احتفل العالم في الثامن من مارس من كل عام بالمرأة، وسواء كان تاريخ الاحتفال بهذا اليوم يعود إلي مظاهرات العاملات في عام ١٨٥٦ أو الاحتجاجات التي قامت بها الحركة النسائية بنيويورك عام ١٩٠٨ أو حتي اعتماد الأمم المتحدة لهذا اليوم في عام ١٩٧٥ لان يكون يوما عالميا للمرأة سنجد أن تلك الحركات الحديثة نسبيا كانت تنادي بمكتسبات تمتعت بها المرأة المصرية منذ آلاف السنين وكان التمكين العلمي والاقتصادي والسياسي للمرأة المصرية احد بديهيات الحياة في المجتمع المصري وليس مجرد شعارات يُعقد من أجلها المؤتمرات والمنتديات ! دعونا نتجول بين صفحات التاريخ المصري الناصع ونلتقي بين ربوعها بفتيات مصر وفلاحاتها وسيدات القصر ذوات المناصب الرفيعة وعالمات متخصصات في شتي فروع المعرفة ونتعرف بفخر علي ملكات متوجات علي عرش مصر الي أن نقف بخشوع في بهو معابد الربات المصريات المقدسات.
ولان حضارة مصر العظيمة قامت علي التدوين فإن هؤلاء العظماء دونوا كل صغيرة وكبيرة في حياتهم اليومية والتي تعكس نظرة المجتمع المصري القديم للمرأة من حيث احترامها واعطاءها جميع حقوقها بداية من التعليم والإرث والزمك المالية المستقلة عن الزوج وتولي المناصب الرفيعة . فقد حرص حكماء مصر القديمة علي تقديم وصايا للازواج وعلي رأسهم (بتاح حتب) حين قال لابنه كي يهنأ بحياة زوجية سعيدة : "إذا أردت الحكمة فأحب شريكة حياتك، اعتن بها ترع بيتك، قرّبها من قلبك فقد جعلها الإله توأماً لحياتك، زودها بكسوتها، ووسائل زينتها، وزهورها المفضلة، وعطرها المفضل، كل ذلك ينعكس على بيتك، ويعطر حياتك، ويضيئها".(بردية بريس دولة وسطي).
كانت المرأة المصرية تحيا حياة المواطنة في دولة تحترم المساواة بين الجنسين ولم تكن قضية حقوق المرأة حينها مثار نقاش في وقت من الاوقات، مما يؤكده تعاليم (ميركارع) حين وصف الآدميين دون تمييز جنسهم بانهم (قطيع الاله) قائلا : " فلقد خلق الاله السماء والارض من اجلهم، ودفع بعيدا اخطار الفيضان من اجلهم، وخلق النسيم لأنفاسهم، لأنهم علي شاكلته خرجوا من بين أعضائه، ومن أجلهم يتألق في السماء ومن أجلهم خلق النبات والحيوانات والأسماك لإطعامهم" تمتعت المرأة المصرية بحرية مطلقة في اختيار زوجها ولم تكن هناك وصاية من الأب بل كان دوره نوعا من الرعاية فنجد احد النصوص التي توضح حرية الفتاة في التعبير عن حبها حين تقول : " أنت اكثر الرجال وسامة، إنني ارغب في رعاية شئون ممتلكاتك، عندما اصبح ربة بيتك، ويرقد ذراعك فوق ذراعي، وبذا يساعدك ويعاونك حبي"
وجدير بالذكر ان المرأة المصرية كانت حين تتزوج يسبق اسمها (نبت - بر) أي ربة البيت . منذ زمن بعيد كانت الفتيات الصغيرات يقبلن لتلقي التعليم المقرر للأبناء الذين يرغب آبائهم أن يكونوا موظفين بالدولة وان يصبحن كاتبات عظيمات مثل ربة الكتابة (سشات) وكان التعليم يفتح لهم ابواب الوظائف الرفيعة . وقد ظهرت الاميرة "إيدوت" في مقصورتها بسقارة وهي تتنزه بمركبها وقد اصطحبت معها معدات الكاتبة، وخلفها معلمتها "سش سشت" ومنذ الدولة القديمة تولت المرأة مناصب عديدة منها كبيرة الطبيبات "ميريت يتاح " المسئولة عن تركيب الأدوية في عصر الملك زوسر الاسرة الثالثة و كبيرة الطبيبات "بسشت" الاسرة الرابعة، وقد قام عالم المصريات " فيشر " بجمع اكثر من خمسة وعشرون لقبا ومنصبا تولته المرأة المصرية خلال الدولة القديمة ومن بينها، (المديرة، رئيسة المخازن، مراقبة المخازن الملكية، مفتشة الخزانة، المشرفة علي الملابس، مديرة الكهنة الجنائزيين، المسئولة عن الضياع الجنائزية المشرفة علي الاجنحة السكنية الملكية،)
أما في الدولة الوسطي نجد ان السيدة "تشات" مديرة ادارة الاختام ووكيلة اعمال "حتب الثاني" حاكم بني حسن والمسئولة عن جميع املاك الحاكم. كانت ابواب المعابد مفتوحة للنساء فقد كانت المرأة تلتحق بسلك الكهنوت ومعظم الالقاب الكهنوتية تعود للربة حتحور والربة "نيت" ربة سايس، قامت المرأة ايضا ببعض الطقوس الخاصة بالالهة الذكور مثل تحوت وبتاح، وكانت الكاهنة تحمل لقب (حمت نثر) اي خادمة الاله . اما اذا وصلنا لحقوق المرأة عند الطلاق فنجد ان عقد الزواج كان يتضمن اقرار من الزوج بانه سوف يعطيها قائمة من العطايا ويعطيها ثلث ما نكتسبه معا منذ اليوم . حين نتجول في جنبات القصر الملكي فسنجد الام الملكية الوصية علي العرش "ميري رع عنخ ان اس " ارملة "بيبي الاول " والتي حافظت علي عرش ابنها "بيبي الثاني" الي ان بلغ اشده.
ونصل هناك الي تل العمارنة تلك المدينة النائية التي بناها اخناتون بعد تركه مقر الحكم بطيبة ودور زوجته الملكة نفرتيتي في دعمه اثناء ثورته الدينية حين غلَّب المذهب الاتوني علي المذهب الاموني . وها هي جميلة الجميلات نفرتاري تقف شامخة علي صرح معبدها الذي اقامه الملك رمسيس الثاني لها خصيصا وقد سطر لها جملة خلدها التاريخ (يا من تشرق الشمس من اجل وجهها) وهاهي حتحور تتجلي في معبدها الرائع في دندرة تلك البقرة السماوية التي ارضعت البشر جميعا وايزيس الام الحامية عظيمة السحر (ورت حكاو) التي جلبت الخصب والفيضان الي ارض مصر الخضراء، اما ماعت ربة العدالة الذي وضع رمزها (الريشة) علي رأس القضاة والملوك فاصبح القول المأثور " علي راسه ريشة " نسبة اليها . وغيرهن من الربات المصريات (نفتيس، موت، سخمت، نيت، سشات) علي ارض مصر مارست المرأة حقوقها كاملة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وعلميا، كان التمكين حقيقة تعيشها بنات وفتيات وسيدات وملكات مصر وليس مجرد شعارات ترفع امام الميكروفونات . فعلي ضفاف نيل مصر الخالد خُلقت الحضارة وكُتب التاريخ .