تقديم
نودّ أن نؤكد، أوّلاً، أنّ الشخصيّات من أهمّ عناصر الحبكة، فلا يوجد نصّ قصصيّ بدون شخصيّة. فهي التي تعطي الإحساس بوجود الزّمان والمكان، وهي التي تملأه بالحركة والأحداث. وفي هذا الفصل سندرس بناء الشخصيّات المركزيّة في قصص حيدر حيدر[1] وموقعها من مفهوم البطولة اعتمادًا على الموديل الخماسيّ الذي اقترحه إبراهيم طٰه[2]. وسيتم التركيز على دراسة ثلاث روايات في المتن، وهي: الفهد، الزمن الموحش، ومرايا النار. أمّا باقي الروايات، فسنشير إليها في الهوامش. وسندرس هذه الشخصيات، بعد أن نقرر مركزيّتها بناءً على معايير نصيّة واضحة، من ناحية أساليب بنائها: هل هي مبنية بالرسم المباشر، أم بالرسم غير المباشر، أو ما يسمّى بالرسم التصويريّ؟ ثمّ نقوم بدراسة انتماء هذه الشخصيات: هل تنتمي إلى حقل البطولة، أم إلى حقل اللا بطولة؟ وتأسيسًا على ذلك نقرّر إن كانت هذه الروايات تقليدية أم حداثية، إضافة إلى وظيفة هذا البناء.
1. الشخصيّة المركزيّة في رواية الفهد
1.1 المعايير النصيّة لتحديد الشخصيّة المركزيّة
1. الحضور المكثّف في النصّ، ووجود شخصيّات ثانويّة تعمل على إضاءتها.
2. الرسم المفصّل للشخصيّة إضافة إلى غنى حياتها الروحيّ، وعرضها المتنوّع: أعمالها، كلامها، علاقتها بالشخصيّات الأخرى، وسلوكها في أوضاع متنوّعة.
3. هل تحظى الشخصيّة بتعاطف الرّاوي والمؤلّف الضمنيّ؟
4. هل تحظى باهتمام خاصّ من قبل القارئ[3]؟
نلاحظ في رواية الفهد أنّ شخصيّة أبي عليّ شاهين الملقّب "بالفهد" حاضرة بكثافة على امتداد الرّواية من البداية إلى النهاية. فالنصّ يرافق "الفهد" خطوة خطوة من الصّفحة الأولى حين يخرج ليطحن الشعير بسبب المحل، حتى الصفحة الأخيرة عندما يُشنق في اللاذقيّة. وحتّى عندما يترك الرّاوي الفهد/ شاهين وينتقل إلى شخصيّات أخرى فإنّه يكون مدار حديثهم أو تفكيرهم. فعندما يحدّثنا الرّاوي عن سَجن زوجة شاهين وابنه بعد معركة "حرش الغضبان"، يخبرنا أنّ حراس السِّجن كانوا يتوقّعون قدومه ليحرّر زوجته وابنه:
- "أتراه قادم؟
- من يدري؟
- مضى زمن مجيئه.
- لم يمض..." (ص. 56).
حتى إنّه يدخل إلى حلم الشرطيّ: "يا جماعة هل تضحكون مني لو رويت لكم حلمًا غريبًا عنه؟" (ص. 57). وأصبح شاهين الشغل الشاغل للناس في حديثهم وسهراتهم: "وروى قرويّ في أقصى الجرد: كان يستطيع قتل قائد الدرك. وحوح ساهر آخر التَمَّ قرب نار السنديان المتقدة: ليلة باردة. أين ترى شاهين الآن؟ وتمتم صبيّ لوالده: أتمنّى لو أنّني مع شاهين" (ص. 52).
أمّا الشخصيّات الأخرى فهي ذات دور وظيفيّ، وهي موجودة من أجل الشخصيّة المركزيّة وبفضلها، تظهر لتقوم بدور آنيّ: فشفيقة زوجته تضيء عالم شاهين وتبرز بعض صفاته الداخليّة والنفسيّة مثل حبّه للأسرة، وكذلك تخبره بمجيء الحارس طالبًا حصّة الآغا؛ أمّا شخصيّة حارس الآغا الذي يهين شاهين فهي ذات وظيفة تحريكيّة، فهي تثير شاهين وتحفّزه على العمل، تدمّر الوضع الأوليّ الهادئ. وبالتالي فالدّرك والآغا هم "القوّة المثيرة" (exciting force)[4] التي تعمل على تعقيد الحبكة، ووظيفة الفراريّة أيضًا كشف العالم الداخليّ لشاهين، فمن خلال سلوكه معهم نتعرّف إلى طباعه ونفسيّته، وأفكاره، ووعيه. وهناك وظيفة تناظريّة للدّرك أيضًا، فمن خلال الدّرك وسلوكهم تبرز شخصيّة شاهين المتعارضة معهم. فهم يستغلّون الفلاحين ويسلبونهم قوْتهم: "غارات الجند المفاجئة لم تنقطع عن بيوت الفلاحين الفقراء، تطلب الفارّ، وإذ لا تجده تطلب الدجاج والسمن والحليب والتبن والمبيت" (ص. 79). أمّا شاهين الذي انضمّ إليه العديد من الفراريّين فكان يعامل الفلاحين باحترام: "هو الذي لم يسرق فقيرًا، ولا أهان فلاحًا، ولا سطا على القرى الآمنة لماذا ظلّ وحيدًا؟" (ص. 60). أمّا شخصيّة خاله التي تظهر في نهاية الرواية فوظيفتها حلّ الحبكة من خلال خيانته وتسليم شاهين للدّرك.
إنّ شخصيّة شاهين هي الشخصيّة الوحيدة التي تتمتّع برسم مفصّل، فالراوي يرسم لنا شكلها الخارجيّ، صفاتها وطبعها؛ ويروي أعمالها بشكل مفصّل، وكلامها، وعلاقتها بالشخصيّات الأخرى، وسلوكها في أوضاع مختلفة. فالرّاوي يصف تحرّكات شاهين بالتفصيل، فشاهين الذي أهين من قبل حارس الآغا، يردّ الإهانة ويضربه، والنتيجة تكون اعتقاله وضربه وتعذيبه في السجن، فيهرب وينتقم من الدّرك. وهكذا تبدأ مطاردته، وتحدث معارك عديدة تكون يد شاهين فيها العليا. ثمّ يصف الرّاوي لنا الصعوبات التي تقف في وجه شاهين من تعب، وجوع، وبرد، وخوف حتى يأتيَه الغدر أخيرًا من خاله الذي يسلّمه للشّرطة، ثمّ يُعذّب ويُشنق. كذلك يركّز الرّاوي على علاقات شاهين بالشخصيّات الأخرى: بزوجته وابنه، بالفراريّين، بالدّرك، وغيرهم. وهنا يختلف سلوكه حسب الشخصيّات التي يتعامل معها، فمع زوجته وابنه يتعامل بمحبّة بالغة واحترام: "تنهّد وضغط فكّيه بألم: اعتني بعليّ من بعدي. وضع الطفل على الأرض، فهجمت الأم تنشج، جمعها إليه وفي لحظة تماثل بقايا العمر غاب في رائحتهما" (ص. 21). ثم يخاطر في إحدى الليالي ويتسلّل إلى بيته ليرى امرأته وابنه: "والليلة صافية كنبع ماء يبرق حصاه الأبيض. والرّيح هبوب خفيف عذب تتسرّب إلى الضلوع حاملة روائح الغائبين، عبق امرأة وحيدة مكسورة الضلع" (ص. 30).
أمّا مع الدّرك فإنّه يتعامل بالمثل، فإذا قسَوا عليه، كان قاسيًا. فعندما حاصروه في بيته وأرادوا قتله واجههم بقسوة: "وانهمر رصاص مجنون، راح يبهق من كل أطراف القرية. وعن تلك الليلة الغريبة روى الشهود: إنّ رجلاً بمفرده قاوم سريّة من الشرطة، طوقته ولم تستطع قتله أو أسره [...] وفي تلك الليلة لم تأخذه بهم شفقة، ولاهم أيضًا" (ص. 34).
أمّا مع الفراريّين والناس الغرباء فكان حذرًا: "وحكَوا: إنّ الحياة معه لا تطاق. فهو لا يثق إلا بنفسه، ولا يثبت في مكان. وفي الأيام الأخيرة صار حذرًا يشكّ بأيّ إنسان" (ص. 63).
يبدو واضحاً أنّ الرّاويَ/ المؤلّف الضمنيّ يتعاطف مع شاهين، فهو يفصّل أعماله، يقتبس أقواله في الحوار والحوار الداخليّ، يعرض أحلامه وكوابيسه، ويقتبس ذكرياته الجميلة التي يسترجعها. يمجّد أعماله رغم بعض الانتقادات التي يوجّهها له، ويأتي هذا التمجيد صريحًا أحيانًا، وضمنيًّا أحيانًا أخرى. فيقتبس تبريرات شاهين لتمرّده مُظهرًا ظلم السلطة والإقطاعيّين. ويَبرُز تعاطف المؤلّف مع الفلاحين عامّةً ومع شاهين خاصّةً من خلال تعليقاته الكثيرة وتحليلاته: "وفي مخفر الشرطة ضُرب ذلك الفلاح الأعزل بالأيدي وكعوب البنادق والسياط وأحذية الجند. وإلى جدار المخفر أُوثق، وصلبت يداه، ثم ضُرب أيضًا حتى بلَّله الدم. لم تكن شرطة فرنسا ولا درك بني عثمان هي التي ضربت شاهين بأحذيتها هذه المرّة، على صدره وظهره ومعدته بوحشية ولؤم، ومع ذلك لم تسقط من عيني ذلك الفلاح المسكين دمعة واحدة" (ص. 19).
والمؤلّف الضمنيّ يعتبر شاهين ثائرًا ولكنّه سبق زمنه، لأنّ الظروف الموضوعيّة لم تكن ناضجة بعد، ولذلك كان شاهين ضحيّةً، متمرّدًا فرديًّا: "كان شاهين يعترض زمنه وهو يخطو أولى الخطوات في مسيرة الانعتاق والتخطي، ولكن [...]" (ص. 22). كذلك يبرز تعاطف المؤلّف مع شاهين من خلال إبراز حبّ الناس الفقراء والفلاحين له، وحتّى الأطفال أحبوه وتمنَّوا أن ينضمّوا إليه: "وتمتم صبيّ لوالده: أتمنى لو أنّني مع شاهين. ابتسم الوالد. كلّنا نتمنى يا ولدي. وهزّ رأسه: إيه... وسأل الصبيّ: أتحبّه يا أبي؟ أومأ الأب موافقًا: الجميع يحبّونه. قلوبنا معه يا بني. لكن العين بصيرة واليد قصيرة" (ص. 52). أصبح شاهين تعويضًا عن سلبيّة الفلاحين وعجزهم، فهو يحقّق ما يحلمون به وما لا يستطيعون القيام به. فهو يحمل "العزاء والفرح الصامت إلى قلوب المقهورين الذين سقطت قيمة حياتهم ومعنى وجودهم تحت جزم الجند وغطرسة السلطة الحاكمة" (ص. 45).
شخصيّة شاهين تحظى باهتمام خاصّ من قبل القارئ الذي يريد أن يتعرّف إليها وإلى أفكارها وأعمالها. لماذا أقدم على التمرد، وكيف استطاع أن يصمد كل هذه المدة أمام السلطة القوية، ولماذا فشل وقُبض عليه؟ كذلك فإنّ عملية الأسطرة التي يحظى بها شاهين تشدّ القارئ إلى متابعة هذه الشخصيّة في كلّ خطوة تخطوها. ويفرح القارئ لانتصارها، ولكن في النهاية يأسف على ما آلَت إليه من تعذيب ثمّ شنق.
تأسيسًا على ما سبق يمكننا القول إنّ شخصيّة شاهين تمتلك المعطيات المطلوبة لكي تعمل بنفسها ولنفسها. فهي تمتلك الاستقلاليّة والقدرة على القيام بما قامت به، ومواجهة مصيرها من دون اعتمادها على شخصيّات أخرى. وهناك مؤشّران واضحان يشيران إلى مركزيّة شاهين في الرّواية وهما: المؤشّر الكمّيّ وهو كثافة المادّة التي ينتقيها الرّاوي ويخصّصها لشاهين، والمؤشّر البنيويّ وهو ابتداء الرواية به وانتهاؤها به، فالمشهد المُميَّز الأوّل أو الحاضر القصصيّ يبدأ بشاهين الذي يذهب ليطحن الشعير بسبب المحل، وتنتهي الرواية بمشهد شنقه في اللاذقيّة .
ويمكننا إضافة عامل آخر يجعلها شخصيّة مركزيّة وهو أنّ لقبها "الفهد" هو عنوان الرواية[5]. كذلك تملك الشخصيّة المركزيّة الحقّ في الحوار الداخليّ بينما لا تتكلّم الشخصيّات الأخرى إلا من خلال الحوار[6]. وفي رواية الفهد نلاحظ أنّ شاهين هو الشخصيّة الوحيدة التي تتولّى الحوار الداخليّ، وإنْ كانت نسبته قليلة، إضافة إلى كثرة الأحلام والكوابيس[7].
2.1 بناء الشخصيّة المركزيّة في رواية الفهد
يتمّ بناء الشخصيّة بواسطة الرّبط بين معطيات يقدّمها النصّ ونماذج معروفة لنا من الواقع. ويتمّ بناء الشخصيّة إمّا بالرّسم المباشر، أو غير المباشر- التصويريّ.
الرّسم المباشر هو تصريح لفظيّ للصّفة أو الطّبع، ويمكن أن يحيل إلى صفات خارجيّة جسديّة، أو صفات داخليّة، أو صفات تتعلّق بالعادات، إضافة إلى وصف الحالة النفسيّة، أو المركز الاقتصاديّ-الاجتماعيّ[8].
وفي الفهد هناك رسم مباشر لشخصيّة شاهين فالرّاوي يصف شكله بأنّه رجل قصير، نحيل، طوله مائة وأربعة وستون سنتمترًا، ووزنه ستّون كيلو غرامًا. وجهه مموَّج باحمرار برونزيّ يعتمر الكوفيّة السوداء. وعلى عضلة زنده الأيمن وشم سكّين وعلى الأيسر قلب. عيناه لامعتان وصقريّتان، وذراعاه قاسيتان. أمّا صفاته الداخليّة فهي: طيّب، مهموم، روحه عاشقة للحريّة، حذر، شرس لا يخاف. أمّا مركزه الاجتماعيّ فهو فلاح مُرابع: "كان أبو عليّ مرابعًا يحرث الأرض ويعشبها ويبذرها ويحصدها، وفي نهاية الموسم يقدّم ثلاثة أرباع المحصول للآغا، ويبقى لعائلته ولبذار الأرض الربع الباقي" (ص. 13).
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الرّسم لا يأتي في كتلة نصيّة واحدة بل هو موزّع على امتداد النصّ. كذلك فإنّه يأتي من الرّاوي العليم وبذلك فإنّه موثوق به. وفي الرواية رسم مباشر ولكنّه ليس من قبل الرّاوي العليم بل من قبل شخصيّات أخرى مثل الدّرك، فقائد الدّرك يصف شاهين بأنه غدّار: "كن حذرًا، هؤلاء أولاد حرام، وشاهين غدّار" (ص. 27). هذا التعريف غير موثوق به خاصّة وأنّه يأتي من العدوّ، وأعمال شاهين أثبتت العكس؛ بل إنّ هذا التعريف هو تعريف بشخصيّة قائِلهِ فهو الذي يُكنّ الغدر لشاهين. ولكنّ تعريف الفراريّة لشاهين بأنّه حذر وجريء وشكّاك: "وحكوا: إنّ الحياة معه لا تطاق، فهو لا يثق إلا بنفسه، ولا يثبت في مكان. وفي الأيام الأخيرة صار حذرًا يشكّ بأيّ إنسان، ويريد أن يفرض سطوته. بدا كأنّه يميل لقيادة عصابة ضدّ الدرك، يرسم لها كيف تعيش، ومتى تنهب المخافر وتضربها، وكيف توزّع الغنائم، وعدم السماح لأحد بالذهاب إلى زوجته وأطفاله. كان يريد أن يكون زعيمًا، وكلٌّ منّا كان يشعر بأنّه زعيم. لقد تركناه بعد حين وكلٌّ سار في سبيله، لكنّنا أقسمنا ألا نخون" (ص. 63)، يمكن أن نأخذه على محمل الصّدق، رغم أنّه من شخصيّات غير موثوق بها، وذلك لأنّ هذا الكلام يأتي من عدّة أشخاص عاشوا معه، ولأنّ قِسمًا من هذه الاوصاف وردت على لسان الرّاوي العليم في أماكن أخرى، كذلك فإنّ أعمال وأقوال شاهين تؤكّد ذلك.
2.2.1 الرّسم غير المباشر– التصويريّ
في هذا الأسلوب يستنتج القارئ استنتاجات معيّنة عن طبع الشخصيّة وصفاتها بدون أن يصرَّح بها مباشرة في النصّ. وأهمّ الوسائل التي تندرج ضمن أساليب التصوير هي: المظهر الخارجيّ، الأفعال، الكلام، البيئة، السيرة الذاتيّة، والاسم.
1. المظهر الخارجيّ
عند الحديث عن المظهر الخارجيّ أو الشّكل يجدر التفريق بين أمرين:
أ. الشّكل الموهوب الذي لا دخل للشخصيّة في تكوينه ولا قِبَلَ لها في تغييره[9]. فشاهين رجل صغير ونحيل طوله مائة وأربعة وستّون سنتمترًا، ووزنه ستّون كيلوغرامًا: "بغتة يظهر رجل صغير ونحيل، محفور الوجه بالتعب والشقاءات. يولد من نسل التعساء والمنبوذين، طوله مئة وأربعة وستون سنتمترًا، ووزنه ستون كيلوغرامًا من اللحم والعظم والدم. يهز الأرض، يصدعها تحت الورثة اللاشرعيين..." (ص. 47). هنا تظهر المفارقة بين جسم شاهين النحيل وقِصره من جهة، وفعله الكبير من جهة أخرى، هذا الرّجل رغم صغر جسمه يمتلك القوّة والعزم والإصرار بحيث استطاع أن يهزّ الأرض تحت أقدام السلطة. كما أنّ جسمه النحيل يشير إلى كدحه وتعبه. كذلك فإنّ وجهه أسمر برونزيّ وهذا يشير إلى تعرّضه للشمس، فهو فلاح يعمل في أرضه طول النهار، ولذلك فمن الطبيعيّ أن يكون وجهه أسمر.
ب. الشكل المكتسب: وهي تلك الصّفات التي تتحكم بها الشخصيّة ذاتها. فشاهين وشَمَ صورة سكّين على عضلة زنده الأيمن، وصورة قلب على زنده الأيسر: "وكجميع الفلاحين الشباب المعتزّين برجولتهم، بان وشم سكّين يتمدّد على عضلة زنده الأيمن، رمزًا رومانسيًّا للفارس الريفيّ، وعلى الأيسر قلب يرمز للمرأة التي يحبها، ويقتنص الوحوش من أجلها لترضى" (ص. 13). فهذا الشكل يفسره الرّاوي بصراحة، فشاهين يعتزّ بنفسه وقوّته وحبّه للمرأة. وذراعاه قاسيتان وقويّتان.
أمّا لباسه، فلا نعرف عنه سوى أنّه يعتمر الكوفيّة السوداء والعقال: "حين تمدّد على الحصير بدا وجهه تحت الضوء الخافت مموّجًا باحمرار برونزيّ. عيناه لامعتان وشعر صدره الأشعث ملوّث بالطحين والغبار. رمى حذاءه، ونزع كوفيّته السوداء وعقاله، وشمّر عن ساعديه ليغتسل من وعثائه" (ص. 13). فالكوفيّة السوداء تشير إلى انتمائه الطبقيّ، أي إلى طبقة الفلاحين الكادحين، لأنّ طبقة الإقطاعيّين تعتمر الكوفيّة الصفراء، أمّا الدّرك فيعتمرون الكوفيّة البيضاء: "سمع الرجل وقع حوافر حصان. فتح الباب فأطلّ وجه الحارس بكوفيّته البيضاء" (ص. 17). وربّما يرمز اللون الأسود هنا إلى سواد أيّام الفلاحين وقهرهم وموتهم ذلاً وجوعًا خاصّة بوجود هذه الثنائيّة الضّديّة بين كوفيّة الحارس البيضاء وكوفيّة الفلاح السوداء.
ومع هرب شاهين إلى الجبال ومطاردة الدّرك له أصبح وجهه أكثر نحافة، وذقنه سوداء خشنة: "وإذ جلس على الحصير مادًا ساقيه المتعبتين جلسَتْ [زوجته] قربه تتملاه بوجهه النحيف وذقنه السوداء الخشنة، وعينيه وقد غار فيهما الفرح القديم" (ص. 32). فهو يعاني من التعب والمطاردة والجوع والحزن والهمّ بسبب ما آلت إليه أحواله، وبُعده عن بيته وزوجته وابنه.
2. أعمال الشخصيّة
من خلال أعمال شاهين نستطيع التعرّف إلى شخصيّته المركّبة، وسِماتها المتناقضة أحيانًا. فهو يتعامل مع الآخرين باحترام ولطافة، فعندما جاء الحارس يطلب منه حصّة الآغا استقبله بحفاوة: "واحتفى به. دعاه إلى الجلوس فاعتذر. وطلب إليه أن يشرب شيئًا من الزوفا فامتعض" (ص. 17)، ولكنّه في نفس الوقت لا يقبل الإهانة، فعندما وصف الحارس الفلاحين بالحراميّة والكلاب اشتعل غضبًا وضربه: "وإذ حاذاه أخذه بقسوة قبضتيه، هزّه ثم رفعه نحو الأعلى وطرحه أرضًا. ضربه بوجع حتى صرخ فالتمّ الفلاحون وخلصوه: شاهين هل جننت؟
- ألم تسمعوه؟ قال عنا إننا كلاب نزحف على أقدام الآغا" (ص. 18).
كذلك يُظهر هذا العمل شجاعته وقوّته وعدم سكوته على الضّيم.
وتظهر السّمات المتناقضة عند شاهين، فهو قاسٍ وصلب من ناحية، ولم يُسقِط دمعة واحدة عندما عُذّب وضُرب في مخفر الشّرطة: "وفي مخفر الشرطة ضُرب ذلك الفلاح الأعزل بالأيدي وكعوب البنادق والسياط وأحذية الجند. وإلى جدار المخفر أوثق وصلبت يداه، ثم ضرب أيضًا حتى بلّله الدم. لم تكن شرطة فرنسا ولا درك بني عثمان هي التي ضربت شاهين بأحذيتها هذه المرة، على صدره وظهره ومعدته بوحشية ولؤم. ومع ذلك لم تسقط من عيني ذلك الفلاح المسكين دمعة واحدة" (ص. 19)، ولكنّه يحمل في جنباته قلبًا مُحبًّا نابضًا بالرّقة والانفعال من ناحية أخرى، حتى إنّه لم يستطع أن يحبس دموعه عندما ودّع زوجته بعد معركة حرش الغضبان: "وبين الذعر والحزن البعيد والفقد، طوّقها بذراعية القاسيتين. شدّها إليه بودّ وداعيّ وألم. وتمرّدَ بكاءٌ محتقن" (ص. 44). وكذلك بكى شاهين عندما تعارك مع ضرغام، أحد الفراريّين، الذي طلب من شاهين أن يسلّم نفسه للدّرك، فضربه شاهين ثم اعتذر له: "وبذهول، بين مصدّقين وواهمين، رأى الفلاحون عناق شاهين لضرغام في تلك الليلة الأخيرة، وقالوا إنهما بكيا كثيرًا" (ص. 68). كما يظهَر وجهه الإنسانيّ المحبّ العطوف من خلال سلوكه مع ابنه عليّ: "قبّله، ومرّغ وجهه الملتحي بعينيه وشعره وأنفه. شمّ رائحته، وبصمت بكى" (ص. 31). وحتّى إنّه كان يشعر أحيانًا بالشفقة على الدّرك رغم الحرب الضّروس بينه وبينهم: "قال الرّاوي: وكانت تداهمه رحمة مفاجئة إذ يراهم عابرين. ويتذكّر أنّ لهم أطفالاً ونسوة وأنهم يريدون العودة إلى بيوتهم أحياء" (ص. 80).
تشير أعماله أيضًا إلى قوّة تحمّله، وقوّته الجسديّة، وقدرته القتاليّة، فقد خاض معارك عديدة مع الدّرك وخرج كلّ مرّة منتصرًا وموقعًا الخسائر الكثيرة بينهم. ففي معركة حرش الغضبان حاصروه بالجنود وبعض المصفّحات واستمرّت المعركة من الصّباح حتى المساء: "من مكمن وراء صخرة إلى مكمن، ومن خلف جذع إلى آخر كان يتنقل واثبًا كفهد جُرحت حياته، وتاريخه. أرادوا جسده غنيمة فأبى" (ص. 43). وعندما تسلّل إلى بيته قبل ذلك ووشى به المختار حاصروه، ولكنّه قاومهم وأسقط العديد منهم قتلى: "وعن تلك الليلة الغريبة روى الشهود: إنّ رجلاً بمفرده قاوم سريّة من الشرطة، طوّقته ولم تستطع قتله أو أسره. قالوا إنه كان يهدّف على بهق الرصاص والتماعاته، وما كانوا قد أخذوا أماكنهم عندما بدأ يصطادهم عن ظهور جيادهم، ويرمي أشباحهم تحت ضوء النجوم، فكانت حشرجات احتضارهم تندغم مع صهيل الخيل والهلع المفاجئ، داوية في ليل جهم، يردد صداها الفاجع الصخور والوديان العميقة" (ص. 34)، وتحوّل شاهين بعد هذه المعركة إلى أسطورة.
هذه المعارك كانت في معظمها دفاعًا عن النفس، ولم يكن هدفه القتل باستثناء المرّة الأولى التي هرب فيها من السّجن وقتلَ شرطيين. ففي عدّة مناسبات كان باستطاعته قتل الدّرك الا أنّه لم يفعل، فعندما هاجم شاهين مع الفراريّين مزرعة الآغا وقَصره اكتفَوا بأخذ الأسلحة من الدّرك. وكان يراقبهم من التّلال وخلف الصخور، وكانوا على مرمى بندقيّته (ص. 80)، حتّى إنّه كانت تداهمه رحمة مفاجئة حين يراهم عابرين. وكان باستطاعته قتل القائد العامّ الذي جاءه إلى التلال يطلب منه الاستسلام: "وجاء صوت شاهين: لا تقترب أكثر. أستطيع أن أقتلك لكنني لا أريد، عد من حيث أتيت" (ص. 49). وكان عنده حسّ طبقيّ بالفطرة فلم يسرق فقيرًا، ولا أهان فلاحًا، ولا سطا على القرى الآمنة (ص. 60).
نعرف أنّ شاهين كان يتّصف بالحذر والشكّ: "بحذر يخرج شاهين من وكره، يتنصت ثم يعتلي صخرة وعلى جدار الصخرة تحت متناول يده، وَكَأ بندقيته" (ص. 25). ولم يكن ينام في مكان ليلتين، ينتقل بين الأدغال وضواحي القرى ولا يأوي إلى المنازل" (ص. 62)، "وهو لا يثق إلا بنفسه، ولا يثبت في مكان" (ص. 63).
واتّصف شاهين بقدرته على التكيّف مع الطبيعة القاسية، وبقدرته على تحمّل الجوع والبرد والمخاطر: "عرف كهوف الجبل ومطلاته، مآزره وزواياه المهجورة والمشرفة على الدروب والقرى. وفي مكان واحد لم يقطن أو يستقرّ. وعرف الجوع والبرد والوحشة. ومع الزّمن بدأ يحصد أعشاب البرّ ويأكلها. يتدفّأ بحطب الغابات، ويشرب مياه العيون والسواقي" (ص. 29). وعندما انضمّت إليه زوجته شفيقة في حرش الغضبان، "أكلا حيوانات برية اصطادها شاهين، وأعشابًا جمعتها شفيقة من التلال القريبة. وعاشا كحيوانين بريّين أعادا حياة الإنسان البدائيّ في طوره الأول" (ص. 42). وحتى إنّ الفراريّين لم يستطيعوا تحمّل قسوة هذه الحياة فتركوا شاهين وعادوا إلى بيوتهم: "حياة الفراريّة ممتعة وصعبة. في البدء مثيرة وبعد حين تصبح قاسية وشاهين وحده يستطيع أن يستمرّ مع الشقاء والبرد والخوف. الليالي والوديان علمته الصبر حتى كسر عليها. ثم برقبته دماء الدرك الذين قتلهم" (ص. 63).
3. أقوال الشخصيّة
القول، كإحدى وسائل بناء الشخصيّة القصصيّة، ينقسم إلى قسمين: الحوار(Dialogue) والحوار الداخليّ (Monologue). القول على نوعيه، وبأسلوبه، أو مضمونه يكشف بعضًا من جوانب الشخصيّة القصصيّة.
يبدو شاهين مؤدَّبًا في كلامه مع الآخرين، فعندما يجوع في الجبال ينـزل إلى أحد البيوت، ويطلب الطعام بأدب من المرأة: "ونحو القرى المجاورة انحدر الفهد الجائع يطلب طعامًا. - طعام لعابر سبيل هل لديك يا خالة؟" (ص. 26). وعندما يدركه التعب والبرد، ويلطم الثلج وجهه في الظلام الحالك، فيرى بيتًا عن بعد، يذهب إلى البيت ويسأل صاحبه الشيخ بأدب: "- عندك مكان لغريب يا عمّ؟" (ص. 85). وحتى عندما يتكلّم مع حارس الآغا فإنه يتكلّم بأدب وبتواضع في البداية، ولكن عندما يهينه الحارس فإنّه يغضب: "تقدم شاهين نحوه وهو يشتعل غضبًا: أنت ابن زانية. ولدتك أمك على سكة فرنسا. قد نكون فقراء لكننا لسنا كلابًا يا ابن العاهرة" (ص. 18). فشاهين يدافع عن كرامته ولا يقبل الإهانة. ويغضب شاهين عندما يطلب منه ضرغام أحد الفراريّين الذين كانوا معه، أن يسلّم نفسه للدّرك، يغضب من الفراريّين بسبب عدم وعيهم ومن منطقهم الأعوج: "تقول بأنني وِزر هذه القرى. والذين يسرقونكم في الصباح والضحى والأماسي. الذين نهبوا أراضيكم أيام الثورة، والذين يأكلون دجاجكم وسمنكم ويدخنون أجود التبغ من مزارعكم ثم يسوقونكم نحو المخافر كما تساق الكلاب [...] أهؤلاء هم الناس الطيبون؟ النّاس الذين يجب أن نقدّم لهم رقبة شاهين ودم شاهين لننجو. هاه. قل؟" (ص. 66). ولكن رغم سرعة غضبه فهو طيّب القلب ويبدو ذلك من خلال اعتذاره لضرغام بعد أن ضربه وتعارك معه. وكذلك يغضب شاهين عندما يلحّ عليه الشيخ بأسئلة كثيرة في الوقت الذي يعاني فيه من التعب والبرد واليأس: "ومن رأسه الموجَع صرخ بالعجوز بصوت وحشيّ: إيه.. أأنت الديّان حتى تسألني جميع هذه الأسئلة؟" (ص. 86)، ولكنّه سرعان ما يهدأ ويعود إلى طبيعته الهادئة.
|
- "ألم تسمع كلمة السر؟
- للخيانة كلمة سرّ مشابهة.
- أتشكّ بي؟
- ربما قسروكِ يومًا لاصطيادي" (ص. 38).
ونلاحظ تفاخره وإعجابه بنفسه عندما يحكي للفراريّين كيف نزل إلى مصياف وصعد إلى السّراي، واسترق السمع من زاوية الشبّاك على قائد الفصيل وهو يتحدّث إلى عليّ الصالح أحد الفراريّين من أصدقاء شاهين (ص. 64).
ويظهر استهتاره بالدّرك، وثقته بنفسه من خلال حواره الداخليّ عندما يقرّر أن يتسلّل إلى بيته ليلاً: "خطوات حذرة وفدائيّة.
- إلى أين؟
- إلى البيت.
- والمتربصون هناك؟
- نُوَّم أغبياء، يشربون ويأكلون ولا ينتظرون قدوم أحد" (ص. 30).
لا بد من الإشارة إلى أنّ الرّاويَ/ الكاتب الضمنيّ يضع أحيانًا على لسان شاهين كلامًا لا يعرفه شاهين، فعندما يصرخ شاهين بضرغام والساهرين يقول كلامًا يعكس وعيًا طبقيًًّا واضحًا، ولكن هذا لم يكن يعرفه شاهين (ص. 66)، أو عندما يخاطب شاهين في حواره الداخليّ زوجته قائلاً: "شفيقة، يا أرضًا مستباحة!" (ص. 26)، فهذه ليست لغته بل لغة الكاتب.
هكذا يظهر الانسجام بين القول والفعل في شخصيّة شاهين، فإذا كانت شخصيّته قد جمعت كثيرًا من الأضداد في الفعل فإنّ القول أكّد هذه الأضداد، فهو يبدو تارةً حلو الكلام، هادئًا، ولكنّه سرعان ما يغضب ويثور تارةً أخرى. ويبدو حذرًا وشكّاكًا أحيانًا، وواثقًا من نفسه ومستهترًا بالدّرك أحيانًا أخرى، وطورًا حاقدًا كارهًا وصلبًا، وذا وجه إنسانيّ تسيل دموعه طورًا آخر.
4. بيئة الشخصيّة
البيئة المكانيّة للشخصيّة، والبيئة الإنسانيّة تكشفان بعض جوانب الشخصيّة وصفاتها. فشاهين يعيش في بيت ترابيّ مسقوف بالطين والحطب مثله مثل باقي الفلاحين، وهذا يشير إلى فقره وانتمائه الطبقيّ. حياته محدودة لا تتجاوز البيت والحقل والطاحونة والعين، ولكنّها رغم التعب والفقر والجهل كانت حياة رضيّة قانعة. وتبدأ الرواية بوصف الفقر الذي أصاب عائلة شاهين بسبب المحل، فالبقرات غلّ حليبها، والخابيات فرغت من المؤونة، ولم يبقَ شيء لهذه العائلة لتأكله سوى بعض الشعير. هذه العائلة الصغيرة المكوَّنة من شاهين وزوجته شفيقة وابنهما عليّ تعيش في حبّ ووئام، ولكن خيّم الحزن عليها بسبب الجوع، حتى إنّ شفيقة التي كانت تغنّي بصوتها النّاعم الذي يسحب القلب، صمت غناؤها الآن، وخاصّة بعد تمرّد زوجها وغيابه عنها في الجبال.
إلى جانب ذلك فإن الشخصيّات، التي تشكّل الإطار الإنسانيّ الذي يتحرّك فيه شاهين، هي في مجموعها فلاحون فقراء يعملون أُجراء ومرابعين عند الإقطاعيّين. ويتميّز الفلاحون بالجهل والقناعة والاستكانة.
أمّا البيئة الطبيعيّة فهي لا تبني الشخصيّة أو صفاتها، وإنما تبرزها وتعزّزها، فالمنظر الطبيعيّ، والبيئة الطبيعيّة في الرواية تشير إلى علاقة تناظريّة تشابهيّة. فالصباحُ المتعب من صباحات الخريف، والريحُ التي تعول كذئبة فقدت أبناءها في وديان سيغاتا، والغيمُ المطارَد بالريح والذي حجب شمس الصّباح، وتوجّعُ ورق السنديان، كلُّ هذا يشير إلى حالة شاهين وعائلته، فهذا الوصف التعبيريّ يناظر ويشابه نفسيّة شاهين المهمومة والحزينة. وينسجم وصف البيئة الطبيعيّة مع اعتقال شاهين وتعذيبه، ويمهّد لتمرّد شاهين والأحداث المؤسفة: "سرب من الغربان السود عبَر الفضاء، وعلى الشير المطلّ على وديان الضيعة نعبت بومة" (ص. 20). كذلك فإنّ البيئة الطبيعيّة، التي أصبحت مسكن شاهين، تشير بقسوتها إلى قسوة شاهين وتمرّسه بالصّعاب: "فوق التلال القريبة أقام الوحش مملكته الجديدة. وِسادته أرض رطبة وعشب، وجدرانه الأشجار والصخور، وسقفه السماء العارية" (ص. 24).
5. السّيرة الذاتيّة
تساعد السّيرة الذاتيّة في تكوين صورة واضحة للشخصيّة، فهي تضيء بعض الجوانب الغامضة في حياة الشخصيّة. في الرّواية لا يوجد شرح مفصّل لطفولة شاهين، ولكنّنا نعرف أنّه ولد في قرية سيغاتا فهي "أرض الطفولة والتعب والأفراح القديمة" (ص. 45). ويسترجع شاهين طفولته، وصباه، والعرس، وموت والده بدون إعطاء أيّة تفاصيل (ص. 90)، ولكنّه كان ثائرًا ضدّ الاستعمار الفرنسيّ لعدّة سنوات بحيث اكتسب خبرة قتاليّة عالية، بالإضافة إلى تعوّده على حياة البراري والغابات: "البراري مرّة أخرى والغابات، وقامات الصخور الرماديّة. فرنسا والثورة" (ص. 22). وبعد الثورة تحوّل شاهين إلى مُرابع يحرث الأرض ويزرعها وفي نهاية الموسم يقدّم ثلاثة أرباع المحصول للآغا.
ومن خلال الاسترجاع أيضًا نعرف أنّ شاهين بنى بيته بالتعاون مع زوجته: "البيت الذي بناه من حجارة المقالع، وخشب الحور والسنديان. شفيقة طيّنته معه. حملت جرار الماء من العين. ومن الداخل رشمته بالحوّار الأبيض المبهج، وإذ يقبل موسم الأمطار كل عام كانت تدور حوله، تطيّن ما تقشر من جلده، وتدحل سطحه بعد أن تفرشه بالتبن وخفيف المياه. وإبّان ذلك تغنّي بصوتها الناعم الذي يسحب القلب. لقد صمت غناء شفيقة الآن كما يصمت هزار الكروم بعد غياب رفيقه" (ص. 32). هذا الاسترجاع ذو الوظيفة التفسيريّة يُظهر لنا سعادة شاهين وزوجته في الماضي رغم الكدح والتعب، هذه السّعادة تحوّلت الآن إلى شقاء.
6. الاسم
الاسم في الرواية يدلّ على صفات الشخصيّة المركزيّة، فشاهين من أسماء الصّقر، والصّقر معروف بإقامته في الأماكن العالية، وكذلك بحدّة نظره. والرّفعة تدل على الأخلاق العالية وعدم قبول الظلم، ومما يعزّز ذلك كنية شاهين، فكنيته أبو عليّ وهذه الكنية معروفة في الأوساط الشعبيّة حيث تشير إلى القوّة، والإباء، والكبرياء. ولقب شاهين الفهد وهو كذلك عنوان الرواية مما يؤكّد دلالتها ومعانيها[10]. فالفهد خفيف الحركة وسريع، يعيش في الجبال ويستطيع تسلّق الأماكن العالية. وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ شاهين والفهد ينتميان إلى حقل الطبيعة، أما أبو عليّ فينتمي إلى حقل الإنسان، هكذا جمعت الشخصيّة نقيضين ولكنّ وجود اسمين ينتميان لحقل الطبيعة مقابل اسم من حقل الإنسان يشير إلى ميل الشخصيّة إلى الطبيعة لأنّها أرحم من الإنسان، خاصّة وأنّ الأحداث تشير إلى تآلف الشخصيّة مع الطبيعة.
وتأتي هذه الدلالات لتعزّز أوصاف الرّاوي لشخصيّة شاهين، فهو يصف عينيه بالصقريّتين دلالة على الحدّة والحذر: "عيناه الصقريّتان تدوران بذعرٍ خوفَ المفاجأة" (ص. 26). ويتأسطر شاهين فيتحوّل إلى صقر: "ثم يمضي كشهاب في العتمة، طاويًا الآفاق، قدماه تسبحان في الفضاء، وعيناه المومضتان تخرقان العتم. يطير.. يطير. حتى أعلى قمّة ويحطّ هناك، يأكل مع الوحش والغزلان وينام في أعالي الشجر" (ص. 51). أمّا لقب الفهد فيشير، إضافة إلى الخفّة في الحركة والسرعة، إلى القدرة القتاليّة التي يتمتّع بها.
وتَظهر الكنية أبو عليّ في بداية الرواية، ثمّ شاهين، ثمّ الفهد وذلك دلالة على الانتقال من حقل الإنسان إلى حقل الطبيعة. ومن المهمّ بالنّسبة للكاتب أن يعرِف القارئ اسم الشخصيّة من البداية ليتابع الأحداث التي تقوم بها، خاصّة وأنّ الحبكة تبدأ من بداية الرواية.
3.1 موقع الشخصيّة المركزيّة: بطل أو لا بطل
سنقوم بدراسة موقع الشخصيّة المركزيّة من مفهوم البطولة بالاعتماد على الموديل الخماسيّ الذي اقترحه إبراهيم طٰه[11]. هذا النموذج بفئاته الثلاث: قبل العمل (المحفّز، الرّغبة، القدرة)، العمل (التنفيذ)، بعد العمل (النتيجة)، يفترض أنّ أيّ نصّ قصصيّ فيه ظرف غياب، هذا الظّرف يعني وجود خطأ ما، أو نقص ما لا تستطيع الشخصيّة المركزيّة قبوله، ولذلك تتصوّر نفسها مجبرة على إتمامه وإصلاحه. فإذا نجحت في تحقيق هدفها كانت بطلاً، وإذا أخفقت كانت لا بطلاً[12]ً(Anti-hero)، أمّا إذا كان نجاحها جزئيًّا منقوصًا فإنها تكون بطلاً جزئيًّا (semi-hero).
لا بدّ من الإشارة، أوّلاً، إلى أنّ الهدف في رواية الفهد قد تشكّل بتأثير الظروف التي يعيشها شاهين في الواقع النصيّ. فشاهين كان فلاحًا مُرابعًا، وفي بداية الرواية يخبرنا الرّاوي أنّه جاء عام محل، فلم تغلّ الأرض حتى اضطرّ شاهين أن يطحن بعض الشعير لعائلته. وهنا يأتي الحارس يطلب حصّة الآغا ويهدّد بسحب الأرض إذا لم تُدفع. وعندما يتّهم الحارس الفلاحين كلّهم بالسّرقة وأنهم حراميّة، ويصفهم بالكلاب، يثور شاهين ويضربه. وفي الظهيرة جاء الحارس والآغا والدّرك، واعتُقل شاهين. في المخفر يُضرب شاهين ويعذّب بوحشيّة. وفي مساء ذلك اليوم يهرب شاهين من المخفر ويأتي إلى بيته، يأخذ بارودته ويبدأ تمرّده ومقاومته للسلطة الممثَّلة في الدّرك.
هدف شاهين، إذن، هو: ردّ الظلم ومقاومته وإحقاق العدل، أو كما عبّر الرّاوي صراحة في آخر سطر من الرواية: "قد تمرّد ومات من أجل الحريّة والأرض" (ص. 102).
لقد كان إقرار الهدف سريعًا، وكذا انتقال شاهين من الفئة الأولى، قبل العمل، إلى الفئة الثانية، العمل. وقد تضافرت عدّة عواملَ ساعدت في إقرار الهدف، ويبدو أنّ قرار التمرّد، أو المحفّز كان توقّع شاهين بأنّ الآغا سيسحب الأرض منه، ويبدو أنّ هذا الإجراء كان شائعًا في ذلك الوقت. فعندما عاد شاهين من المطحنة، وجد زوجته حزينة، ثم أخبرته أنّ الحارس جاء يريد حصّة الآغا من محاصيل السّنة.
"كان بخار الزوفا يتلوى خيوطاً هلاميّة ساخنة، تلتقي بالخيوط الحارّة التي تصاعدت من أعماق الرّجل لتتشكّل غضبًا على جبهته الصارمة. وحوّم صمت. بلا وعي طرفت عينا الفلاح نحو السّقف [حيث البارودة]. رفرفتا فوق وجه الطفل النائم، وعلى وجه شفيقة استقرّتا [...] وطوال الليل لم ينم. كانت عيناه معلّقتين في بؤرة ما من السقف وكانت شفيقة تنهنه بصمت" (ص: 14-15).
يؤكّد الاقتباس أنّ شاهين مرّ في صراع داخليّ كبير، فمن ناحية لا يستطيع تقديم حصّة الآغا، وبالتالي ستُسحب الأرض منه، وتتعرّض عائلته للجوع، وهذا مخفّز للدفاع عن أرضه ومصدر رزقه وقوت عائلته، ومن ناحية أخرى إذا ثار وتمرّد ستتشتّت عائلته، وسيبتعد عنها. ويبدو أنّ شاهين لم يصل إلى قرار نهائيّ وإن كان يميل إلى التمرّد، وممّا يدلّ على ذلك أنّ عينيه كانتا مركّزتين على موقع البارودة في السقف. والدّليل على عدم وصول شاهين إلى قرار نهائيّ هو أنّه لم يقم بأيّ عملٍ أو بأيّ استعداد على الأقلّ، ولربما كان في نفسه بصيص من الأمل بإقناع الحارس، عندما يأتي، بأنّه لا يملك حصّة الآغا بسبب المحل، ومما يرجّح ذلك استقباله الجيّد واحتفاؤه به. ولكن عندما جاء الحارس وبدأ يتّهم الفلاحين – وبضمنهم شاهين- بالسّرقة، ويصفهم بالكلاب، ثارت ثائرة شاهين فدافع عن كرامته وضرب الحارس، وهنا تمّ الانتقال من مرحلة المحفّز إلى مرحلة الرّغبة في التمرّد وردّ الظّلم. عندما جاء الفلاحون وخلّصوا الحارس من بين يديه، اعتبروا عمل شاهين جنونًا: "شاهين هل جننت؟
- ألم تسمعوه؟ قال عنّا إنّنا كلاب نزحف على أقدام الآغا!
أبعدوه فصرخ: يا ابن الزانية قُل لابن الكلبة آغاتك لا حنطة له عندي وليبلط البحر ويشربه" (ص. 18). ثم جاء اعتقال شاهين وضربه وتعذيبه بوحشيّة عاملاً آخر في إقرار الهدف والانتقال إلى الفئة الثانية، وهي العمل أو التنفيذ.
تجدر الإشارة إلى أنّ العوامل التي أثّرت على إقرار الهدف هي خارجيّة في معظمها فهي إهانة الحارس له وتهديده بسحب الأرض، وضربه وتعذيبه، ولكن كانت هناك عوامل داخليّة ذاتيّة تتعلّق بالشخصيّة ذاتها وتركيبها النفسيّ. فلو كانت شخصيّةً عاديّة لسكتت على الإهانة والضّيم، ومما يؤكّد ذلك أنّ ضرب شاهين لحارس الآغا اعتُبر جنونًا من قبل الفلاحين. فما هي العوامل الذاتيّة التي تضافرت مع العوامل الخارجيّة – الموضوعيّة لإقرار الهدف؟
كان شاهين شابًّا فلاحًا معتزًّا بنفسه وبرجولته كما يخبرنا الرّاوي، والدليل على ذلك وشم السكين على عضلة زنده الأيمن، ووشم القلب على عضلة زنده الأيسر. وكانت كنيته أبا عليّ دلالةً على القوّة والشّهامة. ولذلك فإنّه يرفض الإهانة والذلّ وخاصّة إذا جاءت الإهانة من بني جِلدته. وعامل آخر هو أنّ شاهين قاوم المستعمرين سنوات عديدة ممّا أكسبه الثّقة بالنّفس والاعتزاز، وعدم قبول الظّلم.
إنّ ضرب شاهين وتعذيبه أثّر كثيرًا في نفسه، واعتبره إهانةً لا يمكن السكوتُ عليها. من هنا نستنتج أنّ تكوينه النفسيّ كان عاملاً هامًّا في استعداده لإقرار الهدف: "ما كان بودّه أن يحدث ما حدث. غير أنّ الإهانة كانت قاسيةً لا تُحتمل. لو ارتضاها لفقد شيئًا من إنسانيّته. قال له ذلك: الصخر الذي لا ينكسر إلا بالقوة. والأرض التي لا تنبت زرعًا بلا مطر. والريح التي تثور في ليالي سيغاتا [...] " (ص. 33).
رأينا حتّى الآن انتقال شاهين من المحفّز إلى الرّغبة، وتوفّرت رغبة شديدة للتمرّد والانتقال إلى مرحلة العمل، ولكنّ الرّغبة لا تكفي إذ يجب توفّر القدرة الفعليّة لتنفيذ هذا الانتقال. فما هي القدرات التي يمتلكها شاهين أو المتوفّرة له والتي جعلته يُقْدم على التمرّد؟
لقد توفّرت عدّة مقوّمات جعلت شاهين يُقْدم على التمرّد، وهي:
أ. شاهين شابّ قويّ الجسم رغم صغره ونحوله، بل إنّ صغر حجمه كان عاملاً من عوامل قوّته، فهو خفيف كالفهد، وسريع الحركة.
ب. امتلاكه للخبرة القتاليّة العالية، فقد شارك في مقاومة المستعمرين لسنوات في الجبال.
ج. المكان الذي يعيش فيه شاهين يقع على سفوح الجبال وفي قلب الغابات، وشاهين يعرف هذه الأماكن ومتدرّب على حياة البراري.
د. امتلاكه لبارودةٍ احتفظ بها من أيّام الثّورة، وهذا من أهمّ العوامل. وكانت شفيقة تنظر إلى هذه البندقيّة وكأنها أفعى تسكن السقف، وأنها ملعونةٌ كالحيّة الرقطاء (ص. 11). حتى إنّ شاهين يعلّق على تمرّده في حوار داخليّ بقوله: "الأفعى ]البندقية[ كانت السبب" (ص. 24).
هـ. امتلاكه الجرأة، والقدرة على التخطيط، ومفاجأة العدوّ (ص. 62).
2.3.1 تنفيذ الهدف وتشكيل النتيجة
هرب شاهين من المخفر، أخذ بندقيّته وبدأ تمرّده بقتل شرطيّين في ذلك المساء. وهكذا بدأت مطاردة السلطة المتمثّلة بالدّرك لشاهين، ودارت عدّة معاركَ بينه وبين الدّرك وكانت يده العليا. ومن أبرز هذه المعارك عندما تسلّل إلى بيته ليلاً ووشى به المختار فحاصروه: "وعن تلك الليلة الغريبة روى الشهود: إنّ رجلاً بمفرده قاوم سريّة من الشرطة، طوقته ولم تستطع قتله أو أسره [...] وفي أعقاب المعركة أحبّه الجياع والذين في نفوسهم يكمن برق التمرّد، وخافه الملاك نهّاب الأرض، والذين سحبوا قتلاهم في ذلك المساء المثير" (ص: 34-35).
ثم جاءت معركة حرش الغضبان حيث حاصروه بالجنود والمصفّحات، وما استسلم، وساعدته زوجته بتقديم الخرطوش، واستمرّت المعركة من الصباح حتى الغروب، واستطاع أن يفلت منهم. ثم قام بالهجوم على مزرعة وقصر الآغا مع الفراريّين الذين انضمّوا له. وتوالت المعارك واشتدّت مطاردة السلطة له.
فما هي العناصر التي وقفت إلى جانب شاهين؟ لقد وقفت عناصر ذاتيّة وساندته، مثل: قدرته القتاليّة العالية، وجرأته، ومفاجآته للعدوّ، وخفّة حركته وسرعته؛ كذلك وقفت عناصر موضوعيّة إلى جانبه، مثل: المكان، فقد كان المكان بجباله وغاباته مكانًا مناسبًا لحرب العصابات التي يقودها شاهين ضدّ السّلطة، وكذلك انضمام بعض الأنفار من المحاربين القدامى إليه، فزوّدوه بالرصاص وقاتلوا معه.
مقابل هذه العناصر وقفت عدّة عناصرَ ضدّ تحقيق الهدف ومنها أيضًا عناصر ذاتيّة وعناصر موضوعيّة.
1. العناصر الذاتيّة
أ. كان شاهين يقوم بتمرّد فرديّ، ولم يكن عنده وعيٌ بأهميّة التنظيم الجماعيّ ضدّ السلطة. وكان هدفه فرديًّا في منطلقاته، ولكنّه يعبّر عن المجموع بطريقة لا واعية: "ويقول: لا. من أجل التائهين، لكنه لا يدرك ذلك. وهم لا يدركون" (ص. 47). وفي غياب الوعي بالتنظيم وأهمّيته لم يحاول شاهين أن يشكّل مقاومة جماعيّة مسلّحة ضدّ السلطة، ولم يطلب المساعدة من أحد[13].
ب. وقفت بعض صفات شاهين عاملاً ضدّه وخاصّة صفة الشكّ الزائد، وحبّ الزعامة، والتسلّط. فقد انضمّ إليه عدد من الفراريّين وحاربوا ومعه، ولكنّهم تركوه جميعًا لعدّة أسباب ومنها هذه الصفات التي ذكرناها: "وحكَوا: إنّ الحياة معه لا تطاق. فهو لا يثق إلا بنفسه، ولا يثبت في مكان. وفي الأيّام الأخيرة صار حذرًا يشكّ بأيّ إنسان، ويريد أن يفرض سطوته. بدا كأنّه يميل لقيادة عصابة ضدّ الدّرك، يرسم لها كيف تعيش، ومتى تنهب المخافر وتضربها، وكيف توزّع الغنائم، وعدم السماح لأحد بالذّهاب إلى زوجته وأطفاله. كان يريد أن يكون زعيمًا، وكلّ منّا كان يشعر بأنّه زعيم" (ص. 63). وبذلك فقد شاهين سندًا قويًّا كان يستطيع أن يعتمد عليه في حربه وفي تأمين الغذاء والمتطلّبات الأخرى الضروريّة.
ج. الوحدة، والجوع، والتّعب، واليأس الذي واجهه شاهين. فمهما كان الجسد قويًّا إلا أنّ له حدودًا في التحمّل. وقد وصل شاهين إلى درجة كبيرة من التعب والبرد في ليالي الشتاء المثلجة حتى ضاقت عليه شعاب الأرض: "الأيام ضيّقه هي الأخرى، والناس ضيقون أيضًا. والغربة الوحشية أنحلت الجسد، سحبت الوميض من عينيه الوعريّتين، ومعابر نفسه كانت غارقة في الضنك والمرارة" (ص. 84).
2. العناصر الموضوعيّة
أ. إنّ شاهين كان يحارب سلطة الدّولة التي تمتلك إمكانيّات عسكريّة وماديّة كبيرة جدًا. وهذه الإمكانيّات وضعت وجنّدت من أجل القضاء عليه، خاصّة بعد أن كسر شاهين هيبة السلطة ومرّغها في الوحل. وقد اتّبعت السلطة في حربها على شاهين عدّة أشكال، فبالإضافة إلى المطاردة العسكرية المباشرة له، اتّبعوا أسلوب الدعاية والحرب النفسيّة، فقد نشروا الأخبار في القرى البعيدة عن قاتل يروّع الآمنين، وفي كلّ مكان وزّعوا أوصافه وصوره. كذلك بثّ القائد العيون في القرى، وأعلن عن جائزة ماليّة لمن يَقبض عليه حيًّا أو ميتًا. وحذّروا الناس من إيوائه وإطعامه، كذلك كانوا يقومون بمداهمة البيوت ليلاً، وتمرير حياة الفلاحين بحيث حمّله بعضُهم المسؤوليّة عمّا يجري لهم.
ب. الزّمان: لقد جاء تمرّد شاهين قبل زمانه في "شروط موضوعيّة لم تكن متهيّئة لأن تحتضن بذور التمرّد وتذروها على الأرض الواسعة، لهذا اختلطت مشاعر الفلاحين نحوه في مزيج من الإعجاب والخوف والنفور والتمني، فضاقت به السبل والمسالك، وأنكرته القرى التي حلّ بها الخراب وطوقها الفزع"[14]. فالفلاحون كان وعيهم ضامرًا، وكانوا يعانون من الجهل والفقر والاستغلال. ونبأ تمرّد شاهين كان محنة وغمّة عليهم. ورغم أنّ كثيرًا من الفلاحين أحبّوه لأنّه خرج وفي نفسه ما في نفوسهم، إلا أنهم لم يفعلوا شيئًا لمساعدته: "قلوبهم معه، وفي سرّهم يدعون له بالنجاة، وفي الغمرة في اللحظة التي توهج فيها، صارخًا بلا وعي جماعيّ بهم: أن انهضوا. كانوا غبارًا وسائمة، يدارون صوت وعيهم الغافي تحت رماد دهور الخوف، وأزمنة الاضطهاد السحيقة، والجهالة العمياء" (ص. 36).
ج. الخيانة: رغم حذر شاهين الشديد إلا أنّ سكّين الخيانة انغرست في ظهره من أقرب الناس إليه، وكما يقول المثل: "مِن مَأمَنِه يُؤتى الحَذِرُ". فبعد أن كانت كلّ ذرّة من جسد شاهين تنضح بالتعب، وكانت نفسه متعبة أكثر، توجّه إلى بيت خاله الذي سلّمه للدّرك. وتجدر الإشارة إلى أنّ موتيف الخيانة واضح في الرواية، فقد بدأت الخيانة بقادة الثّورة الذين تقاسموا الوطن وتحالفوا مع الإقطاع، واستمرت بخيانة الآغا لمرابعيه، وحتى الطبيعة خانت الفلاحين فأمحلت، ثمّ خيانة الناس بوقوفهم صامتين، وجاءت الخيانة المستهجنة من خال شاهين. هذه الخيانة تشهد على تشوّه شخصيّة الإنسان بفعل عوامل القهر والظلم .
هذه العوامل التي وقفت ضدّ شاهين كانت أقوى بكثير من العوامل التي وقفت إلى جانبه، ولذلك فإنّ شاهين انتهى بأن عُذّب في السجن وشُنق في ساحة الشيخ ظاهر في اللاذقية. وبذلك أخفق شاهين في تحقيق هدفه بالتحرّر من الظّلم وإحقاق العدل، وتأسيسًا على ذلك فموقعه في مفهوم البطولة هو لابطل[15].
نخلص إلى القول إنّ أبا عليّ شاهين الموصوف بالفهد هو الشخصيّة المركزيّة من خلال اتّباعنا للمعايير النصيّة للشخصيّة المركزيّة التي وضعها إبراهيم طٰه. ثمّ بحثنا طرائق بناء هذه الشخصيّة بأسلوبيها المباشر وغير المباشر، ورأينا أنّ الرسم المباشر يتوزّع على امتداد النصّ. أمّا الرسم غير المباشر للشخصيّة فقد جاء منسجِمًا ومؤكِّدًا للرّسم المباشر. وبتقديم الرّاوي لصفات الشخصيّة مباشرة فإنّه يقلّص دور القارئ، هذا الأسلوب الذي كان دارجًا في الروايات التقليديّة يهيمن على رواية الفهد وإن كان باعتدال.
وقد درسنا موقع الشخصيّة المركزيّة من مفهوم البطولة معتمدين على موديل إبراهيم طٰه الذي يعتمد على ثلاث مراحل: قبل العمل، العمل، والنتيجة. ورأينا أنّ المرحلة الأولى في الفهد كانت سريعة جدًّا، وقصيرةً من ناحية نصيّة فهي لا تتعدّى ستّ صفحات. وهذه المرحلة التي تتطّلب بحث نفسيّة شاهين كانت صعبة وذلك بسبب غياب المعطيات النصيّة التي تساعدنا في سبر أغوار العالم النفسيّ للشخصيّة. أمّا المرحلة الثانية، وهي مرحلة العمل أو التنفيذ، فتمتدّ على معظم النصّ، ومن هنا تأتي أهميّتها. ودرسنا من خلالها العوامل التي كانت إلى جانب شاهين، والعوامل التي كانت ضدّه. أمّا المرحلة الثالثة وهي المرحلة الحاسمة والتي يتقرّر حسبها موقع الشخصيّة المركزيّة من البطولة فقد كانت رغم قصرها النصيّ حاسمة، إذ أخفق شاهين في تحقيق هدفه في مقاومة الظّلم وإحقاق العدل، وبذلك فهو لا بطل.
من خلال فشل شاهين في تحقيق هدفه يريد الكاتب أن يقدّم الرسالة التي تقول بأنّ التمرّد الفرديّ نتيجته الحتميّة هي الفشل، حتى وإن كان هذا العمل مُمَجَّدًا فهو في كثير من الأحيان ذو عواقب سلبيّة. فأبو عليّ شاهين، أو الفهد إن شئنا، سبق زمنه، ولم تكن الظروف الموضوعيّة ناضجة للثورة، وقد عمل بشكل فرديّ، ولم يكن واعيًا لأهميّة التنظيم والعمل الجماعيّ، ورغم تأييد الناس الصّامت له، إلا أنّ العواقب كانت وخيمة على الناس، فالسلطة اتّبعت الإرهاب ضدّ الفلاحين وسامتهم العذاب. وقد وظّف الكاتب شخصيّة شاهين كلابطل من أجل استصراخ ضمير القارئ لكي يكون شاهدًا على صراع غير متكافئ بين سلطة قويّة ظالمة متحالفة مع الإقطاعيّين، وبين فلاح يمثّل طبقة الفلاحين المقهورين والمظلومين. والهدف المركزيّ من توظيف شخصيّة أبي عليّ شاهين كلابطل هو إبراز ظلم السلطة وبطشها، وأنّ هذا الظّلم سيوّلد نماذج عديدة من أمثال أبي عليّ شاهين تشكّل برقًا يسبق مطر الثّورة.
2. الشخصيّة المركزيّة في رواية الزّمن الموحش
1.2 المعايير النصيّة لتحديد الشخصيّة المركزيّة
لكي نقرّر من هي الشخصيّة المركزيّة نعتمد على معاييرَ نصيّةٍ وضعها إبراهيم طٰه، وهي:
1. حضورها المكثّف في النصّ، ووجود شخصيّات ثانويّة تعمل على إضاءتها.
2. الرسم المفصّل والمتنوّع، وغنى حياتها الروحيّ، وعرضها المتنوّع: أعمالها، كلامها، سلوكها في أوضاع مختلفة، وعلاقاتها بالشخصيّات الأخرى.
3. هل تحظى بتعاطف الرّاوي والمؤلّف الضمنيّ؟
4. هل تحظى باهتمام خاصّ من قبل القارئ؟
نلاحظ أنّ شخصيّة الرّاوي شبلي عبد الله حاضرة بكثافة على امتداد رواية الزمن الموحش (1973)، من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة. فالنصّ يرافق هذه الشخصيّة خطوةً خطوة في رحلتها إلى دمشق مع القادمين من الجبال والسهول زحفًا باتجاه المدن، وهي ليست مجرَّد مرافقة لهم بل هي حاديهم. والراوي يروي روايته من خلال الذّكريات فيسترجع الأحداث التي جرت له في دمشق خلال ثلاث سنوات، وفي هذه المدّة يروي لنا لقاءاته بالشخصيّات الأخرى، آماله وخيباته، أحلامه وتطلّعاته، حواراته وأعماله، وذكريات الطفولة مع والده في الخيمة البحريّة.
الرواية كلّها تستعرض تلك الفترة من حياة الرّاوي في دمشق، والتي يرثيها الآن بعد أن تحطّمت كلّ آماله، وجفّت ينابيع أحلامه، وتحوّلت حياته إلى صحراء قاحلة: "الآن. وليس هناك غير صحراء بلا شجر ولا ماء ولا أنس، عليَّ أن أكون متماسكًا كقديس يستبطن في أعماقه زنديقًا، وأنا أنحدر الهوينا عبر رمال سرابيّة مسكونة بصمت الأصداء ورياح الخماسين الجامحة الملتهبة" (ص. 10).
لقد ترك الرّاوي قريته وقدم إلى دمشق بعد أن أشرقت شمس جديدة عليها، مباركةً الفقراء والرّعاة، والمنبوذين والحفاة، الصنّاع والمظلومين: "وفي ذلك الصباح والفرح قمر ساطع ينير كل سهول النفس ومنحدراتها، سألتْ تلك الأمّ الوحيدة: إلى أين تتركنا وترحل؟ وفي ذلك الصباح أجابها فرحي: إلى الشام. وقالت عجبة: الشام! وماذا لنا في الشام؟ قلت وأنا أودّعها: طلعت عليها شمس الفقراء التي لن تغيب بعد اليوم" (ص. 39).
ولكنّ هذه الشمس التي طلعت، والتي جاء الرّاوي ليتسفّع بدفئها، سرعان ما انكسفت بعد أن لوّثها غبار الأعوام ولطّخها الزّمن، ووقف الرّاوي عاجزًا عن مسح ركام الغبار عنها. ويطلب من حبيبته منى أن تتزوّجه ويخرجا من هذه المدينة التي تلفّعت بالكذب والخداع، إلا أنّ منى ترفض وتغادر دمشق وحيدةً. ويموت سامر البدويّ قتلاً، ويموت وائل الأسديّ في حادث سيّارة، ثم يَقتل مسرورٌ زوجته ديانا، فيبقى الرّاوي وحيدًا بعد أن قتلت دمشق عشّاقها. حتى أمينة التي كان يُفرغ فيها رغباته الجنسيّة تتركه وتغادر دمشق. فالشخصيّات الأخرى هي شخصيّات ثانويّة ذات دور وظيفيّ تضيء الشخصيّة المركزيّة. فالرّاوي يلتقي هذه الشخصيّات التي نتعرّف من خلالها إلى الرّاوي وصفاته الداخليّة وأفكاره وأحلامه وتطلّعاته وأزمته النفسيّة.
فمن خلال شخصيّة منى نعرف أنّ الرّاوي يحبّها ويريد الزّواج منها، وهي التي ترمز للثورة. ونعرف أيضًا كيف انتكست الثورة بسبب الخيانة، فكلّهم خانوا منى بعد أن عاشروها: "عاشرْتُ الجميع في مخادعهم السريّة، معهم سرت في االشوارع وتألمت لآلامهم عندما جاعوا وطوردوا وسجنوا وضربوا، فماذا كانت النتيجة؟ حياة طويلة بدت ككذبة، كنت مخدوعة ومهانة" (ص. 14). ومن خلال الشخصيّات الأخرى نتعرّف إلى أفكار الرّاوي، وهي أنّ هذا الجيل يعاني من العطب نتيجة للوراثة وغياب الحريّة، فكلّ شخصيّة تعاني من عطب ما، حتى الرّاوي نفسه، الذي تتحوّل حياته إلى ملل ورتابة نتيجة للتهميش الذي يصيبه ويصيب المثقفين، والعزلة التي تفرضها السلطة عليهم، يعوّض عن العمل الثوريّ بالخمرة والتسكّع وتفريغ شهوته في أمينة، وأخيرًا في ديانا زوجة مسرور صديقه.
وتظهر شخصيّة راني وهو المثقّف والكاتب، ومن خلال الحوار معه يعرض الرّاوي أفكاره وأيديولوجيّته حول الثورة والوضع العربيّ بجميع نواحيه.
هكذا نلاحظ أنّ الرّاوي هو الخيط الذي ينتظم الرواية بأحداثها وشخصيّاتها وزمكانها. ويمكننا تمثيل ذلك من خلال الخطاطة التالية:
حيث تُظهر هذه الخطاطة أنّ الشخصيّات الثانويّة تحضر في جزء من الرواية ثم تغيب لتحضر مكانها شخصيّة أخرى، بينما يبقى الرّاوي حاضرًا دائمًا، لأنّ حضور أيّ شخصيّة يتمّ من خلال التقائها بالرّاوي.
إنّ شخصيّة الرّاوي شبلي عبد الله تتمتّع برسم مفصّل، فالراوي يقدّم صفاتها وطباعها ويروي أعمالها بشكل مفصّل، ويروي كلامها وسلوكها في أوضاع مختلفة، ويروي عن علاقاتها بالشخصيّات الأخرى. صحيح أنّه لا يرسم ملامحها الخارجيّة إلا أنّه يرسم ملامحها الداخليّة بتفصيل لا تحظى به الشخصيّات الأخرى. والراوي يسرد بالتفصيل أفكارها حول الثورة وحول أسباب الخلل في الوضع العربيّ السّائد، وحول التهديدات التي تحيق بالعرب. كما أنّه يعرض أفكارها وأحلامها وكوابيسها ومن خلالها نتعرّف إلى رغباتها ومخاوفها المكبوتة. وإذا كان الرّاوي يعرض لنا جانبًا واحدًا من جوانب الشخصيّات الأخرى، وخاصّة ما يتعلّق بالعطب الذي يلمّ بها، فإنّه يعرض لنا جوانب شخصيته المختلفة، وتناقضاتها، فتظهر لنا شخصيّة مركّبة ذات وجوه متعدّدة. ومن خلال علاقات الرّاوي بالشخصيّات الأخرى تتوضّح وجوهه وعالمه الداخليّ، من خلال حواره معها، وسلوكه وتفكيره عنها. كذلك فإنّ الرّاويَ هو الذي يهيمن على الحوار الداخليّ، وعلى الاسترجاعات الرئيسيّة، واستحضار طفولته.
3.1.2 تعاطف الكاتب الضّمنيّ مع الشخصيّة
يبدو للقارئ أنّ شخصيّة شبلي عبد الله/ الرّاوي تحظى بتعاطف الكاتب الضمنيّ. فالمؤلّف يرافق الرّاوي في كلّ مراحل مسيرته من قريته إلى دمشق، ثم السنوات التي قضاها هناك، عارضًا أحلامه وخيباته، ثمّ كيف بقي وحيدًا بعد أن مزّقت دمشق شمل شخصيّاته بموت بعضهم ومغادرة البعض الآخر. وكيف سافرت منى حبيببته، ورفضت عرضه عليها بالزواج أو الحياة سويّة في البراري بعيدًا عن زيف المدن وخداعها.
إنّ استعمال الرّاوي لضمير المتكلّم يعطي القارئ انطباعًا بأنّ الكاتب يخاطبه مباشرة بواسطة شخصيّة شبلي، وأنّ الآراء التي يقولها هي نفس آراء المؤلّف وهي شبيهة بالآراء التي يكتبها في مقالاته الفكرية[16]. ومثال على ذلك حواره مع سامر البدويّ حول مفهوم الثورة: "أقول: ولكن أنا لم أقل لا تحرّر الإنسان اقتصاديًّا. ما أردت قوله هو أنّ التحرير الاقتصاديّ لا يؤدي ميكانيكيًّا إلى تحرير البنية النفسيّة. هناك الثقافة والحريّة الفرديّة والوراثة والدوافع. العالم لا تحكمه القوانين الاقتصاديّة فقط. التشريع الذي استُنّ بطريقة تحكمية زجرية بعيدة عن فهم الدوافع النفسية والرغبات البشرية، تشريع فاسد، معادٍ للإنسان. ما هو مهم كيف تنشئ مواطنًا خلاقًا يناقش، يشارك، يرفض أو يقبل بوعي ومسؤولية. يرى الحقائق بعينين مفتوحتين وذهن واسع عميق، مواطن حر من الداخل وليس مصفّدًا يهزّ رأسه موافقًا كعبد" (ص. 126).
شخصيّة شبلي عبد الله تحظى باهتمام خاصّ من قبل القارئ الذي يتعرّف إلى شخصيّته وأفكارها وأعمالها. لماذا قدم شبلي إلى دمشق، ما هي طموحاته، وكيف تعامل مع الشخصيّات الأخرى، وكيف تطوّرت علاقاته بهذه الشخصيّات؟ ويريد القارئ أن يعرف لماذا لم يستطع شبلي أن يحقّق أهدافه التي جاء من أجلها. فالقارئ يعرف من الصفحة الأولى والثانية أنّ الشخصيّة فشلت وأخفقت، لأنّ الرّاوي/ الشخصيّة المركزيّة يصف حياته الآن بأنها صحراء قاحلة، وأنه حزين، وأنّ حبيبته تركته: "الآن رحلت. غابت كحلم هاجس النفس في ليلة صافية، ولم يبق غير الطيوف والتهويمات تهتزّ وتهتزّ مثل زلزال عميق عميق يرجّ الأغوار السحيقة فترتعش الذرات الباطنية التي فتّتها هبوبها السافي الحزين عبر فصول النفس" (ص. 10). لماذا حدث هذا؟ وما هي العوامل التي أوصلت الشخصيّة المركزيّة إلى هذه الحالة؟
تأسيسًا على ما سبق يمكننا الجزم بأنّ شخصيّة الرّاوي شبلي عبد الله هي الشخصيّة المركزيّة، فهي تمتلك المعطيات المطلوبة لكي تعمل بنفسها ولنفسها، وتمتلك الحضور الكامل والمستمرّ، في الوقت الذي تحضر فيه الشخصيّات الأخرى حينًا وتختفي حينًا آخر. إضافة إلى امتلاكها سلطة الحوار الداخليّ والأحلام والكوابيس بينما لا تتكلّم الشخصيّات الأخرى إلا من خلال الحوار، إضافة إلى المؤشّر البنيويّ وهو ابتداء الرواية بها وانتهاؤها بها[17].
2.2 بناء الشخصيّة المركزيّة في رواية الزّمن الموحش
وهو تصريح لفظيّ للصّفة أو الطّبع، ويمكن أن يحيل إلى صفات خارجيّة جسديّة، أو صفات داخليّة، أو صفات تتعلّق بالعادات، إضافة إلى وصف الحالة النفسيّة، أو المركز الاقتصاديّ-الاجتماعيّ.
وفي الزّمن الموحش هناك رسم مباشر لصفات شبلي عبد الله الداخليّة، ومركزه الاجتماعيّ. فالراوي يعاني من القهر الداخليّ، ومن عاداته أنّه يدخّن كثيرًا، ويشرب الخمرة بإفراط، ويتسكّع في الشوارع، وعنده ولع بتحليل الأمور وفلسفتها، شهوانيّ، إباحيّ، فوضويّ، مثقّف ثوريّ علميّ، يحترف الحزن والكآبة، رومانسيّ، يحبّ الريف والبراري، مفتّت من الداخل يبحث عن الأصل، عن الرضى وعن المطلق. شيوعيّ لا يؤمن بالدين. محروم وناقص، مزيج من الفوضى والحريّة وردود الفعل والغضب. أمّا مركزه الاجتماعيّ فهو ابن فلاح هاجر من قريته إلى دمشق ويعمل موظّفًا من الدّرجة السادسة.
هذه الصفات تأتي إمّا على لسان الرّاوي نفسه، أو على لسان الشخصيّات الأخرى التي تعطيه هذه الصفات من خلال حوارها معه، ولا يعترض عليها، ولذلك يمكن أن نعتبرها موثوقًا بها، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الصفات موزّعة على امتداد النصّ، ولا تأتي في كتلة نصيّة واحدة كما هو الحال في الرواية التقليديّة.
2.2.2 الرّسم غير المباشر-التصويريّ
في هذا النوع يستنتج القارئ عن طبع الشخصيّة وصفاتها من دون أن يُصرَّح مباشرة بها في النصّ. وأهمّ الوسائل التي تندرج ضمن أساليب هذا الرّسم هي: المظهر الخارجيّ، والأفعال، والكلام، والبيئة، والسّيرة الذاتيّة، والاسم.
1. المظهر الخارجيّ
عند الحديث عن المظهر الخارجيّ أو الشكل يجدر التفريق بين الشّكل الموهوب الذي لا دخل للشخصيّة في تكوينه، ولا قبل لها في تغييره، والشّكل المكتسب الذي تتحكّم الشخصيّة به، مثل اللباس، وتسريحة الشَّعر وغيرها.
وما نلاحظه في رواية الزّمن الموحش غياب أيّ وصف جسديّ للشخصيّة المركزيّة. وكلّ ما نعرفه أنّ شبلي عبد الله شابّ في حوالي الثلاثين من عمره، أعزب، يعمل موظّفًا في الدرجة السادسة. جسده نحيل، فسامر البدويّ ذو الجسد الإسبارطيّ يهاجم الضعف الجسديّ فيه: "يرنو باحتقار إلى جسدي النحيل ويقول هازئًا: أنا أشكّ برجولتك الجنسية" (ص. 196)، ويظهر ذلك أيضًا عندما يلتقي الرّاوي شبلي عبد الله مع والد وائل الأسدي ويسلّم عليه: "أُحسّ بقبضته القويّة تجمع أصابعي تكاد تحطمها فأسحبها" (ص. 227)، وكذلك عندما يكون الرّاوي في بيت مسرور ويأتي والد مسرور: "سلّم مصافحًا إذ وقفتُ لاستقباله، فشعرتُ بكفه العريضة تسحق أصابعي" (ص. 204). وهذا يشير إلى صغر يديّ الرّاوي وبالتالي إلى صغر جسمه. كذلك فإنّ لياقة شبلي البدنيّة ضعيفة، خاصّة وأنه يكثر من التدخين وشرب الخمرة، ويظهر ذلك عندما يقترح شبلي على منى أن يتسابقا وهما على شاطئ البحر قائلاً لها: "سأجري مئتي متر فوق هذا الرمل الأملس". ويجري ولكنّه لا يستطيع أن يركض كلّ المسافة: "إذ يعيا الجسد يبدأ الهبوط [...] لم يعد بالإمكان الاستمرار في العَدْو. كانت تصيح من خلفي بصوتها اليتيم. وإذ انعطفت نحو اليمين شعرت بالإحباط وانهمر الحزن" (ص. 123).
2. أعمال الشخصيّة المركزيّة
من خلال أعمال شبلي عبد الله نستطيع التعرّف إلى صفاته وشخصيّته. وما يبرز جليًّا في الرواية هو غياب الأفعال الكبيرة، فما يقوم به شبلي هو عمل رتيب يتلخّص في الوظيفة ثم الخمارات، ثم التسكّع في الشوارع وممارسة الجنس. هذه الأعمال تأتي لتُظهر لنا مدى التهميش الذي تعانيه الشخصيّة المركزيّة وباقي الشخصيّات: "زمن قاسٍ بيده سوط. يسوقك من بوابة البيت إلى مستنقع الوظيفة، ثم إلى الشوارع والأمكنة الأخرى" (ص. 70)، "من البيت إلى الوظيفة ثم العكس. استيقاظ وقهوة وثرثرات. حركات عشوائية وظلال باهتة من الضجر" (ص. 181).
والراوي شبلي يريد أن يفعل شيئًا لوطنه، فهو إنسان مثقّف وطنيّ يرغب في المشاركة في بناء الوطن والنهوض به في معارج التطوّر والحضارة والقوّة، ولكنّ راني يقول له غاضبًا: "كيف تفعل وأنت معزول. وأنت لا شيء في حساب الزّمن والوطن والتاريخ؟" (ص. 44). هذه العزلة والتهميش تزرع الإحباط واليأس في نفسه ونفوس المثقّفين أمثاله، فيعوّض عن هذا الغياب عن الفعل بضوضاء الكلمات، والتسكّع في الشوارع، والثّمل، وممارسة الجنس بشهوانيّة مفرطة.
يقابل شبلي صديقه راني في النادي الصيفيّ حيث يشربان الخمرة، ثم يتسكّعان في الشوارع، ثم يذهب إلى بيت أمينة، يمارس الجنس معها ثلاث مرّات أحيانًا في الليلة الواحدة، وهذا يشير إلى شهوانيّة شبلي. ويقابل سامر البدوي وراني وبعض المثقفين والأدباء حيث يتناقشون في أمور الشعر والأدب. ويزور شبلي صديقه مسرور وزوجته ديانا حيث يشرب الخمر، ويبقى أحيانًا مع زوجة مسرور بعد أن يذهب مسرور إلى عمله، وأحيانًا يخرجان للسير في الشوارع. فهو يحبّ أن يسير في الشوارع بصحبة ديانا: "لفحتني نسيمات دمشقية، أشعرتني أنني مَلِك المدينة وأنا أسير مع ديانا" (ص. 147)، وهذا يشير إلى شعورٍ بالنقص، وحبّ الظهور برفقة امرأة. ثم يتطوّر شعور شبلي نحو ديانا إلى رغبة واشتهاء، وأخيرًا إلى ممارسة الجنس معها، وبذلك فهو يخون صديقه. وهنا تظهر ازدواجيّة شبلي وفوضويّته، فهو الذي يحمل هموم الناس والوطن يخون صديقه، وتتغلّب شهوته الجنسيّة على قيم الصداقة والأمانة، وهذا يشير إلى عدم إيمان شبلي بقيمة الصداقة، أو بالأصح إيمانه بالإباحيّة الجنسيّة حتى مع زوجة صديقه.
كذلك تظهر ازدواجيّته من خلال صداقته لوائل الأسدي الذي يمثّل السلطة السياسيّة، فوائل ضابط مخابرات ساديّ يقوم بتعذيب المتّهمين بوحشية فائقة. فالراوي شبلي المؤمن بالثوريّة، والذي يحمل هموم المظلومين والمعذَّبين، يصادق وائل الأسدي، ويشرب الخمرة معه، ويضاجع ناديا ابنة عمّ هدى عشيقة وائل. صحيح أنّ شبلي يُعرّي وائل ويُظهر ساديّته عن طريق المزاح أحيانًا وعن طريق الِجدّ أحيانًا أخرى، إلا أنّ مبرّرات الرّاوي شبلي لصداقته لوائل غير مقنعة.
كذلك تبرز ازدواجيّته بين إيمانه الثوريّ وبين شعوره بتملّك المرأة التي يجاسدها، فشعور تملّكها يعطيه إحساسًا باللذة: "بعيدًا أُوغل أصابعي، أدعها تسوح عبر مروج حريرية عذراء، وبيدي الأخرى أجمعها صوبي ثم أغور فيها، كلّها ملكي" (ص. 32)، "ولم أفكّ الطوق عن جسدها الملتحم بي، وبدا ذلك لذيذًا وعذبًا، يعطي إحساسًا بالملكيّة" (ص. 23).
3. أقوال الشخصيّة
القول، كإحدى وسائل بناء الشخصيّة القصصيّة، ينقسم إلى قسمين: الحوار والحوار الداخليّ. والقول على نوعيه يكشف بعضًا من جوانب الشخصيّة بأسلوبه، أو بمضمونه، أو بهما معًا.
العنصر المهيمن في الرواية هو الكلام، فشبلي يلتقي الشخصيّات المختلفة فيحاورها، وعادةً ما يكون الحوار فكريًّا، عن الأدب قليلاً، وعن الوطن والثورة والناس كثيرًا. فمعظم أصدقاء شبلي مثقّفون، وينتمي معظمهم أيضًا إلى نفس الحزب مثل مسرور وراني وسامر البدوي. ولذلك فإنّ لغته ذات مستوى عالٍ، وفي كثير من الأحيان تكون شاعريّة. ومن خلال كلامه مع منى تظهر مواقفه من الجنس والمرأة، فهو لا يؤمن بقيم الشّرف، بل يؤمن بالحريّة الجنسيّة، فعندما تقول له منى: "العربية الحرّة تموت جوعًا ولا تأكل بثدييها"، يجيبها: "اسمعي لا جوع ولا عطش ولا بطيخ. الجنس ألَحّ من الظمأ والجوع، والتي تتحدثين عنها خرافة صحراوية انقرضت" (ص. 20).
كذلك فإنّ شبلي حزين. من خلال حواراته مع راني وسامر ووائل يظهر حزنه، ويكون فرحًا عندما تكون منى معه: "قال: [راني] عيناكَ نفّاذتان. وقلت: لكنّ وجهيَ كما ترى يحمل نعشًا" (ص. 26). ومن خلال حواره مع أمينة تظهر إباحيّته وشهوانيّته المفرطة، وكذلك عدم الشعور بأيّ إثمٍ دينيّ رادع، بل يظهر عدم إيمانه بالدّين (ص. 36)، ويتمنى أن تأتيَ ثورة تقتلع جذور المحرّمات الدينيّة (ص. 125).
وفي حواره مع راني يظهر ألمه الكبير لأنّه يرى أنّ حياته لا قيمةَ لها لأنّه لا يقدّم شيئًا للوطن: "المهمّ ماذا نقدّم نحن. خمر. ثرثرة. تحليلات اندفاعيّة. حَفرٌ مُضنٍ عن الحرية والمرأة وأشياءَ أخرى لا تُطال" (ص. 41).
وتظهر ثوريّة شبلي من خلال آرائه التي يقولها، فالوطن في رأيه انخراط في عمل قاتل، ويردّ على سلبيّة راني بأنه يجب "الحفر في جدار الكهف [الوطن] حتى الإدماء لفتح كُوّة صغيرة للشمس" (ص. 45).
وتظهر ازدواجيّة الرّاوي شبلي أيضًا، فهو ثوريّ لا يؤمن بالمواضعات الاجتماعيّة من جهة، ولكنّه يخاف من السلطة الاجتماعيّة والسياسيّة من جهة أخرى، ويظهر ذلك عندما يصرخ راني في الشارع خلال تسكّعه مع شبلي: "لتسقط أخلاق السائمة. الموت للشرائع وليعش المارقون. أقول: لو سمعونا؟ انتبه!" (ص. 62)، كذلك تظهر ازدواجيّته من خلال علاقته بأمّه، فهو يضاجع أمينة التي يرى فيها وجه أمّه، وحنان الأمومة (ص. 78، 52)، ولكن عندما يسأله راني إن كان يحبّ أمّه فإنه يجيب بالنفي: "قل لي: هل تحب أمك؟ -لا!
- كانت تخون؟
- كانت غبيّة وحمقاء تكره أبي. كان يقول لي: من العار أن تكون أمك!" (ص. 244). ويبدو أنّه يعاني من عقدة أوديب فهو يحنّ بلا وعيه لأمّه، ويرى وجه أمّه عندما يضاجع أمينة.
ويسترجع الرّاوي طفولته ومعاملة أبيه لأمّه، فكان يضربها بكلّ قسوة ووحشيّة، ويحاول الطفل شبلي أن يحميَها بجسده الصغير، ويتمزّق ألمًا عندما يراها مكوّمة تحت جسد والده المنحني وقبضته تنهال عليها بلا شفقة، ولذلك فهو يكره والده ويحاول ألا يكون استمرارًا له[18]. كذلك تظهر ازدواجيّته من خلال حواره الداخليّ إذ يصف نفسه بأنه يعيش في عالمي الظلمة والنور: "هو في المتاهة جسده في العصر لكن نفسه تنتمي إلى القرون المنحدرة. إنه ينوس بين الله والاشتراكية بين النور والظلمة" (ص. 139). وحتى علاقته بأبيه فيها ازدواجيّة، فهو يرفض أن يكون استمرارًا له، ولكنّ والده يزوره دائمًا في أحلامه ثم يناديه قائلاً: "أين أنت أيها الأب القديم؟ أعطني بصيصًا، ولا يأتي البصيص وترفضُ قطع حبل السرّة" (ص. 199). وكذلك في حواره الداخليّ يصف نفسه بأنّه "نصف صادق ونصف مخادع مثل طراز عصركَ" (ص. 245)، فهو يبحث عن الكفاية والصّدق والمطلق والحريّة، وإذ يفتقدها يرنّ الكذب النسبيّ ويتراجع عن الانتحار، وينسج حلم الغابات والبراري. كذلك يبدو شبلي يائسًا عاجزًا عن الفعل ويبدو ذلك من خلال حواره الداخليّ: "ما الذي تستطيع أن تفعله يا موظّف الدرجة السادسة، [...] في بلاد رجمت أنبياءها؟ فرسانها اعتكفوا في الخمارات وداخل خزائن المال، وفي المواخير، وراحوا يشرعون حراب الفتوح ويحرّرون فلسطين وإسكندرون هناك، بانين للعربيّ الجديد مجدًا من الضوضاء والعطالة" (ص. 160). ولكنّه يعترف بأنّه عاجز وجبان، وأنّه لا يستطيع أن يفعل شيئًا سوى الهرب والانتحار، وهذا ما اكتشفته منى، وهذا يعني "الخيانة، وأنك لست جديرًا بها، والجبان يخاتل أحيانًا بالتحليل والسفسطة، يحارب بالكلمات في أزمنة الرصاص: دونكيشوت معاصر" (ص. 287). كذلك يبدو شبلي من خلال كلامه رومانسيًّا يعشق منى حتى النخاع، يحلم بأن يطويَها تحت الضلوع ويهرب بعيدًا عن المدن (ص. 115)، يخترق بها حدود العالم: "نحو الجزر النائية، نحيا على ضفاف الأنهار وفي الجبال الموحشة وداخل الكهوف [...] نستحمّ في مياه عذبة لم يمسسها جسد إنسان، وتحت أشعة شمس جديدة نبكي ونغني ونرقص [...]" (ص. 127). هكذا نلاحظ أنّ معظم الصفات التي استنتجناها من خلال كلام شبلي عبد الله تؤكّد وتنسجم مع الصفات التي استنتجناها من خلال أعماله، والصفات التي قُدّمت بواسطة الرّسم المباشر، وبذلك تظهر شخصيّة شبلي المركّبة.
4. بيئة الشخصيّة
البيئة المكانيّة للشخصيّة، والبيئة الإنسانيّة تكشفان بعضًا من جوانب الشخصيّة وصفاتها. فشبلي كان يعيش في دمشق وحيدًا، وغرفته تشير إلى وضعه الاقتصاديّ الاجتماعيّ، فهو موظّف من الدّرجة السادسة، ينتمي إلى البرجوازيّة الصغيرة، وهذا ما يدلّ عليه بيته، فالغرفة "صغيرة تحتوي سريرًا وأريكة وطاولة حديد عليها بعض الكتب" (ص. 21). فهو مثقّف ذو دخل محدود. ثم ينتقل إلى بيت جديد، وهذا البيت يعكس نفسيّته، فهو حزين، يائس بعد أن تحطّمت أحلامه: "أفتح الباب وأعبر الصالون، تفجّ رائحة الرطوبة والوحشة" (ص. 191)، كذلك يصف شبلي غرفته بالكهف، ويبدو أنها في الطابق الأرضيّ لأنها كما يصفها معزولة عن العالم والشمس، وهذا يُظهر أيضًا وضعه الاقتصاديّ السيء، ووضعه الاجتماعيّ الانعزاليّ. ولم يكن يزوره في بيته أحد سوى منى، ويأتي إليه سامر البدويّ مرّة واحدة: "دارت عيناه في الغرفة: أهذه غرفتك؟ وعلى وجهه ارتسم اشمئزاز. قلت: وماذا فيها؟
- تشبه السجن.
- أنا أتعس من سجين" (ص. 288).
وفعلاً فإنّ شبلي كان يهرب من الأماكن المغلقة إلى الأماكن المفتوحة مثل الشوارع، وذلك يشير إلى شعوره بالوحدة والعزلة والاختناق، حتى عندما يذهب إلى النادي أو إلى بيت مسرور كان يضيق بالمكان، وفقط عندما تكون منى معه يفرح ويشعر أنّ المكان متّسع وكأنه غابة. وعندما يخرج إلى البراري يفرح وتسمو روحه، وهذا يشير إلى حبّه للحريّة، ورومانسيّته، وكرهه للمواضعات الاجتماعيّة.
أمّا البيئة الإنسانيّة التي يتحرّك في إطارها شبلي فهي في مجموعها من المثقفين والأدباء والشعراء، الذين ينتمون إلى البرجوازيّة الصغيرة، ولذلك فإنهم يعانون من التذبذب والازدواجيّة، ويعانون من الانفصال بين القول والفعل. فهم يكثرون من التنظير والتفلسف، ولكنّهم عاجزون عن الفعل، وحتى عاجزون عن الاتّفاق على شيء رغم انتماء معظمهم إلى حزب واحد. هذه الفئة سلبيّة ويائسة ومأزومة، هؤلاء هم الذين خانوا الثورة [منى]، ولذلك فقدت منى ثقتها بهم وبضمنهم شبلي.
5. السّيرة الذاتيّة
تساعد السّيرة الذاتيّة في تكوين صورة واضحة للشخصيّة، فشبلي عبد الله ولد في قرية قرب البحر من أب فلاح كان يقضي معظم وقته في الخيمة البحريّة ويعمل في الأرض مع الفلاحين. وكان والده شجاعًا وقويًّا، وكان يشرب الخمرة بإفراط، ويصلّي ويقرأ أشعار المتصوّفين. ومنذ نعومة أظفار شبلي فصله والده عن أمّه التي كان يحتقرها ويعتبرها غبيّة. وكان يصطحبه معه بعيدًا عنها إلى البراري والسهول ويروي له حكايات عن الصيد والقتل واختراق الوديان، ودرّبه على التسديد واشترى له بندقيّة. ويبدو أنّ شبلي ورث شرب الخمر عن أبيه، وورث عنه الحزن المزمن: "- أذكر له كلمة لا تُنسى! حياتي ليل طويل لا فجر له، سأموت ولن أرى يومًا أبيض قالها منذ زمان طويل في خيمة قرب البحر. يومها كنت صغيرًا لكنها انحفرت في ذاكرتي كموته" (ص. 30)، ويقول له راني: "يبدو أنك ورثت عنه ذلك الليل" (ص. 30).
وكان والده يضرب أمّه بقسوة ووحشيّة، بينما يتمزّق شبلي ألمًا فيحاول بجسمه الصغير أن يحميَها. وشبلي بوعيه لا يحبّ أمّه، ولكن بلا وعيه كان يحبّها ويكره والده حتى إنّه كان يرى في أمينة وجه أمّه، وبذلك فهو يعاني من عقدة أوديب. وعندما شبّ شبلي قرّر رفض أبيه الممزّق بين الله والأرض، وكان يحاول التنصّل من ذلك الاستمرار المجانيّ، ومن تاريخه المفعم بالأساطير وقوى الغيب. وإذ قرّر رفضه حدس بمنى على نحو طفوليّ مراهق، ثم نما وقرأ وتأمّل ودرس، واختار الثورة ومنى، وكان مثاليًّا في رؤيته، ولذلك اعتبره البعض أحمق ومثاليًّا يضع رأسه تحت المقصلة مجّانًا، ولذلك أصبح وحيدًا حزينًا لأنّه رأى مثاله يتحطّم ومنى تتركه. واكتشف أنّ دمشق التي كانت في أحلامه نقيّة ناصعة كالثلج ما هي إلا مدينة الكذب والخداع والزّيف. من هنا بقي حبّ الريف والبراري مغروسًا في قلبه، يتمنى أن يأخذ منى ويعيشا في الطبيعة كحيوانين أليفين لا يروعهما الذّعرُ. وبالنتيجة يبدو شبلي رومانسيًّا ومثاليًّا.
6. الاسم
الاسم في الرواية يدلّ على بعض صفات الشخصيّة المركزيّة، فشبلي هو من الشّبل ابن الأسد القويّ الذي يعيش وحيدًا في البراري. وشبلي كان يحبّ البراري، ففي طفولته عاش فترة مع والده في الخيمة البحريّة، وكان يأتي إليه مشيًا من القرية عبر البراري ليلاً. ولكن هناك مفارقة أيضًا، فشبلي جاء إلى المدينة باحثًا عن الثورة، وعندما مُسخت الثورة وخاب أمله، وانطفأت أحلامه، لجأ إلى عرينه وهو الخمرة، والنساء، والتسكّع في الشوارع، فكان شبلي في حقل غريب ليس حقله الطبيعيّ النقيّ، فعالم المدينة عالم غريب عن طباعه وأفكاره ومثاله. فكان في المدينة جبانًا يحارب بالكلمات في أزمنة الرّصاص. أمّا عبد الله فهو نقيض شبلي، عبد الله هو والده الذي يعبد الله، ويؤمن بالغيب والأساطير، والجنّة والنار. شبلي يؤمن بالإنسان ويبحث عن ثورة تقتلع جذور المحرّمات الدينيّة، ويعتبر الأديان حكاية قديمة جسّدها العجز القديم عن تفسير ما وراء الظّواهر. من هنا يوجد تناظر عكسيّ بين الاسم وصفات الشخصيّة.
تجدر الإشارة إلى أنّ اسم الشخصيّة المركزيّة يظهر في النصّ متأخّرًا جدًّا، في الصفحة الثالثة والخمسين، من خلال الحوار مع أمينة حيث تقول له: "وإذا كنت يا شبلي المهذب شهوانيًّا أنا ما ذنبي؟" (ص. 53). أما الاسم الكامل شبلي عبد الله فيظهر في الصفحة السادسة والخمسين فقط حين يُعرِّف راني سامر البدوي على شبلي عبد الله. وهنا يستعمل الرّاوي تقنيّة "الإرجاء"[19] (Delay) من أجل إثارة عنصر التشويق وحبّ الاستطلاع في نفس القارئ مما يحفّزه على الاستمرار في القراءة من أجل معرفة عنصر هامّ وهو اسم الشخصيّة المركزيّة.
3.2 موقع الشخصيّة المركزيّة: بطل أو لا بطل
ستتمّ دراسة موقع الشخصيّة المركزيّة من مفهوم البطولة بالاعتماد على الموديل الخماسي الذي اقترحه إبراهيم طٰه[20]. هذا النموذج بمراحله الثلاث: قبل العمل (المحفّز، الرّغبة، القدرة)، العمل (التنفيذ)، بعد العمل (النتيجة)، يفترض أنّه في أيّ نصّ قصصيّ يوجد للشخصيّة المركزيّة هدف ترغب في تحقيقه، فإذا نجحتْ في تحقيق هدفها، كانت بطلاً، وإذا أخفقت، كانت لابطلاً، أمّا إذا كان نجاحها جزئيًّا، فإنها تكون بطلاً جزئيًّا.
1.3.2 المرحلة الاولى (المحفّز، الرّغبة، القدرة)
إنّ هدف شبلي عبد الله، الشخصيّة المركزيّة في الرواية هدف معلن في النصّ، ومتشكِّل نهائيًّا، وهو زواجه من منى وإقناعها بالعيش معه وعدم الرحيل، هذا الهدف دخل مع الشخصيّة إلى النصّ جاهزًا نتيجة لأحداث سابقة لنقطة بدء الحركة في النصّ وكونها كذلك يعني أنها تشكّل خلفيّة، بزمكانيّتها وتفاصيلها المختلفة، رغم أنّ الرّاويَ لا يعطينا تفاصيل كثيرة عن هذه المرحلة التي تسبق قدومه إلى دمشق. من خلال أقوال الرّاوي والاسترجاع نعلم أنّ المحفّز لهذا الهدف هو أنه قرأ ودرس وتأمّل واختار منى، وإذ قرّر رفض والده الممزّق بين الله والأرض حدس بمنى على نحو طفوليّ مراهق. وفي حوار بين الراوي/ الشخصيّة المركزيّة وراني يقول شبلي: "إنها في نفسي قبل قدومي إلى دمشق. وأنت تذكر ذلك، هل نسيت؟" (ص. 261). وبما أنّ منى تشكّل رمزًا للثورة والتغيير فقد كانت رغبة شبلي جامحة في أن ينضمّ إليها، ويظهر ذلك عندما يخبر راني صديقه شبلي، عندما يخرجان إلى براري القرية، بأنّ الثورة على الأبواب، وقد وصل فرحه إلى حدّ البكاء (ص. 28)[21].
2.3.2 المرحلة الثانية: التنفيذ
تبدأ حركة النصّ بهجرة شبلي عبد الله إلى دمشق فقد أشرقت شمس جديدة مباركة الفقراء، والرّعاة، والمنبوذين، والحفاة، والصنّاع، والمظلومين. وفي دمشق يلتقي شبلي منى ويحبّها حبًّا شديدًا، وتحبّه وتجاسده: "في دمشق كنا نحيا معًا في ذلك الزّمن. عاشقان من نوع خاصّ" (ص. 25)، وعندما كانت تأتي إلى غرفته يدخل معها فرح العالم. تبدأ الجدران والأرض والسرير مزهوّة بوجودها. وتستمرّ العلاقة بينهما ثلاث سنوات، تلك السنوات التي قضاها في دمشق. والراوي يطلب من منى الزواج أو الهجرة إلى الجبال والغابات للبدء من جديد بعد أن تحطّمت آماله وأحلامه، وبعد أن انكسفت شمس الفقراء: "قبل ثلاث سنوات أذكر كيف كان العالم في رأسي نقيًا، مفعمًا بآمال بلا حدود، وكيف كنت أحلم بمنى: حريتي ووطني وزوجتي وطعامي وشوقي للمسرات النهارية والليلية. آه. كم أشعر الآن بالمرارة. وكم يؤرقني الجرح وأنا أرى تلك الشمس وهي تميل مكسوفة بعد أن لوثها غبار الأعوام ولطخها الزّمن حتى كدت أنكرها، وأنا أرقبها في حجرتي المغلقة عاجزًا عن مسح ركام الغبار عنها، قاصرًا عن ردّها إلى طفولتها الأولى التي أسرتني فاستوطنت أشعتها أعصابي" (ص. 39). ترفض منى أن تتزوّجه وتعتبره رومانسيًّا حالمًا وتصرّ على الرحيل.
فما هي العوامل التي جعلت منى ترفض الزواج من شبلي؟
أ. تعاني منى من عقدة نفسيّة وخاصّة بعد مقتل زوجها على يد أخيه ليستوليَ عليها وعلى ماله، ولذلك لم تعد قادرة على الحب. وعندما يجاسدها شبلي لا يستجيب جسدها ولا نفسها. وتقول باشمئزاز: "هيا... يجب أن ننتهيَ من هذا القرف! وتتملّص كمن يختنق بحبل مسموم [...] – هل ينبغي أن أقول إنكم مغتصبون؟" (ص. 68).
ب. الإحباط وخيبة الأمل: لقد أصيبت منى بإحباط شديد وخاصّة من فئة المثقفين، فقد عاشرت الجميع، وتألمّت لآلامهم عندما جاعوا وطوردوا وسجنوا وضُربوا، ولكنّهم خانوها جميعًا وخدعوها ولذلك تتمنّى أحيانًا لو أنها ولدت خارج الوطن (ص. 14). فكلّهم يشتهي ويقتل، يضاجع ويغتصب ويحقد، يطمع ويكذب ويريد نفسه، وعندما يقول لها شبلي بأنه سيرحل معها إلى الغابات والأودية حيث لا حقد ولا كذب ولا تلوّث، تقول له: "سننحدر يومًا إلى المدن ويعود الكذب والتلوث والاقتتال والخدائع" (ص. 191). وكانوا يخونونها مع كل مشرق شمس ومغربها، يتحدّثون عنها في مجالسهم كسلعة في سوق النخاسة، ويتاجرون بها ليستمروا (ص. 223).
ج. منى لا تثق بشبلي ولا تؤمن به وتقول عنه: إنّه "مسكون مثلهم بالإرث والنقص" (ص. 193). وعندما يحدّق بشبقِ رجلٍ نَهمٍ إلى ساقها يخبرها بأنّه رجل محروم وناقص فتقول له: "أنت كالآخرين تبغي أكلي" (ص. 200)، كذلك اكتشفت منى أنّه ليس جديرًا بها، وأنه جبان يخاتل أحيانًا بالتحليل والسفسطة، يحارب بالكلمات في أزمنة الرصاص: دونكيشوت معاصر (ص. 287).
د. منى تعتبر شبلي حالمًا أو مجنونًا، فهو يطلب منها أن يرحلا معًا ليبنيا العالم من جديد: "هل سمعتَ في تاريخ حياتك أنّ باستطاعة اثنين أن يبنيا العالم من جديد؟ ثم أنا وأنت من الذي قال إننا نملك كامل حريتنا؟" (ص. 48).
3.3.2 المرحلة الثالثة: النتيجة
لقد باءت كلّ محاولات شبلي في مدّ جسورٍ مع منى، وبالتالي أخفق شبلي، الذي كان يحبّها على نحو شبه مرضيّ تاخم حدّ الهوس، في إقناعها بعدم الرحيل والبقاء معه، ولذلك فإنّ شخصيّة شبلي لا بطل[22]. أمّا العوامل التي عملت على إخفاقه والتي ذكرناها أعلاه فهي نوعان: يُعتبر العاملان الأوّل والثاني الدّور المعطى للظروف الخارجيّة كي تساهم في إخفاق الهدف الذي يسعى إليه شبلي عبد الله. بينما يشكّل العاملان الأخيران الدّور المعطى للشخصيّة نفسها في إخفاق هدفها الذاتيّ. ومن خلال فشل شبلي عبد الله أن يتزوج منى أو أن يقنعها بالعيش معه يُظهر لنا النصُّ نقدًا شديدًا لفئة المثقفين الذين يخونون الثورة، أو يتاجرون بها، أو على أقلّ تقدير ينظّرون لها بالكلام ولكنّهم لا يعملون شيئًا من أجلها. كذلك يسلّط النصُّ الضوء على اختلاف هؤلاء المثقفين فيما بينهم حول مفهوم الثورة رغم انتمائهم لنفس الحزب. والثورة التي كانت شُوّهت ومُسخت تحوّل قادتها إلى جلادين وطغاة: "جيل استلم التغيير يغازل رجال الدين والتجار والبرجوازية. غارق في الانتهازية والسلطة والامتيازات والتقسيمات القبلية، هؤلاء من أين خرجوا؟ أليسوا منّا؟ إنهم يتعثرون لأنهم جاءوا قبل الوقت. في دمائهم قرون من النقص التاريخيّ والنفسيّ ولهذا فهم عاجزون عن تنفيذ مهامّ الثورة. أنا وأنت عاجزان أيضًا" (ص. 190). هذا الوضع، الذي يعيش فيه المواطن عامّة والمثقّف خاصّة خارج التاريخ، مهمَّشًا وفائضًا عن الحاجة، هو المقدّمة الطبيعيّة للهزيمة والموت. ولذلك تبدأ الرواية بقصيدة عنوانها "مراسيم دفن"، وتنتهي بالملحق الأول بعنوان "من مراثي إرميا".
نخلص إلى القول إنّ رواية الزّمن الموحش رواية حداثيّة من ناحية بناء شخصيّاتها، وخاصّة الشخصيّة المركزيّة شبلي العبد الله. فالرّسم المباشر قليل جدًا، ويتمّ بناء الشخصيّة المركزيّة بالرّسم غير المباشر من خلال: مظهرها، وأعمالها، وكلامها، وبيئتها، وسيرتها الذاتيّة، واسمها. وتعتمد الترذيذ (atomization) والتدريج والتمديد والإرجاء بحيث تُرسم خلال الرواية، وتُبنى من المعلومات الموزّعة والمشذّرة التي تتجمّع فوق بعضها البعض بشكل تراكميّ، ويتكامل بناء الشخصيّة كلّما تقدّمنا في القراءة فتتكشّف جوانب كانت تبدو غامضة، أو غير واضحة. ثمّ درسنا موقع شبلي العبد الله من مفهوم البطولة من خلال دراسة هدفه وهو الزواج من منى والعيش معها. وقد أخفق شبلي في تحقيق هدفه، وبذلك فهو لا بطل. هذه اللابطولة كشفت أزمة جيل معطوب ومهمَّش تحطّمت آماله في المشاركة في بناء الوطن، وفي إرساء العدل والحريّة، وبالتالي كان هذا الوضع المقدِّمة المنطقيّة لهزيمة الوطن أمام العدوّ.
3. الشخصيّة المركزيّة في رواية مرايا النار
1.3 مبنى الحبكة: الزّمان والمكان
تتكوّن الحبكة في مرايا النار (1992) من خطّين قصصيّين يتقاطعان ويتناوبان السّرد، فهناك القصّة التي تجري الآن في القطار، وتُروى بواسطة الرّاوي الخارجيّ وتتحدّث عن شخصيّة ناجي العبد الله المسافر في أحد قطارات إفريقيا نحو إحدى المدن الإفريقيّة. وتستغرق الرّحلة وقتًا طويلاً من الغروب حتى صباح اليوم التالي. وتروي القصّة ما يحدث في القطار من موت أحد الأولاد في حضن أمّه. وخلال هذه الرحلة يسترجع ناجي العبد الله حكاية جرت معه قبل عشرين عامًا أو ما يزيد عندما جاء هاربًا إلى إحدى مدن المغرب من الحرب الأهليّة في لبنان، أو من مذابح العراق، "والروائيّ يتعمّد أن يخلق التباسًا حول القطر العربي الذي ينتمي إليه وجاء منه، حتى يبقى نموذجًا وفردًا في آن، هو عربيّ جاء من المشرق وكفى"[23]. يستأجر ناجي غرفة في بيت عبد الرحمن التاجي المُقعد. وبدخول ناجي العبد لله هذا البيت تتخلخل أعمدة هذه الأسرة لأنّ زوجة صاحب البيت تراود ناجي عن نفسه، وبعد عدّة أشهر يترك ناجي الغرفة. في الرواية، إذًا، زمانان: الحاضر والماضي، ومكانان رئيسيّان: القطار والمدينة المغربيّة الأطلسيّة. يتناوب على سرد القصّة الثانية، قصّة العلاقات بين ناجي ودميانة وزوجها أربعة رواة: الرّاوي الخارجيّ، دميانة، ناجي، والزوج عبد الرحمن.
2.3 الشخصيّة المركزيّة في الرواية
لكي نقرّر ونحدّد الشخصيّة المركزيّة نعتمد على معاييرَ نصيّةٍ اقترحها إبراهيم طٰه، وهي:
1. الحضور المكثّف في النصّ، ووجود شخصيّات ثانويّة تعمل على إضاءتها.
2. الرّسم المفصّل للشخصيّة المركزيّة، وغنى حياتها الروحيّ، وعرضها المتنوّع: أعمالها، كلامها، سلوكها في اوضاع مختلفة.
3. هل تحظى بتعاطف الرّاوي والمؤلّف الضمنيّ؟
4. هل تحظى باهتمام خاصّ من قبل القارئ؟
نلاحظ أنّ شخصيّة ناجي العبد الله حاضرة بكثافة على امتداد الرواية من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة. فالنصّ يرافق هذه الشخصيّة خطوة خطوة في رحلتها في القطار من جهة، وفي علاقاتها المسترجعة في الخطّ القصصيّ الثاني مع دميانة وعبد الرحمن زوجها من جهة أخرى. فالرّابط والمحرّك للخطّين القصصيّين هو شخصيّة ناجي العبد الله. شخصيّات القطار مجهولة الهويّة والاسم ودورها ثانويّ جدًّا، وحتى القصّة نفسها ثانويّة. ويأتي مشهد الأمّ التي يموت ابنها في القطار، ثم تنتحر تحت عجلات القطار، ليؤكّد سلبيّة شخصيّة ناجي، وأنّ الموت يلاحقه في كلّ مكان. أمّا القصّة التي يسترجعها ناجي والتي حدثت قبل ربع قرن تقريبًا فهي القصّة الرئيسيّة، وتبدو الشخصيّات فيها ثانويّة وإن كان لها دور هامّ وخاصّة دميانة. هذه الشخصيّات لها أدوار وظيفيّة تضيء شخصيّة ناجي العبد الله وتؤسّس تناظرًا عكسيًّا معه وخاصّة شخصيّة دميانة. ويأتي المؤشّر البنيويّ، وهو أنّ الرواية تبدأ بشخصيّة ناجي وتنتهي بها، وتكون حاضرة في المواقع الهامّة من الرواية، ليؤكد مركزيّة شخصيّة ناجي[24].
تتمتّع شخصيّة ناجي العبد الله برسم مفصّل، فالرواة المختلفون يرسمون لنا شكلها الخارجيّ، صفاتها وطبعها، وأعمالها، وكلامها، وعلاقاتها بالشخصيّات الأخرى. ونتعرّف كذلك إلى ماضي ناجي وما مرّ به من أهوال من خلال الاسترجاعات والتداعيات.
يأتي ناجي هاربًا من أهوال المذابح التي أبادت عائلته عن بكرة أبيها، وبعد أن اغتصب الجنود القتلة حبيبته ثمّ قذفوا جثّتها في النّهر، يأتي إلى المغرب ويستأجر غرفة عند عبد الرحمن وزوجته دميانة التي تشتعل به وتريده منقذًا لها.
من خلال التركيز على علاقات ناجي بدميانة بشكل خاصّ نستطيع أن نتعرّف إلى طباعه ونفسيّته، ونسبر أغوار شخصيّته التي تأثّرت بما مرّت به. ومن خلال الأحلام والكوابيس التي تنتابه نستطيع أن نتبيّن مدى العطب الداخليّ الذي أصابه.
3.2.3 تعاطف المؤلف الضمنيّ مع الشخصيّة
يبدو واضحًا أنّ شخصيّة ناجي العبد الله تحظى بتعاطف المؤلّف الذي يفصّل أعمالها، ويعرض أقوالها من خلال الحوار والحوار الداخليّ، ويعرض أحلامها وكوابيسها، واسترجاعاتها. يرافق المؤلّف شخصيّة ناجي في القطار، وفي أفكاره وما يراه ويسمعه، كذلك يرافقه في حواراته وأفعاله في بيت دميانة، وفي البار في العاصمة وعلاقته بالفتاة الفلبينيّة التي تعمل هناك. وفي كثير من الأحيان نلاحظ أنّ أقوال وأفكار ناجي هي نفسها أقوال المؤلّف: "في فجر الشباب، قبل انهمارات أزمنة الموت واضطراب الروح وفساد الأمكنة واغتيال البراءة، كان الشوق إلى البلاد البعيدة والغامضة، طائر الحلم [...] التجدد، والتغير، واكتشاف البشر – الآلهة- الشياطين. أن تكون شيئًا آخر في مكان وزمان آخر. أن تخرج من سلطة الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فيكون إلهك فيك، وصاياه تنبع من دمك. أن توغل في الشر حتى أقصاه وفي الخير حتى أقصاه. ثم تدخل مطهرك الخاص لتخرج من بعد مليون عام ملاكًا أو شيطانًا [...]" (ص. 57).
كذلك يبدو تعاطف المؤلّف مع شخصيّة ناجي من خلال تبرير عجزه أمام آلة القمع والإرهاب السلطويّة التي تمتلك القوّة والسلاح، وتقوم بتعذيب وقتل من لا يعلن ولاءه لها (ص. 85). ويبرز تعاطف المؤلّف مع شخصيّة ناجي من خلال التناصّ الداخليّ الذي يجريه بينه وبين الشخصيّات المركزيّة في رواياته الأخرى: "فثمة وشائج وصلات قربى وتشابهًا بين الرجل الغريب المسمّى ناجي العبد الله الهارب من مذبحة بيروت إلى مدينة على شاطئ الأطلسي بالمغرب ومهدي جواد"[25] الشخصيّة المركزيّة في وليمة لأعشاب البحر. بل أكثر من ذلك فالراوي يشير إلى أنّ ناجي العبد الله هو نفسه مهدي جواد بعد أن طُرد من الجزائر ويظهر ذلك من خلال الحوار الداخليّ لناجي: "وهذا القطار الثرثار إلى أين يمضي بك؟ وماذا في المحطات التالية؟ ويوم وقفت على صخرة البحر وهويت في لجّ الماء هل كنت تدري إلى أين المرحلة القادمة؟" (ص. 26). فوليمة لأعشاب البحر تنتهي بأن يصعد مهدي جواد صخرة، بعد أن يتعرّى، ويقذف جسده إلى البحر[26]. وكذلك يضع المؤلّف شخصيّة ناجي ضمن قافلة المناضلين الذين ظهروا في رواياته المختلفة، وبذلك يأتي التناصّ الذاتي[27] ليؤكّد التشابه بين ناجي وهذه الشخصيّات الأثيرة لدى المؤلّف: "ثلاث هجمات ليليّة على البيت الذي تعرفينه. أتذكرين البيت المقصوف والمطوق بالدبابات الإسرائيلية. أجل دميانة بيت الرملة البيضاء الذي عشنا فيه معًا. ثلاث غارات لأنقذ مهيار وآسيا ومهدي وفلة وخالد أحمد زكي والايزرجاوي وحمدان القرمطي وسبارتاكوس وبشير حاج علي، المحاصرين" (ص. 94).
4.2.3 اهتمام القارئ الخاصّ بالشخصيّة
إن شخصيّة ناجي العبد الله تحظى باهتمام خاصّ من قبل القارئ الذي يريد أن يعرف الحقيقة من وراء قدومه إلى هذه المدينة المغربيّة، وماذا سيفعل مع دميانة؟ هل سيستجيب لرغباتها، وكيف ستؤول علاقته مع زوج دميانة؟ وهل سيحقّق هدفه الذي طالما يردّده، والذي يطارده أينما حلّ، أم أنه سيخفق في ذلك؟ أمّا في الحاضر فالقارئ يرغب في معرفة سلوك وأفعال ناجي في القطار. فهو لا يستطيع النوم ولا القراءة، فماذا سيفعل؟ كما أنّ القارئ يرغب في معرفة الأسباب التي تقف وراء سلبيّة ناجي وعدم قدرته على المبادرة. هذه الفجوات تعمل على خلق التوتّر وحبّ الاستطلاع عند القارئ الذي يكوّن فرضيّات ليملأها.
تأسيسًا على ما تقدّم يمكننا الجزم بأنّ شخصيّة ناجي العبد الله هي الشخصيّة المركزيّة في الرواية، فهي تمتلك المعطيات المطلوبة والقدرة على القيام بما قامت به.
وهو تصريح لفظيّ للصّفة أو الطّبع، ويمكن أن يحيل إلى صفات خارجيّة جسديّة، أو صفات داخليّة، أو صفات تتعلّق بالعادات، إضافة إلى وصف الحالة النفسيّة، والمركز الاقتصاديّ – الاجتماعيّ. وفي مرايا النار نجد رسمًا مباشرًا لشخصيّة ناجي العبد الله[28]، وهذا الرّسم يأتي من شخصيّات أخرى مثل دميانة وزوجها، أو من ناجي تارةً ومن الرّاوي الخارجيّ العليم تارةً أخرى.
وعندما يكون الرّسم من الرّاوي العليم فهو موثوق به، وعندما يأتي من شخصيّات أخرى فهو مشبوه إلا إذا تأكّد بوسائلَ أخرى غير مباشرة. أمّا شكل ناجي الخارجيّ فهو: نحيل، وجهه متعب، شعره طويل مشوّش، حركات يديه مضطربة، في عينيه حزن، وفي جبينه ندبة، أصلع من مقدمة رأسه، ويبدو أكبر من عمره الحقيقيّ، له عينان حادّتان ومحرورتان. في عنقه سلسلة فيها صور أسرته المغدورة. أمّا صفاته وطباعه فهو أعزب، غامض، شَرود مع ميل واضح للصّمت، يائس، كئيب بلا أمل، مثقّف، سلبيّ، رجل بلا عواطف. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الرسم لا يأتي في كتلة نصّيّة واحدة بل هو موزّع على امتداد النصّ، ويمكننا اعتباره موثوقًا به لأنه يأتي من عدّة مصادرَ وبذلك تتأكّد هذه الصفات. وقد استثنينا بعض الصفات التي تأتي على لسان الزوج عبد الرحمن لأنها غير موثوق بها، وخاصّة بسبب الغيرة والحقد اللذين أشعلا قلبه على ناجي، إذ يصفه بأنّه وحش يجثم فوق الصدر، وأنّه كاذب وصعلوك وأفّاق. ومن خلال سلوك ناجي العبد الله تجاه عبد الرحمن يبدو أنّ هذه الصفات غير موجودة وإنّما هي من بنات خياله المجنّح المطعون بالشكّ والغيرة، والمخيّلة الجهنميّة حول ليالي الخيانة والشهوة والغدر.
2.3.3 الرّسم غير المباشر – التصويريّ
في هذا الأسلوب يستنتج القارئ استنتاجات معيّنة عن طبع الشخصيّة وصفاتها بدون أن يُصرَّح بها في النصّ. وأهمّ الوسائل التي تندرج ضمن أساليب التصوير هي: المظهر الخارجيّ، والأفعال، والكلام، والبيئة، والسّيرة الذاتيّة، والاسم.
1. المظهر الخارجيّ للشخصيّة
عند الحديث عن المظهر الخارجيّ أو الشّكل يجدر التفريق بين أمرين:
أ. الشّكل الموهوب الذي لا دخل للشخصيّة في تكوينه ولا قِبل لها في تغييره. فناجي العبد الله نحيل، أصلع من مقدّمة رأسه، يبدو أكبر من عمره الحقيقيّ وهو ثلاثون عامًا، في حركات يديه اضطراب، وعيناه حادّتان ومحرورتان، وفي جبينه ندبة. هذه الصفات تعطينا فكرة عن شخصيّة ناجي العبد الله، فالنّحول ناتج عن السفر والتنقل وعدم الاستقرار، والحزن على ما أصابه من أهوال وإبادة الأسرة، وقتل حبيبته. أمّا الندبة في جبينه فهي، كما يبدو، من أثر المذبحة التي أودت بعائلته: "فجأة بهقت الطلقات ودحرجت القنابل على البلاط. قُذفت أخرى داخل حجرات البيت. وكما يذعر فأر أو أرنب فاجأه الخطر، طار في الفضاء بقوة الانفجار فإذا هو مقذوف من نافذة المطبخ الذي تهشم بزجاجه إلى المنور المظلم" (ص: 60-61). كما أنّه يبدو أكبر من عمره الحقيقيّ بسبب الأهوال التي مرّ بها، ولذلك من الطبيعيّ أن تكون يداه مضطربتين، بل هذا كناية عن اضطرابه هو. أمّا عيناه الحادّتان فكناية عن الذكاء وربما الخوف أيضًا فناجي العبد الله لم تُبَدْ عائلته، وتغتصب حبيبته وتقتل وحسب، وإنما لاقى جميع ضروب التعذيب، ولذلك أصبح الخوف والحذر ملازمَيْن له.
ب. الشكل المكتسب: وهي تلك الصفات التي تتحكّم بها الشخصيّة ذاتها. فناجي العبد الله شعره طويل مشوّش وذقنه شعراء مدبّبة، وهذا يشير إلى عدم اهتمامه بشكله الخارجيّ، وعدم اهتمامه بالمواضعات الاجتماعيّة، وميله للحريّة، وعدم استقراره. أما سترته الرماديّة التي كان يرتديها فهي تشير إلى الحالة النفسيّة اليائسة والسوداويّة التي كانت تسيطر عليه، إضافة إلى حالة الخوف والاضطراب التي كانت تلازمه: "أقول سرًا أو جهارًا للمرأة التي صدمتها وصدمتني: أنا إنسان مغدور حافل بالفواجع ولا أملك طاقة الحب. مجوّف يا دميانة كما طوف في منحدرات الأنهار" (ص. 118). وفي صدره سلسلة فضيّة تحتوي على صورة الأسرة المغدورة، وهذا يظهر تعلّقه بأسرته وإصراره على الثّأر لها من الأعداء الذين ارتكبوا تلك المذبحة.
2. أعمال الشخصيّة المركزيّة
من خلال أعمال ناجي العبد الله نستطيع التعرّف إلى شخصيّته المركّبة وسماتها المتناقضة أحيانًا. فناجي يحبّ الأطفال ويبدو أنّه من خلال ملاعبة وملاطفة الطفلة بوران ابنة دميانة يعوّض عن افتقاده للبيت والأطفال: "آن رفعها عن الأرض، ثم ضمها وعانقها ثم قذف بها إلى الفضاء مداعبًا شهقت المرأة بحركة تمثيلية: لا. أرجوك!" (ص. 13). ويتكرّر هذا المشهد أو مشاهد شبيهة به حيث إنّ الطفلة تعلّقت به وأصبحت تحبّه أكثر من أبيها.
ويبدو أنّ ناجي كان مثقفًا، فهو يحاول القراءة في القطار، وفيما مضى كان يعمل في التوكيلات البحريّة، حتى إنّه كان موعودًا بعمل في وزارة الإعلام أو التربية. وهو كئيب يائس يكثر من التدخين: "يشعل الرجل سيجارة ثم يضع ساقًا فوق أخرى. واضح من زفراته أنه كئيب، بلا أمل" (ص. 23). وكذلك يشرب الخمر فكان من عادته أن يذهب إلى أحد البارات في العاصمة "حانة قنديل البحر" ويشرب الخمر لينسى ما حلّ به. ويتميّز ناجي العبد الله بالرومانسيّة ويظهر ذلك من خلال تعامله مع دميانة، فقد كان يحمل إليها من البراري باقات الزهر الأبيض والأرجوانيّ (ص. 37)، وكان يرسل لها رسائل سريّة يدسّها لها تحت بطاريات الراديو الصغير.
كان ناجي يعاني من الازدواجيّة في علاقته بدميانة فأحيانًا يكون ملتهبًا وجامحًا كعصف النار تحت الريح، ثم يتحوّل باردًا كجدار شتائيّ في لحظة أخرى (ص. 114).
ولكن أهمّ صفات ناجي العبد الله كانت السلبيّة، وغياب المبادرة والفعل، والهرب. فهو هارب من الحرب في لبنان. وعندما تتشاجر دميانة وزوجها يهرب من مناخ البيت المكهرب إلى العاصمة إلى حانة "قنديل البحر"، وبعد عودته من الحانة وهو سكران ومصاب بالحمّى تتعرّى دميانة وتدفئة، وفي الصباح تتخاصم مع زوجها حول ذلك فيقرر ناجي ترك البيت. وقد ظهرت سلبيّته وحياده عندما أبيدت عائلته: "بمثل هذا البرود والحياد شاهدت موتهم وأنت مختبئ" (ص. 84).
كذلك كان سلبيًّا جدًّا أمام مشهد الطفل في القطار إذ إنّه لم يسأل، ولم يتدخّل، ولم يحاول أن يفعل شيئًا، وإنما اكتفى بالملاحظة عن بُعد. ويظهر عجزه وبؤسه عندما تدخل دميانة غرفته ليضاجعها، ولكنّه بدلاً من ذلك يراقب صرصارًا ثمّ يسحقه ولا يستطيع أن يجاسدها: "الثوب الأحمر المشجر بتويجات ورد بنفسجي، انحسر، كما انحسار موجة عن شاطئ، وهي تتكئ على أرض السرير. ساقان من حرير أبيض خاطف للبصر، توهجتا [...] ورأى الصرصار الكريه، البني، ينحدر بطيئًا على خط زاوية الحائط، شعرها الأسود الطويل يغمر أصابعه، يفعمه برائحة طفل خارج للتو من حّمام دافئ مدلك بالصابون العطر والغار البري، وحنان أمّ [...] في تلك اللحظة اندفع الصرصار الكريه باتجاه ساقيها السائبتين على حافة السرير. بحركة خاطفة نهض، واثبًا من اشتباكات شعرها ورأسها وبداية الالتحام مع جسدها الجحيمي. سحق الحشرة وقذف بها بعيدًا [...] جلست على الحافة ترنو إليه كرجل بائس" (ص: 77-79). هكذا يبدو ناجي العبد الله مسلوب الإرادة، غير قادر على الفعل، سلبيًّا وحياديًّا.
3. أقوال الشخصيّة المركزيّة
القول كإحدى وسائل بناء الشخصيّة القصصيّة، ينقسم إلى قسمين: الحوار والحوار الداخليّ. والقول، على نوعيه، يكشف بأسلوبه أو بمضمونه بعضًا من جوانب الشخصيّة.
نستنتج من أسلوب ناجي أنّه مؤدّب فهو هادئ وإذا أحسّ بأنه أخطأ، فإنّه يعتذر. ويظهر ذلك من خلال حواره مع الفتاة الفلبينيّة التي تعمل في حانة "قنديل البحر": "- لا بد أنني كنت متعبًا في تلك الليلة. هل علي أن أعتذر؟" (ص. 88). وكذلك من خلال حواره مع دميانة عندما يخبرها بأنه سيرحل: "- أنا آسف دميانة. لم أقصد الإهانة" (ص. 101).
كذلك يبدو ناجي مثقفًا ومؤمنًا بحريّة المرأة، ويتمتّع بوعي سياسيّ واجتماعيّ، فعندما يتحدّث زوج دميانة عن المرأة واصفًا إيّاها بالشّر المطلق يجيبه ناجي: "لكن تعميم الحالة الخاصّة يحمل غبنًا. ثمة نساء مختلفات، الثقافة، التربية، البيئة، الأسرة" (ص. 66)، ثم يقول له بأنّ الرجال ليسوا ملائكة. كذلك تبدو ثقافة ناجي من خلال حديثه حول مسائل الدين والكبت والقمع والتخلّف والعلاقات الكاذبة والمزيّفة في المجتمع. وكذلك من خلال حفظه لأشعار لوركا (ص. 47).
يبدو ناجي من خلال حواره مع دميانة بأنه رومانسيّ، فهو يرغب بها ويشتهيها، ويحلم "أن يسرقها ويطير بها إلى بلاد بعيدة مغمورة بالثلج والغابات والوحوش الجميلة. بلاد الغزلان والطيور والصيد والنيران التي لا تنطفئ. نبني بيتًا من جذوع الشجر في عراءات بلا زمن..." (ص. 79). وكذلك يعاني من الازدواجيّة فهو رغم علمانيّته وعدم إيمانه بالمحرّمات الدينيّة إلا أنّه يقول لدميانة بأنّه يشعر بالتأنيب والخساسة لأنه يشتهيها هي الثمرة الناضجة التي تدعوه لقطفها وهي محرّمة عليه. ويخبرها معترفًا بأنّه ما زال يرث بعض الجراثيم الدينيّة من سلالته، فهو في منـزلةٍ بين المنـزلتين (ص: 79-80).
نستنتج أيضًا من خلال كلام ناجي أنه يائس وحزين وعاجز. فعندما تسأله دميانة ماذا يحبّ في الطبيعة يجيبها بأنّه يحبّ الهاوية. ويقول عن نفسه بأنّه إنسان مغدور حافل بالفواجع ولا يملك طاقة للحبّ (ص. 118)، وهو مصاب بما يشبه العنانة النفسيّة والعضويّة بعد أن هوى في ساحة مرايا الدماء والموت (ص. 69).
وتظهر سلبيّته من خلال حواره الداخليّ، فهو سلبيّ أمام مشهد الموت في القطار كما كان سلبيًّا أمام مشهد عائلته وهم يُقتلون: "بمثل هذا البرود والحياد شاهدتَ موتهم وأنت مختبئ" (ص. 84). ويعبّر عن عجزه لدميانة أمام آلة القمع والإبادة السلطوية. وأنّه لا يواجه بل يهرب ولا يبادر، فتقول له دميانة من خلال تيّار الوعي الذي يلاحقه: "ها أنت تهجرنا وترحل لأنك جبان وعاجز" (ص. 92). ويسيطر عليه الماضي ويلاحقه مشوّشًا حياته ومحطمًا نفسيّته زارعًا فيها العجز والهروب وأحلام الثأر: "وسألني، وهو يستعيد أهوال الحرب، إن كنتُ قد شربتُ مياه البواليع وما يقطر من جدار المنور المرحاضي" (ص. 94).
تأتي هذه الصفات التي استنتجناها من خلال كلام ناجي العبد الله توكيدًا وانسجامًا للصفات التي استنتجناها من خلال أعماله.
4. بيئة الشخصيّة
البيئة المكانيّة للشخصيّة، والبيئة الإنسانيّة تكشفان بعض جوانب الشخصيّة وصفاتها. فناجي العبد الله هارب من مذابح الشرق، وقد أبيدت عائلته، فهو وحيد يستأجر غرفة عند عائلة مغربيّة، ويعمل موظّفًا في التوكيلات البحريّة، وهذا يشير إلى وضعه الاقتصاديّ المتوسّط. كان ناجي العبد الله وحيدًا رغم أنّ دميانة كانت تهتمّ به كما تعتني أمّ بابنها بعد عودته من سفر طويل. فكان يشاركهم في طعامهم، ويخرج معهم للتنـزّه على شاطئ البحر أو إلى البراري المجاورة، ولكنّه رغم ذلك كان يشعر بالملل، فيهرب إلى شوارع المدينة يتسكّع فيها، وكان يذهب إلى العاصمة كلّ أسبوع، وهناك كان يذهب إلى حانة "قنديل البحر"[29].
نستنتج، إذًا، أنّه كان يعاني من الوحدة، ولذلك كان يميل إلى الصمت والغموض والعزلة، فعلاقاته كانت محصورة بين دميانة وزوجها من جهة، وبولينا العاملة الفلبينيّة في البار من جهة أخرى. أمّا عن علاقاته في العمل فنحن لا نعرف شيئًا. والذي قدّمه لعائلة دميانة هو صديقُه المدرّس السوريّ حسين القصّار وهذا يشير إلى أنّه مثقّف على حدّ المثل القائل: "قل لي من صديقك، أقلْ لك من أنت". أمّا البيئة الطبيعيّة فهي لا تبني الشخصيّة، وإنما تبرز وتعزّز صفاتها التي تمّ بناؤها بوسائل أخرى، فهي تشير إلى علاقة تناظريّة. وناجي العبد الله يصف أثناء سفره في القطار "سربًا" من الزرازير تحوم كسحابة سوداء، ما لبثت أن تكاثفت فوق أغصان شجرة عارية. غمامة حزن تقبل من بلاد بعيدة" (ص. 15). هذا الوصف التفسيريّ يفسّر سوداويّة وحزن الشخصيّة. والقطار "يهدر في الظلام الرماديّ تحت سماء غائمة" (ص. 69). هذا المنظر مُناظر لنفسيّته الحزينة؛ فالألوان التي تحيط بناجي ويراها رماديّة أو سوداء شبيهة بألوان نفسيّته.
5. السّيرة الذاتيّة للشخصيّة
تساعد السّيرة الذاتيّة في تكوين صورة واضحة للشخصيّة، فهي تضيء بعض الجوانب الغامضة، وتفسّر بعض صفاتها. فناجي العبد الله محكوم في حاضره بالماضي الذي لا يستطيع الانعتاق والفكاك منه، فهو بمثابة خيوط عنكبوتيّة تقيّده وتنغّص عليه حياته. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الحقائق ملتبسة وغامضة فالمدن والأماكن لا أسماء لها، والمعلومات عن ناجي العبد الله متناقضة، فالراوي يخبرنا أنّ "الأمكنة قد لا تكون هي الأمكنة تمامًا، كما الأزمنة والوقائع" (ص. 21)، كذلك يحذّرنا من الفخاخ المنصوبة في درب الحكاية (ص. 27). وبإزالة التخصيص وإرساء التعميم يريد الرّاوي أن يجعل من شخصيّة ناجي العبد الله نموذجًا للعربيّ الذي يملك ثلاثة خيارات: إمّا أن يؤلّه حاكمه ويسجد له، وإمّا أن يموت قتلاً بأيدي حاكمه أو عدوّه، أو أن يعيش مدى الدّهر منفيًّا وهاربًا.
لا تعطينا الرواية أيّة معلومات عن طفولة ناجي وإنما عن شبابه، فقد كان أبوه متزمّتًا لا يرى في الغرب سوى العداء للعرب والإسلام، بينما كان ناجي منفتحًا على الحضارة الاوروبيّة، ولذلك كان كثيرًا ما يتخاصم مع والده الذي يطرده من البيت فيذهب إلى العاصمة حيث يقيم في بيت خاله رياض. وكان الخال رجلاً مستنيرًا يقرأ الأدب والسياسة والعلوم. مهندس مدنيّ زار أوروبا أكثر من مرّة، وحاول الحصول على الدكتوراة، ولكنه اعتقل وأُودع السجن وعذّب فخرج مشوّهًا بعد ثماني سنوات من سجنه. وهو الذي أوحى لناجي بضرورة إتمام دراسته في الخارج.
كان ناجي يتوق إلى إكمال دراسته في السوربون وعلى هذا الأساس اختصم مع الفتاة التي أحبّها والتي غضبت منه لأنّه سيترك الوطن ويتركها، فيخبرها أنّ هذا الوطن، وطن القمع والقهر، ليس وطنه وهو بريء منه ومن دمه المستباح. وبعد ثلاثة أسابيع من هذا الشجار ابتدأ عرس الدم والجثث والرّعب والاغتصاب والفتك البربريّ بالمدينة التي تحوّلت إلى خرائب وأنقاض. وتُغتصب حبيبته من قبل دوريّة الجنود القتلة، ثم تقذف جثتها في النهر (ص: 72-73). ثم يشاهد المذبحة التي تحصد أرواح عائلته: أمّه وأختيه، وأباه وأخاه الصغير وبعد أن يعذّب يهرب إلى المغرب: "لاجئ أو هارب من لبنان أو العراق أو أي بلد عربي" (ص. 77). ويبقى انتماؤه الجغرافيّ غامضًا إذ تتضارب المعلومات حوله، فعبد الرحمن التاجي يخبرنا أنّه "فقد أهله ووطنه في ظروف غامضة في أعقاب الحرب الأهليّة التي اجتاحت لبنان كما روى لنا" (ص. 106). ثم يخبرنا أنّ صديقه المدرّس السوريّ حسين القصّار التقاه عبر شوارع دمشق في أعقاب مذبحة أهوار العراق وما تلاها من أهوال ومذابح عمّت بلاد العرب (ص. 107). وبهذا يريد الكاتب أن يقول إنّه لا فرق بين بلاد العرب فكلّها تشترك في القمع والمذابح. هذه الأهوال التي مرّت بناجي العبد الله خرّبت روحه وعطبتها، وجعلته يائسًا وحزينًا، تهيمن عليه الأفكار الثأريّة من جهة، والعجز والسلبيّة من جهة أخرى، بحيث يقضي عمره هاربًا من مكان إلى آخر. فمشاهد القتل كثيرًا ما تراوده وتسبّب له العنّة الروحيّة والجسديّة، وتنغّص عليه حياته.
6. الاسم
الاسم في الرواية ناجي يشير إلى أنّ الشخصيّة المركزيّة نجت من المذبحة التي أودت بالعائلة، ولكنّنا نلاحظ عنصر المفارقة في الاسم، فإذا نجا ناجي العبد الله جسديًّا فإنّه لم ينجُ من آثار المذبحة التي أعطبت روحه ونفسه، ودمّرت حياته، فهي تلاحقه أينما حلّ في يقظته وأحلامه وكوابيسه بحيث جعلته عِنّينًا روحيًّا وجسديًّا إلى حدّ أنّه لا يستطيع أن يتواصل مع امرأة بشكل طبيعيّ.
وتجدر الإشارة إلى أنّنا لا نعرف اسم الشخصيّة المركزيّة إلا في الصفحة الرابعة عشرة، فالكاتب يستعمل تقنيّة "الإرجاء" (Delay) من أجل إثارة عنصر التشويق في نفس القارئ مما يحفّزه على الاستمرار في القراءة لمعرفة عنصر هامّ وهو اسم الشخصيّة المركزيّة.
4.3 موقع الشخصيّة المركزيّة: بطل أم لا بطل
ستتمّ دراسة موقع ناجي العبد الله من مفهوم البطولة بالاعتماد على الموديل الخماسيّ الذي اقترحه إبراهيم طٰه[30]. هذا النموذج بمراحله الثلاث: قبل العمل (المحفّز، الرغبة، القدرة)، العمل (التنفيذ)، بعد العمل (النتيجة)، يفترض أنّه يوجد للشخصيّة المركزيّة هدف ترغب في تحقيقه، فإذا نجحت في تحقيقه، كانت بطلاً، وإذا أخفقت كانت لا بطلاً[31].
1.4.3 المرحلة الاولى (المحفّز، الرغبة، القدرة)
إنّ هدف ناجي العبد الله الإستراتيجيّ في الرواية هو الانتقام والثّأر من قاتلي أهله وحبيبته. وهذا الهدف صريح ومعلن في النصّ: "ناجي العبد الله تحوّل إلى حجر مقذوف مهجور في براري الدنيا بعد أن استؤصل جذره، واجتُثّت أسرته من الوجود، عندما تضطرم النيران، وتهتاج خلايا الدّماغ والأعصاب يحلم جحيمه بيوم الثّأر من القتلة الذين يعرفهم ولا يعرفهم" (ص. 37). ويخبرنا الرّاوي في مكان آخر أنّ ناجي العبد الله كان "فريسة الذكرى وتموّجات الموت ورسم الخطط الفراغيّة للثأر من قاتلي أهله الذين ذبحوا هناك وهم أبرياء" (ص. 115). ويتكرّر ذكر هذا الهدف عدّة مرّات في الرواية. وهذا الهدف يعود إلى مسبّب خارجيّ واحد وهو مقتل عائلته جميعها ونجاته هو بأعجوبة. وهذا الحدث خارج زمن الحاضر القصصيّ، وكلّ ما نعرفه عنه قد تمّ نقله كأحداث مستحضَرة عن طريق التداعيات والاسترجاعات. إذًا هذا الهدف دخل إلى النصّ جاهزًا نتيجة لأحداث سابقة لنقطة بدء الحركة في النصّ. وكونها كذلك يعني أنها تشكّل خلفيّة، بزمكانيّتها وتفاصيلها المختلفة لما حدث في المدينة المغربيّة وبالتحديد في عائلة دميانة وزوجها عبد الرحمن التاجي ولما يحدث في القطار الآن.
لنبدأ بالهدف الإستراتيجيّ الذي ولد مع الشخصيّة في النصّ ولازمها على امتداد النصّ وهيمن على حياتها ومنعها من تحقيق أهداف آنيّة برزت خلال سياق الأحداث كما سنرى لاحقًا.
كانت تسيطر على ناجي رغبة جامحة بالثّأر من القتلة، هذه الرغبة كانت ترافقه في يقظته ونومه وأحلامه وكوابيسه. والسؤال الآن هو: هل كان ناجي العبد الله يملك القدرة المناسبة للانتقال إلى مرحلة تنفيذ الهدف؟ من الواضح أنّ ناجي العبد الله فرد أعزل في مواجهة الآلة السلطويّة المدجّجة بالأسلحة والأموال والنفوذ، ولذلك فهو غير قادر على المواجهة: "الآن أنا هارب أو لاجئ أو منفيّ أو منبوذ أو لا شيء. مجرّد طوف فوق محيط منسيّ، وآخرون في المعتقلات وتحت التعذيب وفي المقابر، ولكن هل بإمكانِكِ أن توضّحي لي: ما الذي تستطيع أن تفعله الطيور والأرانب والسناجب والغزلان وحتى الصقور والفهود في غابة وحش كاسر استشرى برائحة الجثث والفرائس وطعم الدم؟ وحش مدجّج بكل صنوف الأسلحة يطوّق الغابة مع صيّاديه ويقتحم حتى أوجار النمل ويدمّرها. وحش يصرخ في الليالي والنهارات: من لا يعلن ولاءه لي، أنا السيد ولي الله على الأرض، فهو عدوّ للوطن ويستحقّ الموت" (ص: 85-86).
ويبقى ناجي العبد الله هاربًا في المنافي عاجزًا عن تحقيق هدفه الذي يحمله في منافيه. وعندما يستأجر غرفة في بيت دميانة، وتشتعل به ويشتعل بها، ينشأ هدف آنيّ وهو أن يتطهّر وينصهر بها. ورغم أنّ شوقها واندفاعها يصلان حدّ الضّراعة فتقول له: "أينبغي أن أركع وأزحف اليك؟" (ص. 51)، إلا أنّه لم يكن قادرًا على حبّها بسبب أفكاره الثأريّة ومشاهد القتل التي تحوم أمام ناظريه: "في أعماق جيشاناته كان السؤال الذي لا جواب له: لماذا يشرق فجر الحبّ في ظلمة الثأر؟" (ص. 52).
كان ناجي العبد الله مصابًا بما يشبه العنانة النفسيّة والعضويّة بعد أن هوى في ساحة مرايا الدماء والموت، وفي لحظات الانصهار بالحبّ والجنس كانت رؤى الدمار تأتيه: "وهو منكفئ بين فخذيها، داخل الحرارة العذبة، الدافئة، الشرّيرة المغوية، وهي تضمّ رأسه وتجمعه إلى حرارتها [...] اجتاحته الغياهب. سقط فوق الحطام والشظايا ورائحة الدم والأحماض وأثداء الأمّهات المقطوعة وأشلاء صديقته التي غرقت في غرين النهر [...]. ما حدث في ذلك الغروب، بين رجل وامرأة، بدا مشهدًا مأساويًّا لا صلة له بالحبّ أو الجنس" (ص. 80).
يخفق، إذًا، ناجي العبد الله في تحقيق هدفه الآنيّ وهو الانصهار في جسد دميانة، بسبب ملاحقة صور الثّأر له حتّى وقت انغمار الجسدين، ولذلك يقرّر الرحيل رغم تضرّعات دميانة له بالبقاء. وها هو الآن في القطار مستمرّ في رحلة المنفى ولا يدري إلى أين يصل به الرحيل. رغبته الآنيّة هي أن ينام ولكنّه لا يستطيع لعدّة أسباب وخاصّة تلك الرّؤى السوداء التي تحوم حوله: "عبر هذا الرنين، المخلخل للحواس والعقل، والرّغبة الجامحة إلى النوم، حوّم في الظلمة طائر أسود" (ص. 22)، وهو يحاول النوم لينسى هذه الرؤى والأحداث الماضية ولكنّ الضّوضاء في القطار تمنعه من النوم رغم تعبه الشديد: "إنهدام كامل يشلّ خلاياه. رغبة وحيدة حوّمت في سماء رأسه المصدّعة: لو ينام! دلف إلى مطعم القطار هربًا من الجلبة. [...] أتاه النادل بما طلب، قالت الروح والجسد المتعبان بعد تناول السندويش والأسبرين: نم غفوة على هذه الطاولة رجاء أيها السيد المهدّم وبعدها ليكن الطوفان" (ص. 40)، ولكن رغم هذه الحاجة الملحّة والرّغبة الجامحة في النّوم، تأتيه الرّؤى فتنغّص عليه نومه: "في حرم ظليل النوم واليقظة، داخل ابتهالات النعاس، نهض الزّمن المنسيّ، أمواج مدن تحترق، أصوات استغاثات، جثث جماعيّة في خنادق. نساء تغتصب في المنازل، أسرته التي أبيدت بالقنابل اليدويّة في غرفة النوم ]...[" (ص: 40-41). لا يستطيع ناجي النّوم فيعود إلى مقعده يدخّن ويقرأ ساترًا بالكتاب المشهد شبه المأتميّ للأمّ التي يموت ابنها في حضنها، وبهذا تظهر سلبيّة ناجي ولا مبالاته تجاه ما يحدث من موت الطّفل في القطار. ولا يستطيع القراءة أيضًا بسبب الجلبة والضّوضاء، ولذلك تتقاطر أمام ناظريه مشاهد الماضي.
هكذا يخفق ناجي في تحقيق جميع أهدافه لأنّه مسكون بالماضي وبفكرة الثّأر، عاجز عن الفعل سوى اجترار آلامه والذكريات: "أيّ شيء هو الآن خارج الإمكان. أيّ شيء لا معنى له قبل إبادة هذه السلالة البربريّة" (ص. 86). وتقول له دميانة: "إلامَ ستبقى هكذا في عزلة الذئب؟ كما الندّابات فوق الأضرحة تنده طيور الثأر وأنت في العراء" (ص. 113). هذا الوضع حالة مستمرّة عند ناجي العبد الله، وبذلك يريد المؤلّف الإشارة إلى أنّ سطوة الظّلم والإرهاب السلطويّ حالة مستمرّة في الوقت الراهن ولكي تتغيّر هذه الحالة يجب أن تتضافر الجهود الجماعيّة للقضاء على هذا الوحش. شخصيّة ناجي، إذن، عاجزة محطّمة تحلم بالثأر ولكنها هاربة في المنافي، بعيدة عن مدار الفعل والمقاومة، حتى إنّها لا تستطيع أن تقوم بأيّ فعل حياتيّ طبيعيّ، تخفق في تحقيق جميع أهدافها ولذلك فهي لا بطل بامتياز.
خلاصة
لقد تناولنا في هذه الدراسة بناء الشخصيّات المركزيّة في قصص حيدر حيدر بالاعتماد على موديل إبراهيم طٰه، وتبيان موقعها من مفهوم البطولة. فقمنا أوّلاً بتحديد الشخصيّة المركزيّة معتمدين على معاييرَ نصيّة واضحة، ثمّ درسنا بناءها بالأسلوب المباشر وغير المباشر، بعد ذلك حدّدنا هدفها فإذا نجحت في تحقيقه فهي بطل، وإذا أخفقت فهي لا بطل. وقد درسنا ثلاث روايات بشكل مفصّل وهي: الفهد، الزّمن الموحش، ومرايا النّار. أما باقي الروايات والمجموعات القصصيّة فقد أشرنا اليها باختصار في الهوامش. وقد رأينا أنّ رواية الفهد تنوس ما بين التقليديّة والحداثة، فهي تميل إلى الروايات التقليديّة من ناحية التركيز في رسم الشخصيّة على الأسلوب المباشر، ولكنّ هذا الرسم يأتي موزّعًا على امتداد الرواية. كما أنّ الشخصيّة المركزيّة فيها، وهي شخصيّة أبي علي شاهين، لابطل. أما رواية الزّمن الموحش ووليمة لأعشاب البحر ومرايا النار وشموس الغجر فهي روايات حداثيّة بامتياز. هذه الروايات تعتمد بالأساس على الرّسم غير المباشر في بناء شخصيّاتها المركزيّة وذلك من خلال مظهرها الخارجيّ، وأعمالها، وأقوالها، وبيئتها، وسيرتها الذاتيّة، واسمها، ورأينا أنّ كلّ شخصيّاتها المركزيّة تنتمي إلى اللابطولة. أمّا الرواية الأخيرة وهي مراثي الأيام فهي حداثيّة باعتدال. من خلال دراستنا لسبع روايات رأينا أنّ الشخصيّات المركزيّة فيها تنتمي إلى اللابطولة باستثناء رواية واحدة وهي حقل أرجوان فشخصيّتها المركزيّة بطل، والسبب يعود إلى مضمونها، فهي تعالج ولادة العمل الفدائيّ ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ في الضّفة الغربيّة بعد هزيمة عام 1967. ودرسنا أيضًا عدّة مجموعات قصصيّة وتبيّن لنا أنّ اللابطولة تهيمن على شخصيّاتها المركزيّة. وقد لاحظنا أنّ شخصيّة اللابطل تخضع لآليّات المبالغة والتضخيم المتنوّعة لكي تحظى بتأييد القارئ على المستوى الانفعاليّ، فهي تظهر كنقيض للسّلطة التي تمتلك القدرات الكبيرة. من هنا تُوظَّف شخصيّة اللابطل لاستصراخ ضمير القارئ لكي يكون شاهدًا على صراع غير متكافئ بين سلطة قويّة ظالمة وشعب مظلوم ومنتهَك. ويهدف الكاتب بذلك إلى فضح وتعرية الأنظمة القمعيّة وبالتالي تثوير الجماهير. هذا القمع والإرهاب يُولّد شخصيّات غير سويّة ومحطَّمة ومُهشّمة نفسيًّا وجسديًّا، وبالتّالي تتحوّل المجتمعات العربيّة إلى مجتمعات مغتربة تعيش خارج الزّمن والتاريخ. الإنسان العربيّ يدور في دائرة مغلقة من القمع والنفي والهرب فتلاحقه السلطة الغاشمة والماضي بكلّ ما يحمله من إرث ظالم ومصائب، ولذلك يبدو العربيّ كالفأر في مصيدة ومحاط بالجدران من جميع الجهات. وفي كتابه أوراق المنفى يعترف حيدر حيدر بأنه كاتب اليأس والقسوة: "أسجل هنا في مقدّمة اوراق المنفى [...] أنّني كاتب اليأس والقسوة، والنهار المهزوم بالظلمة، والحزن والموت المخيّم فوق أرواحنا المستلبة والكئيبة. أسجّل ذلك لأني أنفر من الكذب والزيف والتبشير الخادع بالفرح والغبطة والسعادة المفقودة. لقد ولّى الزّمن الجميل وأقبل زمن العار. زمن التفكّك وخراب الضمير الإنسانيّ والانحطاط الهمجيّ، ولأنّني مدرك حجم الكارثة والانحطاط اللامتناهي والخراب السّائد، والمستقبل الأسود، مصمّم وأنا بكامل وعيي ومعرفتي أن أكون صوتًا فضائحيًّا في مواجهة هذا التدهور والانحطاط والعسف المبرمج [...]"[32].
قائمة المصادر والمراجع
1. المصادر
· حيدر، حيدر. الفهد. ط. 3. دمشق: ورد للطباعة والنشر، 2003. (ط.1؛ 1968)
· ______ . الومض. ط. 3. دمشق: ورد للطباعة والنشر، 1998. (ط.1؛ 1968)
· ______ . الزمن الموحش. ط. 5. دمشق: ورد للطباعة والنشر، 2000. (ط.1؛ 1973)
· ______. الفيضان. ط. 1. بغداد: دار الحرية للطباعة، 1976 .
· ______. حقل أرجوان. ط. 3. دمشق: ورد للطباعة والنشر، 2000 . (ط.1؛ 1980)
· ______. وليمة لأعشاب البحر. بيروت: دار أمواج ، 1988. (ط.1؛ 1983)
· ______. مرايا النار. ط. 3. دمشق: ورد للطباعة والنشر ، 2000. (ط.1؛ 1992)
· ______. شموس الغجر. ط. 1. دمشق: ورد للطباعة والنشر، 1997.
· ______. مراثي الأيام. ط. 1. بيروت: أمواج للطباعة والنشر، 2001.
2. المراجع بالعربية
أ. الكتب
- أبو عوف، عبد الرحمن. القمع في الخطاب الروائي العربي. القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 1999.
- حيدر، حيدر. أوراق المنفى. بيروت: دار أمواج، 1993.
- الرقيق، عبد الوهاب. في السرد: دراسات تطبيقية. صفاقس: دار محمد علي الحامي، 1998.
- زيتوني، لطيف. معجم مصطلحات نقد الرواية. بيروت: مكتبة لبنان، 2002.
- سماحة، فريال. رسم الشخصيات في روايات حنا مينه. بيروت: المؤسسة العربية للنشر، 1999.
- شكري، غالي. المنتمي- دراسة في أدب نجيب محفوظ. بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1982.
- طٰه، إبراهيم. البعد الآخر: قراءات في الأدب الفلسطيني المحلي. الناصرة: رابطة الكتاب الفلسطينيين، 1990.
- عبد العزيز، أحمد فؤاد. وليمة لأعشاب البحر- الإلحاد يخلع أقنعته. القاهرة: مكتبة مدبولي، 2001.
- عبد القادر، فاروق. من أوراق نهاية القرن. القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2002.
- عزام، فؤاد. السرقات الأدبية وقضية التأثر في الأدب. رسالة ماجستير. تل أبيب: جامعة تل أبيب، 1984.
- العلام، عبد الرحيم. الفوضى الممكنة: دراسات في السرد العربي الحديث. الدار البيضاء: دار الثقافة، 2001.
- كاسوحة، مراد. المنفى السياسي في الرواية العربية. دمشق: دار حصاد، 1990.
- محفوظ، نجيب. اللص والكلاب. بيروت: دار القلم، 1973.
- نوفل، يوسف. قضايا الفن القصصي. القاهرة: المطبعة العربية الحديثة، 1977.
- هامون، فيليب. سميولوجية الشخصيّات الروائية. ترجمة: سعيد بنكراد. الرباط: دار الكلام، 1990.
- ويلك، رينيه واوستن وارين. نظرية الأدب. ترجمة: محيي الدين صبحي. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987.
ب. المقالات
- طٰه، إبراهيم. "نظام التفجية وحوارية القراءة". الكرمل- أبحاث في اللغة والأدب 14 (1993)، 95-129.
- طٰه، إبراهيم. "صورة البطل الحديث في قصة لمحمد علي طٰه". الكرمل- أبحاث في اللغة والأدب 18-19، (1997-1998)، 301-330.
3. المراجع باللغات الأجنبيّة
أ. الكتب
- Abbot, H. Porter. The Cambridge Introduction to Narrative. Cambridge: Cambridge University Press, 2002.
- Bal, Mieke. Narratology. Toronto: University Press, 2004.
- Baldick, Chris. The Concise Oxford Dictionary of Literary Terms. Oxford: Oxford University Press, 1990.
- Hassan, Kadhim Jihad. Le roman arabe (1834-2004). Sindbad/ Actes Sud, 2006.
- Milson, Menahem. Najib Mahfuz. New York: St. Martin's Press, 1998.
- Rimmon-Kenan, Shlomit. Narrative Fiction. London and New York: Methuen Co. Ltd., 1983.
ب. المقالات
- Chatman, Seymour. "On the Formalist- Structuralist Theory of Character". Journal of Literary Semantics (1972), 57-79.
- Eaton, Marcia. "On Being a Character". The British Journal of Aesthetics 16 (1976), 24-29.
- Genette, Gérard.. "The Structure and Function of the Title in Literature", Critical Inquiry 14: 4 (1988), 690-719.
- Harvey, W. J. "The Human Context". Theory of the Novel. Ed. Philip Stevick. New York: The Free Press, 1967, 231- 253.
- Jayyusi, Salma Khadra. "Two Types of Hero in Contemporary Arabic Literature". Mundus Artium 10/1 (1977), 35-49.
- Margolin, Uri. "The Doer and the Dead". Poetics Today 7 (1986), 205-225.
- Margolin, Uri. "Structuralist Approaches in Narrative". Semiotica 25–1/2 (1989), 1-24.
- Taha, Ibrahim. "The Power of the Title: Why Have You Left the Horse Alone by Mahmud Darwish". Journal of Arabic and Islamic Studies 3 (2000), 66-83.
- Taha, Ibrahim. "Heroism in Literature: A Semiotic Model". The American Journal of Semiotics 18 (2006), 109-127.
- Tomashevsky, Boris. "Thematics". In Russian Formalist Criticism- Four Essays. Trans. Lee Lemon and Marion Reis. Nebraska: University Press, 1965, 64-98.
([1] حيدر حيدر كاتب سوريّ ولد عام 1935، ونشر ثماني روايات وخمس مجموعات قصص قصيرة، وتعتبر أعماله قفزة نوعيّة في تاريخ تطوّر القصّة السوريّة، خاصّة وأنّها تخرج على أساليب وتقنيّات الكتابة التقليديّة، فهي متغيّرة ومتبدّلة. وقد بدأ أعماله بمجموعة قصصيّة هي حكايا النورس المهاجر (1968)، ورواية الفهد (1968)، وهما عملان تقليديّان من جهة مبناهما، ثمّ جاءت القفزة النوعيّة في رواية الزمن الموحش (1973)، والتي تنتمي إلى تيّار الحداثة الروائيّة. واستمرّ هذا التطوّر وبرز في رواياته الأخرى ومجموعاته القصصيّة مثل رواية وليمة لأعشاب البحر (1983)، ورواية مرايا النار (1992)، ثمّ عاد في روايتيه الأخيرتين شموس الغجر (1997) ومراثي الأيام (2001) إلى الحداثة المعتدلة. من الجدير ذكره أنّ هذا الكاتب الشيوعيّ المتمرّد على جميع أشكال التنميط والسلطة: الاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة، وحتّى سلطة حزبه، كان متمرّدًا في أشكال كتابته وفي طروحاته الفكريّة أيضًا، ممّا أثار جدلاً واسعًا حوله، وممّا جعله يقضي معظم حياته متنقلاً من منفى إلى آخر، اختيارًا أو قسرًا، فاغتنت تجربته وتنوّعت مضامينها وأشكالها، وتناولت قضايا وهمومًا عبر قطريّة، مثل تجربة الحزب الشيوعيّ العراقيّ، وتجربة الثورة الجزائريّة، وتجربة المقاومة الفلسطينيّة، والحرب الأهليّة اللبنانيّة، إضافة إلى هموم عامّة تتعلّق بالإنسان العربيّ المقموع والسلطة القامعة، عدا عن همومه الذاتيّة.
[2] (Ibrahim Taha, “Heroism in Literature: A Semiotic Model”, The American Journal of Semiotics 18 (2006), 109-127; W. J. Harvey, “The Human Context”, Theory of the Novel ,ed. Philip Stevick (New York: The Free Press, 1967), 235-237.
[3] (Ibrahim Taha, “Heroism in Literature: A Semiotic Model”, 110.
ويحدّد فيليب هامون (Ph. Hamon) ستّة عناصر مميّزة تصلح لتعيين الشخصيّة المركزيّة:
1. الوصف المميّز: وهو تمييز البطل بصفات لا توجد لدى الشخصيّات الأخرى في الرواية أو توجد بنسبة أقلّ.
2. التوزيع المميّز: يتعلّق بالتشديد الكميّ والحضور في الأوقات الهامّة: بداية الفصول ونهايتها أو بداية القصّة ونهايتها، القيام بالحوادث الرئيسيّة.
3. الاستقلال المميّز: يظهر البطل وحده أو مصحوبًا بأيّ واحدة من شخصيّات الرواية، بينما الآخرون يظهرون برفقة شخصيّات لا تتبدّل، أو ضمن مجموعة ثابتة ويعود السبب إلى أنّ البطل يملك الحقّ في المونولوج (وجود منفرد) وفي الحوار (وجود مع اخر)، بينما الشخصيّات الأخرى لا تتكلّم إلا من خلال الحوار.
4. الوظيفة المميّزة: هذه الوظيفة يكتسبها البطل من مجمل الحكاية، وهي محصلة مجموعة من الأفعال التي تمحورت حوله شخصيّة تتوسط في النزاعات، تتمثل بأفعالها، تخاصم وتنتصر، تتلقّى المعلومات، تتلقى دعم المساعدين، تعوّض النقص وتسدّ الحاجة.
5. التحديد المسبق: يلعب النوع الأدبيّ أحيانًا دور الشفرة المشتركة بين المرسل والمرسل إليه والتي تتعيّن من خلالها الإشارات الدالة على البطل، فاللباس أو أسلوب الكلام أو طريقة الدخول إلى مسرح الأحداث تشكل أحيانًا علامات دالّة على البطل.
6. التعليقات الصريحة: قد يتعيّن البطل من خلال التعليقات الصريحة التي تتضمّنها الرواية.
انظر: لطيف زيتوني، معجم مصطلحات نقد الرواية (بيروت: مكتبة لبنان، 2007)، 36-35؛ فيليب هامون، سميولوجية الشخصيّات الروائية، ترجمة: سعيد بنكراد (الرباط: دار الكلام، 1990)، 60-65.
[4]( Boris Tomashevsky, "Thematics", in Russian Formalist Criticism- Four Essays, trans. Lee Lemon and Marion Reis (University of Nebraska Press, 1965), 66-72.
[5]) صحيح أنّ ورود اسم الشخصيّة في العنوان لا يدلّ دائماً على أنّها مركزيّة، ولكن في معظم الأحوال تكون الشخصيّة مركزية. انظر: .Porter Abbot, The Cambridge Introduction to Narrative, 124-125
[6]) فيليب هامون، سميولوجية الشخصيّات الروائية، 60-65.
[7]) في رواية حقل أرجوان (1980) الشخصيّة المركزيّة هي شخصيّة نافذ علان وذلك للأسباب التالية: (1) شخصيّة نافذ علان حاضرة بكثافة في الرواية من الصفحة الأولى حتى الأخيرة، وهو الرّاوي الذي يروي قصة نكبة فلسطين والشتات حتى ولادة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيليّ في الضفة الغربيّة من خلال قصته الشخصيّة. أما الشخصيّات الأخرى فهي ثانويّة تظهر سريعًا ثم تغيب. (2) شخصيّة نافذ علان هي الوحيدة التي تتمتّع برسم مفصّل من خلال أعمالها، أقوالها، سيرتها، وعلاقاتها بالشخصيّات الأخرى، وبيئتها، كما أنّها الشخصيّة الوحيدة التي تمارس سلطة الحوار الداخليّ والأحلام. (3) المؤلّف الضمنيّ متعاطف مع شخصيّة نافذ علان، فهو يمجّد أعمالها، كما أنّه يجعلها أحيانًا بوقًا لأفكاره، فنافذ علان مثقف ماركسيّ ينخرط في المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ، ويعرض أفكاره على الناس وهي نفس الأفكار التي يحملها المؤلّف. (4) شخصيّة نافذ علان تحظى باهتمام خاصّ من قبل القارئ الذي يتابع حركتها وخروجها من يأسها وإحباطها ثمّ تشكيلها خليّة فدائيّة، وأعمالها في مقاومة الاحتلال، وكيف انتهى مصير نافذ بأن جرح في المعركة الأخيرة التي خانه فيها الشيخ القطناني.
هدف الشخصيّة المركزيّة: لقد كان هدف نافذ علان الانتقام من الاحتلال والانخراط في المقاومة، والتضحية من أجل تحريك النفوس الميتة وإيقاظها من سباتها العميق. وقد جاء هذا الهدف صريحاً (ص65، 108) وتشكَّل خلال النصّ. وفعلاً استطاعت الشخصيّة المركزيّة أن تحقّق هدفها، فقد نجح نافذ علان في تشكيل خليّة فدائيّة قامت بعدّة عمليّات عسكريّة ضدّ جنود الاحتلال ومراكزه. هذه العمليّات ساعدت في قيام خلايا كثيرة. ورغم أنّ نافذ علان جرح وقطعت ذراعه وسجن سبع سنوات ونصف إلا أنّه يعتبر بطلاً حسب موديل إبراهيم طٰه لأنّه استطاع تحقيق هدفه. انظر: حيدر حيدر، حقل أرجوان (ط. 3؛ دمشق: ورد للطباعة والنشر، 2000).
[8]) بالنسبة لأساليب رسم الشخصيّة انظر: فريال سماحة، رسم الشخصيّة في روايات حنا مينه (بيروت: المؤسسة العربية للنشر، 1999)، 49؛ رينيه ويلك واوستن وارن، نظرية الادب، ترجمة: محيي الدين صبحي (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987)، 229.
Marcia M. Eaton, “On Being a Character”, The British Journal of Aesthetics 16 (1976), 24-29; Mieke Bal, Narratology (Toronto: University Press, 2004), 130-131; Seymour Chatman, "On the Formalist–Structuralist Theory of Character", Journal of Literary Semantics 1(1972), 57-79; Shlomit Rimmon-Kenan, Narrative Fiction (London: Methuen Co. Ltd, 1983), 61-62; Uri Margolin, “Structuralist Approaches in Narrative”, Semiotica 75-1/2 (1989), 12-13; Margolin, “Introducing and Sustaining Characters”, Style 21/1 (1987), 113-115; Margolin, “The Doer and the Deed”, Poetics Today 7 (1986), 206.
[9]) إبراهيم طٰه، البعد الآخر: قراءات في الأدب الفلسطيني المحلّي (الناصرة: رابطة الكناب الفلسطينيين، 1990)، 143.
[10]) بالنسبة للعنوان ووظائفه انظر:
Ibrahim Taha, "The Power of the Title: Why Have You Left the Horse Alone by Mahmud Darwish", J. of Arabic and Islamic Studies 3 (2000), 66-83; Gérard Genette, "The Structure and Function of the Title in Literature", Critical Inquiry 14: 4 (1988), 711-719.
وبالنسبة للأسماء كوسيلة لتعزيز رسم الشخصيات انظر:
Rimmon-Kenan, 69.
ومثال على ذلك أيضًا رواية أربع وعشرون ساعة فقط ليوسف القعيد، فلاختيار الأسماء في هذه الرواية أكثر من بعد رمزيّ ودلاليّ، بحسب الاسم، وبحسب ارتباطه وامتداده في الذاكرة الحضاريّة والتاريخيّة والسياسيّة والجماعيّة بمصر، سواء تعلّق الأمر هنا بأسماء الأماكن أو بأسماء الشخصيّات. انظر: عبد الرحيم العلام، الفوضى الممكنة: دراسات في السرد العربي الحديث (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2001)، 74. ويقسّم عبد الوهاب الرقيق الأسماء إلى أنواع عديدة أهمّها: الأسماء المتطابقة مع الدّور الذي تؤدّيه الشخصيّة الحاملة له مثل أمينة في ثلاثية نجيب محفوظ، والأسماء الأضداد حيث يشير الاسم إلى صفات عكسيّة، والأسماء الرمزيّة وهي أسماء زئبقيّة تحتمل المعنى وضدّه. انظر: عبد الوهاب الرقيق، في السرد: دراسات تطبيقية (صفاقس: دار محمد علي الحامي، 1998)، 137-143. وبالنسبة للأسماء ودلالاتها في روايات نجيب محفوظ انظر:
Menahem Milson, Najib Mahfuz (New York: St. Martin's Press, 1998), 159-271.
([11] ابراهيم طه، "صورة البطل الحديث في قصة لمحمد علي طه" الكرمل- أبحاث في اللغة والأدب 18-19 (1997-1998)، 301-330. انظر أيضًا:
.127-109Ibrahim Taha, “Heroism in Literature: A Semiotic Model”,
[12]) يميّز بعض الدارسين بين البطل واللابطل على أساس أخلاقيّ غير جماليّ "بما أنّه في كثير من الأعمال لا تكون الشخصيّة المركزيّة سامية أخلاقيًّا وتخيّب توقّعاتنا، فإنّنا نعتبرها عندئذٍ لا بطلاً". انظر:
Chris Baldick, The Concise Oxford Dictionary of Literary Terms (Oxford: Oxford University Press, 1990), 98.
وتدرس سملى الخضراء الجيوسي مفهوم البطل في الأدب العربيّ المعاصر معتبرة أنّ كلمة "البطل" تغطّي مساحة واسعة تمتدّ من البطل "البطوليّ" إلى اللا بطل وتضمّ البطل المأساويّ، الثوريّ، التاريخيّ، المغترب، والضحيّة. ولكنّها تركّز دراستها على البطل البطوليّ والبطل الضحيّة. انظر:
Salma Khadra Jayyusi, "Two Types of Hero in Contemporarry Arabic Literature", Mundus Artium 10/1 (1977), 35-49.
ويقسم يوسف نوفل البطولة إلى أربعة أنواع: 1. البطل الإيجابيّ. 2. البطل السلبيّ. 3. البطل الفاشل. 4. البطل المقهور. وهو تقسيم يعتمد على الفكرة أو المضمون العامّ للنصّ. انظر: يوسف نوفل، قضايا الفن القصصي (القاهرة: المطبعة العربية الحديثة، 1977)، 52-64. ويشير إبراهيم طٰه إلى هذه الأنواع بقوله: "هناك تناقض دلاليّ ومنطقيّ وجوهريّ بين ألفاظ "بطل" و"فاشل/ ضحيّة". كيف يمكن للشخصيّة الفاشلة أن تكون بطلا؟ ألفاظ مثل "إيجابيّ" و"سلبيّ" هي صفات لا
علاقة لها بالمعنى الحقيقيّ والجوهريّ للبطولة". انظر:
Ibrahim Taha, “Heroism in Literature”, 123.
[13]) تجدر الإشارة إلى أنّ كثيرًا من نقاط التشابه بين رواية الفهد ورواية اللص والكلاب، فهدف سعيد مهران مقاومة الظلم والقيم الفاسدة وتحقيق العدالة المفقودة غير أنّه في ظلّ الأزمة التي يعانيها يصارع هذه القيم بمنطق المتمرّد البعيد عن الثوريّة وكانت الملايين تعطف عليه، ولكنّ هذا العطف كان عطفًا صامتًا عاجزًا كأماني الموتى. وقد وقفت سلطة الدولة المتحالفة مع الأغنياء ضدّ سعيد مهران كما حدث مع شاهين. وفي كلتا الروايتين يقف رجال الدين متواطئين مع السلطة. وفي كلتيهما تخفق الشخصيّة المركزيّة في تحقيق هدفها؛ فسعيد مهران لم يستطع أن يحقّق هدفه في غياب التنظيم الثوريّ، فهو يبدو كما لو كان متمردًا دونكيشوتيًّا. وكذلك الفهد يخفق بسبب غياب الوعي الثوريّ، وعدم نضوج الظروف الموضوعيّة. وتتشابه الشخصيّتان فيما آلتا إليه من موت في النهاية وبذلك فشخصيّة سعيد مهران تتموقع في اللا بطولة كما هو حال شاهين في الفهد. انظر: نجيب محفوظ، اللص والكلاب (بيروت: دار القلم، 1973). والسؤال هل تأثر حيدر حيدر في رواية الفهد برواية اللص والكلاب؟ والجواب يحتاج إلى دراسة مستقلّة للروايتين. انظر: فؤاد عزام، السرقات الأدبية وقضية التأثير الأدبي. رسالة ماجستير (تل أبيب: جامعة تل أبيب، 1983)، 43-55.
ولمزيد من التوسع عن اللص والكلاب انظر: غالي شكري، المنتمي- دراسة في أدب نجيب محفوظ (بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1982)، 266-282.
[14]) فاروق عبد القادر، من اوراق نهاية القرن (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2002)، 234-235.
[15]) في المجموعة القصصيّة الفيضان (1976) عشر قصص قصيرة في جميعها تخفق الشخصيّة المركزيّة في تحقيق هدفها ولذلك فهي لا بطل. ومن الأمثلة على ذلك قصّة "أغنية حزينة لرجل كان حياً" فهي تروي حكاية الشهيد الجزائريّ الطاهر الأخضر الذي يخرج من قبره بعد التحرير، ولكنّه عندما يرى الواقع الذي سيطر عليه الانتهازيون والأغنياء، وتاجروا بالثورة يقرّر العودة إلى قبره. أو قصّة "من الذي يذكر الغابة" فالشخصيّة المركزيّة وهي الرّاوي تجهّز نفسها لاستقبال الرجل الذي كان ثائرًا ثمّ تحوّل إلى زعيم بعد التحرير. هذا الزعيم سيزور المدينة، فيشتري الرّاوي الورد ليقدّمه له ولكنّه يأتي محاطًا بالشرطة والجيش ويبقى بعيدًا عن الناس فلا يستطيع الرّاوي أن يقابله أو يقدّم الورد له. إذن تهيمن اللا بطولة على الشخصيّات المركزيّة في هذه المجموعة. انظر: حيدر حيدر، الفيضان (بغداد: دار الحرية، 1976). كذلك الأمر في مجموعة الومض (1970) التي تحتوي على تسع قصص قصيرة موضوعها الظلم الاجتماعيّ والسياسيّ، وقهر الأغنياء والسلطة للإنسان الفقير والمخلص ولذلك تهيمن اللا بطولة على شخصيّاتها المركزيّة إذ أخفقت هذه الشخصيّات في تحقيق أهدافها بسبب البنية الاجتماعيّة المتخلّفة، وسيطرة الأقوياء والأغنياء. انظر: حيدر حيدر، الومض (ط. 3؛ دمشق: دار ورد، 1998).
[16]) انظر: حيدر حيدر، اوراق المنفى (بيروت: دار أمواج، 1993).
[17]) الشخصيّة المركزيّة في رواية وليمة لأعشاب البحر(1983) هي شخصيّة مهدي جواد، مع أننا نلاحظ أنّ الشخصيّات الأخرى وبالتحديد مهيار الباهلي وآسيا لخضر وفُلّة بوعناب تقترب من المركزيّة ولكن شخصيّة مهدي جواد هي الأكثر مركزيّة وذلك للأسباب التالية:
1. شخصيّة مهدي جواد حاضرة بكثافة على امتداد الرواية، حتى عندما ينتقل الرّاوي للحديث عن شخصيّات أخرى فإن شخصيّته تكون حاضرة بكونها موضوع الحديث، ومثال على ذلك عندما تشاجر مهيار مع رئيس البعثة العراقيّة في ساحة مدينة بونة دفاعًا عن مهدي جواد (ص. 316).
2. تتمتّع شخصيّة مهدي جواد برسم مفصّل من قبل الرّاوي، وإن كنّا لا نجد رسمًا لملامحه الخارجيّة إلا أنّ ملامحه الداخليّة، وطباعه، وعالمه النفسيّ، مرسومة بشكل مباشر، وبشكل غير مباشر من خلال أقواله، وأعماله، وبيئته، وسيرته الذاتيّة.
3. شخصيّة مهدي جواد هي الشخصيّة الوحيدة التي تمتلك سلطة الحوار الداخليّ، والأحلام والكوابيس، والاسترجاعات واستحضار طفولته.
4. شخصيّة مهدي جواد تحظى بتعاطف الرّاوي، وهذا التعاطف يبدو واضحًا من خلال تعليقات الرّاوي وتمجيد ما قام به مهدي ومهيار من أعمال في العراق، ومن خلال متابعة الرّاوي للعلاقة بين مهدي وآسيا.
5. تحظى شخصيّة مهدي بتعاطف القارئ واهتمامه وتشوّقه لمعرفة أهداف مهدي، وخاصّة مواكبة علاقته بآسيا وما آلت إليه. إضافة إلى أنّ الرواية تبدأ وتنتهي بها.
[18]) يبدو أنّ بعض جوانب حياة حيدر حيدر تنعكس في رواياته، ومن هذه الجوانب علاقته طفلاً بأمّه. ففي حوار أجرته أمينة طلعت معه (في جريدة "أخبار الأدب" بتاريخ 8 مايو 2000) يقول حيدر حيدر: "كان أبي قاسيًا ومهيمنًا تمامًا على أمّي وكان يأخذ مواقف عدوانيّة كثيرة ضدّ أمّي، فكنت أقف بينهما دفاعًا عنها لأحميها وأتلقى الضربات بدلاً منها وأقول له اضربني واترك أمّي، فكان يرتدّ شاعرًا بالخزي ويكبح جماح غضبه مطلقًا الشتائم عليها". انظر: أحمد فؤاد عبد العزيز، وليمة لأعشاب البحر: الإلحاد يخلع أقنعته (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2001)، 99.
[19]) التأجيل أو الإرجاء هو نوع من الفجوات على مستوى النصّ الظاهر ويعرّفه إبراهيم طٰه بقوله: "في هذا النوع من الفجوات يؤجّل الكاتب واعيًا معلومات قد تتعلّق بالحدث أو الشخصيّة أو الزمان أو المكان، وقد ترتبط بعناصر أخرى من مركّبات القصّة، بحيث تبقى على مستوى الخبر الصريح، ليعود ويذكرها في السياق. وهذا التأجيل يُحدث أثرًا آنيًّا على القاريء فتزيد يقظته ويزيد تركيزه وتفاعله مع النصّ وبالنصّ، ممّا يجعله مدفوعًا بعنصر الإثارة والتشويق لسدّ الفراغات فيتابع قراءة النصّ حتى النهاية". انظر: إبراهيم طٰه، البعد الآخر، 99؛ المؤلف نفسه، "نظام التفجية وحوارية القراءة"، الكرمل-أبحاث في اللغة والأدب عدد 14 (1993)، 95- 129.
[20]) ابراهيم طه، "صورة البطل الحديث في قصة لمحمد علي طه"، 301-330. انظر أيضًا:
.127-109Ibrahim Taha, “Heroism in Literature: A Semiotic Model”,
[21]) في رواية وليمة لأعشاب البحر كان هدف الشخصيّة المركزيّة مهدي جواد النجاة بنفسه وعدم الانهيار بعد أن هرب من براثن الموت في العراق. هذا الهدف دخل مع الشخصيّة إلى النصّ جاهزًا نتيجة لأحداث سابقة لنقطة بدء الحركة في النصّ. ولكنّ هذا الهدف يتحوّل بعد أن يتعرّف مهدي جواد إلى آسيا لخضر ويصبح هدفه أن يتزوج آسيا ويبني معها بيتًا يتحدّى الإعصار. وقد كانت رغبته قويّة وجامحة في تحقيق هذا الهدف الذي صرّحت به الشخصيّة وعملت على تنفيذه، فمهدي جواد استطاع أن يكسب حبّ آسيا وثقتها من خلال التوازن بينهما، فهو يحكي لها تجربته في العراق، وهي تحكي له تجربتها الحياتيّة وخاصّة بعد استشهاد والدها، وما تقاسيه من زوج أمّها. انظر:
Kadhim Jihad Hassan, Le roman arab (1834-2004) (Sindbad/ Actes Sud, 2006), 145.
وتوطّد حبّها له بعد محاولته الانتحار بسبب السوداويّة وأشباح الموت التي كانت تلاحقه حسب تعبيره. ولكنّ السبب الحقيقيّ، باعتقادي، لمحاولة الانتحار هي أنّه أراد أن يستدرّ عطف وشفقة آسيا عليه والدليل على ذلك أنه فصد شريانه أمام صديقه مهيار الباهلي، ولو أراد الانتحار حقيقة لقام بذلك عندما كان وحيدًا في بيته. وقد نجح فعلاً في تثبيت حبّ آسيا له بعد تلك المحاولة إذ قالت له: "نحن معاً حتى الموت" (ص. 248).
[22]) في وليمة لأعشاب البحر أخفقت الشخصيّة المركزيّة مهدي جواد في تحقيق أهدافها بالزواج من آسيا لخضر وإنشاء حياة جديدة تنهض فوق رماد الأزمنة (ص. 331)، وذلك للأسباب التالية: (1) ارتباط آسيا بعلاقة قويّة مع أمّها لالا فضيلة واستعدادها للتضحية بحياتها لإسعادها بعد أن تحطّمت مرتين: المرّة الأولى بموت زوجها، والثانية بزواجها من يزيد ولد الحاج. (2) كراهيّة يزيد ولد الحاج للعرب عامّة ولمهدي خاصّة، ولذلك وشى به للسلطات مدعيًا أنّه يقوم بنشاط سياسيّ، فقامت قوى الأمن الجزائريّة بمداهمة منزله وأبلغته بمغادرة الجزائر خلال أسبوع. وتنتهي الرواية بفشل مهدي جواد في تحقيق هدفه ولذلك فهو لا بطل. تجدر الإشارة إلى أنّ بعض النقّاد استنتج من نهاية الرواية أنّ مهدي جواد انتحر بعد أن قفز إلى البحر. انظر: فاروق عبد القادر، من اوراق نهاية القرن (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2002)، 243. وقد جاء العنوان ليضلل القارئ، ويبدو من خلال النصّ أنّ مهدي قد انتقل إلى منفى آخر ولم ينتحر، والأدلّة على ذلك هي: (1) من يرغب في الانتحار لا يخلع ملابسه، بل يبقى مرتدياً لها. (2) وجود عدّة استباقات خارجيّة تشير إلى أنّ مهدي جواد يتذكّر آسيا ومدينة بونة في منفاه الجديد: "وتلمع كالينازك على شاشة الذاكرة (ص. 163)، "سيتذكّر فيما بعد تلك الأزمنة السعيدة التي ستأتيه مع الرياح في مطالع الربيع وهو ينتشر فوق التلال والسهول وحقول المنفى، وستأتيه الروائح التي تفطر القلب إذ يهبط الشوارع المشجرة الشبيهة بشوارع بونه..." (ص: 174، 181، 184). انظر: مراد كاسوحة، المنفى السياسي في الرواية العربية (دمشق: دار حصاد، 1990)، 50-51.
[23]) فاروق عبد القادر، من اوراق نهاية القرن، 237.
[24]) الشخصيّة المركزيّة في رواية شموس الغجر (1997): في رواية شموس الغجر شخصيّتان رئيسيّتان وهما: بدر الدين والد راوية والراوية راوية؛ ولكننا نعتقد أنّ راوية هي الشخصيّة الأكثر مركزيّة وذلك للأسباب التالية: (1) الحضور المكثّف لراوية في النصّ، فالرواية تبدأ بها وتنتهي بها، كذلك تتواجد راوية في مسارح أحداث الرواية الثلاثة: قريتها عيون الريم، الجامعة، وقبرص بعد أن رحلت إلى حبيبها ماجد زهوان. في حين أنّ والدها يقتصر وجوده على القرية وإن كان يذكر أحيانًا من خلال الحوار بين راوية وماجدة في الجامعة أو في قبرص. كذلك تحظى راوية برسم مفصّل من خلال أقوالها وأعمالها وعلاقتها بالشخصيّات الأخرى. عنوان الرواية أيضًا يتعلّق براوية إذ لفحتها شموس الغجر عندما ولدتها الغجريّة بيلار فاكتسبت بعض صفات الغجر مثل الحريّة وحبّ الطبيعة. (2) تحظى راوية بتعاطف الرّاوي والمؤلف الضمنيّ. فهو يفصّل أعمالها وآراءها وأحلامها. والأفكار التي تقولها راوية هي نفس أفكار المؤلف الذي يقيم تناظرًا عكسيًّا بين شخصيّة راوية الثوريّة والعقلانيّة مقابل شخصيّة والدها بعد تحوّله، وشخصيّة أخيها نذير الأبويّة المتغطرسة. (3) شخصيّة راوية تحظى باهتمام خاصّ من قبل القارئ الذي يهتمّ بمعرفة سلوك راوية أمام الظلم وكبت الحريّات والتهميش الذي تواجهه من قبل عائلتها، وهل ستخضع أم تتمرّد عليه؟
ولكي نحدّد موقع شخصيّة راوية من البطولة يجب أن نحدّد هدف راوية وهل نجحت في تحقيقه أم أخفقت. لقد كان هدف راوية في البداية أن تعيش مع والدها وعائلتها في جوّ من الحريّة والديمقراطيّة كما ربّاها والدها قبل نكوصه وعملت على ذلك من خلال حواراتها معه، ولكن عندما اشتدّت الرجعيّة والكبت في البيت تحوّل هدفها إلى الهرب إلى قبرص ليكون ماجد زهوان جدارًا تستند إليه، وتشيّد من حبّها لماجد وطنًا وأهلاً. فهاجرت إلى قبرص وعاشت سنة ولكنّ ماجد الفلسطينيّ فجّر نفسه في السفارة الإسرائيليّة في الذكرى الثالثة عشرة لاغتيال الشهيد ماجد أبو شرار في روما على يد الموساد الإسرائيليّ. وبذلك أخفقت راوية في تحقيق هدفها فهي لا بطل. انظر: حيدر حيدر، شموس الغجر (دمشق: ورد للطباعة والنشر، 1997).
[25]) عبد الرحمن أبو عوف، القمع في الخطاب الروائي العربي (القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 1999)، 20.
[26]) حيدر حيدر، وليمة لأعشاب البحر، 378.
[27]) ظاهرة التناصّ الذاتيّ تبدو كثيفة في أعمال حيدر حيدر وتحتاج إلى دراسة مستقلّة.
[28]) نشير هنا إلى أن بناء شخصيّة ناجي العبد الله يعتمد أساسًا على القصّة المركزيّة المسترجعة في المدينة المغربيّة مع عائلته دميانة وعبد الرحمن التاجي.
[29]) الشخصيّة المركزيّة في حكاية "اغتيال في الغسق" في مراثي الأيام (2001): في القصّة شخصيتان رئيسيّتان وهما أبو المجد صديق الكلب، والكلب فيديل. وفي القصّة يتناوب السرد ثلاثة رواة: أبو المجد والراوي الخارجيّ والكلب. أمّا شخصيّة أبي المجد صاحب الكلب فهي الأكثر مركزيّة لأنها تحضر على امتداد النصّ بينما تغيب شخصيّة الكلب عندما يتحدّث أبو المجد عن صديقه عليّ، وعندما يروي عن رحلة الصيد الليليّة برفقة صديقيه عليّ والريس أبي العبد. إضافة إلى الرسم المفصّل لأبي المجد وتعاطف الكاتب معه، بل إن كثيرًا من الأحداث هي انعكاس لسيرة حيدر حيدر الذاتيّة. فأبو المجد يعود لبلدته بعد عشر سنوات من الغربة وقد حارب مع المقاومة الفلسطينيّة في لبنان خلال الاجتياح الإسرائيليّ.
هدف الشخصيّة المركزيّة: كان هدف أبي المجد أن يعيش بهدوء بعد عودته من المنفى بعيدًا عن الفساد وعن الناس وتشييد مملكة صغيرة للبراءة والنزاهة والصيد واللعب (ص. 126) ولذلك اختار شاطئ البحر والغابات والصيد والعزلة الحرّة. وعمل على تحقيق هذا الهدف من خلال بناء خيمة على شاطئ البحر ومن خلال صداقته الحميمة لكلبه فيديل الذي كان يذهب معه في رحلات الصيد في البراري. هل نجح أبو المجد في تحقيق هدفه؟ كلا لم ينجح أبو المجد إذ مات أعزّ أصدقائه عليّ بالسكتة القلبيّة، والأهمّ من ذلك أنّ رفيقه الأعزّ والأقرب وهو كلبه فيديل اغتاله الحرس العسكريّ عندما اقترب من مزرعة الجنرال القريبة من بيت أبي المجد فتنغّصت حياته إذ شعر "أن الأعداء على مرمى طلقة، وأنا أعزل، سوى من الغصات الخانقة والبكاء على أطلالك في هذا الهزيع الأخير" (ص. 138). وشعر أنّه هو المغدور والمُهان. وبذلك تعتبر الشخصيّة المركزيّة لا بطلاً. انظر: حيدر حيدر، مراثي الأيام (بيروت: أمواج للطباعة والنشر، 2001)، 63-138.
[30]) ابراهيم طه، "صورة البطل الحديث في قصة لمحمد علي طه"، 301-330. انظر أيضًا:
.127-109Ibrahim Taha, “Heroism in Literature: A Semiotic Model”,
[31]) الشخصيّة المركزيّة في حكاية "المجرّات" من رواية مراثي الأيام (2001) هي شخصيّة وهيب الساهر وذلك للأسباب التالية: (1) شخصيّة وهيب الساهر حاضرة بكثافة على امتداد النصّ من البداية إلى النهاية. فالنصّ يرافق شخصيّة وهيب الساهر منذ شبابه في الجامعة حتى تحوّلاته ثمّ انتحاره في السجن. (2) شخصيّة وهيب الساهر هي الشخصيّة الوحيدة التي تتمتّع برسم مفصّل. فالراوي يرسم لنا صفات وهيب الساهر رسمًا مباشرًا وغير مباشر. كان وهيب الساهر شابًا مفعمًا بالحماسة الوطنية وشمس الثورات قبل ثلاثين عامًا وتزوج شابّة جميلة ولكنّها ماتت وهي تضع مولودها البكر الذي مات أيضًا. استدعي للخدمة في الجيش فحارب ببسالة وبعد الحرب انتقد التقصير الذي أدّى إلى الهزيمة فاعتقل وأودع السجن خمسة وأربعين يومًا، واعتبر مشبوهًا ومعاديًا للثورة. كان وهيب الساهر في نظر الناس وطنيًّا مثاليًّا ومحترمًا، ولكنّه بتشجيع صديقه السابق من أيام الجامعة المرزوقي يفتح بيته خمّارة ويربح الأموال الكثيرة ويتخلّى عن تاريخه الثوري ثم يُعتقل وينتحر في السجن. الاسم يشير أيضًا إلى صفاته فوهيب صيغة مبالغة من وهب أي أنّه كثير العطاء والسّاهر لأنّه كان يسهر على مصلحة الوطن وبذلك يؤكّد الاسم تفانيه وتضحيته من أجل الوطن ولكنّه أصبح ساهرًا على لعب القمار في بيته. أما الشخصيّات الأخرى فهي ثانويّة ذات دور وظيفيّ في خدمة وإضاءة الشخصيّة المركزيّة. وهي تظهر في مقطع معيّن ثم تختفي. (3) يبدو أنّ الرّاوي/ المؤلف يتعاطف مع وهيب الساهر ولكنّه لا يقبل سقوطه. فالراوي يعتبر وهيب الساهر ضحيّة للنبذ والتهميش والإقصاء عن فضاء الأمل والفعاليّة الخلاقة، ومن خلال الحوار الداخليّ لوهيب الساهر يقول: "لماذا يعتقل رجل مقامر في الوقت الذي يغضّ الطرف عمّن يقامرون بالوطن ويهربون ثرواته إلى الخارج..."(ص. 183). (4) شخصيّة وهيب الساهر تحظى باهتمام خاصّ من قبل القارئ الذي يريد أن يعرف الأسباب التي أدّت به إلى السقوط، وما آلت إليه شخصيّته، وكيف تعاملت السلطة معه، وكيف حاكموه بسبب ماضيه الثوري بذريعة القمار.
هل الشخصيّة المركزيّة وهيب السّاهر في "حكاية المجرات" في رواية مراثي الأيام بطل أم لا بطل؟
حتى نجيب عن هذا السؤال يجب أن ندرس المراحل الثلاث التي مرّت بها الشخصيّة المركزيّة: قبل العمل، العمل، بعد العمل.
كان هدف وهيب الساهر أن يعيش في وطن جميل وعادل، ولذلك قدّم كلّ ما يستطيع من أجل الوطن وحارب من أجله، وكانت" أصابعه على زناد بندقيته ساهرًا حتى مطالع الفجر لحماية الثورة" (ص. 181)، وقد سجن خمسة وأربعين يومًا بسبب انتقاده التقصير الذي أدّى إلى الهزيمة واعتبر مشبوهًا من قبل السلطة ولكن أهل بلدته أرادوا بناء نصب تذكاريّ له واحترموه. هذا الهدف تحوّل خلال النصّ إلى هدف آخر وهو البحث عن الربح والاندماج في العصر الماديّ عن طريق فتح بيته مقمرة لكبار السياسة ورجال الأعمال وبعض المسؤولين الكبار. وقد جاء هذا التحوّل نتيجة لحثّ وتشجيع صديقه من أيام الجامعة والنضال سليم المرزوقي الذي تخلّى عن تراثه النضاليّ، وانتقل إلى الصفقات السرية ذات الطابع الدوليّ مع الشركات العالمية وصلاته المشبوهة مع السلطة، وقد استغل المرزوقي الميل الفطريّ لوهيب الساهر إلى المقامرة فقد كان مقامرًا قديمًا، كما أنّه استغلّ معاناة الساهر من العزلة والتهميش والقهر الداخليّ وتحوّله إلى شيء فائض عن الحاجة بالنسبة للوطن. فهل نجح وهيب الساهر في تحقيق هدفه؟
لقد جمع الساهر الكثير من الأموال ولكنه سقط أخلاقيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، وداهمت قوى الأمن الجنائيّ بيته واعتقلته. وفي السجن يقوم الضابط بتعريته من خلال رصد تاريخه النضاليّ ثم سقوطه فينتحر وهيب الساهر في السجن وبذلك يفشل في تحقيق هدفه، وبذلك فهو لا بطل. إنّ غياب الحريّة والديمقراطيّة تهمّش المواطنين الشرفاء وتعزلهم فيسقط بعضهم، وهكذا يدفع الضحايا الصغار الثمن أمّا الذين يبيعون الوطن ويهرّبون ثرواته فهم في حلّ من المحاسبة وبالتالي يكون الوطن ضحيّة ويهزم أمام العدوّ. انظر: حيدر حيدر، مراثي الأيام (بيروت: أمواج للطباعة والنشر، 2001)، 137-191.
[32]) حيدر حيدر، اوراق المنفى، 8.