عمل مركب يجمع الحفر والتخطيط واللصق، ويزاوج في التعبير بين الرسم والرسوم الإيضاحية والملصق. في المحصلة هي بيان جمالي لصلابة روحية لأبطال نذروا أنفسهم للكفاح من أجل إنسانية أجمل. تستهل المجموعة مقولة الصحفي التشيكي "فوتشك" الذي أعدمه النازيون أبان الحرب العالمية الثانية:
"لقد كانت حياتي جميلة وسوف لن أفسد نهايتها".
إنها حكاية رجل موثوق الساعدين إلى الخلف في زنزانة على حجمه، يفتح عيناً على الحياة ويتغذى على ما يسترجعه من ماضيه. بين تعذيب وآخر تتداعى في خاطره العوالم الأثيرة إلى قلبه: عصافير البساتين، وزوجته ترفع رضيعها مثل بشارة تذكرنا بالعذراء تحمل بشارتها إلى العالم، حارته، وإمرأة تبيع أشياءها في زاوية البيوت الشعبية ذات الشناشيل، ورفاق السلاح الذين التحم بهم، وعمال المسطر ينتظرون رزقهم... كلهم يأتون في الفضاء الأعلى من اللوحة بينما يتكرر هو في أسفلها ثابتا في مكانه متماسكاً لا تغمض له عين... وأخيراً ظلال القتلة يواجهون أقدام جثة دافئة خارج المكان على مساحة بيضاء. إنها اللوحة الوحيدة التي اختصت بهذا اللون: تصعيد رأسي لإيقاع الفجيعة. "المفاصل" في آخر المطاف هي آخر إعترافاتي "الواقعية" وآخر مفصل في سلسة إمتدت سنين طويلة.
شهدت حياتي في موسكو الكثير من التشنج والإرهاق والمنغصات: حياة زوجية في بدايتها، وسكن طلابي ضيق جداً مع طفلين - مريم ومروان-. كلانا كان يحضّر لإطروحة الدكتوراه... والأدهى من ذلك كله، مشاكل التنظيم المستعصية والسياسة المنهارة. أكملت دراستي وعدت إلى الشرق عام 85. دخلت سوريا بجواز سفر أردني مزور. أقمت فيها ثلاث سنوات مع صغيري بجواز يمني جنوبي، حتى التحقت بي زوجتي وإبنتي. قضيت سنواتي في دمشق أعمل مصمما لمجلتي: "الثقافة الجديدة" و"الهدف". لم أرسم غير ثلاث لوحات فقط (صورة أمي، وصورة غائب طعمة فرمان الذي زار سوريا قبل وفاته بنصف عام، ولوحة" ارض الله الصغيرة" لجثة ملقاة في العراء، مغطاة بشرشف. شاركت فيها في معرض للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبقت لديهم). في نهاية 87 تم تأسيس كلية للفنون في طرابلس الغرب. سافرنا، هذه المرة، بجوازات عراقية مزورة. وكانت فرصة تناسبني وتبعدني عن عادات العمل وضائقة العيش. وفرصة أيضا لترك العمل السياسي والخروج من خنادق الحزب. لقد تعبتُ من تناقضاته السياسية وانهياراته الداخلية؛ فاحترمت عقلي وأمسكت بحياتي وغادرت بلا رجعة.
وجدت نفسي لأول مرة على تخوم الصحراء في مدينة ترخي خدها على ساعد بحر شذري، يكللها طوق من أشجار غزيرة الإخضرار. سماؤها مرتع غيوم مهاجرة مجهولة. مدينة آمنة يفوح في أجوائها أريج الأزهار. في المساء تطغى عليها رائحة البحر ورطوبته. أهلها كرماء طيبون. هناك كان لي دفاتري، والبحر كله، والغابة بأشجارها وأعشابها وأعشاشها، قنافذها، وكان لي شعبي السعيد: نيران، ومريم، ومروان، ومي، ويوم من أربع وعشرين ساعة أو يزيد:
سيأتي يوم تعثر فيه الأنهار على أشلائها في ركام البحر،
وعلى أسمائها في حوصلة النوارس.
يوم يصدّق خلّي أنه آخر الخلان،
وشرف يعوزني منذ الولادة.
ويوم مستحيل...
ننهض فيه من قبورنا،
نصافح بعضنا،
وننام من جديد.
سيأتي يوم ... تجلس فيه معاطفنا على الكراسي،
تحتسي الخمر،
ونغيب نحن تحت المناضد.
وسيأتي يوم آخر إثر يوم أخير؛
يوم ينشف الطين على هاماتنا تاجا للمهابة،
يوم يخرج النمل من أوكاره يغني:
" كل من شاء منكم أن ينقذ حياته، عليه أن يخسرها "
حينها نعيد للمقاصل هيبتها،
ونقطع عنق الرتابة.
أأنت الصباح الذي ينتظرني ... وهو يبكي؟
جحافل النمل عند جذوع الأشجار الهرمة تبني إهراماتها. الخنافس تدحرج منذ الأزل كرات من تراب مبلول. ناكدت واحدة وقلبتها على ظهرها وأخذت كرة التراب منها. ظلت ترفس الهواء ساعات حتى استعادت وضعها. رحت أنا بكرة التراب الندي بين أصابعي. ما كان ممكنا الاحتفاظ بها للحظات. تفتت عن تراب ما مسته غير الخنافس المقدسة، نقيا، مضمخا برائحة الجذور، ينطوي على ضمير الزرع وذاكرة العشب.
كان لابد لي أن أكرس روحي لذلك النشيد الأبدي الذي تأخر طويلا في دمي. عدت إلى أساليبي لإستدراج الرؤيا. لقد تعودت بعد كل انقطاع طويل عن الرسم أن أستعيد أرواحي عبر طقوس ساذجة، وكنت خائفا أن يعتريني دبيب العادة، التي تطرد الاحساس. زوّدت مرسمي بكل ما أعثر عليه في طريقي: أخشاب يابسة وأوراق تفسخت أغشيتها ولم يبق منها غير عروقها مثل "دانتلا نسجها الله"، أحجار وصفائح حديد صدئة أكلتها الأقدام في الطرقات، حبال وجلود ودواوين شعر وما أنزل الله به من سلطان. أشيائي القديمة ذاتها تضاعفت بأعداد غفيرة وتزاحمت في المرسم وسدت عليّ الطريق. لقد عادت اليّ أكثر رصانة يشوبها وقار لم أعهده وغادرها الطيش وأخذت تتأمل الغيوم وتقيم حوارات خرساء مع العشب. تتسلق الهضاب. تعقد أحلافا مع الوديان وتفترض خرائط للحياة وجغرافية جديدة للكون. كان عليّ تقديم براهينها.
رسمت ورقة على وجهها، قلبتها على ظهرها ورسمتها. رسمت غصناً وسياجاً. طبعت أعشابا يابسة وحبالاً. طبعت أشيائي كلها وكنت منتشياً؛ فما أريده راح يظهر على الورق. تلاشت المسافة بين يدي وقلبي. لاشيء يقلقني. بات عقلي وقلبي يعملان في وقت واحد، وهما ينعمان براحة الضمير. إنتهيتُ بعد عامين إلى مجموعة أسميتها "رسائل إلى الورد". رسمتها بكل ما كان ممكنا بين يديّ وفي روحي. هذا ما كنت أضمره: أن ينطبق عقلي وقلبي في فعل واحد. تسللت الـ "رسائل" عبر فجوات في حاضري حسبتها قد أغلقت بركام الأيام وراحت إلى بقاع أهملتها الذاكرة. تسرب شذاها عبر أنسجة رققتها السنون؛ فإستدعت جحافل من أرواح هائمة تبحث عن كيانات تسكنها.
وأنا أعيد قراءة الـ "رسائل" باغتني إحساس أنها كتبت في زمن غابر بلغة إثنية كنت يوما أجيدها. هذه المروج بسياجاتها، والأعشاب اليابسة، وحبال القنب، وخوص السعف قد عاشرتها وتمرغت عليها عاريا، وجرحتني قبل عقود من السنين. كنت خلالها أغدو ضميرا ومصيرا. لم تكن الـ "رسائل" المرسومة بالأسود غير مسودة ليوميات نباتية المذاق، عشبية الملمس والسحنة. دونت فيها ما يسعدني وما ينقصني من "ذاكرة الحاضر" و ذاكرة العشب.
ثلاث سنوات بعدها، قضيتها أطارد الأرواح، وأصطاد السمك، وأحاور العشب دون رسم أذكره. كنت أسمع نبض الحقائق يلازم نبضات قلبي، وأتحسس صدري مثلما تتحسس الحامل بطنها، أترقب الساعة ملتاعاً وحدي. في ليلة ما زلت أتذكر ليلها، بعد أن ركن الأولاد إلى النوم، نهضت بأعبائي، ورحت أستقرئ "ذاكرة العشب" التي دام مخاضها عشر سنوات. وضعتُ فيها ولها قرابة خمسين عملا كرافيكياً، ورسماً، وعدداً لا يحصى من التخطيطات. قبل مغادرتي طرابلس أتلفت قطع الزنك والنحاس الخاصة بها، وأحرقت دراساتها الأولية... كنت، وأنا أحرقها، أشم لحمي وهو يحترق وأشتم العالم كله.
لم يكن العشب يعني ساعتها غير ملمس لشعر جعد بين الأنامل، وأنا مستلق على ظهري مغمض العينين تحت شمس شتاء صحراوي، وفي الهواء زنوخة بحر قريب. لم أكن أحسب أن لمسة واحدة كانت كافية لإخصاب أنجب أفراداً وتوائم في مرج أخضر تحت الشمس. القابلة كانت غيوم بدوية تسرح عند الأفق. بعضها كأنه طيور رخ جبارة تحط فوق هيكل صدئ لماكنة فقدت معناها. كان العشب، والظلال الأليفة، والسماء الخفيضة، والريح مفردات في قاموس الرسم. هيكل حديدي طرقته الريح يرعى إلى جانبي، وأنا أرعى "بذاكرة العشب" على وقع مضخة ماء بعيدة تبدو قادمة من خمسين عاما خلت، تنفث حلقات دخانها مع إيقاعاتها المبحوحة. أشيائي تزدهي هذه المرة بألوان الزرع والهضاب والسماء وبأسرار مستترة تحت جوانحها وبين أوراق العشب. إنها أكثر حبوراً وأعنف رغبة تنهب المكان وتملأ بحضورها الكثيف فراغاته وتلهو بها كما تشتهي.
قبل هذا التاريخ بعشرين عاما، كانت "الرمانة" قد بذرت جيناتها في جسد الأرض؛ فأتت ثمارها في العشب وما حمل. أسفرت الأشكال عن نواياها بوضوح أكبر في أغلب أعمال المجموعة، وبتلميحات خفية في بعضها. فالعين لا تخطئ التعرف على أشكال، ورغبات معلنة في السهول، والهضاب، وهي تتبختر بانوثتها يغطيها العشب. وهياكل صناعية تتربص بها أو تجثوا فوقها ثقيلة مغرورة بفحولتها. ربما كانت الغيوم وحدها أكثر عفة، ترعى قريبة من الأفق غير آبهة بدنيانا. مع أنها لم تبرأ من هوى يتربص بها، مختبئا بين أوراق العشب، أو في ضميرها خلف إنحناءاتها الرقيقة .
"ذاكرة العشب" خضّبتها حقائق الواقع ومعنى الأشياء، واستنفدت كل ما لديّ من خزين للمناورة مع الماضي، وأستهلكت لغتي. ولدت خارج المدارس، لكنها تتكئ على جدرانها. فهي واقعية تنصلت عن واقعها، وتعبيرية تخلصت من تشنجاتها، وسريالية فقدت الثقة بأحلامها. إنها إكسير أعددته بعيداً في الصحراء وقريبا من "ذاكرة العشب"، التي هيمنت عليّ وفرضت سطوتها على حاضري. فكل ما حلّ بعدها ولد بين أعشابها وتضمخ برحيقها حتى غادرت طرابس نهاية 98 باتجاه النرويج.
نداء الاشيــاء
عبر غابات تايلاند في الطريق إلى ماليزيا قضيت ليلة أحتضن ابني في حافلة مكتظة بحالمي اللجوء، يقودها مهرّب. كل ما كنت أملكه: يقظة حادة ضاعفت خوفي ونبشت ما دفنته الايام، وجوازات نرويجية مزورة تدربنا على لفظ أسماء حامليها (الذين فقدوها)، والمعلومات الأساسية فيها. كان جواز سفري الذي يحمل صورتي باسم "أود". إكتشفت فيما بعد أنه أسم مؤنث. ذلك اليوم كان أطول ما شهدت حياتي، ربما لم يكن يوما. عبرنا فيه شرق أسيا وأوربا كلها وصولا إلى أوسلو عبر ثلاثة مطارات: كوالا لامبور، زيورخ، أوسلو. وبتنا في واحد منها. في صباح أول يوم في معسكر الاجئين أجبت ابني على سؤاله:
- هل وصلنا؟
- نعم! وصلنا... لا تخف!
أنا، ساعتها، مازلتُ أختض من رهبة الموقف. من فكرة أننا كان يرافقنا روح يحمينا. للحظة شعرت به دافئا إلى جانبي ويلتصق بي، أخفانا عن عيون عشرات الشرطة، ورجال الأمن، والكمارك، وموظفي المطار، وخطوط الطيران، و... أو أن عيونهم غشتها غشاوة. كيف أفسر وصولنا إذن؟
طوتني النرويج بعتمتها وضاعفت من وحدتي بعيداً عن الشمس. لم أعثر فيها على حب أنشده ولا جذور أقتات عليها. بعد أيام احتوتني "ليفانكر" ذات الخلجان السحيقة، والبيوت المتباعدة فراسخ... متناثرة فوق السفوح والقمم كيفما أتفق. كانت الطبيعة كعادتها في محني تفتح لي صدرها واسعاً، تهدهدني وتهدأ سري، وتعيدني إلى قراري. كانت عوني في تجديد معرفتي بالعالم. في تربتها وبين صخورها وأدغالها أعثر على ما أبحث عنه، وعلى ما ضيعته: فؤادي.
باتت فيّ رغبة منذ أيام روسيا في صياغة إيقونة خاصة بأهوائي على غرار الأيقونات الروسية بكل تقاليدها وحرفيتها. لكني كنت أناور كسلي طوال السنين بحجج المراهنة على المستقبل، الذي بخل عليّ بالموضوع. لم أكن راغبا أن أعيد ثقافة القرون الوسطى، ولا أن أكون مزوّقا ينام ماء الذهب تحت أظافره. كان تحت إبطي آنذاك كتاب "علي الشوك" "جولة في أقاليم اللغة والإسطورة"، مثل تعويذة ضد الخوف والإحباط اللذان كانا يتربصان بي. وأنا أقرأ عن الآلهة وطقوسها، وعن مواسم الخصب وقدسية الجنس، كان جميلا أن أتخيل الآلهة السومرية وحيواناتها على هيئة أيقونات تزخر بالطقوس الحرة، تعج معابدها بالبغايا المقدسة يؤطرها ذهب وفيروز بابلي. تضاعفت رغبتي حيث توفر لي المرسم، وخشب الأيك الخاص بالأيقونات. بمثل حاجتي لتصفيد الدم المحتقن في عروقي، كانت حاجتي لأرسم بحرية تعينني على مواجة أيام معسكر اللاجئين. كانت الآلهة كلها معي وكنت قوياً. جاء أنكيدو أول الزائرين. حضر في عمل ينقسم إلى نصفين تقابله في النصف الآخر بغي مقدسـة... كانا مؤطرين بنمانم بابلية وأكاليل آس. لوحة زاهية لآلهة في يوم عرسها. أيقونة "البغي المقدسة" كانت أكبر الأيقونات. تضم في فضائها العاجي حلقة من نساء مكتنزات بالرغبة في حركات شبقة مثيرة، يرقصن في معبد أمام آلهات قردة تبارك النساء بطرقها الإسطورية الخاصة. عذارى وضباء بابلية، أسود فارسية وكباش فرعونية، احتشدت في طقس مكرس للحب في إثنتي عشرة أيقونة أسميتها "طقوس
إنانا".
ما أن فرغت منها ألقيت جانبا موادها وما تبقى من دراساتها الأولية، كأنني كنت مكلفا بها مكرها. لاريب أنها كانت نزوة اعترتني، وأنا في أشد حالاتي يأساً، أوصلتني إلى مفترق طرق. أخطرها التزويق ومخاطبة عواطف إثنية سادت وسط فناني المهجر بذريعة الوفاء للينابيع الأولى، مع أنها كانت حاجة روحية للدفاع عن الذات ضد عملية السلخ التي يمارسها المهجر. أما الطريق الآخر فلم يكن أقل مشقة وهو التفكير بلغة جديدة لإسلوب لم أألفه من قبل. بعد أن أشبعت رغبتي منها أهملتها وعدت إلى عاداتي المزمنة في معاقرة الصيد.
ليس بهذا اليسر، على ما يبدو، تمر الأمور دائما. فتعاملي المتكبر مع الإيقونات واهمالي لنتائجها لم ينجيني من دوامة القلق بشأن تلقائية لغة الفن، والبحث في مصادر حيويتها وتجديد مفرداتها. الدوامة التي ابتلعتني مراراً في كل منعطف كنت أبحث فيه عن "عشبة الخلود". نظرياً كنت أرى أن الإيغال في المكننة، والاستخدامات الصناعية في الفن يضاعف من إغترابه، وانحساره عن الحياة الروحية للإنسان. يشدد من قبضة الثقافة والذوق الإستهلاكي على النتاج الإبداعي، بدءاً بمواده الصناعية وانتهاءً بإطاره الأنيق الزاهي. لكن عمليا لم يكن بين يدي وسائل أخرى لتحقيق فن يرافق الإنسان، ويشكل معرفة وذوقاً يحيطان به ويحميانه، كما كان في فجره الأول. فن تستحوذ ألفته على الوجدان بفعل أصالتها واقترانها بالحقائق.
كيف لي أن أكشف عن ذوقي في الرسم كما هو ذوقي في الوجود؟ أن يكون رسمي سلوكاً، وأن أقبِل على الانجاز وأنا غائب عن وسائطه؟ أن ألغي آلاتي، أقلامي، علب الألوان، الأبر الحادة، والمباضع ذات الأنصال البراقة، الإطارات... والمرسم برمته. عليّ إذن أن الغي عاداتي! وأتفرد مع الأشياء، أو أدعها تنفرد بي.
في ورش كلية المعلمين العالية في تروندهايم، التي اشتغلت فيها أستاذاً، إكتشفت شخصية جديد ة للصوف لم ألتق بها من قبل. كان وشائع كبيرة ملونة على هيئة طبقات واسعة، بحر من الشعيرات الملونة. شاهدت الطلبة كيف يعجنونه، ويلبدونه، ويصنعون منه لعبا، وقبعات، وقفازات بدائية الشكل... أشغال يدوية كما يسمونها. أدركت وأنا أمد يدي ألمسه، كم كان يعوزني الدفء والألفة، وكم كان يشبهني! أقدمت على تجربتي في اللبّاد مأخوذاً بتواضع الصوف وكفايته، وبحركات جسدي وأنا أعجن الخامة وأطويها، مستسلما لتحولات المادة من هشاشة إلى كيان متين. تفرغت كليا وبذهن صاف أسمع نداء الخامة وأتبع نسقها الخاص بلا أسئلة، ولا اعتراضات، وكأني خبرتها منذ الأزل. أليس الصوف أول ما لبسه الانسان؟ كانت بي رغبة أن أتلاشى بين شعيراته، وأفترض ذاتا جديدة. مرت سنوات ثلاث تدثرني وشائع الصوف. إنتهت إلى مجموعة تتجاوز الستين عملاً أسميتها "إشراقات". جاءت المجموعة مفعمة بالورع، محمولة على رؤى مكتظة بمعنى الأشياء لا بأشكالها، تسحب وراءها كل خزين جمالي اكتنزته بوعي أو بغير وعي، رست في آخر مطافها على تخوم الأشواق الغابرة ذاتها.
أعلنت عن ولادتها في معرض احتضنه كالري الكوفة في لندن، آذار 2003. آنذاك كانت طبول الحرب تقرع في كل مكان، والأرواح مهمومة مثقلة بمشاعر متناقضة من الأمل، واليأس، والإحباط. لكنها كأي ولادة تأتي في موعدها. وهي ككل ولادات الحرب كبرت بسرعة على ضفاف أيام تجري صاخبة لا تولي بالاً لأحد. يلفت إنتباهي الآن وأنا على أيام قليلة من افتتاح معرضي في "كالري الاورفلي" في السابع من نوفمبر2012، أي بعد قرابة عشر سنوات من ذلك التاريخ... ومازالت طبول الحرب تقرع، عجبا! أنكون أحفاد "آخيل" دون أن نعرف؟
منذ وصولي إلى تروندهايم نهاية 99 سكنت في محلة "سفار لامون"، وهي من أعتق محلات المدينة، تطل على البحر حيث الميناء القديم. إختارتها البلدية لي، وجاء إختارها متفقا وحاجتي. أعني؛ ما يمكنني الحصول علية والوصول اليه بدون مشقة. المحلة تقع في منتصف هلال بحري تفترشه المدينة بكل عناصرها من الشمال، والبحر بكل نوارسه، وصخوره السوداء من الجنوب. إنها مفصل حياتين، ومفترق علاقتي بالمكان. كلما خرجت من البيت، أتوقف برهة لأختار وجهتي. فإن يممت صوب الشمال يكون نهاراً منذوراً للغابة، وأشناتها، وأعشاشها الهرمة، منذوراً لنوارس البحر الناعقة بلا هوادة، وأصدافه المالحة... ولروحي المكتضة بالضوء. وإذا يممت صوب المدينة؛ أكون أما رب أسرة أنزل الله عليه رحمته ذاك النهار، أو متسكعا على ضفاف قنوات المدينة في مقاهيها، أو مبعثرا فوق حجارة شوارعها العتيقة. وإذا كان المرسم قبلتي... فهذا قدري الوجودي. غالبا ما قضيت ساعات وساعات لم أخط غير الخربشات، وشرب القهوة. كنت أفرش وأنام، أحيانا، بفعل واعز واحد لا غير: تأدية مناسك المرسم .
الحياة في "سفار لامون" تبدع نواميسها كل حين. خارطة يومها تتجاوز إطار الساعة اليومية. من الواقعي جدا أن أعثر على مخدور يغط بنوم عميق في وضح النهار على عتبة داري وبجواره إبرة هيرويين. أو مخمور في آخر الليل يتشبث بشباكي ليسند طوله. أو جارنا اللواطي ينام عاريا ويهمل الستائر مفتوحة. إذا رغب أحدهم زيارة صديق أو صديقة وفي أي ساعة من النهار أو الليل، فهو لايطرق بابه بل يقف عند شباكه ويناديه بأعلى صوته، ليفتح له الباب أو يناقشه بأمر ما.
بين المدينة والبحر والمرسم، في مغترق خياراتي ومفصل تأويلها، يقع بار متواضع أرتاده وأحظى فيه باحساس لايمت لوجود آخر أعرفه بصلة. أنعم فيه براحة عميقة مبعثها حرية رواده التي تغمرني، وتبدد عاداتي، وتهب الوقت ملمسا حنونا. لا أعرف أحداً فيه، كما أني أتلقى نظرات ثملة وكسولة تخترقني وتتابعني في دخولي حتى جلوسي على مقعدي المفضل بجوار النافذة. عبر إطارها الأحمر تستعرض بناية كونكريتية ضخمة، بناها الألمان أبان الحرب مصنعا للغواصات، وجودها الرمادي الخشن الثقيل. حاولت البلدية تلطيف كيانها ففتحت فيها نوافذ فضحت عمقها المخيف.
يهطل الثلج بلا معنى فوق سطوح الأشياء: الأشجار العارية، الشارع، العشب المتجمد، رؤوس المارة، وعلى كل سطح مكشوف. بعضه كان يهطل على روحي. رشفت قهوتي الحارة لأبدد إحساسا بالصقيع ينتابني. دخلت البار شابة لا تتجاوز الثامنة عشر، ربما تجاوزتها ولم أدرك. مشكلتنا أننا تعلمنا توصيف المرئيات؛ ففقدنا الإحساس بوجودها التلقائي الحر. حليقة الشعر كالغلمان في جمجمتها ناتئة العضام عينان زجاجيتان وضاءتان تحيطهما هالتان داكنتان، تدفع أمامها عربة أطفال، في منخريها، وحاجبيها،وشفتيها، مسامير معدنية. ألقت التحية على أصدقائها بأدب جم وبهدوء يشبه الصمت كما لو أنها تنطق وصيتها الأخيرة... في لسانها كرة حديدية صقيلة. الكل أطل بحنو على العربة يتأمل المخلوق فيها. أخرجته مقمطا بطول ذراعها وأسندته على صدرها. صدر منه ما يشبه الصوت، صوت من تحت الماء. ثغاء يأتي من سهول بعيدة في الأقاصي. رضيع ضئيل الحجم بدون ذاكرة، يتشبث بالهواء، ويلغي العالم من حوله. بعضهم مسه مسا خفيفا وربت عليه، كما لو كان قديسا تُستجدى بركاته. تطاول ثغاؤه وتململ مثل دودة مقمطة؛ فألقاني خارج المكان عبر النافذة . كان يقابلني كلب مرقط يبدو عليه الدلال، سمّر عينيه على الباب وهو منتصب القامة. كانت فرصة لأرسمه، ووضعت أول خطوطي. مر بجانبه كلب أسود قميئ، تأمله مليا ثم أقترب، وشم مؤخرته. أضطرب المرقط، وأخذ يدور حول نفسه. تراجع الأسود، ووقف يتمعن بالمرقط، يختبر دوافعه. قعد المرقط على مؤخرته متوجسا، وغيّر هيئته ومزاجه... لا رسم مع الكلاب! فعدت بعينيي إلى الداخل. كان كل شيئ قد تغيّر: الوجوه، والمكان أمسى أضيق، وأكثر عتمة. المسافة بيني وبين الباب امتلأت بالنوايا. أفرغت فنجان القهوة في جوفي، ففرغت من كسلي، وغادرت إلى المرسم... تناديني من هناك كائنات أخرى. في الطريق قرأت لنفسي مقطع لروبرت فروست:
"ثمة طريقان مفترقان في غابة، وأنا،
أنا مَنْ سلك غيرَ المطروقة منهما،
وقد كان ذلك هو الاختلاف بأسره.
بعد مجموعة "رسائل إلى الورد" و "ذاكرة العشب" المكرستان للعشب وما حمل، اللتان انشغلت بهما طيلة عشرة أعوام (89- 99)، بعدها لم ألطخ كفيّ بحبر الكرافيك. شغلتني ألياف الصوف البّده منتشيا بدفئ الخامة وشفافية معناها. تراكمت في مرسمي كما تتراكم لحافات البدو فوق بعضها البعض، فضاق بها صدري قبل أن يضيق بها المكان، فلملمت والشائع وركنتها جانبا.
مرسمي صغير جداً يحتويه مبنى كبير تابع لاتحاد الفنانين النرويجين. كان في يوم ما مدرسة ثانوية. إشتغلت أغلب الوقت في ورشة الكرافيك. كانوا يجددون أرضيتها المطاطية ويلقون القطع القديمة خارجا. قطع مطاط حفرتها ضروب الزمان: الأقدام، وأعقاب السجائر، والآلات الحادة. إنها جاهزة للطباعة! فعدت إلى لعبتي المحببة: الكرافيك. مع كل تحولاتي وانقلاباتي على نفسي لازمتني عناصر الطبيعة بفطرتها البكر. فكنت لا أغادر الغابة حتى أدخلها ثانية، أستجيب لندائها.
الأشجار... يا للغرابة! هل التقيتها من قبل؟ ملأت دفاتري بأسمائها فقد كان قلم في يدي:
أيقضني القنافذ، كان يأتيها الطلق.
النمل يسحلني الى أوكاره.
البيضاء، العارية، ذات الساقين: هكذا سميت الأشجار.
نزل سنجاب واثق نهب بندق من يدي.
صادفني ثعلب في الطريق، جمدت في مكاني وانحنيت له.
كنت أرسم الأشجار وكانت الأشجار ترسمني.
صنعت إكليلا من شقائق النعمان ذبلتْ على رأسي.
غرفت ماءً وشربت، تململ حلزون في راحتي.
تعرّيتُ، قالت الأشجار: هذا شبيهنا.
لم تعد الغربان تخافني لقد ألقيت عصاي وأطعمتها من خبزي.
إنشق البحر، حملته، سقطت قطرة منه؛ فعم الطوفان.
حزّمتُ أغصانا، صنعتُ كلكاً، وطفت.
الأمر الذي يلح على ذهني: هو وضوح وصراحة لغتي التشكيلية وبلاغتها. الشجرة لدي شجرة لا تحمل معنى آخر. تنطوي خضرتها على ألفة الأعشاش وعزلتها. هناك معناها في أعلى الاغصان. أشجاري عريضة المنكبين، واسعة الصدر، تفتح دفتيها لاحتواء العين، وتأخذها إلى أسرار مخبأة بين أوراقها. لحاءاتها متغضنة يغطيها عفن ينمو كلما طال التأمل فيه. لا تستر عيوبها ولاتدعي عفة فهي منخورة تارة، أو مغرورة بارتواء أوراقها. في لوحتي المسمات "شجرة بيضاء"، يحط قمر على متن شجرة، يمسها مسا رقيقا، فيغدو في الحال أخضر، وتستحيل هي بيضاء...أنها لعبة مكشوفة منذ الوهلة الأولى، لكنها لعبة خالية من الخديعة. كل ما فيها تبادل حر للخصائص بلا مساومات، ولا خسارات. كل منهما يكفل الآخر ويصرح بوجوده.
الوجود في اللوحات متناسخ، متنافذ، تتماهى كياناته مع بعضها البعض بدون وسائط، وبسلاسة يهيئها فضاء عادل نقي السريرة، يصون تعابيرها، ويبرر سلوكها. ليس في الأعمال إشكاليات تستدعي البحث عن حلول تشكيلية أو فلسفية، بل هي تنأى بالمشاهد بعيدا عن العقد وسوء الفهم بفضل طهرانية باطنها ونقاوة مظهرها. إنها معنية بروح الأشياء لا بسطوحها، بعلاقاتها لا بأشكالها. الأشكال وسطوحها، الجوهر والمظهر يخضعان لسياق العلاقة الوجدانية بين الأشياء المرسومة.
مشكلتي كما يبدو من تاريخي المبكر، منذ أول مرة عرضت فيها لوحاتي - في معرض مشترك في قاعة "إيا" للمعماري رفعت الجادرجي عام 65، عرضت فيه لوحة بالأسود والأبيض: جذعان أبيضان يتوسطان مربع اللوحة الرمادي- اقتناها في وقتها المعماري معاذ الآلوسي ومازالت في حوزته كما عرفت منه - مشكلتي تكمن في نزعتي الطاردة للسرد، ورغبتي في افراغ اللوحة، والأكتفاء بما يلزم منها، بما يكفي للدلالة على حياتنا. كياناتي أو كائناتي تنعم بأبدية وحدتها، مثلما تنعم الصور الشخصية: البورتريت. صور لكائنات نباتية أسميها أشجاراً. لكل شجرة أسم تعرف به. سعيت، كي أشبع وجودها وأبرر حياتها أمامنا، إلى تلبيسها مسح طبيعية، وأغدق عليها بنعم سطوح النباتات: شروخ، تغضنات، ثقوب، شقوق، عفن، تكسر، رطوبة، جفاف، وكل ما يلقيه التأمل اليومي على ضفافي من حقائق وألوان. مشكلتي مركبة تنطوي على نسيج معقد: سداها أني أسعى إلى تكثيف الوجود في كيان واحد، وأمنحه كل مايلزم، وما يعينه على البوح عن حقيقته، وعن حقيقتنها، ولحمتها أني أمتحن ذلك الكيان بكل ضروب العزلة، والوحدة، وأمثله بطلاً اسطورياً يتضور يأساً.
في هذه المجموعة لم أدن من تقنيات الكرافيك التقليدية، التي اشتغلت عليها. وضعت يدي على وسائط خام، وجازفت على هواي في تجريب لم أعهده من قبل، حتى أني عجزت عن تصنيفها. فيها ملامح الحفر، لكنها ليست حفراً. كما فيها ملامح من طباعة "الأوفسيت" بنقائها وصفاء سطوحها... لكنها ليست كذلك. قد تومئ إلى نسبها لطباعة الشاشة الحريرة بكثافة حبرها وصراحته... وهي ليست كذلك أيضا. إلى جانب غرابة المادة فقد أقصيت عن عمد أكثر الوسائل الميكانيكية التي ألفها الكرافيك، وقلصت فعل الآلة معتمدا على يديي في حراثة خدوشي وتضاريسي على الواح من مواد مختلفه وطبعت على ورق أسود.
أقمت للمجموعة معرضا خاصا في مكان ريفي كان معلفاً للأبقار؛ فعادت الأشجار إلى وطنها الأم تنتظر العصافير. كانت تستأثر بفضاء اللوحة، فليس هناك ما ينازعها عليه، غير بحر ضيق لملم نفسه يلوذ بأصغر مساحة في الأعلى، أو في الأسفل، وغيوم هي شرائط أضيق من أصبع، قانعة أينما يكون لها مكان... الكل ينسحب طواعية بنية صافية لا مراء فيها، ويدع الأشجار تعرب عن نواياها الخضراء، وتهبنا الأوكسجين. سعيت إلى بلاغة ملونة لا تكرار فيها. لاشيء زائد عن الحاجة. كل خدش له ما يبرره من أواصر مع من حوله. أشكال وخطوط متكافلة لا ينفك أحدها عن الآخر يثبت وجوده الخاص ويأكد وجود الآخر. أنها معادلات في الوجود تتجسد في هيئة ملونة، بمعنى أنها وجودية ملونة: تكون حرية كل شكل أو خط فيها رهينة بوجود شكل أو خط آخر، ووجودها مرهون بعدمه، وعدمه رهينة بوجودها.
في صباح نهار مغرور بفتنته توقفت عن الرسم. أخذتْ رعشته تضمر في أصابعي. دبيبه في القلب توقف بلا ندم. فقدت السيطرة على المرسم؛ فلفظني خارجه. أمسيت متشرداً، يطمر الغموض خيالي، وفقدت القدرة على التصور. الخلية السرية في عقلي، التي كنت أسميها رسماً، تلفت واختفت. أنا مشوش ومنبوذ. همس لي قريني:
- إترك الرسم! فأنت فعلتها من قبل... عدة مرات.
شكرته، وفعلت كما نصحني، وهذا ما يندر في حياتنا. فأنا وإياه نعيش في جسد واحد قطبان متنافران. مرة يكون هو العقل وأنا القلب، ومرة يكون هو الجسد وأنا الروح... ومرات لا نكون شيئا. قضيت عاما أتجول في الشرق الاوسط. زرت البحرين ولم أهتد إلى قبر أبي؛ فصليت على كل القبور. رحت إلى قطر، والإمارات، وعمان التي أحبها. أنا دائما أعود الى الماضي، لكني لا أعثر عليه، فهو لا يبقى في مكانه، يتركه ويسعى يلاحقني، ويختل خلفي. نداءات تتقاطع في عقلي، تطردني من مكاني. أفكاري تتجه صوب الكتابة تأكيداً للغياب. كتبت: "حكايات رعوية" ورسمت بعضها، وأهملت الباقي. كتبت مسرحية للاطفال "قوسان" مازالت مركونة في الإدراج. كتبت "قصص مجهرية" نشرتها على النيت. نشرت "يوميات المرسم" و" يوميات خارج المرسم" نشرت "مبررات الرسم" وملأت دفاتراً بـ "سيرة الرماد" وكتبت "دفتر الأسماء"... هل أكمل آدم الأسماء؟
الكتابة مرض طفولتي المزمن الذي لم أشف منه. المحطة التي أقمت فيها ما مر من عمري، التي كنت أراقب منها عربات الآخرين تمرق محملة وأقرؤها: أدب أمريكا الجنوبية، وأمريكا الشمالية، وإرلندا، وإنجلترا، وأوربا، وروسيا، والهند، وأسيا الشرقية والوسطى، وأفريقيا... وأدب بلادي. أغواني قريني أن أقف مرة على سكة الحديد تلك! وقفت... لم يأتِ قطار، ولم يمضي قطار. لكن مرة شاهدت قطاراً تائهاً يصفر في الفيافي! على عادته يبحث قريني عن فرصة ليثأر مني، ويسألني:
- هل من عاقل يترك الرسم بعد خمسين عاما، وينشغل بالكتابة وهو في الثامنة والستين، يتبع قطاراً تاها في الفيافي... ماهي فرصتك؟
أجبته: علّك تعرف قبل غيرك أني لا أبحث عن فرص. أنا أسعى إلى حيث بدأت، وسأقطع الدائرة إلى نهايتها.
كررت على مسامعه ما قاله ربي: يا يحيى خذ الكتاب بقوة!
حنى رأسه أجلالا وانسحب، وهذا كان هدفي، فهو لا يجادل بالله ككل الملائكة. لكني سمعت بعضا مما كان يتمتم به:
- ... أتاه الحكم صبيا...
وقدرت ما قاله: لكن ربك أتاه الحكم صبيا، وليس شيخا في الثامنة والستين من عمره.
على عادتي نبشت أوراقي القديمة. في أيامي الأخيرة في ليبيا، وضعت أفكاري الأولية على الورق لعمل مسرحي أسميته "نوح... مديح الحكمة واليأس". إنها استعارة تاريخية لعمل حديث ينص على الآتي: يفترض أن الله أغرق العالم لفساده بطوفانه العظيم، وانقذ نوح وذريته كونهم نماذج للفضيلة تبني عالما طاهرا يذكر الله. يكتشف نوح وهو على وشك مغادرته السفينة بعد أن جنحت للبر ونزل ركابها، أن في قاعها رجلاً غريباً مجذوماً. يعرف أنه النجار الذي بناها وكان قد بنى فيها مخبأً في قاعها واختبأ فيه طيلة شهور الطوفان؛ حبا بالحياة. كل عقيدة ملغومة بالشك! مادام الله قد اصطفى نوح لينقذ الخليقة والفضيلة، فلماذا يدس له في قاعها خطيئة، ممثلة بالجذام؟ (هكذا كان ينظر اليه). ماذا عليه أن يفعل؛ فالجذام آفة؟ إنه إمتحان جديد وكأنه لم يفعل شيئا ولم ينقذ الخليقة. خارج السفينة على البر يعيد التاريخ دورته ويأخذ البشر بالقتال وتدمير الحياة. نوح يشهد طوفانا جديدا: طوفان دم. نحن أحفاد نوح المعاصرين برهانا على هذه الحقيقة. بعض المشاهد تستعير من حروبنا المتعددة المعاصرة صوراً وأفلاماً وثائقية. يأخذ المجذوم وهو هرطوقي بتدمير ثقة نوح بربه، ويزعزع إيمانه والحجة بيده: إنه ما كان يفترض أن يكون فضيلة هو ليس كذلك! وأن الله ماكر أنقذ الخطاة، والقتلة، والمدنسين، واللواطيين، ليورط نوح بقضية أبدية كما فعل مع إبليس. نوح النبي الورع، الواثق من ربه والذي أنقذ الخليقة، يأخذ على عاتقه إنقاذ المجذوم من جذامه، ليثبت له عكس ما يدعى: أن الله لا يتركه لوحده ساعة محنته. لكنه وهو يمسح المجذوم بالزيت، يصاب هو الآخر بالجذام. تبدأ الإنهيارات: يأخذ نوح بالشك والتساؤل وعتاب ربه، كما يأخذ المجذوم بفقدان الحياة ببطء حتى الموت. المجذوم يُحرق بعد الوفاة، هكذا جرت العادة البدائية. يودع نوح المجذوم ويأبنه، ويرش السفينة بالزيت ويحرقها بمن فيها. في متن المسرحية، مشهد يلتقي فيه المجذوم والناس (أبناء نوح وأحفاده، الذين جاءوا يطلبون مشورة نوح لينقذهم مما هم فيه كما أنقذهم من الطوفان) يلقي المجذوم عليهم موعظته الهرطوقية في غياب نوح. مفادها أن الله لا تعنيه آلامهم ماداموا هم سببا فيها، وعليهم أن لا يثقوا به، وينتظروا رحمته، فهو قادم لعقابهم، وقد حان اليوم ليجلدهم.
النص يصعد الجدل بين الايمان والهرطقة، بين نسبية الحقيقة، ويقين العقيدة المطلق. يعيد الصراع الفضيلة والخطيئة. نص ملغوم بالشك والتشاؤم، إستند الى ثلاثة مصادر: النص التوراتي وتحديدا ما جاء في سفري "أيوب" و "الجامعة" وقد أخذت جملاً منهماً، والكوميديا الإلهية "لدانتي اليجيري"، والتصوف لـ "نيكوس كازنتزاكس". تسقط على المسرحية ظلال أفكار هنري برغسن بشأن الدين والاخلاق والواجب. نص مفعم بالقساوة لا رحمة فيه.
لملمت أوراقي، وأخذت أثمن كتبي، وسافرت إلى تونس؛ رأفة بنفسي.
الاسـتجابات
أنا تحت الشمس في القيروان! اليوم هو السابع والعشرين من كانون الثاني عام 2008. الشمس... من أكون لو لم تكن؟
وصلت مرهقا من سفر طويل، ملولا وأنا أنتظر حافلة تقلني من سوسة إلى القيروان. بجواري كان من ينتظر. التونسي يجيد الإنتظار في كل مكان؛ في المقاهي والمحطات وأبواب المؤسسات، بصبر مقدس موروث. إنه مدمن على امتصاص الوقت والقهوة السوداء الرخيصة. أخيرا،ً وصلتْ الحافلة، وجنحت صوب الرصيف تثير الغبار المتراكم، ونتف الأوراق، وأعقاب السكائر. أخذت مقعدي وفتحت الستائر المثبة بإحكام من أطرافها. كنت مستسلما لوشاح الضوء العليل لبقايا شمس عند الأفق. ما بيني وبينها كانت الفيافي ترتب مساءاً من بقايا دقائق نهار مهملة. أعرف أين تغيب، أغمضت عيني. كان الضوء يتسلل عبر جفوني أحمر قان، وكأن رعافا كان يسيل في محجريهما. بصوت متهدج أسمع من يتمتم بإسمكِ. آه نسيت... يالغبائي! أنه الليل الأعمى الذي تسلل يوما من خصلات شعرك الفاحم إلى أعماقي وتاه هناك، فمن يأخذ بيده؟
قبل الوصول للقيروان، من بعيد، تلوح منارة المسجد الكبير. من عليائها تلّوح للقادمين وترمي في طريقهم، حتى يصلوا أسوارها، تواريخ يابسة مثلومة كآجر جدرانها المسطر، وفقرائها المبعثرين في إزقتها، وزيتوناتها العجاف. القيروان مدينة لأهل الله فقط، بدون منازع. للفقراء وحدهم يفرش حائط المسجد العملاق ظلاله الشاسعة. الفقراء وحدهم يدركون بالممارسة حنو الجدران وعطف الزوايا؛ فيسعون اليها أينما قامت ويحمدون الله على كل حال... حتى لو أغناهم يوما سيحملون الفقير في داخلهم إلى القبر.
بت ليلتي الأولى في نزل كان أول ما صادفني في الطريق إلى مركز المدينة، فقررت الهبوط عنده. بناء مقام على الشارع الرئيس تحيطه أرض خلاء. إخترت أبعد غرفة عن الضوضاء. في الليل يغدو محيطه مسرحا للكلاب تمارس نباحها وعواءها ومشاريعها الماجنة. جمهرة منها كانت أول من احتفى بيّ ليلتها. إختلاف أصواتها عرفني على اختلاف أعمارها. درجات صوتها رسمت لي خارطة المكان وجغرافية علاقاتها. أخذت أنسج فضاء الكلاب، فهدهدتني تموجاته. في طفولتي كانت مبعث طمأنينتي وسر غفوتي.
غدا سأباشر عملي في المعهد العالي للفنون بالقيروان، واليوم هو الأحد! فقررت زيارة قرية "كان" في بوفيشة التي شهدتُ عمرانها عام 1990. وطن للفن تأسس من طين وأحلام وحب إثنين؛ "صلاح السماوي" و"نورة". في محطة الناقلات الصغيرة حجزت مقعداً في واحدة تنتظر اكتمال العدد. كان الطقس بارداً في الظل، فإجتذبتني الشمس إلى جوار رجل يمسك لفة خبز مكتنزة. القيت عليه التحية. لقد كان بإنتظارها ولاريب، فقد توقف عن الأكل. أطرقت برأسي إلى أسفل أتحاشى إحراجه. كان ينتعل حذاءً ممزقا متربا لم أتبين لونه الأول. يبدو أنه قد قطع فيافي شاسعة حتى وصل إلى المحطة. إنتشلني صوته من الغرق في بؤسه:
- تفضل!
وقدم لي لفه الخبز بيد مستقيمة. شكرته واعتذرت. دعاني مرة أخرى:
- تفضل بإسم الله!
إعتذرت وتمنيت له شهية طيبة. أعادها ثالثة، واعتذرت ثالثة. يأس مني وواصل طعامه... من أين للفقراء كل هذه الإرادة؟ قوتهم تتناسب عكسيا مع الفقر وتلغيه. من طريقة التهامه لطعامه كان جائعا ومابين يديه كل ما يملك، ربما لطيلة النهار... إنهم يكتسبون اليقين بالعدالة لأنهم أول ضحاياها وآخر كسبتها.
قبل أن تتحرك الحافلة أخذ مكانه إلى جواري، وكان قد ضم كفيه إلى إبطيه. لم أشهد له حركة. كتّف العالم بصمت وأهمل رأسه إلى الوراء. ملتُ بعيداً عنه لأمنحه أوسع مكان، وأمنح عيني مسافة لتأمل ترف نومه...
وأنتِ! كيف طلعت ِفي البرية كدخان المباخر، "معطرة باللبّان والمر"، حافية ترعي قطعان حزني؟
من توّجك على وحدتي في غفلة من الآلهة؟
أقول لك الحق: أنا مغرم برحيق القلق، والجمال الأليف، لذا أحببتكِ.
كثراً ما نعثر في شوارع المدن على ما خلفه الناس أو سقط منهم: مسامير، قطع حديد، مشدات شعر، نقود، وذهب أحيانا. لاشيء من هذا القبيل، ولاغيره في شوارع القيروان. الفقراء هنا لا يفقدون شيئا، ولا يتعففون عن التقاط أي شيئ يمكن استخدامه حتى لأغراض غير ما صنع لها. إنهم يجمعون كل ما سقط على الأرض ويتركون الأكياس، والعلب، والقناني البلاستيكية الفارغة، ملهاة للريح، تتقاذفها عجلات السيارات.
أحرص على اختراق المدينة العتيقة في طريقي إلى المعهد. تفتح الدكاكين أبوابها صباحا ويكنس أصحابها ماتجمع ليلا أمامها. بعصا طويلة ذات خطاف حديدي تُرفع قطع الملابس وتُعلق على إرتفاع عالي يكفي لمرور الناس من تحتها. لتستعرض ما يعرض منها، عليك أن تبقي رأسك مرفوعة، وأن توزن خطواتك وأنت تمشي على أرض غير مستوية وغادرة أحيانا. يتقاذف الناس التحيات. صادفني رجل على دراجته المتهالكة وهو يحمل كأسا طافحة بالقهوة السوداء وهو ينثر التحية يمينا وشمالا. بائع المقروض لا يمل من دعوة الناس الى تذوق حلوياته ويجبرهم على تذوقها إن وقفوا عند بابه بدافع الفضول. عشرات النساء يتجولن وعلى رؤوسهن مناشف للسباحة كبيرة بمثابة شال... ولم لا؟ مادام يستر الكتفين وملونا برسوم قطط، ودلافين، وفراشات، وأزهار. بعض الرجال يتعممون بمناشف أيضا أصغر حجما ومن مختلف الألوان. الفقراء يخترعون غاياتهم. في الطريق ذاتها كانت إمرأة تجمع نوى التمر من المربعات الترابية تحت النخلات على الرصيف. لقد جمعت كيساً كبيراً وغدت المربعات الترابية ممشطة ونظيفة. الأمر لا يسترعي انتباه الناس فالفقر نعمة فائضة بينهم.
أيقظني آذان الفجر كالعادة. المدينة عن بكرة أبيها تأذّن للصلاة! عقلي مرهق وجسدي ثقيل. غفوت وأنا أتابع الأصوات. أختلطت في دمدمة مدغمة وتراتيل باطنية. رأيت الله يأخذ بيدك إلى خمر نعاسي، ويجاريك خطوة خطوة. يرفعك كما الإرجوحة بينما أنحدر إلى الهاوية، ثم اختفيتما. ماذا كنتِ تفعلين برفقته في دمي؟
إلهي! ألم تقل لي:" سلام عليك يوم تولد..."؟
ها أنا منذ الأزل تنهشني ضواريك،
تسحلني عربات شياطينكَ في ساحات المدن الملعونة،
دمعةً واحدةً لم تُذّرفْ من أجلي... أنا أبنكْ!
أي ملائكة من حجر يحيطون بكْ؟
الهي، سكّنْ قلبي!
ودعني أنام إلى الأبــد،
ولا توقظني.
ثمة زرازير سوداء مخملية اللون مرقطة بأزرق مسود ذات منقار أصفر، تحط على الحائط المقابل لغرفتي مع الضوء الأول. تردد صوتا واحدا ذا موجة طويلة يشبه صوت إنسان يصفر للبعيد. بعضها يصدر صوتاً أقصر وأعمق ثقة. يسمي "داروين" هذا التلون حبا، ويقول: إن لم يعني ذلك الرغبة في الحب لذهب كل تغريد الطيور وعنائها أدراج الرياح، فهي تعيش وتعمل من أجله فقط.
في أيامي الأولي هنا صادفت عشرات منها في قفص تذبح وتباع للأكل! بجوارها كان صندوق ملطخا بالدم يعلق به زغب لم تبارحه رائحة الأعشاش، وريش أجنحة لم يتعب من الطيران. ثمة زنوخة موت تهيمن على المكان. في المقابل كان جدار مقبرة الأغالبة يجرجر ظلا ثقيلا مثلوماً على التراب. ساومت الرجل صاحبها واشتريتها حية بعشرة دنانير. لقد خدعني وكنت أعرف! إبتعدت عنه بضعة أمتار وفتحت لها القفص. طارت تتخبط بحريتها. رافقها قلبي وهي تختفي...
الليل يئن، يتسلل من شق في الصميم ويتشبث بي. لا تحصى قطعان هواجسي تنتظر في الخارج لتنهشني كما في الجحيم. قلبي جائع وعار. ينتابني شعور بأني أشرف على الجنون حين التفت إلى الخلف. هل يكفي السير إلى أمام للخلاص من ذلك؟ أمشي كل يوم وكأني أسير إلى الأبد... وكل خطوة تحيلني إلى نفسي وأكتشف في نهاية المطاف أني أسعى اليكِ.
خرجتْ أيامي من مدارها. لم أعد أنام بانتظام. أفيق قبل الفجر. أشتغل وأكتب وأعود أنام بداية النهار. آكل متى أجوع. أخرج من البيت متى ينتابني الملل. خلل في نظام الكون والبايولوجيا. من تعنيه حياتي؟ لا أحد! فمن يعبث بها هكذا؟ سبب ما يشتغل لوحده خارجها. لابد أن يكون هو: سبب الأسباب. أخذتُ أشتغلُ لوحدي بموازاته خارج المدار. أستجيب لندائه وأخضع لأهوائه. علّه يحسبني سببا من إسبابه. خرجت إلى البرية أتبعه، كما يتبع الأعمى عصاه.
يتبعني من شاء منكم.
الرأس الحاسر لا يقلق السماء مادامت الأفكار لم تولد بعد.
ليس من السهل أغواء القلوب الوحيدة، وهي تقتات على الجذور.
سياجات المزارع لا تمنع الغربان من النعيق.
ليرفع صوته من كان يغني منكم؛ فالله سميعٌ.
تطاردنا الخطوات.
لا حيلة لنا على الوقوف.
المنحدر شديد.
ننحاز إلى طريق أخرى،
نلف حول الهاوية كأجرام مشدودين إلى قاعها.
لا نحصي غنائمنا،
نحفر لها عند المياه وندفنها،
علّنا نعود كالمياه إليها...
قد لا نعود كالمياه!
من كان يائساً منكم، فليتبعني!
الحصاة السوداء في جوف الوادي تنبؤنا: أنّا "لا نعبر النهر مرتين"،
لهذا نسبح ضد التيار،
في قلوبنا طاقة يأس عظيمة لا تنضب،
إرادة جبارة على المضي إلى ما لا يتحقق.
بعيداً عنا، على الضفاف، يتنظر المتفائلون النتائج.
رجاؤنا أن نفقد الثقة بالأوهام...
أن لا نلتفت.
***
من مركبة مطلية بالمينا يهبط حلزون ليّن، يتثاءب، يسترخي قليلا، يزحف على مهل تحت الشمس، يفتح بدفته التراب الناعم، يرسم خلفه خطاً زئبقياً... طريقاً لقلب تائه.
***
رحم من العيدان اليابسة معلق بين السماء والأرض. قلب بدائي في الأعالي. تنبض فيه بيوض مرقطة، عارية، غامضة. كل صباح كان يسأل: متى تفقس ويرى المناقير فاغرة تهتف للديدان؟ هذا الصباح مر سرب طيور مهاجرة صوب الشرق، ينعق في رئة السماء. وهو يسأل: أليست التي فقست هناك؟ هل هي راجعة اليه؟
***
ربض أبو الهول ذو العين الثاقبة أمام الأهرامات يحرس الفراعنة الموتى، منذ خمسة آلاف عام بأرض الجيزة في مصر. لم يحرك ساكنا. جاثما على عتبة الوجود ينظر إلى أمام يتأمل... يتأملنا نحن .
كل ليلة مع حلول الظلام، يسمع أبو الهول الموتى يخرجون من قبورهم ؛ يتسابقون، يتدافعون ويتصايحون، ثم يعودون إلى مثواهم قبل بزوغ الفجر.
منذ آلاف السنين يتساءل أبو الهول: ماذا يفعل الفراعنة الموتى خارج قبورهم في الليل؟
في لحظة شك تاريخية أدار أبو الهول رأسه إلى الوراء. عند حلول الليل خرج الموتى على عادتهم من إهراماتهم؛ يتسابقون، يتدافعون، ويتسلقون على ظهره. يتزحلقون إلى الأرض ويعودون يصعدون. يتراشقون بالتراب، ويتزحلقون من جديد... وهكذا حتى آخر الليل. ثم عادوا إلى قبورهم.
أستيقظ أبو الهول ذو العين الثاقبة، حارس الموتى، مذهولا على حقيقة الفراعنة الذين يلعبون على ظهره كل ليلة منذ آلاف السنين في غفلة منه. أدار رأسه إلى أمام كما قدر له منذ الأزل، يرصد حقيقة أخرى... يرصدنا.
***
وقف عنكبوت على أطراف مملكته يتأملها. في قلبها المحكم، في تقاطع الطرق، كانت ذبابة أسيرة ترتجف وتختض. لم يدن منها، كان مستسلما للنعاس، يهدهده اهتزاز الشبكة.
***
نيكوس كازنتزاكيس يلتفت اليّ وينطق بالاشارة:
- ذاك مكانك، فلا تبرح!
بقلب غامض محتقن بدمه أرهفُ السمع. كل الأشياء من حولي تغني باسمي؛ أنا الإنسان المولود بلا سرة على هاوية الحياة.
- يا الهي... الإله المدجج بالحقيقة ! ماهي خطوتي القادمة؟ أصعد أم أنزل؟ لقد جبلتني أن أتبعك "أنجو أو أضيع معك".
اسمعه يقول:
- بعيدا ... بعيدا ... بعيدا، فيما وراءك، فيما حولك، فيما أمامك ثمة كيان للحظة واحدة عليك استيعابه! إنه كالفسفور يبلغ توهجه الأقصى قبل انطفائه. "كافح لتصل الى حيث بدأت" شِكْ بما تعلمته. علّمْ أقدامك المشي كما لو أنك تمشي لأول مرة. لا تسلك الطريق ذاتها إلى نهايتك، فلها مسالك عدة. دعها تألف خطوتك الفجة. لا تفسد طريقك الذي منه أتيت، فمنه ستعود إليّ.
قلت:
- علمتُ الطرقات كيف تمشي، ولقنّتها نشيد الخطوات، وكان طريقي طريق الله، فتبعتني الطرق، كما يتبع الأعمى عصاه.
قال:
- إرهن قلبك عند كل حجر وخذ ما يعادله بالقنطار تراباً. علّقه على الأغصان حيث تشهد الأعشاش تفقيس البيوض. إحفر حيث مملكة النمل ودعه يعلمك ديانة العمل. المسافة بين العقل والقلب واهمة وكاذبة. دعهما يعملان سوية كعضو واحد. "اوقد جوعك في القلب حيث أكون".
سألته: من أكون لافعل ذلك؟
قال:
- أنت إبني! حملتك في أحشائي وعداً يسوق الشمس. خذ جسدك المحتشد بالرغبات فهو كنزي الذي أورثتك اياه. بدده كما تشتهي في بقاع الأرض. أحرق سريرك فليس ابني من يبيت في مكانه مرتين. تشرد مثلي وأتبع قدميك أينما سعت "فموطنك... حيث يقف قلبك".
سمعته يناديني:
- "أنا المتشرد في الأبدان والأشياء، في كل ذرة في الوجود، ما تراه وما لا تراه"... دعني آخذ بيدك!
مسني؛ فاخترقت يدي نار عشقه... أحرقني صداه.
***
أيها النهر العجوز! الأعمى الذي يتلمس الشطأن وهو يجري. قلبي يطارك في النهار أينما تمضي. أسألك: أين تجوس في الليل؟ الليل الكروي الفارغ. ماذا لو ضيّعتَ طريقكَ؟ يا ويلي! كيف سأهتدي لمدرستي غدا؟
في هذا المكان، الحلفاء الطرية تخيط الماء، أسمع الظلال تغطس. قريبا من أسماك مختلسة، بعيداً عن مالك الحزين، أرمي سنارة جائعة.
***
الباعة يدخنون الأراكيل أمام دكاكينهم. الدكاكين ليست مغلقةً، إنما لا أحد يرتادها. السفن لم تصل بعد من جنوا... يقال أن قراصنة فينيقيون يجوبون البحار باشرعة حمراء خيطت في دمشق، والقوافل بركت في الصحراء: العرب في حرب مع البربر منذ عهود.
لا لبّانا حلوا، لا مرّا، لا زعترا من الجليل، لا حشيشةً من قندهار، لا عسلا أسود من عُمان، لا ملحا من زنجبار... لا مبشرينَ بالسيد المسيح، لا سحرةً من مراكش. لا نسمع غير بقبقة الماء في الأراكيل على الأرصفة .
***
هائما على وجهي. أجمع كمأ الكلمات أينما شهقت. لا أحملها على ظهر قلب. أتركها أكواما وأعود إليها في صباح آخر. أحفر لها تحت قشرة الأرض كالسنجاب وأدفنها، علّها تنبت صحائف تنبؤنا... كلمات في الندى تنزع قشرة المعنى وتذهب في شهوة الأشياء. كلمات تحسن الطيران بعيداً وتعود يتبعها سرب تائه من الأرواح. الكلمات التي تقود الأعمى في طريقه. التي تخبئ في القصب تاريخ الحروف. التي يحملها النمل إلى أوكاره بانتظار شتاء قارص. الكلمات الأخيرة في أوراق المنتحر. الكلمات المطرودة من الدنيا لخيانتها الأعراف. الكلمات التي يركع الجمال على ركبتيه حين تقوم واقفة.الكلمات التي تفضي إلى الله ؛ كم يبدو العالم مقتضبا إزاءها، وكم أبدو إنسانا وأنا أسمعها من فمه.
سهيل وقرينه
لطالما تهربتُ من الاجابة على سؤال يتردد دائما على السنة الفنانين ويباغت به الصحفيون ضيوفهم؛ من المبدعين، أثناء حديثهم عن تجاربهم الابداعية أو عن سيرتهم. والسؤال هو: عن ماذا تبحث؟ لقد غدا أحجية تستبطن الكثير من المكر والخبث.
بالأمس، 12 فبراير، تابعت حواراً مع "جمال الغيطاني" في إحدى قنوات التلفزيون. مقدم البرنامج كان يفتح أبواب الحديث ولا يغلقها، وراح سريعا الى السؤال السرمدي:
- عن ماذا تبحث؟
أجابه الغيطاني:
- لا أعرف!
عجبا! هل يمكن لمبدع كبير، وشيوعي أن لا يعرف عن ماذا يبحث، فيما كنا نحن نبحث عن قوْتِنا في كتاباته يوما ما؟ المبدعون يحرثون حقولهم ويبدون من بعيد انهم يبحثون. في الواقع أنهم يزرعون لا غير. وما علينا إلا إنتظار نهاية مواسمهم لندرك ماذا كانوا يفعلون. فليس بين الحراثة والبحث إلا نية واهية.
قلت لنفسي كنّ في مكان "الغيطاني" مع أني لا يمكنني أن اشغله، وأجب: عن ماذا تبحث؟ لملمت نفسي ورحت بعيدا في قلبي ولم أنم مرتاحا ليلتها، أبحث عن جواب صادق؛ عن ماذا أبحث منذ سبعة وستين عاما؟ إكتشفت في الصباح مع كوب القهوة، وبقايا نعاس، وحزمة ضوء لشمس فتية وفاتنة قبالتي على الطاولة، أنني لا أبحث عن شيء، فأنا لم أضيّعُ شيئا، ولا أفتقدُ شيئا محدداً، ولست بحاجة لشيء بعينه.
كل ما في الأمر أنني أعرف الرسم. أعرف كيف أرسم أفكاري وأصوغ أشياءً تستهويني وأراها جميلة وأمينة لذاتها. وما دمتُ أعرف الرسم فعليّ أن أقوم به بجدارة وأن أخلق أشياء نقية مخلصة للحياة ولا تفسدها ولا تتفسخ مع الوقت. كل خلق الله يقومون بأفعال يحبونها ويجيدون فعلها وأنا منهم. كذلك أعرف الكتابة وأمارسها بالرغم من أنني أفتقر للكثير من أسرار صنعتها. أكتب ما تبوح به نفسي من دون شروط ولا قواعد لغوية. أما صيد السمك وقضاء نهارات بكاملها وقلبي مرتهن بذبذبات الخيط، فذلك هيامي حين يطوقني البحر من كل الجهات، ويحاصرني من الداخل، وحبات الرمل تصقل راحة قدمي... يا الله! أعرف أن هناك أسماكاً تسبح قريبة من الطُعم غير مطمئنة له، لكنها غير آبهة بي؛ أنا الملتاع خارج الماء.
- عن ماذا تبحث، إذن؟
منذ عودتي من عمّان في الثامن من يناير، أجبرتني ظروف الثورة التونسية على قضاء أغلب الوقت في البيت، وهذا يعني في المرسم. كان في نيتي قبل السفر إعادة صياغة "أهواء الغربان" بأحجام كبيرة. وكنت قد جهزت حالي من أجل ذلك، فأنا في مرسم تغلب عليه حالة "مؤقت" وهذا يعذبني. أخرجت دفاتري العتيقة ورسمت خطة العمل وأعددت دراساتي، لكني أخفقت في إعداد قلبي. كان السفر إلى عمّان حلا مقتضبا ينطوي على هرب مفتعل لمواجهة الأمر، وأقنعت نفسي بأنه سيكون أفضل من "أهواء الغربان" التي جثمت على مخي منذ عقود.
- إذن! عن ماذا تبحث هناك... يا رجل؟
- عن صديقي سهيل سامي نادر الذي فارقته منذ أربعة وثلاثين عاما.
لا يرتهنْ وجود سهيل في حياتي بعدد الأيام التي رافقته فيها، إنما بعدد المرات التي رافقتني فيها أفكارُه وهو بعيدٌ عني، في دروبي الطويلةِ، المستقيمةِ والملتوية... التي تفضي والتي لا تفضي. لم أمض يوماَ في المرسم أو في الكتابة، لم أصادفُه أمامي أو أتقاطع مع أفكارِه في أحرج المنعطفات وأكثرها خطورة. لم نكن نفترق قبل أن أغادر العراق نهاية 77... يا للهول ما أفدح خسارتي التي لم أقدر جسامتها قبل أن ألتقيه هذه المرة. كم فاتني منه؟ كم فاتنا من العمر يا سهيل؟
من البديهي أن تسأل صديقك بعد فراق طويل عن سنينه الفارطة وتحكي له عن سنينك بالمقابل. بسلاسة نادرة وكمن يغرف ماءً لخص سهيل سنينه وقدمها لي: حياة سخيفة ! قالها بمرارة. كنت اعرف انه عاش حياة لا تليق به. لكني لم اكن اعرف كيف أختزل له سنيني بنفس البساطة واليسر... أنا المبعثر في نفسي؟
تحول سهيل إلى رمز كثيف المعنى في ذاته وأمام ذاته، لكثرة ما شرّحها وأعاد صياغتها. سنّها على حجر الحياة العراقية الخشن والجائر في أغلب مناحيه. صقل وعيه بحجر الفلاسفة حتى غدا لفرط ذلك رهيفاً شفافاً وغائباً في وضوحه... هل أبالغ بحق صديقي؟
- أنا أكره الوضوح... قالها لي وهو يعرف أنه في هذا البوح يذهب الى الضفة الأخرى من الوضوح حيث الوضوح الأعظم. سهيل يعرف ما تستبطنه الكلمات فهو إبنها البار، إبن الصحافة اليومية وغيرها، في شبكة أعصابها الحية كان يعمل منتبها على تفاصيل الحياة والثقافة والمجتمع والسياسية، انتباه حساس صنع منه مرآة للثقافة العراقية وضميرا حياً لها. سهيل يذهب الى الحقيقة من باطنها حتى يغدو أشد وضوحاً وهو يمسك بجوهرها المضيء.
أخذت في وقتها من صديقي علي عبد الامير عجام، صورتين لسهيل في نية خفية لرسمه ولم يكن في خلدي تقدير ما سأرسمه. لقد رأيتُ سهيلاً يتشكل كل لحظة. يكبر بإرادته. كيان تاريخي لم تكتمل صياغته النهائية بعد. حسنا... سأثبّتُ قماشة الرسم وعليَ قبل ذلك أن أتثبتُ من نيتي.
- عن ماذا تبحث فيه وهو غائب في وضوحه كما تقول؟
- أبحث عن قرائنه، علّي أعثر عليه.
بدأت ملامح قرين سهيل سامي نادر تظهر على قماش اللوحة: رأس مقطوع يذكرني برأس يوحنا المعمدان في الصور الكلاسيكية. هل ينتمي سهيل إلى هذا النبي بصيغة ما؟ لا أعرف. رأس ملفوف بجريدة يستقر على يسار طاولة ضيقة بعض الشيء، متبرماً، ناقماً، يزم شفتيه كمن أتعبه الكلام: ماذا فعلت بنفسك؟ بنظرة ثاقبة ينظر إلى اليمين حيث يجلس سهيل عند طرف الطاولة الآخر يسند عليها مرفقه وخده على راحة يده يتأمل الرأس الملفوف بجريدة.. ينظر إلى قرينه بهدوء تام. يدرسه عن كثب. إنه رأسه المنزوع عن كتفيه عنوة. بينهما على الطاولة بيضة دجاجة. يبدو أن أحدهما قد وضعها ليتهم ألآخر ويورطه بقضية مازالت مثار جدل حتى اليوم، مفادها: أيهما الأول أو الأصل؟ الحائط خلفهما محايد. من منتصفه حتى اليسار تماما يقع رف ضيق جدا. على طرفه الأيسر تقريبا في وسط اللوحة، رأس مقطوع آخر. إنه نسخة من رأس القرين إنما أصغر بقليل وأكثر تسامحا. يراقب سهيل وهو يتأمل قرينه ويحصي خلجاته. في الطرف الأيسر للرف شمعدان بثلاثة رؤوس من غير شموع. المسافة بين الشخوص الثلاثة محسوبة وكافية للعتب وحسابات العمر بلا استثناء، وفيها فرص متاحة لتذوق الفراغ والألفة. مسافة نضيع فيها، فيما يعثرون هم على انفسهم. كم مرة ضعنا في المسافة بين الأخرين وعثرنا على انفسنا مخذولين دون ذنب؟ من خذل الآخر فينا؟ الكل يرفع يده عاليا بريئا من دم أخيه. من أكل يوسف غير الذئب؟ كان لزاما عليّ أن أحيل اللوحة الى مختبر فرويدي لتقدير حالتها النفسية قبل البت في قيمتها. فهي ليست سريالية ولا رمزية ولا خرافية ولا... إنها حقائق قطّعها وعبث في ترتيبها أحد ما... أشك فيه!
الريش الحي
سنواتي الثلاث الاولى في تونس عشتها في القيروان. جغرافيا واجتماعيا كنت على هامش الريف. كانت تلك كافية لاعادتي الى حيث بدأت: قروياً. منذ نهاية العام السالف فضلت السكنى عند الساحل، في "أكودة" في سوسة على تخوم أرقى المناطق السياحية في تونس: "خليج الملائكة". وهي تلة مشرفة على خليج شط مريم في سوسة. تقطن التلة نخبة من مالكي رؤوس الأموال وكبار رجال الدولة. سميّ الموقع "خليج الملائكة" مع أن الأغنياء والملائكة لا يقطنان معا. أفترضُ أن الأغنياء لا يحظون بحب الله، أما الملائكة فهم ملائكة. لم يختلف الأمر كثيراً عن القيروان، فالدجاج يسرح في الطرقات الجانبية في "أكودا"، التي لا زالت أغلب بقاعها ينتمي للحقول والبساتين المحاذية، والأغنام ترعى على أرصفة سفوح التلة الخضراء. تحت الشقة التي أسكنها؛ وهي جناح من بيت حديث بكل مواصفاته، ثمة حديقة فيها قن دجاج: أربع دجاجات كسولات وديك فتي. متعة للنظر.
خلال هذه السنين تمكنت من إستعادة الكثير مما فقدته في حياتي المدنية. الكثير هذا يبدو قليلا بالمقارنة مع نشأتي الريفية الأولى. أجمل إستعاداتي كان التعايش اليومي مع الطبيعة وعناصرها، ومع العنصر الحي فيها: الفقراء. في هذه السنوات برهنت - لنفسي طبعا- أن وعيي يشكل الوجه الآخر للمواد الخام. أخذت أتعمد باستخدام لغة خام للتعبير عن دلالات الوجود. أليس الوجود مادة وروح خام؟ لا تعنيني إجابة الفلسفة على هذا السؤال، ما دمت في زحمة من العلاقات تختلط فيها الظواهر والأشياء باللغة. ضرب من العودة للطبيعة من دون مثال أو تنظيم: استسلام للظواهر، للأصوات والروائح، لمناطق الحسّ النائية، المكشوفة والمستترة. في آخر المطاف الركون للتجربة الذاتية. لغة المبدع هي تاريخه.
قلت أنني استعدت ما نسيته أو لم يكن بالأساس في بالي ولا في الحدود الضيقة لمعرفتي، من قبيل أنني أتذكر أن الديك يصيح في الفجر فقط! لكن يا لجهلي، فهو يصيح من الفجر حتى مغيب الشمس، وفي الليل أحيانا! يستعرض هيبته على من حوله من الدجاج ويفرض سطوته كديك. تعلمت منه عادة جديدة وأنا بانتظار يقظته وصرخته أن أستقبل الضوء الأول بعين لم تزل عاجزة عن الصحو، فيبدو العالم فيها قد جاء للتو: أثيري، مبلل بماء المشيمة.
تجربتي في الاشتغال على الصوف وتلبيده زكت عندي يقينا أخذ مع الأيام يستولي على مناطق شاسعة من حياتي. يقين أن للخامة بحد ذاتها حضورا مستقلا عن العمل الفني مع أنها تشكله. بمعنى أن مادة العمل هي وعاء لفكرة العمل. اللغة وعاء لفكرة المفكر. في هذا المختبر الجدلي إخترعت لنفسي عذراً جديداً لأشتغل في الوقت الضائع. هل هناك وقت غير ضائع؟ في الموت يُجاب على هذا. لكني الآن بصدد الحياة. وفكرت في الريش، في ألوانه، وشكله، وبدا لي أنني التقي به كخامة لعمل ما، وكواحدة من أفكاري عن المواد... هل توقعت أن يفعل ديك كل هذا بي؟
من أجل الريش كان عليّ أن أطوف أسواق القيروان، وأسواق القرى المتاخمة، والأخرى الواقعة على الطريق بين القيروان وسوسة الذي أقطعة كل يوم عمل. وسعّتُ دائرة البحث في القلعة الصغرى والقلعة الكبرى المحاذيتين لسوسة عن بائع للريش الحي. لم أعثر على من يفهمني بسهولة: الريش الذي أطلبه هو لغرض الفن! بعضهم صدّقني، لكن لا وقت لديه لريش حي ولا لفنان مغمور غريب الأطوار. بعضهم شك بأني أتاجر بالريش. إهتَدَيتُ أخيراً الى بائع للدجاج العربي: دجاج ريفي ملون الريش، قال لي إنه يلقي الريش في القمامة لأنه يتبلل اثناء العمل فلا نفع منه. كل باعة الدجاج والطيور الداجنة ينقعون المذبوح منها في الماء الساخن لسهولة نتف ريشها. لكني كنت أريد ريشا حيا ينتف من دون تنقيعه بالماء. سألته إن كان بإمكانه تزويدي بريش حي؟ أجابني: نعم يمكن! الحمد لله، قلتها في سري. أقنعته بغرضي من ذلك. بالمقابل أبلغني بأن ذلك يعطله عن العمل كما أنه يستدعي جهداً إضافياً وعناية خاصة. بدأت المساومات. كان يتململ وهو يتكلم ليجعل من المهمة غاية في الصعوبة. هنا قفز الساحر العظيم: المال! كان وسيط خير بيننا. ساومته على عشرة دنانير، ما يعادل 7,5 دولارات للكيلو غرام الواحد. مبلغ كبير في حساباته مقابل لا شيء: ريش! لكنه يعنيني كل شيء.
خلال شهرين تسلمت منه كميات تزن كيلوغرام ونصف، سعتها عشرين كيسا مملوءة. قرأ فرحي وحبوري بغنيمتي، فطلب سعراً أعلى. التونسي حساس إزاء المال، يسمي الدينار الواحد ألف، ليمنحة حجما أكبر وأهمية أعظم، والألف دينار مليون. أما عندما يطلب منك شيئا فهو يصغره إلى أبعد الحدود ويسميه: طريف ( طرف صغير جدا) ليهوّن عليك الأمر.
عثرت على بائع آخر في القلعة الصغرى في إحدى قرى سوسة. كان أقل بيعاً، وهذا يعني أقل ريشا. لم يطلب مقابلا، بل كان سرّه أن أزوره كل نهاية الاسبوع ليسألني عن العراق (أهل تونس يحبون العراق وأهله). لقد حدثني عما يعرفه عن الخلافة العباسية، ومن أنه بُنيت على أرضه أول حضارة في التاريخ... آه لو يرى العراق الآن؛ لا هو في التاريخ ولا هو خارجه؟ ولكي لا أبخس حقه وأرضيه كنت أشتري منه دجاجة كل مرة. بعد فترة إكتشفت أن صندوق التجميد في ثلاجتي الصغيرة لم يعد يتسع لكل هذا اللحم.
تدريبي الأكاديمي الأول جرى على يد استاذي فائق حسن، المعروف بقدراته وخبرته العالية، وعن طريقه ترسخت لدي تقاليد علاقة حميمية ومباشرة مع ما أرسمه، ثم بت حريصا وشغوفا بمعرفة طبيعة وسائلي، موادي ومصادرها. إنها مورد لغتي ونعمة روحي. ماذا سيكون مصيري لو اختفت من حياتي على حين غرة؟ عليّ أن أعرف كيف أخترعها. لكن ماذا عن الريش؟ كيف أخترعه؟ أخذ هاجس فقدانه يؤرقني. في عقلي رسمت دائرة أوسع للبحث، مديات أخرى، قرى نائية ومدن أقصى. فكرت أحياناً أن أتعامل مع متعهد يزودني بالريش الحي. يجمعه من أماكن، ربما من بلدان أخرى... لم لا؟ فالطيور في أفريقيا ذات ريش أكثر تلوينا وأمتن جسدا. أتذكر ما كان يسحرني في أفلام الهنود الحمر: الريش على الرؤوس؛ تيجان ملوك الطبيعة الأوائل. فكرت أيضا بشراء مزرعة أربي فيها طيوراً داجنة: دجاج، أوز، بط، ديك رومي، حمام، دراج، حجل، طيور الحِذاف العراقية. ربما استرجع الحمام الزاجل الذي هجرته في برج في ميسان وغادرت إلى بغداد عام 62... حسناً!
تدريجيا زادت خبرتي، وأخذت أتعرف على طبيعة الريش وأصنافه على جسد الطائر. فمنه الزغب، وهو رقيق جداً، أرق من خيوط الحرير. ومنه ريش الجسد، وريش الأجنحة، وريش الذيل، وريش الصدر، وريش البطن، والمؤخرة... أما صدر الحمام فهو أكثرها سحراً ورقة: بحر لازوردي تتماوج ألوانه مع الضوء. للديك ريش نادر؛ منشأ الريشة عادة ما يكون من الزغب بلون يتدرج إلى لون آخر في جسدها المغزلي حيث تغدو ريشة ذات شكل واضح تقارع الريح، تنتهي الى ذيل طويل بلون آخر مغاير. بعضه أبيض يتدرج الى حنطي اللون وينتهي بذيل رقيق أحمر قاني. أو رمادي خفيف، ثم أسود بذيل أخضر قاني... يا الله ماذا خلقت؟ الريش مادة متينة جداً لا تلويها أعتى العواصف. لها قدرة فائقة للتعايش مع المناخ، ثابتة اللون والرقة والضمير.
أنجزت ثلاث قطع: 150/120 سم؛ مرقطة يشوبها بياض في المساحة العلوية. في بياضها العاجي ريشات رمادية وسود. ريش يتعالى على غربته بعيدا عن الأجنحة. في أعطاف ذاكرته سماوات بعيدة وأعشاش عالية. فيها ما يُذكِرُ بحياتي.
القطعة الأخرى: 102/94 سم؛ صهباء بذوائب قانية الحمرة، من وسط القطعة وحتى أعلاها بضع خطوط سود عمودية. طائر واسع، متناهي في الكبر، يتمدد على مساحة شاسعة من الوجود. لم يعلن هويته بعد، إبتلعت "الحداثة" تفاصيله. "تحت جناحه حفنة من ريح" يُسمى: حنطاوي .
القطعة الاخيرة: 85/65 سم، خريفية المزاج. تتقاسمها اعمدة بيضاء وكأنها جذوع اشجار الايك. بعض الاعمدة أسود لم يصرح بهويته، يهيم في أرض غامقة الألوان، مترامية الأرجاء.
لا آفاق في القطع الثلاث. لا حاجة للطيور بها.
لم يكن في نيتي تأسيس تيارا بموازاة الرسم، انما مشروعا اجادل فيه تجربتي الشخصية السابقة التي تنص على أن للخامة تاريخ منفرد يستبطن ذاكرة تغذي اللوحة برؤى من خارج الرسم، ومن ثم فهو سجال مع الذائقة العامة. انها نزعة الفرار من التحنيط. انه جدل مع نفسي أولا وأخيراً.
في مراسم الفنانين: علب الوان وفرش، وقماش، وكل ما توفره صناعة الفن... في مشغلي لا شيء من هذا القبيل، بل علب كارتون كبيرة مليئة بالريش. حاولت فرزها في علب حسب طبيعتها والوانها. هذا جنون... فهي بالملايين. عَدِلتُ عن ذلك وبقيتُ مبعثرا مثلها. حتى أعثر على الريشة المناسبة عليّ أن أغوص في الصندوق أو أقلب سافله عاليه، والنتيجة: آخذ، إن لم أعثر على ضالتي، أية ريشة قريبة من تصوّري وألصقها، فمن يعرف ماذا يجب أن يكون عليه الحال... فكله ريش؟ نعم أنا أعرف هذا! أعرف أنها تجربة لا تخضع لثنائية الصواب والخطأ. تستبطن عدالة حسية تزكيها الطبيعة. لكن ريشة واحدة كفيلة بتغير الميزان. ميزان واحد: الوجود في كفة، أنا والله في الكفة الأخرى.