"أمّا آمالي فهي ألّا يأتيَ العيدُ القادمُ إلّا والمصاعبُ قد زالَت والحقوقُ أُعيدَت إلى ذويها، فيعودُ صاحبُ الأرضِ إلى أرضِه، وابنُ القريةِ المشرد إلى قريتِه، فيكونُ ابنُ شَعبٍ في شَعب وابنُ الدامونِ في الدامونِ وابنُ هوشة في هوشة وابنُ إقرت في إقرت وابنُ كَفرِ بِرعِم في كَفرِ بِرعِم، وغيرِهِم مِمَّن شُرِّدوا." (ص257-258).
"كلَّما مَرَرْنا بطريقِ شفاعمرو حيفا ووَقَعَت أبصارُنا على ما على جوانبِها مِن أراضينا التي استُمْلِكَت وسُهولِنا التي اغتُصِبَتِ استنادًا إلى قوانينَ جائرةٍ تُخاِلفُ أبسطَ مبادئِ العدالةِ الاجتماعيَّة، وتَختلِفُ عَن غيرِها مِنَ القوانينِ العصريَّةِ فكيفَ نقولُ: إنَّنا أحرارٌ، ونحن أسرى القوانينِ التَعَسُّفيَّة؟!"
"ماذا يستطيعُ أنْ يقولَ في مثلِ هذا الموقفِ رجلٌ مِثلي وصلَ إلى هذه السِنِّ المتقَدِّمة، أيُداهِنُ وهذا لم يتعوَّدْهُ أم يُهاجِمُ وهو مِنَ الذين يكرهونَ الهُجومَ ويعشقونَ السلامَ وينادونَ بالإخاءِ البشريّ؟ ومِمَّن يعتقدونَ مُخِلصينَ بأنَّهُ على هذه الأرضِ مُتَّسَعٌ للجميعِ إذا حَسُنَتِ النوايا وزالَتِ الأطماعُ؟"
إزاءَ هذا الواقعِ في سَلْبِ الأراضي أخذَ الشعورُ بالغضبِ بينَ الفلسطينيّينَ يزداد، فظهرَت المقاومةُ ضدَّ الإنجليِز والحركةِ الصهيونيّة، وتمثّلَت في ثورةِ 1936 التي كانَ ثائروها مسلَّحين، وما رافقَها مِن إضرابٍ ومقاطعةٍ للانتدابِ ومقاتلتِهِ ومُحاربةِ الصهيونيَّة. ولكنَّها فشِلَت لأسبابٍ مُتعدِّدةٍ كانَ أبرزَها اختراقُ الحركةِ الصهيونيَّةِ عَن طريقِ عُمَلاءَ لها داخلَها، وكذلك ضغطُ الرجعيَّةِ العربيَّةِ الواقعةِ تحتَ السيطرةِ الإنجليزيَّةِ على زُعَماءِ الثورةِ لإلغاءِ الإضرابِ وبالتالي لإيقافِ الثورة.
إضافةً إلى ذلكَ وقفَ حازمًا إزاءَ قانونِ الإقامةِ الجَبريَّةِ الذي يفرضُ على الفلسطينيِّ الخاضعِ للإقامةِ الجبرّيةِ أنْ يُوَثِّقَ مكانَ وجودِهِ صباحًا ومساءً في مراكزَ عسكريَّةٍ أو شرطيَّة. كلُّ ذلكَ كانَ لإذلالِ الفلسطينيّينّ وكسرِ شوكتِهِم والاستيلاءِ على ما بقِي مِن أرضِهِم. كانَ جبّور يكتبُ المقالةَ تِلوَ المقالةِ لِيُهاجِمَ هذا الجَور، وكانَ يُرسِلُ الرسائلَ إلى المسئولينَ مَع أنَّهُ يعرفُ أنَّ آذانَهُم صمّاءُ لأنَّهُم ينفِّذونَ أمرًا كانَ مَقضِيًّا ولنْ يتراجعوا عَنه، وقد أرسلَ الرسائلَ إلى الأُمَمِ المتحدةِ أيضًا.
أعتقدُ أنَّ هنالكَ سببًا آخرَ مُهمًّا وهوَ ضَخامةُ المهمَّةِ التي يواجهُها عندَما يُفكّرُ بكتابةِ سيرتِهِ، لأنَّهُ عاصرَ أزمِنةً طويلةً جدًّا ومليئةً بالأحداثِ الكبيرةِ والمؤثّرةِ في تاريخِ فلسطين، وكانَ مُشاركًا فيها ممّا جعلَ استعادتَها على شكلِ سيرةٍ ذاتيّةٍ أمرًا بالغَ الصعوبة، إضافةً إلى أنَّ كتابتَها ستأخذُ الكثيرَ مِن وقتِهِ الذي ادَّخرَهُ للعملِ وليسَ للكتابة، مع أنّهُ كتبَ المقالاتِ والرسائلَ، ولكنَّ هدفَها كانَ المواجَهَةَ وإظهارَ المواقفِ مِنَ القضايا المعيشة.
اعتمدَ جامعُ السيرةِ على ما سمعَهُ مِن والدِهِ وما عرفَهُ عنهُ بشكلٍ شخصيّ، ولكنّهُ لمْ يكتفِ بذلكَ بلْ أضافَ إليهِ مقالاتِ والدِهِ المنشورةَ في مجلّةِ "الرابطة" والتي تُعتبَرُ وثيقةً هامّةً تناولَت مُعظمَ القضايا التي واجهَت صاحبَ السيرةِ والتي أثَّرت فيهِ وفي مجرى حياتِه، وشكَّلَت أفكارَهُ ومُعتقداتِه، وهيَ الجزءُ الوثائقيُّ مِن هذهِ السيرة.
اعتمدَ جامعُ السيرةِ على ما سمعَهُ مِن والدِهِ وما عرفَهُ عنهُ بشكلٍ شخصيّ، ولكنّهُ لمْ يكتفِ بذلكَ بلْ أضافَ إليهِ مقالاتِ والدِهِ المنشورةَ في مجلّةِ "الرابطة" والتي تُعتبَرُ وثيقةً هامّةً تناولَت مُعظمَ القضايا التي واجهَت صاحبَ السيرةِ والتي أثَّرت فيهِ وفي مجرى حياتِه، وشكَّلَت أفكارَهُ ومُعتقداتِه، وهيَ الجزءُ الوثائقيُّ مِن هذهِ السيرة.
أعطى الابنُ مُعِدُّ هذه السيرةِ تلميحًا للسبب:" ولعلَّ ما يزيدُ في صُعوبةِ هذه الْمَهَمَّةِ رَفضُهُ القاطعُ لِكتابةِ مُذَكِّراتِهِ بنفسِهِ،كما فعلَ ويفعلُ العديدُ مِن رجالِ الفكرِ والقَلمِ والسِياسة، رغمَ إِلحاحي عليهِ أنْ يقومَ بِهذه المهمّةِ وهوَ على قيدِ الحياة. إلّا أنَّهُ استمرَّ في رَفضِهِ هذا حتّى رحلَ عَن هذه الدُنيا... وحاولتُ طِوالَ هذه الْمُدَّةِ أنْ أَسبُرَ غَورَ هذا الرَفض، فلم أجِدْ لهُ تفسيرًا سوى ذلكَ الشُعورِ الداخليِّ الذي كانَ يمنعُهُ مِنَ التطرقِ إلى كثيرٍ مِنَ الأمورِ التي يَعرِفُها، هَدْيًا بالِحكمةِ القائلة: "ليسَ كلُّ ما يُعرَفُ يُقال"، فآثرَ الصَمتَ على الكلام، حِرصًا منْهُ على عَدَمِ الْمَسِّ بِشُعورِ الآخرين." (ص 5).
أمّا الإقطاعيّونَ السوريّونَ-اللبنانيّونَ الذينَ كانوا يمتلكونَ مساحاتٍ شاسعةً مِنَ الأراضي خاصةً في شمالِ فلسطينَ فقد تحايَلَت عليهِمِ الحركةُ الصهيونيّةُ واشترَتْ مِنهم آلافَ الدونمات، باعَ لهُم سرسق أراضيَ الساحلِ مِن رأسِ الناقورةِ حتّى مرجِ ابنِ عامرٍ بخمسةِ آلافِ ليرةٍ ذهبيّةٍ (ص38)، ويُشهَد لصاحبِ السيرةِ أنَّهُ وقفَ وِقفةً شريفةً إزاءَ هذه الصفقة، فرفعَ قضيّةً قضائيّةً ضدَّ سرسق لأنَّ جزءًا مِن هذه الأرضِ المبيعةِ كانَت مِن أراضي شفاعمرو، لكنَّهُ وجَدَ نفسَهُ في المحكمةِ أمامَ ثلاثةِ أعداء: مستوطنٍ صهيونيٍّ وحاكمٍ بريطانيٍّ وإقطاعيٍّ مُتَمَكِّنٍ (ص93) ، فلمْ يستطعِ الصمود، فحُكِمَ عليهِ لا لَهُ.
أمّا المطلَبُ الذي ناضلَ جبّور مِن أجلِهِ، واستمات في المطالبةِ لتحقيقِهِ فهو عودةُ النازحينَ والمشَرَّدينَ القابعينَ في المخيَّمات في ظروفٍ مأساويّةٍ خارجَ الحدودِ إلى وطنِهِم وبيوتِهِم وأراضيهِم، وكانَ يرى أنَّ المستوطناتِ اليهوديّةَ قامَت على أرضٍ فلسطينيّةٍ سُلِبَت مِن أصحابِها الحقيقيّينَ، ويجبُ أنْ يُعادَ الحقُّ لأصحابِهِ ويعودَ المشَرَّدونَ لأرضِهِم. يرى جبّور أنَّه:" إذا كانَت هُناكَ نوايا حَسَنَةٌ ورغبةٌ أكيدةٌ لِتحسينِ الأوضاعِ فَلْتلْغَ القوانينُ الجائرةُ أوَّلًا وَلْتُعَدِ الأراضي إلى أصحابِها، ولْيَرجِعِ اللاجئونَ إلى قُراهم، وعندَها نُسَلِّمُ بصِحَّةِ نظريَّةِ السياسةِ الْمُثلى والتَعاوُنِ النزيهِ لِتحسينِ الأوضاعِ ولا يبقى مَجالٌ للتَذَمُّر..." (ص238).
أما قانونُ تركيزِ الأراضي الذي خطّطَ لهُ موشيه ديّان وزيرُ الزراعةِ في مَطلَعِ الستيناتِ "لسلبِ ما تبقّى مِن أراضي العرب" فقد تصدّى لهُ جبّور جبّور ومعَهُ وقَفَ الكثيرونَ مِنَ الوطنيّينَ الشرفاءِ أمثال: إميل توما وحنا نقارة ويني يني وغيرِهِم لقيادةِ الجماهيرِ ضدَّ هذا المخَطَّطِ الجُهّنَّمِيِّ، وقد أثمرَت هذه الهبَّةُ الشعبيّةُ وأدَّت إلى إسقاطِه. في تلكَ الفترةِ أُقيمَتِ "الجبهةُ الشعبيّةُ للدفاعِ عنِ الأرض" التي تحوّلَت فيما بعدُ إلى "حركة الأرض" التي منَعَتها السُلطة.
حولَ كتاب "«شفاعمريٌّ بينَ ثلاثةِ عُهود»: (1)
السيرةُ الذاتيّةُ فنٌّ مِن فُنونِ الأدبِ لأنَّ مركزَها الذاتُ والوجدانُ، فتدخلُها العاطفةُ وتُكتَبُ بلغةٍ أدبيّةٍ مُعبِّرٍة عَن خَلَجاتِ النفس، أمّا السيرةُ الغيريّةُ فهي أقربُ إلى التاريخِ والوقائعِ والتطورِ التاريخيِّ والمعلوماتِ الدقيقة، فهي في لغتِها أشبهُ ما تكونُ بكتابِ التاريخ.
عاصرَ جبّور جبّور –كما قلتُ سابقًا- ثلاثةَ عُهودٍ للسيطرةِ الأجنبيّةِ السيِّئَةِ على فلسطينَ أرضًا وشعبًا، وكانَ لهُ رأيٌ هامٌّ يُقارنُ فيهِ بينَ هذهِ العهود، فرأى " أنَّ الإدارةَ العُثمانيَّةَ، ورغمَ كُلِّ مَظالِمِها وآفاتِ الفقرِ والجوعِ والمرضِ التي كانَت سائِدةً آنذاك، ورغمَ كُلِّ المعاناةِ والشَدائدِ التي واجَهَها شَعبُنا، إلّا أنَّ تلكَ الإِدارةَ كانَت على الأَقلِّ تَتميَّزُ بشيءٍ إيجابيٍّ واحد، أَلا وهو أَنَّها لم تُصادِرِ الأراضيَ مِن أصحابِها، بل احتفظَ أهلُنا بأراضيهِمِ التي هيَ أَثمَنُ ما يملِكون، ولم تَحرِمْهُم مِن خيراتِها،كما أنَّها لم تَطْرُدِ الناسَ مِن بُيوتِهم وتُدَمِّرْ قُراهُم، بل، على العكس، أبقَت أهلَنا يحتفظونَ بأراضيهم يفلحونَها ويرتزقونَ مِنها، حتّى أنّ الحاكِمَ العُثمانيَّ أصدرَ قانونَ تَسوِيَةِ الأراضي، وأجازَ، لِمَنْ يُثْبِتُ تَصرُّفَهُ بأرضٍ مُعيَّنةٍ لمدَّةِ عَشْرِ سنواتٍ، حقَّ امتلاكِها.. وذلك خِلافًا لِما فَعلتْهُ الإدارتانِ الاستعماريَّتانِ البريطانيَّةُ والإسرائيليَّةُ مِن بَعدِها." (ص 20).
قالَ هرتسل، الزعيمُ اليهوديُّ الكبير، في إحدى رسائِلِهِ لأَغنياءِ الشعبِ اليهوديّ:"عندَنا مالٌ وعندَنا عِلمٌ، ولكن تنقصُنا الأرض"... وهذه شهادةٌ ناطقةٌ مِن أحدِ عُظماءِ الرجالِ بأنَّ العِلمَ والمالَ لا يُغنِيانِ عَنِ اقتناءِ الأرض، مِمّا يدحضُ مزاعِمَ واضعي قانونِ الاستملاك الذين ظنّوا أنَّ ما جاءَ في قانونِهم مِن نُصوصٍ عَنِ التعويضِ الوهميِّ فيهِ الكفاية... وقد قيلَ إنَّ مَن لا أرضَ لهُ لا وطنَ لهُ... والأَدِلَّةُ على أهمِّيَّةِ الأرضِ وامتلاكِها كثيرةٌ يضيقُ المقامُ عَن ذِكرِ الكثيرِ مِنها.
كانَ جبّور بعيدَ النظَرِ يستجلي المستقبلَ ويتحسَّسُهُ ويعرفُ أبعادَ المؤامرة، ولمْ يكتفِ بهذهِ الوِقفةِ الشُجاعةِ أمامَ المبعوثِ الإنجليزيِّ بلْ أقدَمَ بكلِّ شجاعةٍ على إقامةِ لجانٍ قوميّةٍ شعبيّةٍ لِتُدافعَ عَنِ الوطنِ وعَنْ أهلِهِ الكرماءِ وعمِلَ جاهدًا على تنظيمِهِم لِتشكيلِ مُقاومةٍ حقيقيّة. ولمْ يتوقَّفْ عندَ هذا الحدِّ بلْ راحَ يبحثُ عَنِ السلاح، ولكنَّهُ فشِلَ في استحضارِ سلاحٍ ذي قيمة. كانَ يرى أنَّ أهلَ فلسطينَ أولى بالدِفاعِ عَنْها، ويجبُ استبعادُ أيِّ تدخُّلٍ للدُوَلِ العربيّةِ في شأنِها، لأنَّ هذا التدخُّلَ خسارةٌ كُبرى، وجُرِّب خلالَ ثورةِ 1936.
كانَ جبّور مُتَشَكِّكًا مِن موقفِ الاتّحادِ السوفييتيّ وكانَ يقولُ عنْه:"موقفٌ لا يُعتَمَدُ عليه"(ص54). كانَت حصيلةُ ثقافتِهِ ثمرةً ناضجةً على شجرةٍ باسقةٍ تتمثّلُ بحبٍّ جارفٍ لفلسطين، وانتماءٍ صادقٍ للعروبةِ وعِشقٍ لامثيلَ لهُ للأرضِ، لمسقطِ رأسِهِ شفاعمرو. وظلَّت هذِه الثمرةُ تنضجُ بالوطنيّةِ وتتكاثرُ بالقوميّةِ مدى حياتِهِ وخلَّدَتْهُ بعدَ مماتِه.
كانَت لجامعِ السيرةِ أهدافٌ يتوخّى أنْ تتحقَّق: مِنها التوثيقُ وتعميمُ الفائدةِ وكَشفُ حقائقَ عَنِ المرحلةِ الطويلةِ التي عاشَها صاحبُ السيرة، كعَلَمٍ مِن أعلاِم الحركةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ وحركةِ القوميّةِ العربيّة، وكرئيسٍ لبلديّةِ شفاعمرو وما مرَّ بها خلالَ الفترةِ الممتدَّةِ التي شغلَ فيها هذا المنصب.
كنتُ وأنا أُلاحِقُ المطروحَ في هذه السيرةِ ومضامينَها أُلاحظُ أنَّ كاتبَها تَعَمَّدَ الاختصار، وكانَ يستطيعُ أنْ يجعلَها مُجَلَّدًا كاملًا يُؤَرِّخُ فيها لمظالمِ أهلِ فلسطينَ في عهودٍ ثلاثةٍ مُتَتَبِّعًا مظالمهُم التي ارتقَت مِن مريرٍ إلى أَمَرَّ إلى الأَمَرِّ، فمتى يستريحُ الفلسطينيُّ مِن كُلِّ هذه المرارةِ ويشعرُ بالحريّةِ والاستقلالِ والسعادة!
لمْ يكنْ هذا الموقفُ ابنَ ساعتِهِ بلْ سبقَ فترةَ الانتداب، لقد شعرَ جبّور بهذا الخطرِ الصهيونيِّ الذي يُهَدِّدُ الوطن، وشاركَ نجيب نصار الذي يُصدرُ صحيفةَ الكرمل هذا الشعور، والذي كتبَ فيها مقالاتٍ عنْ هذا الخطر، ورأى أنَّ مجيءَ بريطانيا إلى فلسطين، حسبَ سايكس بيكو ما هو إلا تمهيدٌ واعٍ وفاعلٌ لإقامةِ وطنٍ لليهود، ولقهرِ الفلسطينيّينَ وطردِهم وتطويعِهم.
معَ انتهاءِ الحكمِ العثمانيِّ وبدايةِ الانتدابِ كانَ لصاحبِ السيرةِ موقفٌ مِن هذا الانتداب، يقولُ جامعُ السيرةِ عن صاحبِها:" بدأَ يُدرِكُ - بما كانَ يتمتَّعُ بهِ مِن بُعدِ نظَرٍ وفِطنة، وحِسٍّ قوميٍّ مُرهَفٍ، وذكاءٍ فِطريٍّ مُتَّقِدٍ، وعقلٍ نَيِّر - أنَّ أرضَ فلسطينَ مُستهدَفةٌ، وأنَّ الخطرَ مُحدِقٌ بِها مِن كلِّ جانب ..وبناءً عليهِ شعرَ أنَّ هُناكَ حاجةً ماسّةً لِبحثِ هذه الظاهرةِ الاستعماريَّةِ الجديدةِ والخطيرةِ وتأثيرِها على مُجتمعِنا الفلسطينيّ، وأَقصدُ بذلك ظاهرةَ الإنتدابَ البريطانيّ، ناهيكَ بأنَّ المجتمعَ الفلسطينيَّ ما كادَ يتخلَّصُ مِنَ الاحتلالِ التركيِّ الذي بقِيَ يرزحُ تحتَ وطأتِهِ فترةً طويلة، وما أذاقَهُ مِن مرارةِ القَهرِ والاضطهادِ والاستبدادِ والجهلِ والمرض، حتّى اُبْتُلِيَ بالاحتلالِ الإنجليزيِّ وما رافقَهُ مِن مؤامراتٍ دوليّةٍ رهيبةٍ حيكَت ضِدَّهُ." (ص 28-29).
مِنَ المعروفِ أنَّ الأرضَ التي كانَ يمتلكُها العثمانيّونَ "الميري" تحوَّلَت بشكلٍ مُباشرٍ مَع بدايةِ الانتدابِ إلى نفوذِ الإنجليزِ وقد حوّلوا ملكيَّتَها بدورِهِم إلى الوكالةِ اليهوديّة.
وأثّرَت في ثقافتِهِ ووعيِهِ أيضًا أُمُّهُ التي كانت تمتلكُ ذاكرةً ثاقبةً، ومعرفةً واسعةً بأحداثِ ما جرى في فلسطينَ وفي الوطنِ العربيِّ في الفتراتِ السابقة، فكانَ كثيرَ الاستشهادِ بها.
وأُحيّي مِن صميمِ القلبِ زميليَ المرحومَ إلياس جبّور الذي جمَعَ هذه السيرةَ عَن والدِهِ جبّور، فأصبَحَت ذكرى لتخليدِهِما معًا، فواللهِ مَن كتَبَ سيرةَ شهيدٍ لَهوَ شهيدٌ أيضًا، والشهيدُ عندَ اللهِ حيٌّ لا يموت.
واضحٌ أنَّهُ يُفضِّلُ العهدَ العثمانيّ، وكانَ يتحدَّثُ عنهُ في الفتراتِ اللاحقةِ بحنينٍ جارفٍ لأيّامِهِ الخاليةِ مِنَ الهمومِ بالرغمِ مِن شظَفِ العيشِ وسوءِ الحال، وكانَ الحاكمُ العثمانيُّ يهتمُّ بالتعليمِ فأُقيمَت مدرسةٌ حكوميّةٌ في شفاعمرو استمرَّت بتقديمِ خدَماتِها طيلةَ فترةِ الانتدابِ حتّى العامِ 1948، وكانَت الحكومةُ العثمانيَّةُ توفدُ الطالبَ المتفوِّقَ في هذِه المدرسةِ كلَّ سنةٍ على حسابِها إلى كلّيةِ القصرِ العينيِّ في القاهرةِ لاستكمالِ دراستِه. والجديرُ بالذِكرِ أنَّ رجالَ الهاغانا كانوا يحاربونَ بسِلاحٍ تشيكيٍّ " منحَتْه الدُوَلُ الاشتراكيّةُ لليهودِ بواسطةِ صموئيل ميكونيس رئيسِ الحزبِ الشيوعيِّ آنذاك" (ص54). والجديرُ بالذِكرِ أنَّ هذه الثورةَ بدلًا منَ أن تستهدفَ الإنجليزَ والصهاينةَ صارَت تستهدفُ الشخصيّاتِ الفلسطينيَّةَ، وكانَ جبّور جبّور مِمَّن تعرَّضوا لمحاولةِ اغتيالٍ في هذا المجال. (ص42-43) والسؤالُ الذي يفرضُ نفسَهُ هو: لماذا لمْ يكتبْ جبّور يوسف جبّور سيرتَهُ الذاتيّةَ بنفسِهِ؟ وتظهرُ جُرأَةُ الرجلِ، وعلى رؤوسِ الأشهادِ في الكلمةِ التي ألقاها أمامَ القيادةِ الإسرائيليّةِ يومَ عيدِ الاستقلال، وأقتبسُ مِنها فقرتَينِ تُظهرانِ مدى إخلاصِ الرجلِ وتمسُّكِهِ بالمبادئِ وصراحتِهِ المتناهيةِ وشفافيّتِهِ وعدمِ تملُّقِهِ لهذه القيادة: ودلالةً على حبِّ أهلِ شفاعمرو لمديرِ ناحيتِهِم العثمانيِّ الذي كانَ يُعامِلُهُم معاملةً حسنةً أنَّهُم ودَّعوهُ عندَ انتهاءِ عملِهِ بكلِّ تقديرٍ واحترام.
وعلى الرغمِ مِنَ الطُغيانِ والجبروتِ إلا أن جبّور كانَ يدعو الناسَ إلى عدَمِ مُغادَرةِ أراضيهِم وبيوتِهم حتّى لو استُشهِدوا فيها:" انطلقَ يُجري اتِّصالاتٍ معَ العديدِ مِن أصدقائِهِ المخلِصينَ مِن رِجالاتِ البلادِ وزعمائِها، أمثالِ المرحومِ يوسف بيك الفاهوم، رئيسِ بَلدِيَّةِ الناصرةِ في ذلك الوقت، وغيِرِه مِن زُعَماءِ القُرى المجاورة، المعروفينَ بوَعيِهِم وإِدراكِهم لِمُجرَياتِ الأُمور، وحَثَّهُم على مُناشَدَةِ أهلِ فلسطينَ بعَدَمِ مُغادَرةِ البلاد، كإجراءٍ واقٍ لِمَنْعِ وُقوعِ النكبة، والحؤولِ دونَ إفراغِ البلادِ مِن سُكّانِها الأصليّين، وتركِها لُقمةً سائغةً لِلمُهاجِرينَ اليهودِ الجُدُد، وعدمِ السَماحِ لهم بالاستيلاءِ عليها، ولكنْ هيهاتِ! مَنْ يسمعُ صوتَ العَقلِ هذا، وسطَ ضوضاءِ الفوضى العارمةِ التي اجتاحَتِ البلاد... وموجاتِ الذُعرِ التي سيطرَتْ على المواطنين، وهُم يتحقَّقونَ مِن أنَّ مُدُنَهُم وقُراهُم أصبحَتْ مُسْتَباحَةً وليسَ هناك مَن يدافعُ عنها؟!!!" (ص58).
وعلى الرغمِ مِن أنَّ صاحِبَ هذه السيرةِ هو المرحومُ جبّور يوسف جبّور ابنُ شفاعمرو ورئيسُ بلديّتِها لفترةِ حوالي خمسةٍ وثلاثينَ عامًا (1934-1969) إلّا أنَّ مَن جَمَعَها وأَعَدَّها وكتبَها عَن والدِه هو المرحومُ الزميلُ إلياس جبّور، وهذا يُحوِّلُها مِن سيرةٍ ذاتيّةٍ (أوتوبيوغرافيا) إلى سيرة غَيريّةٍ (بيوغرافيا)، والفَرقُ بينَهُما كبير، فكاتبُ السيرةِ الذاتيّةِ يكتبُ عَن نفسِهِ وعمّا مرَّ بِه مِن أحداثٍ مُبرِزًا مشاعرَهُ تجاهَها سابرًا أغوارَ عواطفِه، بينما يهتمُّ كاتبُ السيرةِ الغيريّةِ عندَما يتناولُ سيرةَ الآخرِ بالواقع الذي مرَّ بهِ صاحبُ السيرةِ والأحداثِ التي واجهَتْهُ أو بما رَشَحَ عنهُ مِن يوميّاتٍ أو مقالاتٍ أو رسائلَ أو ما يحفظُهُ عنهُ مِن ذكرياتٍ أو معايَشَة.
وقفَ جبّور جبّور ضدَّ المخطَّطاتِ الانتدابيّة، وقارعَها بصريحِ العِبارة، وحاورَ المسئولينَ البريطانيّين، ويتَّضِحُ ذلكَ مِن خِلالِ حوارِهِ مَعَ المبعوثِ البريطانيّ:" كانَ والدي يعلمُ علمَ اليقينِ أنَّ المؤامرةَ التي نُسِجَت خُيوطُها بدهاءٍ وببراعةٍ فائقةٍ، ستُنَفَّذُ بالتأكيدِ في نهايةِ المطافِ وفقَ الخِطَّةِ المرسومة، ووفقَ النتيجةِ الحتميَّةِ للتحالُفِ العربيِّ الرجعيِّ معَ الاستعمارِ والصهيونيَّة .. ويستذكِرُ حديثَهُ معَ المبعوثِ البريطانيِّ الكبيرِ الذي جاءَ في مَهَمَّةِ "جسِّ النَبض" لدى زُعَماءِ البلادِ العربيَّة، والاطِّلاعِ على مَجرى تفكيرِهم ونظرتِهِم للقضيَّة، فعندما سألَهُ المبعوثُ (لا بَلِ اتَّهَمَه): "لماذا تُعارِضونَ إِقامةَ دولةٍ يهوديَّةٍ صغيرة؟" فأجابَهُ بالحقيقةِ الصارخة: "إنَّكم عازمونَ أيُّها البريطانيّونَ على إِقامةِ وطنٍ قوميٍّ يهوديٍّ حتّى لو عارضْنا وملأْنا الدُنيا صُراخًا!" ويجيبُه المبعوثُ البريطانيُّ الكبيرُ: "بلى يا سيدي" ويُتابِعُ مُقارَعَتَهُ بالحُجَّةِ المنطقيَّة:"وما الذي يمنعُ مثلَ هذه الدولةِ الصغيرةِ مِن إِقامةِ أكبرِ الأساطيلِ الجويَّةِ والبريَّة والبحريَّة واحتلالِ الدولِ العربيَّةِ بأسرِها"!!.." (ص47).
وكانَ دائمًا يُردِّدُ أمامَنا:" "غدًا سوفَ يُهاجِرُ يهودُ الاتِّحادِ السوفييتيّ إلى فلسطينَ لاقتلاعِنا مِن أرضِنا والإقامةِ مَكانَنا، لأنَّهُ لا يُمكنُ لإسرائيلَ أنْ تكتفيَ بملايينِها القليلة، بل ستفعلُ المستحيلَ مِن أجل ِجلبِ يهودِ الاتِّحادِ السوفييتيّ البالغِ عددُهُم بينَ 2-3 ملايينَ نسمةٍ (حسب تقديرِه)، وهُم في غالبيَّتِهِم على حَدِّ رأيِه مِنَ المهندِسينَ والكيميائيّينَ والأطِبَّاءِ والمثقَّفين!!... ومِن بينِهِم أيضًا عُلَماءُ ذَرَّةٍ وعلماءُ فيزياءٍ ورياضيّاتٍ وغيرِ ذلكَ مِنَ الميادينِ العلميَّةِ الهامَّة ..." (ص55).
ولا يُمكنُني أنْ أُنهيَ هذه العُجالةَ إلّا بأنْ أقول: إذا كانَ الرجلُ مُخلِصًا لِشعبِهِ كلَّ هذا الإخلاصِ فكيفَ يكونُ الأمرُ بالنسبةِ لمدينتِهِ شفاعمرو! يكفي أنْ نُشيرَ إلى الفترةِ الطويلةِ الممتدَّةِ التي أشغلَ فيها مَنصبَ رئيسِ البلديّة (35 عامًا)، ومِن ثَمَّ اعتزالِهِ بإرادتِهِ لِنعرفَ مدى محبَّةِ أهلِ شفاعمرو وتقديرِهِم لهُ لِنزاهتِهِ في الدفاعِ عنهُم وعنْ ممتلكاتِهِم وأراضيهِم وتنفيذِهِ لمشاريعَ حيويّةٍ للبلدة، ممّا أهَّلَهُ أنْ يكونَ للمدينةِ وجهَها الرائدَ ولفلسطينَ وجهَها الأمثل.
ولكنْ تبقى الحقيقةُ أنَّ أحلى هذه العهودِ مُرٌّ، وما تلاه أيْ عهد الانتدابِ كانَ أمرَّ مِن سابقِهِ لأنَّهُ بُنِيَ على وُعودٍ كاذبةٍ مثلِ تخليصِ العربِ مِنَ السيطرةِ وإعدادِهِم للحريّةِ المرتقبةِ وتهيئَتِهِم للاستقلالِ التامّ، وفي الحقيقةِ إزاءَ هذه الوعودِ البرّاقةِ وعدٌ صادقٌ للحركةِ الصهيونيّةِ بإقامةِ وطنٍ قوميٍّ لليهودِ في فلسطينَ واعتبارِ أهلِها الحقيقيّينَ مُجرَّدَ طوائف. لقدِ استماتَ الانتدابُ البريطانيُّ في مؤازرةِ الحركةِ الصهيونيّةِ طيلةَ فترةِ وجودِه، بتشجيعِهِ للهجرةِ اليهوديّةِ وسرقةِ الأراضي مِنَ العربِ وبيعِها صُوَرِيًّا لليهود، وقمعِ الحركةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ والتخطيطِ التامِّ مَعَ الحركةِ الصهيونيّةِ في تنفيذِ رغبتِها بإقامةِ الوطنِ القوميِّ اليهوديِّ الذي تمَّ الإعلانُ عنهُ مُباشرةً معَ الإعلانِ عَن إنهاءِ الانتداب. وترى بريطانيا بهذا أنَّها قامَت بتنفيذِ صكِّ الانتدابِ على فلسطينَ، وأنَّها أعَّدتِ الشعبَ للاستقلال، ولكنَّها بدلًا مِن أنْ تُعِدَّ أهلَ فلسطينَ الحقيقيّينَ للاستقلالِ فقد قامَت بحرمانِهِم مِن حقِّهِمِ الطبيعيِّ بلْ وساهمَت في سرقَتِهِم وقهرِهِم وطردِهِم مِن وطنِهِم، وبالمقابلِ قامَت بتأييدِ غيرِهِم ودعمِهِم مادّيًّا وعسكرًّيا ومعنويًّا، وحفَرت لهُم ومعهمُ الأساسَ لإقامةِ بيتِهِم على أرضٍ تُدرِكُ بريطانيا أنَّها سليبة، لأنَّها شاركَت في عمليّةِ السلب.
وممّا زادَ في تفتُّحِ وعيِهِ وجودُ مكتبةٍ عامرةٍ في بيتِهِ توفَّرَت فيها كُتُبٌ هامّةٌ ومجلّاتٌ مثل "المقتطف" و "النفائس العصرية" و "المقطم" و "الهلال" وصحيفةُ "الكرمل" لصاحبِها نجيب نصار وكانَت تصدرُ في حيفا.
ومِنَ القضايا التي حاربَ جبّور مِن أجلِها إلغاءُ الحُكمِ العسكريِّ الذي استمرَّ حوالي ستَّ عشْرةَ سنةً (1948-1964) عانى خلالَها الفلسطينيُّ مرارةَ العيشِ والتمييزِ والقمع، حيثُ قُيِّدَ بتصاريحَ عسكريّةٍ تسمحُ لهُ بالانتقالِ مِن مكانٍ لآخرَ مَع تدخُّلٍ سافرٍ بشئونِهِ الداخليّة، وقد فُرِضَت قيودٌ على عملِهِ وخاصةً في مجالِ التعليمِ إذْ تدخّلتِ السُلطةُ العسكريّةُ بتعيينِ المديرينَ والمعلِّمينَ حسبَ هواها على أنْ يكونوا خانعينَ ولا يقفونَ ضدَّ الجَور.
ومِن أهمِّ هذه المظالمِ التي دافعَ عَنها قضيّةُ الأرضِ ومصادرتِها من قِبَلِ الدولةِ اليهوديّة، لأنَّ نهبَ الأراضي لم يتوقّفْ مَع قِيامِ الدولةِ بلِ استمرَّ مِن خلالِ مُحاولاتِ مُصادرَةِ أراضي مَن بقِيَ مِنَ الفلسطينيّينَ في هذه البلاد. لقد وقفَ، بكلِّ حزمٍ ضدَّ قانونِ الحاضر-الغائب وقانونِ الأراضي البور اللذَيْنِ سنَّتْهُما حكومةُ إسرائيلَ " التي تدّعي الديموقراطيةَ زورًا وبُهتانًا" لتجعلَ عمليّةَ السلبِ أوِ النهبِ "مشروعةً"، يقولُ جبّور:" ولكنْ لم نسمعْ بأنَّ حُكومةً أعطَت نفسَها صلاحيَّةَ نَهبِ أراضي فريقٍ مِن سُكّانِ البلدِ الواحدِ باسمِ القانونِ لإعطائِها لفريقٍ آخَرَ ...
ومِن جِهةٍ أُخرى فهيَ سيرةٌ لمدينةِ شفاعمرو التي مثَّلَت نموذجًا للتجمُّعاتِ الفلسطينيّةِ وما آلَت إليهِ مِن تَغيُّر عبرَ تبدُّلِ الاحتلالِ الذي فَرضَ نفسَهُ على أهلِها. ويا لَلغرابة! لقد استقبلَ الفلسطينيّونَ الاحتلالَ الإنجليزيَّ بفرح، يقولُ جبّور:" لم يكنْ هؤلاءِ الفلسطينيّونَ البُسطاءُ الأبرياءُ الأَتقياءُ القُلوبِ على دِرايةٍ بِما يَنتظُرهُم على يدِ هذا الدخيلِ الغريبِ القلبِ واللِسان... فعندَما كانوا يُحَيُّونَ جَحافلَ الجنودِ البريطانيّينَ الداخلةَ إلى فلسطينَ دُخولَ الفاتحين، لم يخطُرْ ببالِهِم أنَّهُم باستقبالِهِم لهؤلاءِ يُوَدِّعونَ وَطَنًا كانوا فيهِ آمنينَ مُطْمَئِنّينَ رغمَ تَعَسُّفِ التركيّ، ورغمَ فظائعِ البَطْشِ والتعذيبِ والتنكيل.. فعلى الرغمِ مِن ذلك، لم يُحاوِلِ الأتراكُ أبدًا اقتلاعَ هذا الشعبِ المغلوبِ على أمرِه مِن أراضيهِ وبُيوتِه، وسَلبَهُ وطَنَه..." (ص 31).
ويتحقَّقُ قِيامُ إسرائيلَ لِتكتمِلَ مأساويّةُ النكبةِ ولِيَحِلَّ العهدُ الأَمرُّ (الأكثرُ مرارةً) على الإنسانِ الفلسطينيِّ مِنَ العهودِ الثلاثةِ التي يرصدُها جبّور:" كانَ وَضْعُ العربِ خِلالَ العهدِ الإسرائيليِّ أشدَّ وَطْأَةً وقسوةً وظُلْمًا مِمّا اختبروه خِلالَ العهدَينِ العثمانيِّ والبريطانيِّ ، وكانَ والدي بصِفَتِهِ رئيسًا لبلديَّةِ شفاعمرو، وأمينًا على مَصالحِ أهلِها، وبحُكمِ مَكانَتِهِ كأحدِ القادةِ الوطنيّينَ، قد تصدّى للمَظالمِ التي لحِقَتْ بِمَن تبقّى مِنَ العربِ في فلسطين، كما فعلَ خِلالَ العَهْدَين السابقَين." (ص59).
يأتي هذا الكتابُ كسيرةٍ ذاتيّةٍ لشخصيّةٍ بارزةٍ في الحركةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّة، عاصرَت ثلاثةَ عُهودٍ مِن تاريخِ فلسطين: العثمانيَّ والانتدابيَّ البريطانيَّ والإسرائيليّ،وامتدَّت تجربتُها على مساحةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ وزاخرةٍ بالأحداثِ التي تُؤَرّخُ للقضيّةِ الفلسطينيّة، منذُ بداياتِها، فأصبحَت شاهدًا واعيًا على مُجرياتِها وتفاصيلِها، ومِن هُنا تأتي القيمةُ التاريخيّةُ لهذه السيرة. يتناولُ الفصلُ الأوّلُ مِنَ الكتابِ بداياتِ حياةِ صاحبِ السيرة: مسيرتَهُ التعليميّةَ التي شكَّلتِ المدرسةُ الأُسقفيّةُ مِدماكَها الأوّل، فقدْ تخرَّجَ مِنها لِيعملَ بِها مُدَرِّسًا لمدَّةِ ثلاثِ سنوات، ثُمَّ تركَها ليعملَ مُساعدًا لوالدِهِ مُختارِ القرية، وتحوّلَ عامَ 1920 إلى تاجرِ أقمشةٍ بمشاركةِ صديقِهِ ونسيبِهِ فيما بعدُ رضا عزّام، وكانَ يعتمدُ على البضائعِ المستورَدَةِ مِن سوريّا ولبنان، فكانَ يُسافرُ بشكلٍ مُتواترٍ إليهِما حيثُ يتواجدُ مِحوَرا القوميَّةِ العربيّةِ في كُلٍّ مِن دمشقَ وبيروت، وقد شهِدَ ميلادَ الدولةِ العربيّةِ الكبرى، وخالطَ مُعظمَ الشخصيّاتِ القوميّةِ في تلكَ الفترة.
يعلِنُ المسئولونَ في حكومةِ إسرائيلَ مِن فوقِ الْمَنابِر، أنَّ الأَقلِّيَّةَ العربيَّةَ في إسرائيلَ تتمتَّعُ بحُقوقٍ متساويةٍ كباقي السُكّان... فكيفَ نُوَفِّقُ بينَ هذه الأَقوالِ وبينَ نَهبِ أراضي الْمُزارِعينَ العربِ لإعطائِها للمزارعينَ اليهود؟! في حينِ أنَّ العربَ أقدرُ على استغلالها وأكثرُ حاجةً إليها." (ص186). يُقابِلُ هذه المحاولةَ التنظيميَّةَ الفلسطينيّةَ المتواضِعة، جيشٌ إنجليزيٌّ مُنَظَّمٌ ومُسَلَّحٌ بأَحدَثِ السِلاح، ووكالةٌ يهوديّةٌ مدعومةٌ مِنَ الغربِ ومُنَظَّمَةٌ كحكومةٍ ذاتِ وزارات، وتمتلكُ السِلاح، ولدَيها المتدرِّبونَ عليه.
ينطبقُ على الفلسطينيِّ في ذلكَ العهدِ المثلُ القائلُ:" كالمستجيرِ مِنَ الرمضاءِ بالنار"، فقد عانى الويلاتِ وهو يرى أرضَهُ تُسحَبُ مِن تحتِ قدمَيْهِ بمبادرةٍ مِن بريطانيا، وبتشجيعٍ مِنَ الرجعيّةِ العربيّةِ، وبتخطيطٍ مَعَ الوكالةِ اليهوديّة. وكانَ الفلسطينيّونَ منقسمينَ إلى شِيَعٍ وأحزابٍ متناقضةٍ في تطلُّعاتِها، وقد تعاملَت معهم بريطانيا بسياسةِ "فرِّقْ تَسُدْ".
(1) الياس جبّور جبّور: شفاعمريٌّ بين ثلاثة عهود (شفاعمرو 2023). راجع الكتاب تاريخيًّا: سمير جبّور جبّور، وراجعه لغويًّا: عطاالله جبر.