يكشف الناقد المصري هنا عن بعض جوانب شاعرية مجموعة منتصر القفاش الجديدة والتي يُعد عنوانها مدخلا لقراءتها. وكيف لجأ الكاتب فيها إلى تقسيم القصة الواحدة على عدد من الوحدات السردية، لتشكل كل وحدة منها زاوية للرؤية، أو بعدا زمنيا مختلفا، بينما تشكل الوحدات في مجموعها رؤية كلية، تسعى القصة لطرحها.

شاعرية الرؤية ليست «بصورة مفاجئة»

شوقي عبدالحميد يحيى

 

لم، ولن أمل التأكيد على ارتباط نتاج المبدع، أي مبدع في أي فرع، بمحيطه ومجتمعه، وقد يكون في إنتاج "منتصر القفاش" الروائي والقصصي الممتد منذ «نسيج الأسماء» (1989) مرورا بـ«السرائر» (1993)، «شخص غير مقصود» (1999). فضلا عن الروايات «تصريح بالغياب» (1996)، «أن ترى الآن» (2002)، «مسألة وقت» (2008) والتي نال عنها جائزة ساويرس للأدب فرع كبار الكتّاب عام (2009). وصولا إلى احدث مجموعاته القصصية "بصورة مفاجئة"[1]. حيث انحصرت فيها الكتابة داخل دائرة معينة، يتمركز في وسطها "الإنسان" بكل ما يعيشه من أبعاد زمنية، ومكانية. ويمكن إرجاع ذلك لنشأته داخل بيت يحتوى الكتب ويقدسها، وأب يعشق الشعر، وأخ شاعر، فتفتح أفق القفاش، على عالم الفكر والتأمل، فكان الإنسان، بامتداداته الزمنية، هي رحلته الداخلية، بينما كانت رحلاته الخارجية، هي النظر من شباك المكان على عالم الشارع، بناسه-أيضا-، وربما خرجت روايته "تصريح بالغياب" قليلا عن ذلك الشارع، حيث امتدت إلى عوالم "الجيش" الذى يعكس تجربة أخرى، عاشها القفاش-كما غيره من الشباب- وإن لم يخرج فيها عن الرؤية الفلسفية، والتجريب الإبداعي، والشاعرية ، التي تعتبر أحد أبرز سمات القفاش، سرديا.

وقد يتبدى ذلك بوضوح في قصة "رسائل"-من أحدث مجموعاته- التي يبدأها بـ {كثيرا ما رأيت أبى يقرأ في "لسان العرب"، سواء ليبحث فيه عن معنى كلمة بعينها أو ليمارس هوايته القديمة في قراءة ما يتصادف أن يفتح القاموس عليه. كان يعتز بأنه طبعة نادرة. جلَّد كل أجزائه بنفسه، وخصص لها أعلى رف في مكتبته}. وفى قصة "فتح الصندوق" تتحدث القصة عن الصندوق الخاص بالوالد، والذي يتكرر كثيرا في مجموعته، والذي يحتفظ فيه بالمستندات الخاصة به، ومنها {الأوراق التي كان يكتب فيها الشعر وهو صغير}. فهذه كلها تشير –رغم وجودها في نسيج القصص- إلى وجود الشعر في حياة الأب، نظرا لوجود تلك الإشارات في أكثر من موضع، فضلا عن أنها الجانب الواقعي الذي ينسج حوله الكاتب خياله، ليكتمل عنصرا الإبداع، الواقع والخيال.

وإذا ما تأملنا أولى قصص المجموعة "بصورة مفاجئة"، والتي تعتبر مفتتحها، لنجدنا أمام صيغة الحواديت، التي ارتبطت بفترة زمنية مضت، تحمل الحنين، والذكريات، وتحمل في باطنها رفض الحاضر، أو على الأقل، عدم التوافق معه، فجاء العنوان "كان يا ما كان" . وليُستَكملَ العنوان بتلك المفارقة "تلك الحرب"  فأولا لأننا لا نجد حربا بالمعنى المعروف عنها، فلا أسلحة حقيقية، ولا مفرقعات ولا دمار، ولكنه بناء، بناء الشخصية، التي تُثمر بالفعل حربا أزلية، لكنها حرب سلامية، حرب الرجل والمرأة، وكأنها الصراع المُغَلِف، للجاذبية الأبدية لا بين الرجل والمرأة فقط، ولكنها بين الذكر والأنثى، بامتداد الحياة والزمن.

ثم تحمل بدايات القصة، ذلك الإحساس، وتلك الشخصية، في التناقض، أو المقابلة بين داخل البيت، وخارجه، فنرى الطفل –داخله- يشن حربا، بل حروبا، فيُحدث جلبة، وكأنها الصراعات التي تعتمل، لا داخل البيت، وإنما داخل الإنسان ذاته، بينما هو في الخارج، لا خارج البيت، ولكن خارج النفس، للتأمل في سير الحياة، حيث نجده شخصا مختلفا {كان يخوض المعارك في البيت وفى الخارج، مع وجود فارق بسيط، في البيت يستطيع أن يتحرك وهو يخوض معركة .... أما في الخارج فكل المعارك يخوضها وهو ثابت في مكانه صامت ... ويثنى عليه والداه لأنه لا يُحدث ضجيجا كما يفعل في البيت}. فالداخل فوار، متحرك، والخارج، رغم سكونه، فإنه أيضا فوار. وكأننا أما مرجل فوق النار، خارجه يبدو ساكنا، وداخله يغلى فيه الماء، ويتحرك.

وفى الوحدة السردية الثانية –في القصة- تتجلى العلاقة بين الذكر والأنثى. فيبدو الذكر، أنه الأقوى، وأنه هو رجل المعارك الذى لابد أن ينتصر، فيُصر –الطفل- على لعب الحرب، التي لا يختار غيرها، وتستسلم هي، بعد أن رفض اللعب بالكوتشينة الجديدة التي أحضرتها، لكنها تخبئ أسلحتها الخاصة، حيث تلقى عليه بالقنابل التي خبأتها في حقيبتها، وكأنها قد خبأتها داخل نفسها الأنثوية، (خواتم وحلقان وأساور وغوايش وبنس وتوك ...إلخ). {فانفجرت كلها في رأسه ووجهه وصدره} ثم {وضعت يديها في وسطها وضحكت بصوت عال: هزمتك. لم يستطع إنكار الهزيمة لكنه استخف بها. لم يكن مستعدا، وظن أنها ستخرج مشطا لتسرح شعرها وليست كل هذه القنابل}. وكأننا أمام رؤية الرجل للحياة، والوهم الذي يعيشه، بينما تستطيع أسلحة المرأة أن تتغلب عليه. وقد وفق الكاتب باستخدام الأسلحة الأنثوية، فضلا عن تحديد مصادر تأثيرها على الرجل حيث {انفجرت كلها في راسه ووجهه وصدره}. أليست هذه هي ما يتلقى به الرجل أسلحة المرأة؟

ثم تأتى الوحدة السردية الثالثة، لتكشف عن تلك الحروب الأبدية، والتي تطوى الزمن، فيصبح الماضي حاضرا، وتتمركز الرؤية في قُبلة، يرتضيانها معا، دون أن تبرحه روح المكابرة. فتسفر الحروب عن الوصول للقبلة {حوالى أربعين سنة مرت على الحرب التي دارت بينهما} فتحكى هي وبالغت في وصف فزعه حيما فاجأته القنابل التي انهالت عليه، وفى وصف إحباطه بعدما لم يستطع تقبيلها {أما هو فكان يحكى بمنطق الأستاذ الخبير في الحروب الذى سمح لتلميذته بالتغلب عليه، وكان في استطاعته هزيمتها بأقل مجهود ... وأن ينعم بلذة الانتصار ولو لمرة واحدة، وأن ينعم هو بتقبيلها أول مرة}.

وذات التعبير عن رؤى الطفولة، هو ما نستخلصه من قصة "تلك الظلال" التي يرى فيها الطفل ثلاثة كلاب، يطاردونه، لتتوحد في النهاية إلى كلب واحد بثلاثة رؤوس، ويتم حفر الشارع، ليأخذ الطفل قطعة من أسمنته، ليتحفظ بها ويخبئها فوق السطوح، غير أن عمالا يأتون لتنظيف السطوح، تمهيدا لبناء دور جديد، ويجدون قطعة الأسفلت فيحطمونها، لتتلاشى معالمها، وكأنها الزمن هو ما أدى إلى تلاشي تلك القطعة، وإنما مرحلة الطفولة كلها، هي التي تتلاشى. ليظل الزمن –أيضا- عنصرا مهما في كل قصص القفاش، في هذه المجموعة، وفى غيرها من كتاباته.

وقد يتفق عنوان قصة "وفى يوم من ذات الأيام" مع عنوان القصة الأولى، حيث يستدعى –أيضا-  ذات الإحساس بصيغة الحواديت، فضلا عن طي المساحة الزمنية، التي تشمل حياة "فاطمة" وحبها لزوجها وخيانته لها بالزواج من أخرى، ووفاة الابنة هدى. وقد يتبادر منذ البداية للقارئ، بأننا أمام عملية سيطرة الحظ والصدفة على تصرفات البشر. حيث نرى أن الأم فاطمة، تلجأ للعبة الأوراق لاختيار اسم الابنة المنتظرة، وكذلك لاختيار ترتيب الجمعية مع الجيران. غير أن منتصر يرفض أن يبتعد عن جوهر الإنسان، وإن لم يكن عملية الحظ والصدفة ببعيدة عنه، غير أنها رؤية جمعية، يسهل الوصول إليها. فإذا ما تأملنا سلوك الأم "فاطمة" تجاه زوجها، سنعلم كم كانا متحابين و{لم يكن هناك أي مقدمات تمهد لتلك الصدمة، بل كانت تراه زوجا مثاليا، يراعى مشاعرها ويعرف كيف يسعدها ودائما ما كان يدعو الله أن يجعل يومه قبل يومها، فلن يقدر على تحمل الحياة بدونها}. ورغم ذلك كان قرار الأب بالزواج من أخرى، فأعلنت لابنتها وابنها أن والدهما" الله يرحمه". غير أنها لم تفعل شيئا آخر، حتى كان ذات يوم، وجد الفتى –السارد- أن فاطمة تُقدمُ على تغيير مكان الصور، بين الحين والآخر، قتلا للملل، ففوجئ بها تدخل حجرتها وتأتى بجريدة الأهرام مشيرة إلى صورة زوجها في صفحة الوفيات، وطلبت من الفتى أن يُخرِجَ الأسود الرابضة في لوحتها فوق الدولاب، حيث تحتاج إلى سماع زئيرها، ورؤيتها وهى تشق طريقها للغابة وانقضاضها على الفريسة في لمح البصر{لم تسألني عن رأيي كعادتها، وأشارت إلى الحائط المواجه لسريرها}. ليترك القفاش القارئ أمام مفترق الطرق، بحثا عن تفسير لذلك السلوك. فهل فعلت الزوجة ذلك كنوع من الانتصار على الزوج؟ أم تعنى أن حب الزوج لم يزل في القلب، فأرادت أن تكون صورته أول شيء تراه عند اليقظة، وأول شيء تغادره قبل النوم؟ إلا أن الُإشارة إلى الأُسود بما توحيه من قوة، وافتراس للفريسة، قد يقود إلى الرغبة في الانتقام، وأن الزوج هنا قد انهزم. ولكن أمام الموت. لنخلص إلى أن غريزة الانتقام لازالت ساكنة في نفس المرأة، وأنها لا تنسى الخيانة، حتى لو لم يمت الحب ... الذي كان. لنستحضر هنا شخصية "صفية، ورغم حبها العنيف لـ"حربى" في رائعة بهاء طاهر "خالتي صفية والدير" إلا أن غريزة الانتقام، كانت أشد. ولتصبح النهايات المفتوحة أحد أهم سمات القصة عن القفاش، الذي درج على إثارة الأسئلة والشك، دون أن يقدم الإجابة التي يتركها للقارئ. غير أن هذا لا يعنى أنه يقدم رؤية مجردة، وإنما تحمل القصة عنده الكثير من المتعة المُستخَرجة من التفاصيل، والتي تأتى هنا من احتلال الصور لحيطان البيت، وخاصة حيوانات حديقة الحيوان، والتي يتصدرها الأسد (الغائب) عن البيت، فلم تكن فقط لإرضاء ومتعة الابنة الصغيرة، وإنما يمكن النظر إلى وجودها كعملية تعويض عن غياب أسد البيت، والحاجة -الباطنية- لوجوده، حيث نتبين –أيضا- أحد عناصر القصة عنده، وهو التكثيف، الذي لا يترك لشيء كتبه أن يكون مجانيا، وأنه لابد أن يقود إلى جوهر الإنسان.

كما يستمر الغائب، مؤثرا بقوة على فعل الحاضر، بل قد تعيدنا قصة "دور شطرنج" - التي توغل في التعتيم والشاعرية- إلى الموروث الشعبي، الذي يقدس الموتى، ويتحكمون في فعله على الأرض. حيث نجد هنا العم، وقد توفيت زوجته منذ سنوات، ورفض الزواج بعدها، رغم إلحاح الجميع عليه، الأمر الذي معه أصبح يبحث عن الأشياء وهي أمامه. وفى إحدى زياراته لأخته، يخرج لابنها قلبا يشبه المعلق في ميداليته ويخبره أنها هدية من "هند" زوجته الراحلة، وبدأ في وضع قطع الشطرنج على اللوحة، وأوضح له أنها طلبت منه أن يشترى قلبا له، لأنه يحتاجه.

فما يربط ابن الأخت بالخال –هنا- هو لعب الشطرنج. ووجد ابن الأخت القلب مختبئا في علبة الشطرنج، ثم اختفى، ولا يعلم أين اختفى. ليرتبط القلب بالشطرنج، ثم تأتى زوجة الخال له، من الموت، وكأنه عثر على قلبه، فأهدى الخال مثله لابن أخته. وكأنه يحثه على تأمل الحياة ويقول له {اوعى تضيعه. وحرك الحصان وهو يطلب منى أن أكف عن الأسئلة وأركز في اللعب}. ثم {وحتى الآن – رغم مرور سنوات كثيرة على هذا اليوم - كلما أدرت القلب بسرعة رأيت الألوان المتداخلة التي يُظهرها التفسير الوحيد لكل ما حدث}. فالحياة كلعب الشطرنج، أبيض وأسود، وصراع بين الحصان والوزير، وكلما دار القلب، كانت الألوان المتداخلة. فالقلب هو الحب، والحب هو الحياة، بألوانها المتعددة المتداخلة.

وهي ذات الرؤية التي يمكن استخلاصها من قصة "فتح الباب" التي رأى فيها العم "إسماعيل" صديق الأب المتوفى، الأب وقد جاءه في المنام، فأصر على أخذ باب الشقة ليضعه بوابة لحوش المقابر. ويتواصل اتصال الأموات مع الأحياء، بل ويؤثر على حالتهم المعيشية، الأمر الذى يبدو معه الإنسان الحى، كما لو أنه غير سوى، إذا يتردد فى جوانيته صوت مثل الذى يعترى السارد في آخر قصص المجموعة "صوت ما" حيث تعود أن يجلس في حجرة مكتب الوالد المتوفى، بل ويقرأ كتبه، فيسمع شخصا يناجى، ويتكرر الصوت طالما هو في الحجرة، جرب أن يخرج من الحجرة، وعندها يتوقف الصوت {فعرفت أن استمرار الصوت رهين ببقائي فى الغرفة مدة المناجاة. بالطبع ظننت أنه ينبعث من داخلي فسددت أذني بيدي، فانقطع الصوت وعندما أبعدت يدى وجدته ما زال مسترسلا في المناجاة. سجلت الصوت، واطمأننت على أن المسجل يعمل، وعندما أعدت تشغيله وجدته لم يسجل سوى سعالى المفاجئ}. وجرب أن ينطق المناجاة بعد أن حفظها، أمام أمه وفى المواصلات العامة، إلا أن أحدا لا يسمع شيئا من تلك المناجاة، ولو أخطأ في حرف زائد، يجد القريب منه قد سمع ذاك الحرف.

فإذا ما عرضنا تلك الحالة على علم النفس، فسنجده يحدثنا عن "الهلوسة السمعية" التي في الغالب يرجعها إلى أسباب عضوية، غير أننا أمام عمل أدبي، ولسنا في عيادة طبية. والتصور الأدبي يشير إلى ارتباط المناجاة بحجرة الأب المتوفى، والذى من الممكن أن يكون قد اطلع على شيء يشير لتلك المناجاة في مذاكرات الأب – مثلما أشار في قصص كثيرة- وربما كان الأمر سرا عند الأب .. واحتفظ به في داخله، فأصبح الصوت ملازما للتواجد في حضرة الأب. المهم أننا أمام سيطرة الأموات على الأحياء، سيطرة قد تصل إلى الهلاوس، أو التأثير السمعي على الأحياء. مثلما يصر بعض الأحياء على تنفيذ وصية الميت، أو الخوف أن يأتي بشيء يغضبه فلا زلنا أمام الولوج إلى أعماق النفس البشرية، التي يحرص القفاش عليها.

وفى قصة "من صندوق اللعب" يفتح فيها السارد صندوق الذكريات، التي تحمل عبق السنين، ومرورها، فيستحضر في الوحدة الأولى (الحبل) الذكريات مع الصديق الذي انتقل إلى الإسكندرية، وترك له الحبل بعقدته. ثم ينتقل لاستعادة ذكرى الجد، وحصان الشطرنج. ثم يستعيد ذكر العم، وتمثيله بالموجودات للتعبير عن ذكريات. ثم يعود للذات الساردة، وكأنها عودة من حيث البدء، حيث يستدع الذكريات مع ابنة الجيران. لتتجمع الوحدات في رؤية كلية تتمثل في الوحدة الجامعة، والممتدة، من الجد والعم، للسارد، وكأن السارد بعض من السلف، يستمد منه وجوده.

وفى قصة "الجوهرة"، التي تحمل تصورات الطفولة، دون أن تصرح بها، حيث تستعيد الذاكرة رؤية القمر في عيوننا (أطفالا) حيث كنا نرى فيها وجه القمر، وقد ارتسم عليه وجه محمد نجيب، الذى كان قائدا لحركة الضباط في العام 1952، ولنكتشف فيما بعد أن القمر مجرد صخور تستمد ضوءها من الشمس. فهنا نرى "جوهرة " قطعة من الزلط، تم قذفها من مجهول، أو مجهولين، على شباك الوالد الذى خرج إلى البلكونة ولم ير أحدا، بينما وجد مجموعة من (الزلط) هو ما تم قذفها على شباك البلكونة، واحتفظ الوالد بواحدة منها، في المخبأ السحري، الذى اكتشفه الطفل، وأصبح مزارا لأصدقائه من الأطفال، ليروا ذلك الوجه المنقوش على تلك الجوهرة، في الوقت الذى يقول هو نفسه {كانوا يرغبون دائما في البقاء وقتا أطول، ومواصلة البحث، فأعدهم بزيارة أخرى، وأتعجل مغادرتهم غرفة المكتب قبل عودة  أبى،  وقبل أن يطلبوا منى تحديد بقية ملامح وجه لم أره أبدا}.

من الأمور العادية، والمتكررة، أن الإنسان عندما يكبر في العمر، يرى في أحلامه أناسا كان يعاشرهم في فترة الصبا. وكأننا أمام تطبيق عملي للآية القائلة (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون)[2]. حيث يختلط الواقع بالحلم، أو يتماهى الواقع في الحلم، فضلا عن أنها الحيلة الجديدة التي يتماهى الزمن فيها، حيث نعيش داخل الأسرة (المنتصرية). وهي الحالة التي تعرضها قصة "حكى الأحلام" التي تعود الجميع فيها على أن ترى الجدة، فى حلمها، ما لم يعد يتذكره الآخرون، والأقل سنا. حيث تتماهى الجدة في سعاد، صديقة حفيدها في الدرس الخصوصي، فراحت تتابع أخبارها، حتى أنها رأت في المنام، ما جعلها تستيقظ من النوم، فتقول كلمتها المعتادة -لكثرة أحلامها-"اللهم اجعله خيرا" فتنادى على حفيدها، وتغضب عندما تعلم أنه ذهب للمدرسة، فتقول، وهى تحدث نفسها {لازم نروح درس الإنجليزي فى ميعاده ضحكت أمى بعدما ظنت أنها أخطأت بقول (نروح) بدلا من (يروح) وأكدت لي بعد ذلك أنها آخر كلمات نطقت بها، واعتبرتها وصية لابد من أن أنفذها. لكنني أصررت على السفر مع أسرتي لدفن جثمان جدتي فى بلدتها، ولم أحضر الدرس التالي الذي ودعت فيه سعاد زملاءها قبل انتقالها إلى مدينة أخرى}. وكأن ذلك التماهي، لم يكن في ذهن الجدة فقط، وإنما انتقل من الأموات للأحياء –وهو ما تكرر في أكثر من قصة- فأصبح التماهي بين الجدة والزميلة سعاد، فى ذهن الفتى أيضا. وكأننا أمام عملية تبادلية بين الأحياء والأموات، وهي ما يقترب بنا من الرؤية الفلسفية. لدى الكاتب، حيث تكرر الموقف أيضا في أكثر من قصة.

وهي ذات الرؤية –تقريبا- التي دارت حولها قصة "الملاكم" والتي نرى فيها فعل الزمن، وأفعاله في البشر، والذي يتأكد حضوره شبه الدائم في قصص منتصر القفاش. حيث يتشبث به الإنسان، ويسأله ألا يغادر، لكنه –الإنسان- كالجالس في قطار سريع، تتراءى الأشجار والأعمدة تسرع نحو الخلف، ويظن نفسه جالس في مكانه. رغم أن القطار يمرق سريعا نحو محطة الوصول. فالجد- في قصة "الملاكم"- يصر أن يعيش فتوة الشباب، بينما الآخرون من حوله، ينصرفون عنه. وكأنه قد أصابهم اليأس من حالته، بينما يُصر هو على العيش على تذكر العم محمود "الملاكم". حتى يرى صورة البطل في جريدة الأهرام، فيعرف أن أحد المصورين قد نجح في تصوير البطل وهو يضرب فريد شوقي، فيذهب إلى ذلك المصور ليطلب منه نسخة من تلك الصورة، ثم يفاجأ بالحاضر المادي، الذي يؤكد انفصال الزمن، أو مروره، الذى استتبعه تغير الحياة، حيث يريد صاحب الاستديو أن يبيعه الصورة بخمسة آلاف جنيه. وهي في عرفه –وفى زمانه الماضي - مبلغ فوق التصور، فمثلها كان يمكن بها شراء عمارة. فيتلبسه الماضي فى شخص ذلك البطل، فيسأل عن مكان الحلبة التي مارس فيها –البطل- مضاربة فريد شوقي، ويلكم صاحب الاستديو، الذي لم يتزحزح عن المبلغ المطلوب، فيهرب الجد من الحاضر، وما فيه، ليعيش الحلم، بان البطل زاره ومنحه ألبوم الصور، الذي {اندهش جدي من ضخامته، ومن كثرة الصور التي يظهر فيها مع البطل داخل حلبة الملاكمة}. ليصبح الحلم بديلا عن التمسك بالماضي. وكأن منتصر القفاش، يتأمل أحوال ذلك القطار المتسارع، ولكن حركة الناس لا تجارى حركة القطار. فهذا هو قدر الإنسان على الأرض.

وما نستطيع إيجاده في قصة "رؤية الأشياء". التي يتمسك فيها الجد بساعته القديمة، التي لم تستطع المرآة أن تراها. فقد أصبح زمانه مختلفا عن زمن ما يعيشه. وتتكرر التجربة. ويواصل القفاش الغوص في أعماق الإنسان، لكنه يشير إلى الإنسان (العربي) بصفة خاصة في قصة "وقائع العثور على اليوميات" حيث تشير واقعة غياب اليوميات للابن "إسماعيل" إلى التابوهات المحرمة في المجتمع العربي (الدين، الجنس، السياسة). وهي الموضوعات التي يتحرج فيها الإنسان (العربي) عندما يفكر في كتابة يومياته التي يضع فيها أسراره. حيث يكشف سياق القصة عن ذلك منذ البداية التي نقرأها حيث تبدأ بـــ{يوم أن تُشعل النار فى نفسك}. فإن عملية الكشف عن المسكوت عنه، أشبه بمن يحرق نفسه، كاشفة عن الازدواجية التي يعيشها الإنسان (العربي). خاصة أن نقرأ بعض الإشارات التي تقتحم تلك التابوهات، مثل{عارية. جنس. تنظيم. دم . منشورات} وهي إشارات تشير إليها. فضلا عن الكتابة بخط غير مقروء. وقد تشير واقعة أن الجارة العجوز هي الوحيدة التي استطاعت أن تقرأ هذه (الشخبطة) إلى المرأة من جانب – باعتبارها أحد رموز الحرية. كما تشير العجوز إلى حداثة تلك الرؤية لتلك التابوهات. وهي التي تأتي بِقفلٍ صغير لإسماعيل، كي يغلق درجه الحاوي لتلك اليوميات. غير أن الأب لا يهمه ما بتلك اليوميات، ولكن أهم ما لفت نظره هو ذلك القفل الصغير، الذى لم يجد "إسماعيل" بُدا من إهدائه لوالده فـــــــ{سعد أبوه بـ"الهدية الغالية". وسارع بها إلى المكان الذي تستحقه، حيث وضعها بدلا من القفل الصدئ لصندوق صغير يضم رسائله القديمة}. وتتواصل رسائل الأب القديمة، والتي تعلن عن تواصل الأجيال في معيشة الأحلام ومواقف السينما إلى ما يشبه الوجود الحقيقي في قصة "مشروع جريمة".

تقنية السرد
إذا كان يوسف إدريس قد لجأ للشكل الدائري، كي يتغلب على امتداد الزمن، فإن منتصر لجأ إلى تقسيم القصة الواحدة على عدد من الوحدات السردية، لتشكل كل وحدة منها زاوية للرؤية، أو بعدا زمنيا مختلفا عن الأخرى، في ذات الوقت الذي تشكل الوحدات في مجموعها وحدة واحدة، أو رؤية كلية، من مجموعها تُحدث القصة رؤيتها.

ففي قصة "كان يا ما كان تلك الحرب" انقسمت القصة على ثلاث وحدات، تشكل في مجموعها، العلاقة الأبدية بين الرجل والمرأة. استخدم فيها التقسيم (1) (2) (3). بينما فى قصة "من صندوق اللعب"- التي قامت على أساس الانفصال الزمنى بينها، واختلاف موضوعها، لتصبح كل منها ذكرى مختلفة، أو قصة قصيرة منفصلة، للتجمع الرؤيا الكلية في النهاية، والتي تنحصر في مرور الزمن. كما استخدم عناوين منفصلة (متصلة) فكانت (الحبل)(الحصان)(تلك الأوقات) (الحبر السرى) وهكذا. 

وفى قصة "أماكن الكنز" تشتمل القصة على مقطعين، 1- كان عن تصرفات الأخ. 2- كان السارد فيها يتحدث عن نفسه. أي أنهما رؤيتان بزاويتين مختلفتين حول صندوق الجد، الذى تحول إلى كنز من المخبوءات، ليكون الختام {أسرعت بالفرار متعثرا في صناديق كثيرة، كشف كل منها عما يضمه من كنوز... وفور خروجي أفزعني رنين المنبه، فتناثرت من بين يدى الجواهر واختفت تحت أرضية الغرفة} لتعلن عن التصور الطفولي لما يمكن تخبئته داخل الصناديق. وحيث يتكشف التماهي بين الصناديق الكثيرة، والتي فى الغالب تحتوى الأسرار. والتماهي بين الحلم، بين حلم اليقظة وحلم النوم. والحقيقة المتمثلة في الصناديق كوجود محسوس.

بينما اعتمدت قصص أخرى على الوحدة الواحدة، حيث ينحصر الزمن في الفترة المتعارف عليها في القصة القصيرة، فتدور القصة كلها في موقف واحد، وحيث يأتي العنوان مختصرا ومنحصرا في كلمة واحدة، لتعبر عن تلك الوحدة، على عكس ما كان فيما قبلها. وفى قصة "الظلال" تعايشنا مع القصة في الحاضر، وكأن الطفل يمارس حياته، ثم نكتشف أن هذا الطفل صار رجلا ويحكى لابنه تلك الظلال التي كان يراها، ليعيش الطفل (الجديد) نفس التصورات برؤية الكلاب، والتعامل معها، ومناداتها بالأسماء التي أطلقها عليها. حيث يتماهى الكبير في الصغير، وكأننا أمام شخص واحد، وزمن واحد.

كما جاءت العناوين، أو العتبات لتلعب دورا كذلك في كيفية التغلب على المساحة الزمنية الممتدة، مثلما نرى في قصة "في يوم من ذات الأيام" والتي تنتهج نهج الحواديت، فتقرب المسافات الزمانية، والمكانية، فترى الماضي، وكأنه حاضر.

شاعرية السرد
يُعرف كبار النقاد الشاعرية، على أنها أدبية الأدب. ومن بين تعريفات الأدب، أنه {هو أحد أشكال التعبير الإنساني عن مجمل عواطف الإنسان وأفكاره وخواطره وهواجسه بأرقى الأساليب الكتابية التي تتنوع من النثر إلى النثر المنظوم إلى الشعر الموزون لتفتح للإنسان أبواب القدرة للتعبير عما لا يمكن أن يعبر عنه بأسلوب آخر}. وعلى ذلك نستطيع تبين شاعرية السرد، في مجموعتنا، منذ عنوان المجموعة "بصورة مفاجئة" حيث نبحث عن قصة تحمل ذات العنوان، فلا نجد، ليظل السؤال قائما منذ البداية، ويلازمنا طوال قراءة المجموعة، بحثا عما يمكن أن يكون قد ظهر "فجأة". ولن نجد أيضا، فنبحث عن الجوهر، والمخبوء داخل النصوص، لتحدث المفارقة، التي تعتبر أحد أهم معالم شعرية العمل.

كما نجد ذات المفارقة في عنوان القصة الأولى "كان يا ما كان تلك الحرب" حيث نجد في الشق الأول "كان يا ما كان" حيث يوحى بالاستسلام والحنين والإنصات، بينما يحمل الشق الثاني "تلك الحرب" حيث العنف والقتل والدمار، فتتأرجح مشاعر القارئ بين النقيضين، حيث يعتبر تحريك مشاعر القارئ، أحد أبرز معالم الإبداع، إن لم يكن هو العنصر الإساس في العملية الإبداعية، أي الشاعرية.

كما يمكن تلمس الشعرية في قصة "من صندوق اللعب" في اندغام الرؤية الكلية المستترة وراء السرد الذي يبدو عاديا، ويتناول الملموسات، لتعبر عن المحسوسات. وهو ما نستطيع تبينه في معظم، إن لم يكن كل قصص المجموعة، حتى أنه يمكننا القول بأن شاعرية السرد هي شاعرية الرؤية.

ومن تلك القراءة لقصص مجموعة "بصورة مفاجئة، نستطيع القول بأن "الإنسان، الأسرة، الشاعرية، الحلم بين النوم واليقظة، البساطة الأسلوبية، هي محاور الإبداع عند منتصر القفاش. حولها تدور أعماله، ومنها منطلق رؤاه، ومن خلالها تنبع شاعريته.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

[1] - منتصر القفاش – بصورة مفاجئة – الكتب خان للنشر والتوزيع- ط1 2023.

[2] - سورة يس الآية 68. {قول تعالى ذكره  وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) فنمُد له في العمر  نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) نرده إلى مثل حاله في الصبا من الهرم والكبر، وذلك هو النكس في الخلق}.