في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، كنت أعمل أمينًا لمكتبة قسم الجغرافيا – التابع لكلية الآداب – جامعة القاهرة "فؤاد آنذاك". ورغم سعادتي بالعمل في هذه المكتبة، إلا أني كنت أعيش إلى حد كبير تناقضًا بين دراسات قسم الجغرافيا التي تكاد تقتصر على وصف التضاريس الخارجية للظواهر الأرضية من طبيعية ونباتية وبشرية، وبين استغراقي آنذاك في اهتمامات وهموم وأحلام فلسفية. إذا أني كنت متخرجًا في قسم الفلسفة لا في قسم الجغرافيا ولهذا، ما أكثر ما كانت تتحول مكتبة قسم الجغرافيا إلى ساحة للحوار حول قضية المنهج في العلم، فضلاً عن ساحة لأنشطة أدبية وفنية وفكرية عامة. وما كان أكثر فرسان هذه الساحة، لا من أساتذة قسم الجغرافيا وطلبته فحسب، بل من طلبة مختلفة أقسام كلية الآداب، وكليات أخرى. على أن الطالب جمال حمدان كان فارس الفرسان في هذه الساحة.
استشعرت نبوغة منذ حوارنا الأول. لم يقف الأمر عند سعة اطلاعه، وذكائه وعمق حجته، بل كان شعلة من قلق خلاق، يستوعب ويتمثل وينتقد، ويرتعش بالتساؤلات الغنية، وبإرادة الغوص إلى الأعماق البعيدة والتحليق في الآفاق الفسيحة كشفًا لأسرار الأشياء والحياة. ما كان يرضيه أن يكون العلم مجرد وصف خارجي، أو تفسير ظاهري، أو وقوف عند حدود الجزئيات الثابتة الساكنة. كانت النظرة الشاملة التاريخية الحية الديناميكية همه الأكبر حتى بالنسبة للظواهر الطبيعية ... ولقد ظلت في أذني طويلاً أصداء أحاديث الحارة، حول البحث عن رؤية منهجية جديدة للجغرافيا. وعندما غادرت قسم الجغرافيا، ثم غادرت مصر بعد ذلك بسنوات، والتقيت في فرنسا بعالم كبير من علماء الجغرافيا هو "إيف لاكوست" أحسست في أحاديثه، في منهجه في كتاباته، ببقايا هذه الأصداء القديمة لأحاديث جمال حمدان. وإيف لاكوست هو صاحب أهم كتاب بالفرنسية عن ابن خلدون، وصاحب العديد من الكتب الجغرافية التي تعالج القضايا في العالم، وهو رئيس تحرير مجلة "هيرودوت" وهي مجلة متخصصة في الجغرافيا والجغرافيا السياسية، لعل اختياره اسم المؤرخ هيرودوت اسمًا للمجلة يعبر عن رؤيته التاريخية للجغرافيا. لست أقيم مقارنة أو تماثلاً بين فكر إيف لاكوست ورؤية جمال حمدان المبكرة وإنما أردت أن أعبر عن مواصلتي الاهتمام بجمال حمدان رغم انقطاع أخباره عني، فضلاً عن التأكيد بأن همه في البحث عن رؤية جغرافية جديدة، كان هما مشروعًا ورائدًا في الفكر الجغرافي الحديث.
وأخيرًا بدأت أقرأ هذه الرؤية التي كان يحدثني عنها جمال حمدان فمنذ سنوات بعيدة وهي تتجسد في كتاباته التي أخذت تخرج علينا تباعًا في موضوعات متفرقة، لتمهد الطريق لخروج ملحمته الجغرافية الكبري "شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان".
ولا أعرف بالدقة ماذا كتب عن هذه الملحمة الجغرافية في مصر، أو خارج مصر، ولكني أشعر بضرورة تجديد الحديث باستمرار عن هذا العمل الكبير، وبذل الجهود المتصلة من أجل التعريف والتوعية والاستفادة بمضامينه. وإلى جانب هذا كله، فإنني أريد – على المستوى الشخصي – أن أواصل ما انقطع من حديث وحوار بين جمال حمدان وبيني ومنذ سنوات بعيدة، وأتطلع بأمل كبير أن يخرج جمال حمدان من عزلته شبه الصوفية إلى الجماهير الغفيرة من قرائه ومحبيه ومقدري فضله على فكرنا المعاصر.
***
حقًا، لقد استطاع جمال حمدان أن يحقق رؤية علمانية حمدانية خاصة للجغرافيا في كتابه هذا بوجه خاص. إن الجغرافيا هي علم الخاص، علم التفرد، علم الواقع الملموس لهذا الخاص الجزئي تكمن الحركة. وبدون الربط التكاملي بين الجزئي والكلي، بين الساكن والمتحرك، لا يكون هناك علم حقيقي. وهكذا يرتبط المكان بالزمان، وترتبط الطبيعة بالإنسان. لا جغرافيا بلا تاريخ. إن البيئة الجغرافية "خرساء تنطق بلسان الإنسان". والجغرافيا علم حي تاريخي، "ليست آلية واصفة بل هي عضوية هادفة"، "تحلق بقدر ما تحدق". بهذا المدخل الحمداني المنهجي العام، تبدأ رحلتنا داخل الكتاب.
وكتاب "شخصية مصر" ليس في الحقيقة كتابا علميًّا تقريريًّا، بل هو كتاب رغم علميته وبفضل علميته، يوظفه جمال حمدان توظيفًا إيديولوجيًّا لخدمة هدف. ليس مجرد معرفي، بل هو هدف سياسي اجتماعي قومي فكري. إنه ليس كتاب معرفة فحسب بل هو كتاب معركة كذلك. فجمال حمدان لا يكتب لنا كتابًا عن شخصية مصر، وإنما يقدم بهذا الكتاب سدًا جديدًا لمصر، في مواجهة محاولات شتى لهدم روحها والقضاء على شخصيتها القومية. يقول جمال حمدان في المقدمة "في هذا الوقت الذي تتردى فيه مصر إلى منزلق تاريخي مهلك قوميًّا، ويتقلص حجمها ووزنها النسبي جيوبوليتيكيًّا بين العرب وينحسر ظلها ... نقول في هذا الوقت تجد مصر نفسها بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة النظر والتفكير في كيانها ووجودها ومصيرها بأسره ... من هي ... ما هي ... ماذا تفعل بنفسها ... ثم ماذا تفعل بنفسها ... ثم ماذا بحق السماء يُفعل بها. إلام ... وإلى أين". ثم يقول "بالعلم وحدة فقط لا الإعلام الأعمى ولا الدعاية الدعية ولا التوجيه القسري المغرض يكون الرد".
وهذا الكتاب ذو الألفين وخمسمائة وخمس وثمانين صفحة هو الرد على محاولات طمس الشخصية المصرية. إنه دفاع عن مصر، واقعًا جغرافيًّا وإنسانيًّا ومكانيًّا وتاريخيًّا وقوميًّا واجتماعيًّا. إنه في الحقيقة ملحمة في حب مصر. فجمال حمدان عاشق عظيم لمصر وعاشق عظيم للحقيقة. ولأن عشقه عظيم فهو عشق يقظ مسؤول واع مدرك أمين. يغار وينتقد ويرفض ويقترح ويكشف العيوب والمحاذير ويقدم الحلول. فليس حبه بالحب الأعمى الشوفيني الضيق. ولهذا يقول "إن ابن مصر البار الغيور على أمه الكبرى ... هو وحده الذي لمصالحها ينقدها بقوة وبقسوة". هكذا يقول وهكذا يفعل في كتابه، ولهذا، فهذا الكتاب العلمي جدًا، هو كتاب سياسي جدًا، وهو كتاب ملتزم جدًا، يعبر عن نموذج رائع للمثقف العضوي الشجاع الملتزم بهموم أمته، وهو دفاع واع مناضل عن طريق مصر المستقلة، مصر المتقدمة، مصر الديمقراطية، مصر العربية، على أن هذا كله، لا يتحقق على نحو خطابي عاطفي، وإنما في إطار "نظام فكري ونسق منهجي ومعيار بنيوي يتغيّا الأصالة والخلق والجدة والابتكار أساسًا". ومن هذه العناصر جميعًا تتشكل بنية الكتاب ومنهجه. ولهذا يمكن تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أقسام كبيرة: القسم الأول هو التقويم، كتقويم البلدان بمعنى وصفها، والقسم الثاني هو التقييم أي تحديد القيمة، والقسم الثالث هو التقويم بمعنى التغيير والتصحيح والتعديل.
بالتقويم أو بالتحديد الوصفي يبدأ الكتاب جزأه الأول: شخصية مصر الطبيعية. ولكن هذا التحديد الوصفي نراه مستمرًا ممتدًا في بقية أجزاء الكتاب، في الجزء الثاني الخاص بشخصة مصر البشرية، وفي الجزء الثالث الخاص بشخصية مصر الاقتصادية، وفي الجزء الرابع الخاص بشخصية مصر الاجتماعية أو خريطة المجتع المصري. على أن هذه المرحلة الوصفية ليست مجرد وصف خارجي بل هو وصف عمقي لو صح التعبير. ليس وصفًا لتضاريس خارجية بل هو وصف للحركة التاريخية للجغرافيا أو لجغرافيا الحركة التاريخية. إنه لا يقف عند جزئيات وإن وقف عندها، فوقوفه عندها إنما يكون لتحديد علاقاتها الأفقية والعمودية، أي التدخل بين المكان الممتد والزمان المتحرك (الزمكان). فالمكان عنده دائمًا متزمن بزمن، أي بالتاريخ بالبعد الرابع. والعلاقات الجغرافية علاقات وظيفية أبدًا، إنها فعل وتفاعل وحركة، وليست مجرد تواجد. ولهذا فهو في الجزء الطبيعي يتحدث عن تاريخية طبيعة مصر الجغرافية المتجانسة كأنما يتحدث عن جسد حبيبته في حركته ونموه وفي صراعه وتأبيه ضد أعدائه، من أجل الاحتفاظ بكيان متسق وحر. وفي الأجزاء البشرية والاقتصادية والاجتماعية يتحدث عن التجانس الحي بين الطبيعي والإنساني: التجانس المورفولوجي، والتجانس السكاني والعمراني والاقتصادي والحضاري والجنسي. فرغم الاختلافات هناك التجانس دائمًا. حقًا، هناك ثنائيات متضادة دائمًا، ولكنها في النهاية – عنده – متجانسة متسقة. فبين الموضع جغرافيًّا وبشريًّا والموقع المحيط بمصر جغرافيًّا وبشريًّا هناك ثنائية، سرعان ما تصل إلى التجانس ... وما أكثر الثنائيات الأخرى: بين الصحراء والوادي، بين الرمل والطين، بين البر والبحر، بين الماء والسلطة، بين السلطة والشعب، بين الشمال والجنوب، بين الشرق والغرب، بين القرية والمدينة، بين التعرية والإرساب، بين الماء والسياسة، بين العزلة والاحتكاك بين الثبات والتغير، بين الضرورة والإمكان، بين الاستمرار والانقطاع، بين الانغلاق والانفتاح، بين الاستقرار والعبور، بين العزلة والاتصال، بين الوحدة الإقليمية والوحدة القومية، بين هذه الثنائيات المتضادة التي تمتليء بها تضاريس مصر الجيولوجية والبشرية، ويتكشفها جمال حمدان بتحقق التجامس والتكامل كقانون عام لمصر "المكان–الزمان"، لمصر "الجغرافيا–التاريخ". ومع مفهوم التجانس والتكامل هذا – عند جمال حمدان – يرتبط مفهوم آخر هو مفهوم "التدرج". إن "التجانس" عنده هو قانونها الأول و"التدرج" هو قانونها المكمل، ومن هذين القانونين ينبع "التوسط" كتعبير جغرافي و"الاعتدال" كتعبير بشري هذا التجانس والتدرج والتوسط والاعتدال هو ما يشكل ظاهرة فريدة هي ما تعبر عنه عبقرية مصر، مصر "المكان–الزمان"، "الجغرافيا–التاريخ". إن مصر هي مركز الدائرة، هي ملتقى الأبحر، هي ملتقي القارات والمتناقضات، وهي حجر الزاوية، وهي خط الإستواء البشري من حيث خطوط العرض.
وقد يكون من الطريف أن نذكر أن هذا الذي يعتبره جمال حمدان "عبقرية المكان"، سبق أن اعتبره سلامة موسى من قبله "مأساة جغرافية"! .. يقول سلامة موسى "إن مصر نفسها مصادفة سيئة لكل مصري، من حيث أنها مأساة جغرافية. إذ تقع في ملتقى القارات الثلاث الكبرى، كما أنها تقع في طريق الملاحة بين آسيا وأفريقيا ثم فوق ذلك تخلو من الجبال التي تيسر لها الدفاع عنها. ولهذا وقعت في أسر الغزو المتكرر".
والحق أنه لا فرق – في التحليل الأخير – بين رأي سلامة موسى ورأي جمال حمدان رغم هذا الاختلاف المظهري. فعبقرية المكان هي سبب مأساتها عندهما معًا. وسنجد جمال حمدان في القسم التقييمي من دراسته يسعى لتفسير هذا المأساة بعوامل مختلفة أغلبها عوامل خارجية وإن كان لا يغفل العوالم الداخلية، وإن غلب عليها في تفسيره لها الطابع السيكولوجي أو الإيديولوجي أحيانًا (مثل الاهتمام بالموضع وعدم الاهتمام بالموقع، أو أن عقليتنا عقلية برية وليست بحرية، إلى غير ذلك). وإذا انتقلنا من الرحلة التقويمية الوصفية إلى الرحلة التقييمية أي الحكم والتقدير والتقييم، فإننا نجد أن الرؤية الوصفية السابقة للواقع الجغرافي التاريخي لمصر، أي التجانس والتدرج والاعتدال والتوسط، تكادان تكونان منهجًا للحكم والتقييم، فإذا كان الاعتدال والتوسط والتجانس والتكامل هو عبقرية مصر وخصيصتها الجوهرية، فإن ما يسييء إليها ويحط من قدرها هو اختلال هذا الاعتدال وهذا التوسط.
ولا شك أن القول بالاعتدال والتوسط والتجانس هو حكم قيمي مستخلص من استقراء وصفي، ولكنه في الوقت نفسه هو معيار يتخذ للحكم والتقييم. فما اتفق معه كان صحيحًا وما خرج عليه كان سيئًا. وما أكثر الأمثلة، التي سأكتفي ببعضها:
أشرنا من قبل إلى غلبة الموضع على الموقع أحيانًا .. إنه اختلال لهذه الموازنة "ولو اهتمت مصر بالموقع لتغير تاريخها كله". إن سيادة عقلية البر على عقلية البحر هي التي أضعفت من البعد التجاري لمصر.
إن السلطة المركزية المرتبطة بنظام الري، تتعاون في هذا مع المشاركة الجماعية التضامنية الشعبية. ولكن ... كان هناك دائمًا طغيان السلطة. والطغيان ليس حكمًا جغرافيًّا كما يقال بل هو حكم بشري منحرف.
(المأساة ليست في ضبط النيل وإنما ضبط الحكم). والأمة هي خضوع الشعب للطغيان. هناك دائمًا مقاومة ولكنها ليست متصلة ولم تتحقق ثورة شعبية جذرية.
في الاقتصاد هناك ثنائية الانغلاق والانفتاح. والانفتاح هو انزلاق، واختلال للتوازن والتجانس. "إنه فتح الباب للرأسمالية الفردية والاستعمارية وسيطرة طبقة طفيلية استهلاكية مليونيرة عاتية" "الرأسمال الأجنبي خرج من باب التأميم ودخل من باب الانفتاح" "الانفتاح أعلى مراحل الرأسمالية".
هناك إفراط السكان في مواجهة انخفاض المعيشة.
وهناك زيادة البيروقراطية وانخفاض الكفاءة.
وهناك الجنوح أحيانًا إلى الفرعية على حساب العروبة ... إلخ ... إلخ ...
خلاصة هذا كله، أن التجانس والتكامل والتوازن والتدرج والاعتدال هي الصفات الأساسية لمصر، مكانيًّا وتاريخيًّا وسكانيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وإيديولوجيًّا وحضاريًّا.
إن الخروج عن هذه المعايير – في رأي جمال حمدان – هو خروج من حقيقة مصر.
بقي بعد ذلك القسم الثالث في بنية الكتاب وهو آفاق المستقبل، وأسس التقويم والتغيير، أي الإجابة على السؤال: إلى أين ... وكيف؟
* نقطة البداية عنده هي الديمقراطية ... فقضية القهر السياسي هي أسّ وجذر مشكلة الشخصية المصرية ومصدر كل سلبيتها وعيوبها وأمراضها الحادة المزمنة، بالديمقراطية تسير مصر في طريق الشفاء من هذه الأمراض والسلبيات. هذه هي دعوته.
على أن الأمر في تقديره يتطلب "حدثًا عظيمًا يرج مصر رجًا، ويخرجها من مأزقها التاريخي الوجودي، ومن دوامة الصغار والهوان والأزمات المتراكبة". بل لابد من العنف، العنف الثوري، على أن يكون "عنفًا حميدًا" معتدلاً. فالعنف الثوري عنده "قليل منه يصلح الأمة، كما أن كثيره يضرها، بل من غياب هذا العنف الثوري جاءت السلبية الواضحة المخزية في سجل مصر عبر التاريخ".
ويعرج جمال حمدان على الاقتصاد، فيرى أن كلا الانفتاح والانغلاق مطلوب ومفيد. فالانفتاح تنمية طبقية بورجوازية واستغلال باسم الوطنية، والانغلاق تنمية وطنية لمصلحة القاعدة العريضة من الجماهير. وهو يدعو إلى قدر موزون من الانفتاح والانغلاق، وإلى نوع من المواءمة بين الإيديولوجية والتكنولوجيا في صيغة تجمع بين الانغلاق الواسع والانفتاح الضيق، أو على حد تعبيرة "تجمع بين كثير من الانغلاق الضيق مع قليل من الانفتاح الواسع".
أما من الناحية السياسية فهو يرى أن مطلب الدولة السياسية القائمة على العلم والتكنولوجيا ليس مطلب بقاء فحسب وليس هدفًا اقتصاديًّا أو ماديًّا فحسب، إن الوحدة العربية في تقديره هي الإطار للدولة العصرية، كما أن الدولة العصرية هي مفتاح الوحدة العربية. وهو يؤكد أن لا وحدة للعرب بغير زعامة مصر، ولا زعامة لمصر بغير استرداد فلسطين للعرب، لأنه لا وحدة للعرب بدون استرداد فلسطين.
ولكن ماذا عن التوجه الإيديولوجي والاقتصادي العام لهذه الدولة السياسية الجديدة؟ يقول فلنأخذ من الحضارة الغربية جانبها المعادي التكنولوجي، أما العمق الثقافي فهو الثقافة العربية الإسلامية. إنها أصالتنا الثابتة. إن الثقافة عنده هي الثوابت أما الحضارة فهي المتغيرات. فليكن ارتباطًا علميًّا تكنولوجيًّا على أساس من ثقافتنا العربية الإسلامية. هذه هي دعوته.
وهذه باختصار شديد ومخل، العناصر الأساسية لشخصية مصر كما يراها جمال حمدان، سواء في مستواها الوصفي أو التقييمي ... وهو يعرضها علينا عبر آلاف التفاصيل الدقيقة الطبيعية والبشرية، وخلال عمليات تحليلية وتركيبية على مستوى عال من العقلانية والذكاء، مستخدمًا لغة عربية رصينة خاصة تجمع بين العمق والرنين الشعري والقدرة الفائقة على صك الصياغات الجديدة.
ومع احترامي وتقديري العميق لهذا البناء المتكامل الشامخ، الذي هو ثمرة جهد خارق، ومعرفة عميق وأمانة فكرية ووطنية صادقة، فقد تكون لي بعض الملاحظات المنهجية خاصة.
حقًا، إن جمال حمدان في أكثر من موضع من كتابه يؤكد بأنه ليس هناك حتم جغرافي، وإن كان يؤكد فقط وجود حسم جغرافي، وقد يكون الحسم قريبًا من الحتم، ولكن الحسم هو تأكيد للفاعلية الجغرافية، التي يعني إنكارها إنكار السببية العلمية.
كما يؤكد كذلك أن الجغرافيا عامل هام في تفسير الحياة الحضارية المصرية، ولكنها ليست العامل الوحيد بل ليست العامل الأهم. ولهذا فهو يرفض التفسير بالعامل الواحد، فعند حديثه مثلاً عن السكان وتوزيعهم يقول "إن الغطاء البشري غطاء فصلة النيل على قد مصر" ... ثم سرعان ما يستدرك قائلاً: "وهذا لا يعني أن النيل هو العامل الوحيد في تفسير توزيع السكان، فهناك عوامل أخرى عديدة، طبيعية وبشرية واقتصادية واجتماعية وحتى تاريخية. ولهذا كذلك فهو يرفض التفسير المناخي كما يرفض التفسير العنصري العرقي له، بل يتبنى بشكل صريح في بعض الأحيان الجدل الهيجلي في التحول من التقرير إلى النقيض فإلى التركيب على حد تعبيره، وهو يتحرك دائمًا في دراسته للظواهر من التحليل التفصيلي لها إلى التركيب النظري العام.
هذه بالفعل بعض السمات البارزة في منهج دراسته العملية في هذا الكتاب. إلا أن في بعض تطبيقاته وتنظيراته العامة ما يثير بعض التساؤلات والملاحظات النقدية:
* فهو وإن لم يقل بالحتم الجغرافي، فإنه كاد أن يجعل العوامل الجغرافية الطبيعية في مستوى العوامل الجغرافية البشرية والاجتماعية من حيث الفاعلية، مما أفضى به إلى هذه الأحكام العامة المجردة الإطلاقية بالتجانس والتكامل والتناسب والوسط والاعتدال سواء في المستوى الطبيعي أو المستوى البشري بغير تمييز بينهما أو تمايز، وإن جنح أحيانًا إلى الجانب الطبيعي الخالص مما يرجع رؤية مادية ميكانيكية إلى بعض الظواهر.
* وتأسيسًا على هذه الملاحظة الأولى، فإن عملية التفسير السببي أو العلي عنده تكاد تكون عملية عواملية، أي تضع مختلف العوامل على مستوى واحد من الأهمية في بعض الأحيان مما يحول التفسير إلى مجرد وصف، لأنه بهذا لا يقدم تحديدًا للعامل الحاسم في الحركة وخاصة في المجال الاجتماعي والسياسي.
* وتأسيسًا على ذلك، تبرز سمات التجانس والتكامل والوسطية والتوازن والاعتدال إلى آخر ذلك كعملية ناجمة عن متوسط حسابي، أو متوسط عوامل متداخلة، ولا يبرز أي شكل من أشكال الصراع في الجانب الاجتماعي والبشري خاصة. ولهذا تفتقد الرؤية الطبقية في التضاريس الاجتماعية، بل تصبح المعادلة الهيجلية عملية انتقال بندولي بغير صراع من حالة إلى حالة أخرى "مختلفة" ثم إلى حالة ثالثة "متوازنة".
ولهذا فإنه برغم الطابع التاريخي العام للمنهج، يكاد يسود الثبات في الرؤية العامة، ويكاد التاريخ البشري يصبح مجرد تدفق زمني، لا حركة تاريخية اجتماعية صراعية ... "فالاستمرارية" تكاد تصبح استمرارية خطية، طولية، و"الانقطاع" يكاد يفسر في أغلب الأحيان بعامل خارجي، كما تفسر بعض الظواهر تفسيرًا دوريًّا على الطريقة الخلدونية، وخاصة في مسألة السلطة.
ولهذا كله، قد تسود في الكتاب بعض الأحكام المثالية التوفيقية مثل:
1. أنه ينفي عن القرية المصرية الصراع الدامي الذي عرفته القرية الأوروبية بين الإنسان والإنسان، ويقول بأن الحكومة المركزية والمجتمع التعاوني هما الظاهرتان الحتميتان في كيان مصر الفيضية ... ويستخلص من هذا بأنه إذا كانت البيئة الفيضية تحتم قيام حكم قوى وتنظيم سياسي مؤثر، فما معنى هذا؟ معناه ببساطة – كما يقول – "بأن النظام النهري وأيكولوجية النيل تؤهل بطبعها وتلقائيًّا لعنصر كامن أصيل وبعيد المدى من الاشتراكية التعاونية بالدقة".
2. وتأكيدًا لنفس هذا المفهوم السابق يميز بين الثورة المصرية والثورة الفرنسية والثورة السوفيتية مستعينًا بالقاعدة الهيجلية بحسب تعامله معها فيقول: "إذا كانت الثورة الفرنسية هي التقرير والشيوعية هي النقيض فإن الثورة المصرة بحق هي التركيب الذي يجمع بين محاسن كل منهما دون أضداد أي منهما. وهي لا تعرف التطرف بل تقف في الوسط. ومن هنا يبرز مفهومه عن "العنف الحميد" الحالي من أي دلالة اجتماعية.
3. وينعكس هذا المفهوم كذلك في موقفه من القوى الدولية الكبرى، فهي جميعًا تكاد أن تكون على مستوى واحد من حيث استعماريتها، يقول في نص من نصوصه "انتقلنا من قطب الاستعمار القديم المباشر والتبعية الكاملة إلى قطب الاستعمار الإيديولوجي والصداقة الزائلة ثم إلى قطب الاستعمار الجديد والصداقة الزائفة ... تخلصنا من التبعية لأوروبا خلال روسيا، ومن التبعية الروسية خلال أمريكا ولذلك عندنا إلى الغرب".
4. ولقد سبق أن أشرنا إلى قوله بالوسطية بين الانفتاح والانغلاق، وبالتوفيقية بين تكنولوجية الحضارة الغربية (وما أعتقد أنه يقصد بهذه التنمية الرأسمالية فقد نفى إمكانيتها) وبين الإيديولوجية العربية الإسلامية. والواقع أن هذه الوسطية التوفيقية تكاد لا تشكل مركبًا جديدًا من طرفين، بل هي تركيب وسطي يجمع بين هذين الطرفين.
5. على أن منهجه يتحرك دائمًا بين ثنائيات سعيًّا وراء زواج سعيد بينهما، أي وسط عادل متزن متعادل بين طرفيها. ولا يقف هذا الأمر على المفاهيم بل يمتد إلى الجانب الأسلوبي من لغته وتعابيره البلاغية الجميلة مثل "التهويل والتهوين" و"التهليل والتضليل" و"التمجيد والتنديد" و"الانبهار والانهيار" و"التقوقع والتميع" و"الأصيل والدخيل" و"التقاليد والتقليد" و"النافورة والبالوعة" و"التمالك والتهالك" إلى غير ذلك، بين هذه الثنائيات المفهومية والبلاغية يصوغ جمال حمدان فلسفته التوازنية التجانسية التوفيقية التي قد لا تقضي – رغم نواياه التغييرية التثويرية – إلا إلى رؤية قومية إصلاحية متقدمة.
هذه بعض ملاحظات منهجية، لا تقلل بحال من ضخامة وشموخ هذا العمل العظمي الذي قام به جمال حمدان. وهي تعبير عن نفسه الصراحة والأمانة العقلية التي يتوخاها في كتاباته. كما هي تعبير عن الاحترام العميق لعمله العملي، فعلمية العمل وجديته تقاس بمدى ما يثيره لدى قارئه من أفكار واشكاليات. وهي فوق هذا وذاك امتداد لحوار قديم منذ سنوات بعيدة تزيد على الثلاثين، أرجو أن نعاوده معًا مساهمة منا في تنشيط الحوار العلمي والفكري في بلادنا.
على أني أقول في النهاية، لعل بعض هذه الملاحظات النقدية التي أوجهها لكتاب جمال حمدان أن تكون نتيجة لما حاوله جمال حمدان من تقية – على طريقة أهل الشيعة – في عرض أفكاره، حرصًا على ضمان نشر كتابه .. أقول هذا مستندًا إلى أمرين:
الأمر الأول هو أن في الكتاب ما يرد على هذه الملاحظات النقدية الذي لا أشك في أن جمال حمدان كان واعيًا بها.
الأمر الثاني هو هذا النص الذي جاء في مقدمة الفصل الأخير من الجزء الرابع من الكتاب وهو الفصل الخاص بالعلاقة بين مصر والعرب. وهو نص طويل أكتفي بأن اجتزئ منه هذه الفقرات تحت عنوان "توضيح لابد منه للقاريء" تقول الفقرة "إلى أن يزول ‘وجه مصر القبيح’ نهائيًّا وكذلك وجه العرب الكالح القميء المتنطع أيضًا، فإن من الواضح تمامًا في الوقت الحالي الرديء الساقط استحالة كتابة هذا الباب كما ينبغي، وكما كان في خطة هذا العمل الكبير. ليس هذا – ليثق القاريء – حرصًا على سلامتنا أو حتى على أمننا، ولكن فقط حرصا على سلامة وصول هذا الكتاب إليه ... وكل لبيب بالإشارة يفهم".
أليس من حقنا إذن أن نقول لعل في بعض صفحات الكتاب الأخرى، وبعض فصوله وأحكامه، بعض التحفظات أو الأفكار التي لم يعبر عنها جمال حمدان كما كان يجب أن يعبر؟!
أيًّا ما كان الأمر، فتحية للدكتور جمال حمدان، المثقف الملتزم، والعالم الجاد، والمفكر الجسور والوطني المتفاني في حب وطنه وأمته ... وتحية لعمله العظيم الذي يعد بحق إضافة خصبة إلى تراثنا الجغرافي والعلمي وإلى ثقافتنا القومية عامة
هامش:
نشر هذا المقال في مجالة الهلال – يناير 1986 تحت عنوان "الدكتور حمدان – العاشق العظيم لمصر وللحقيقة". نُشر بعد ذلك في كتاب الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر". (ط1: دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1986 + ط2: دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1988 + ط2: ----، الدار البيضاء، المغرب، 1988 + صدر في مج 1 من الأعمال الكاملة، الأعمال الفكرية، هيئة الكتاب، 2015)