الجريمة وعلم الإجرام
استخدام مصطلح علم الإجرام (Criminology) لأول مرة لتحديد الدراسة الأكاديمية للجريمة من قبل عالم الاجتماع الإيطالي رافاييل غاروفالو عام 1885، ويشير ديفيد غارلاند إلى أن علم الإجرام لم يكن موجوداً في بريطانيا قبل عام 1935 كنظام أكاديمي مهني، ولم يؤسَّس إلا تدريجياً وبشكل غير مستقر بعد ذلك[1].
لا تنشأ الجريمة عن عوامل نفسية أو بيولوجية محضة، وإنما عن ظروف اجتماعية ترتبط بنمط الإنتاج السائد والقوانين والأجهزة القانونية ومؤسسات الرقابة ومختلف أشكال التنظيم داخل دولة محددة بشكل خاص، وعلى الصعيد العالمي بشكل عام. الجريمة سمة لا مفرّ منها في النظام الاجتماعي الرأسمالي، وهي تعبير عن اللامساواة، وتنطوي على عملية سياسية تُجرِّم (التجريم Criminalization) فيها الدولة سلوكاً معيناً بوصفه «إجراميّاً». حدد علماء الإجرام الأنماط العامة للمتغيرات المميزة للشرائح الاجتماعية أو العمليات الاجتماعية التي تساهم في الميل إلى الانخراط في سلوك إجرامي، لكن أغلب هذه العوامل تضع علم الإجرام بشكل مباشر في مجال علمَيِ النفس الاجتماعي والفردي وعلم الأحياء الاجتماعي. في الواقع، لم يتمكن علماء الأنثروبولوجيا من العثور على أي سلوك يُعرَّف عالمياً بأنه جريمة، فيما يقترح العديد من علماء الاجتماع والمؤرخين أنه لا يوجد شيء في أي سلوك يجعله إجرامياً بطبيعته، لأنه حتى ما يعتبر جريمة يتغيّر بمرور الوقت داخل الثقافة نفسها.
يشكل إنتاج المعرفة عاملاً مهماً في فهم العلاقات الاجتماعية الرأسمالية وإعادة إنتاج أشكال الهيمنة المُتجذِّرة في المجتمعات الرأسمالية، فضلاً عن أهميته البالغة في فهمنا للجريمة. وعلم الإجرام هو حقل دراسة ضعيف لا يُعرَّف من خلال دراسته لجانب معين في الواقع الاجتماعي، ولكن من خلال اهتمام جوهري: الجريمة. وعلى الرغم من وجود طرق مختلفة للحديث عن الجريمة أو السلوك الإجرامي، إلا أن هناك خيطاً مشتركاً لبناء «المعرفة الإجرامية» عن مثل هذا السلوك يمكن تتبعه تاريخياً من خلال تأثير عصر التنوير والالتزام المُتَشارَك بطريقة واحدة للتفكير في المعرفة وعملية إنتاجها: الوضعية Positivism. وفّرت الوضعية اعتقاداً مفاده أنه يمكن للعلوم الاجتماعية، على غرار العلوم الطبيعية، أن توفر البيانات التي يمكن على أساسها السيطرة على، وإدارة، الحياة الاجتماعية ومشكلاتها، وذلك من خلال فهم الطبيعة المحددة للسلوك الإجرامي بواسطة قياس العوامل الاجتماعية أو النفسية أو البيولوجية التي تنتجه. وبهذه الطريقة رُبِط علم الإجرام، منذ نشأته، ضمنيَّاً، بعملية صنع السياسات. ويشكل ما يسمح أو لا يسمح به القانون الجنائي النقطة المرجعية التي تحدد نوع السلوك الذي يهتم به علماء الإجرام، وبالتالي فالاهتمام الرئيسي لعلم الإجرام هو «السلوك المخالف للقانون» وليس السلوك الإجرامي، إذ يفترض السلوك الإجرامي الحكم المُسبَق على الجاني، أو يمكن أن يعتمد على مفاهيم «الشر المتأصِّل» (الخصائص المتأصِّلة في الأفراد بوصفها تحدد مسبقاً إجرامهم)[2].
لا تكون صور وسائل الإعلام للجريمة موضوعية أبداً، إذ تعتمد وسائل الإعلام في وجودها المالي على الإبلاغ عن، أو خلق، ما يبدو غير عادي، فلا شيء يُباع بشكل أفضل مثل «العنف». واحدة من المغالطات التي غالباً ما يشاركها الناس حول الجريمة هي ما يشير إليها ماركوز فيلسون باسم «المغالطة الدرامية»: حيث تقدِّم وسائل الإعلام صوراً معينة للجريمة – الواقعية والخيالية على حدٍ سواء – وتعمل على تزويدنا بصور معينة لطبيعة المجرمين. ويرى فيلسون أن البيانات الإمبريقية عن الجريمة لا تدعم أيّاً من الصور التي تقدمها وسائل الإعلام[3]. من جهته، وجد جيمس ويليامز أن وسائل الإعلام لم تقلّل من تمثيل جرائم ذوي النفوذ أو تشوّهها بقدر ما وضعتها في سياق مختلف، ما يعني وجود تركيز مقصود على أنواع معينة من مخالفات الشركات دوناً عن أخرى، فقد أظهرت وسائل الإعلام نفسها، في الأساس، على أنها صديقة للأعمال التجارية، وحتى حليفة لمصالح الشركات، وهكذا توفَّرت الأرضية المشتركة التي تقاسمتها التقارير المنشورة عن فضائح الشركات، بما تشتمل عليه من تأكيد بأن: 1- الرأسمالية القائمة على السوق هي الطريقة الأمثل للتنظيم الاقتصادي. 2-القوانين خارجة عن الأسواق وتشوّه كفاءات السوق. 3- ثقة المستثمر هي مقياس طبيعي لصحة السوق ومعيار أساسي لحركة كل السياسات[4].
من جهته، يؤكد ريتشارد كويني أن «الواقع الاجتماعي للجريمة» مركَّبٌ من الافتراضات الآتية: 1- تكمن الصفة المحددة للجريمة في تعريف الجريمة وليس السلوك الإجرامي، ويصبح الأشخاص مجرمين عندما يُعرِّف الآخرون سلوكهم على أنه إجرامي. 2- التعريفات الجنائية موجودة لأن مصالح بعض شرائح المجتمع تتعارض مع مصالح الآخرين. وكلما زادت درجة الصراع الاجتماعي، زاد احتمال تجريم ذوي النفوذ لسلوك الجماعات الضعيفة التي تتعارض مع مصالحهم. 3- يميل محتوى القوانين وإنفاذها إلى عكس مصالح ذوي النفوذ لأنهم عادة ما يسيطرون أو يتلاعبون بأعضاء أجهزة إنفاذ القانون والجهاز القضائي. 4- آراء ذوي النفوذ هي في الواقع أقوى الآراء، فضلاً عن أنها تُنقَل بواسطة وسائل الإعلام باعتبارها الآراء التي يجب طاعتها[5].
مدخل إلى جرائم ذوي النفوذ
ذوو النفوذ (The Powerful) هو مصطلح مَرِنٌ إلى حدٍ ما كونه يمتدّ ليشمل أفراداً، وعائلاتٍ، وأحزاباً، وشركاتٍ، وحتى شرائح من الطبقة المهنية الإدارية (Professional–managerial Class) سواء داخل بيروقراطية الدولة أو خارجها، ويرجع الفضل في صياغته إلى فرانك بيرس الذي وضعه عنواناً لكتابه «جرائم ذوي النفوذ: الماركسية والجريمة والانحراف» (1976). لم يضع بيرس تعريفاً محدداً لذوي النفوذ، بل درس جرائمهم في الولايات المتحدة الأميركية، وفي دراسته هذه قدَّم نقداً شديداً لعلم الإجرام الأرثوذكسي الليبرالي، وخاصّة نظريتَي الوصم (Labelling Theory) والتفاعلية الرمزية (Symbolic Interactionism)، فضلاً عن رؤى ماركسية أساسية عن العلاقات المعقَّدة بين الجريمة والدولة والقانون والشركات في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي الرأسمالي. ويطرح بيرس أننا دُفِعنا إلى التعرُّف بشكل خاطئ على طبيعة الديموقراطيات الرأسمالية من جهة، والجريمة كموضوع للدراسة العلمية من جهة أخرى. هذا التعرُّف الخاطئ تديمه الروايات التقليدية لوسائل الإعلام، ومسؤولي الدولة، والصيغ الإمبريقية غير النقدية التي يقدمها عدد كبير من علماء الاجتماع والإجرام الذين يكون مجال دراستهم – بسبب استخدامهم للمقولات النظرية الليبرالية وغير النقدية – مقيداً بإعطاء «التعريفات الاجتماعية». ويرى بيرس أن الرأسمالية «نظام عالمي»، وأنه لا يمكن للمرء أن يفهم «جرائم ذوي النفوذ» إلا من خلال وضعها داخل المجتمع كـ«كل» وتحديد مكان الدولة داخل هذا «الكل»، وبالتالي يرى أن جرائم ذوي النفوذ هي «إجراءات تُمثِّل، في وقت معين، الطريقة الأكثر فعّالية للمساعدة في تحقيق هدفَي الربح والنمو»[6].
أوضح بيرس، بعد مناقشة التشريعات، أن كلاً من الدولة والشركات تستخدمان القانون والجريمة ومكافحة الجريمة، استراتيجياً، لتأمين الربح والنموّ أوضح بيرس، بعد مناقشة التشريعات التي تهدف إلى تنظيم المشاريع التجارية والجريمة المنظّمة والإنفاذ الانتقائي لهذه القوانين، أن كلاً من الدولة والشركات تستخدمان القانون والجريمة ومكافحة الجريمة، استراتيجياً، لتأمين الربح والنمو. وشدد على أن الرأسمالية تستند أساساً إلى «الطبيعة الحسابية» للرأسماليين، لا الشركات. وأشار إلى إحدى أهم خصائص الرأسمالي وهي حقيقة أنه يريد السيطرة على بيئته. ويرى أن التركيز أحادي النظر على الشركات، بدلاً من البشر – الذين يستفيدون من أفعال الشركات ويتحكمون فيها – قد يؤدي إلى التضليل، فعلى الرغم من وجود الواقع الاجتماعي ككل، لا يمكن للعقل البشري إلا أن يبدأ في ملاءمة هذا «الكل» المترابط تدريجيَّاً ومنهجيَّاً. يؤكد كل من كارل ماركس وفريدريك إنغلز أن عملية المُلاءمة التدريجية هذه يجب أن تبدأ بأبسط العلاقات الاجتماعية التي تقوم عليها المجتمعات البشرية قبل التوجه التدريجي إلى تسلسلات علائقية أكثر تعقيداً. وتحقيقاً لهذه الغاية، يطرح الثنائي أن العلاقات الاجتماعية التي ينتج من خلالها البشر المواد الأساسية لوجودهم هي التي تشكل الأسس الأوليَّة للمجتمع. لذلك، يجب أن يبدأ التنظير من هذه البنى قبل التعامل مع علاقات سياسية وثقافية وقانونية أكثر تعقيداً. وهذه الأخيرة ليست مجرد ظواهر عرضية، إنها أيضاً قوى محددة يجب التفكير فيها، ومع ذلك لا يمكن تفكيك واقعيتها بالكامل دون تقدير العمليات التي تنبثق منها أولاً. وهكذا لاحظ بيرس أنه عندما يَنظُر المرء إلى السلوك الإجرامي على أنه واحدة من بين الاستراتيجيات التي تستخدمها الشركات، فإنه يَضطرّ، إذاً، إلى تحليل البنية العامة التي تتفاعل فيها الشركات، وهذا يتطلب فَهم أن الظرف الرأسمالي الراهن – ولا سيما من حيث الترابط بين رأس المال الحكومي والخاص – ديناميكي، دائماً في حالة تغير مستمر، وأبعد ما يكون عن الأمان، وقائم على أسس تاريخية وقانونية وسياسية متغيرة.
جرائم ذوي النفوذ هي استراتيجية تهدف بشكل أساسي إلى تقديم هذه السلوكيات كما لو كانت تتجاوز «الخير والشر» من أجل السماح لذوي النفوذ بالهروب من أي نوع من المُحاسبة. وبطبيعة الحال، فإن تلك الجرائم تنطوي على درجة عالية من هيمنة القوى، ولكن حتى عندما تَضعُف الهيمنة، فإن ذوي النفوذ يقدِّمون مطالباتٍ تؤسس الحق في الإخلال بالقواعد وتتحدّى مفاهيم الشرعية. وجرائم ذوي النفوذ «تجريبية»، وقد تؤدي التجارب إلى تأسيس أخلاقيات وقواعد جديدة وترتيبات اجتماعية وسياسية جديدة. وبهذا المعنى، فإن جرائم ذوي النفوذ قادرة على إعادة هيكلة المجالين القانوني والسياسي، فضلاً عن لعب دور تشريعي. ومن أجل أن يكون المرء ذا نفوذ، يجب عليه اتخاذ عدة تدابير (بعضها جنائية)، ويعترف في الوقت نفسه بأن الحفاظ على السلطة، بمجرد الاستحواذ عليها، يتطلب «ابتكاراً» يستهدف «تجاوز/ نفي» الواقع: يتحقق ذلك بالعمل والكفاح حتى يُخلَق واقعٌ سياسي جديد. وهكذا يجد ذوو النفوذ مبرراً لأفعالهم، حيث يُنظَر إلى عدم شرعيتها على أنها شكل من أشكال «الابتكار» في إطار عملية تطور تاريخي لا مفر منه [7].
الدولة والقانون والأيديولوجيا
الدولة هي أجهزة السلطة السياسية والعمليات الأيديولوجية التي تدعم شرعية هذه السلطة، بما في ذلك الجيش النظامي والشرطة والبيروقراطية ورجال الدين والقضاء...إلخ. رأى ماركس وإنغلز الدولة كنتاج للمجتمع عند مستوى معين من التطور، وكمؤسسة تقف كما يبدو فوق المجتمع. ومع ذلك، فإن هذه القدرة الظاهرة على الوقوف فوق المجتمع وتمثيل الدولة لنفسها على أنها محايدة ومستقلة عن الصراع الطبقي، هي تشويه أيديولوجي: الدولة ومكوناتها المختلفة ما هي إلا تلاعُب من قبل الطبقة المهيمنة. من جهته، يرى بيرس أنه على الرغم من أن مُديري الدولة جاؤوا تاريخياً من الطبقة المهنية الإدارية، فإن الدولة ليست مجرد أداة لأي طبقة. تعمل الدولة، في الاقتصاد الرأسمالي، على حماية الاقتصاد الذي تهيمن عليه الشركات ودعمه. وتَنتُج إجراءات الدولة من الصراعات السياسية بين الطبقات، وكذلك داخل الطبقة المهنية الإدارية. ومع ذلك، فإن هذه الصراعات جزء لا يتجزأ من السياسة الشاملة للدولة للحفاظ على اقتصاد رأسمالي «قابل للحياة». هذه العلاقة الحميمية بين الدولة والاقتصاد غالباً ما تؤدي إلى جريمة سياسية، فمُديرو الدولة يتخذون إجراءات تُسهِّل استثمار الشركات، والشركات تبني قراراتها الاستثمارية الأجنبية على أشياء مثل تكلفة العمالة والمواد الخام، وحجم السوق، والمناخ السياسي (الاستقرار) للمجتمع الذي يتلقى رأس المال. وهكذا تنخرط الدولة في جرائم سياسية عالمية بسبب حاجتها المتأصِّلة لحماية الاقتصاد الرأسمالي والحفاظ عليه.
القانون، قبل كل شيء، ظاهرة اجتماعية شكّلها أفراد المجتمع في ظل ظروف تاريخية محددة. لقد نشأ القانون مع ظهور اللامساواة الاجتماعية، وصاحب، على وجه التحديد، الانتقال من مجتمعات ما قبل الدولة إلى مجتمعات الدولة. ويختلف القانون عن قواعد السلوك الأخرى - مثل العادات والتقاليد والعُرف - من خلال طبيعته القسرية والإنفاذ المهني لقواعده. ومن خلال فروعه الدستورية والإدارية، فإن النظام القانوني – الذي هو جهاز الدولة – يصبح الآلية الرئيسية لتحديد مجال أنشطة الدولة. والقانون، كظاهرة اجتماعية، هو شكل من أشكال الدولة للسيطرة الاجتماعية. وعلى هذا النحو، فإن هدفه هو اصطناع «المطابقة»، وقمع ما تُعرِّفه الدولة على أنه «انحراف». أكَّد ماركس وإنغلز أن القانون يعكس مصالح الطبقة البورجوازية في الملكية الخاصة من خلال تعزيز جميع الممتلكات الخاصة وحمايتها، وبالتالي إخفاء حقيقة أن الغالبية العظمى من الممتلكات مملوكة لحفنة ضئيلة من السكان. ويؤدي القانون وظيفته هذه من خلال الدساتير والقوانين التشريعية والسوابق القضائية، وبدعم من وكالات نظام العدالة الجنائية من خلال فرض الامتثال لوصاياه. وعلاوة على ذلك، يعمل القانون كآلية مركزية للأيديولوجيا البورجوازية. وتميل القوة والسلطة إلى أن تكونا مجالين مستدامين ذاتياً للحياة تعكسان، في ضوء القانون، أنماطاً عميقة الجذور من اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فالقانون جهازٌ قمعيّ، وعادة ما تُنشَّط هذه الوظيفة عندما يقمع النظام القانوني الطبقة العاملة والفلاحين وحركاتهم السياسية المنظَّمة. وفي سيناريو الصراع هذا، يشكل القانون إحدى آليات خلق «إجماع المصالح» و«الوعي الجماعي»، وليست «إرادة الشعب» - المُتخيَّلة - هي أساس القانون والتجريم والشرطة... إلخ، وإنما المنطق «الخفي» لرأس المال (أو المُضمَن به)، والحياة الاجتماعية التي تُختَزَل في «المشاريع التجارية». في هذا السياق، يُضحي القانون سلاحاً يستخدمه ذوو النفوذ لفرض مصالحهم الخاصة التي تُلبّى على حساب المصلحة العامة.
يشكّل إنتاج المعرفة عاملاً مهماً في فهم العلاقات الاجتماعية الرأسمالية وإعادة إنتاج أشكال الهيمنة المُتجذِّرة في المجتمعات الرأسمالية
تشير الأيديولوجيا، في كتابات ماركس وإنغلز، إلى مجموعة من المعتقدات والقيم والأفكار – المستمدة من العلاقات الاجتماعية القائمة – التي تعكس الواقع الاجتماعي وتُقدِّم في الوقت نفسه هذا الواقع، وعلاقاته، مشوَّهاً على غير حقيقته. من جهته، يرى بيرس أن عملية سن القوانين وإنفاذها لا تلتزم بسيادة القانون، بل تعمل فقط على إضفاء طابع «درامي» على «نظام اجتماعي وهمي»، ومن ثم إضفاء الشرعية على البنى الاقتصادية من خلال تصوير «مضلّل» لطبيعتها، فضلاً عن أن هذه «الدراما» تبرر الادعاء بأن الدولة محايدة. هذه الصورة الأيديولوجية لطبيعة المجتمع الرأسمالي تُبعِد «النظام الاجتماعي الحقيقي» (نظام رأسمالي احتكاري مع درجة معينة من سيطرة الدولة على البنى التحتية الصناعية، ولكن أيضاً مع هيمنة الطبقة الحاكمة في النهاية على الدولة نفسها) عن النقد. ما يحجبه هذا التصوير المُشوَّه للديموقراطيات الرأسمالية هو أن القوة الاقتصادية العظمى تتركز في كيانات معادية للديموقراطية أصلاً، وأن المجتمعات الرأسمالية هي نظام من الاحتكارات المُعمَّمَة تهيمن عليه احتكارات القِلَّة، وأن القوة الاقتصادية الهائلة للشركات المتعددة الجنسيات تقزِّم معظم الدول، ما يشكل بدوره كيفية استخدام الدول لعملية سن القانون وإنفاذه، تلك العملية التي تدعم ذوي النفوذ بشكل مباشر أو غير مباشر. والحقيقة «الخفيَّة» للعالم الاجتماعي، وفقاً لبيرس، هي أن جميع أجزاء هذا الواقع تشكل «كلاً» في عملية تطور مستمرة. يمنعنا «التشيُّؤ» من استيعاب هذا لأننا غالباً ما نعتبر أن أجزاء مختلفة من مجتمعنا منفصلة عن بعضها البعض ويمكن دراستها على هذا النحو. والنظام الأيديولوجيّ هو نظام رمزيّ، ولكنه أيضاً نتاج ما سمّاه ماركس «التشيُّؤ». إنه نتاج عمل بشريّ مغترب، وقد أصبحت منتجات العمل البشري تفهم على أنها منفصلة عنّا وذات سلطة علينا، ولذلك، بالتحديد، يُضفى عليها طابعا «الخلود» و«العالمية» كما لو كانت بلا تاريخ. وذلك يعني أن هذا النظام التمثيلي يُطبَّع كنظام قسريّ مستقل عنّا. ويأتي كلّ من نظام العدالة الجنائية، والقانون، والأساطير حول الإنصاف والمساواة والعدالة، كنتاج لعملية التشيُّؤ. ويشير بيرس إلى أن «السر» و«العقلانية الخفيَّة» لرأس المال يكمنان في «النظام الاجتماعي الحقيقي» الذي يُعاد إنتاجه من خلال إضفاء الطابع «الدرامي» على عملية سن القانون وإنفاذه.
الشركات والجريمة
تعود أصول البنى التحتية التي تعتمد عليها الشركات، وفقاً لبيرس، إلى ممارسات الدول القومية، فالدول تساعد على تشكيل أسواق رأس المال والسلع والعقارات التجارية والسكنية، وإنتاج أنواع مختلفة من «رأس المال البشري»، وتشكيل أسواق العمل، وتنظيم عقود العمل، وتشكيل مؤسسات اقتصادية من خلال قواعد الإدماج، وتحديد قواعد المسؤولية،... إلخ. وتتّحد القوة القسرية والبنى التحتية للدول في تشكيل ظروف تراكم رأس المال. وتعتمد سلطة الشركات اعتماداً كلياً على سلسلة من «نظم الإذن» تشمل على سبيل المثال الإذن بالتجارة ككيان منفصل؛ الإذن بتنظيم الملكية بطرق معينة، أنظمة الاستثمار التي تسمح بامتيازات معينة، السماح للشركات بالعمل كأصحاب «حقوق». في هذا السياق، تفرض مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدوليين والبنك المركزي الأوروبي، شروطاً على عدد متزايد من الدول التي تعتمد على القدرة على الوصول إلى الائتمان، الأمر الذي يعزز بدوره الهيمنة البنيوية لأكبر الشركات على الصعيد العالمي. القدرة على توظيف العمال، وشراء وبيع السلع والخدمات، والتعامل في الأسواق المالية، وتحويل فائض القيمة المستقبلي إلى رأس مال في أسواق الأوراق المالية؛ كل ذلك ممكن نتيجة لمجموعة واسعة من «أنظمة الإذن الدولية» التي تضمنها الدول القومية: قواعد السلوك التي تشكل جزءاً من اعتراف دولي معقَّد قانونياً يَخُصُّ «الشركة» بوصفها «الفاعل الاقتصادي الرئيسي» على الساحة. ومع ذلك يؤكِّد بيرس أن قوة الشركات بعيدة كل البعد عن أن تكون «مطلقة»، فعلى الشركات أن تعيد «مَوضَعَة» نفسها باستمرار – ولا سيما في أعقاب الكوارث والأزمات الكبرى التي تصيبها – من أجل إعادة تأمين دورها المهيمن كعنصر أساسي في نظام السوق «الحرة». هذه العملية تستلزم عملاً كبيراً ومستمراً من جانب الشركات – بدعم من الدول – لضمان ما يسمّونه «التأثير الشامل لقوة الشركات» الذي يَضبُطُنا جميعاً على رؤية الشركة بوصفها «مؤسسة اجتماعية طبيعية وأبديَّة». وليست الشركة في حدّ ذاتها هي التي تؤدي إلى الصعوبات التي يواجهها المناهضون للرأسمالية، فالشركة (الأداة القانونية) هي ترس واحد – وإن كان مهماً – في آلة أكبر بكثير تدفع الدولة وقوانينها لخدمة الطبقة الرأسمالية وامتيازاتها.
يرى بيرس أن الطبيعة الدولية للنظام الاجتماعي الرأسمالي خلقت «وهماً» باختفاء جرائم الشركات (التي تشمل مثلاً الاحتيال على العملاء والإعلانات الكاذبة والمنتجات الفاسدة...إلخ). ومع ذلك يمكننا فَهم العلاقات الاجتماعية داخل النظام العالمي الرأسمالي من خلال إدراك أسباب عدم حظر بعض الإجراءات بموجب القانون. تعمل في هذا السياق قوانين يفترض أنها مصممة لإجبار الشركات على المنافسة بشكل «علني» و«عادل» في السوق «الحرة». هذه القوانين وما شابهها لا تُمَرَّر إلا عندما تهدد مستويات الاضطرابات الاجتماعية الظرف الرأسمالي القائم. وعندما يُعتَرف بمثل هذا التهديد، تصبح الأعمال التجارية منخرطة بنشاط في صياغة التشريعات التي لم يعد بإمكانها منعها بطرق تضمن استمرار «الاستقرار» و«القدرة على التنبؤ» و«الأمن» لنظام رأسمالي، مُربِح، قابل للحياة. وبالتالي، فإن نهج الرؤساء التنفيذيين للشركات يكون دائماً «حسابياً».
الشركات في الاقتصاد الرأسمالي لا تدوم إلا إذا حققت ربحاً، وهكذا يجرى الضغط من أجل تحقيق الأرباح، فضلاً عن فرضه من خلال البنى التنافسية للرأسمالية كنظام اقتصادي. يدفع الضغط من أجل الربح المُديرون التنفيذيون للشركات إلى الانخراط في جرائم الشركات. وكلما انخفضت التكلفة التي تتحملها الشركة مقابل العمالة والأدوات والآلات...إلخ، زادت الأرباح. والضغط لتقليل التكاليف يساعد بالمثل على تهيئة الظروف لجرائم الشركات. ففي مجتمع يحركه الربح، تكون الشركات «إجرامية» بطبيعتها بسبب الجوانب الجوهرية لتحقيق الربح والعقبات التي يجب على الشركة التغلب عليها لتحقيق هدفها الأساسي: الربح والنمو. ومن الجَليّ أنه غالباً ما تحدث جرائم الشركات عندما تنخفض أرباحها، وغالباً ما تُغسَل الأرباح، الناتجة من البيع والتوزيع غير القانونيين للسلع والخدمات، من خلال «المؤسسات المالية» الكبيرة، ما يوفر أرباحاً لكل من هذه المؤسسات والشركات. وتخدم العلاقة التكافلية بين «العصابات الإجرامية» و«الشركات المشروعة» – في إطار الجريمة المنظَّمة – كلتا المصلحتين من خلال المساعدة في تحقيق هدفهما المشترك: الأربا
الشركات هي مجموعات من عدد من الأصول المستمدة من مختلف المصادر والرأسماليين. والمعاملة القانونية للشركة تسمح لها بمعاملة عقود العمل (والعقود الأخرى) على أنها عقود طوعيَّة، ويمكن لصاحب العمل كفرد، دائماً، سحب رأس ماله، إنه، كما يقول القانون، مجرد فردٍ يفعل ما يحلو له بممتلكاته. ويسمح القانون للمساهمين بقصر مسؤوليتهم عن خسائر الشركات على المبالغ التي استثمروها في الشركة. ويُلزم مديرو الشركات قانونياً بالتصرف بما يحقق «المصالح الفضلى للمساهمين» الذين لا يتعين عليهم الاهتمام بكيفية تحقيق الأرباح. هذا هو محرك السلوك الضارّ تجاه العملاء والعمال ومجتمعاتهم والبيئة، وبعدم اتخاذ خطوات لمنع إلحاق الضرر بأصحاب المصلحة هؤلاء، تزداد الأرباح وقيم الأسهم. ومن المفترض أن يكون المساهمون سعداء عندما تتحسن قيمة أسهمهم، إنهم لا يمانعون ما إذا كان ذلك يحدث على حساب قدرة الشركة على البقاء على المدى الطويل، أو لأن الشركة تُنتِج وتبيع السلع والخدمات المُسبِّبَة للأضرار غير المرغوب فيها اجتماعياً. ومع توسُّع مدى يده الخفيَّة، يخفي القانون حقيقة علاقات الإنتاج الرأسمالية. سنتناول في ما يلي «العقد» بين الأفراد غير المتكافئين اقتصادياً – الذي يفترض أنه لا يُنظر إلى «التفوق الاقتصادي الخاص» على أنه مصدر لـ«الإكراه» يؤثر على «المساواة القانونية»، فإمكانية «الإكراه الخاص»، على عكس الإكراه من قِبل الدولة، مهمشة من قبل الأيديولوجيا القانونية.
يبيع العمال أجزاء من كيانهم: قدراتهم وذكائهم ومهاراتهم ومواهبهم واستعدادهم لاستخدام هذه الخصائص. وبطبيعة الحال، يريد العمال، كبائعين، بيع أقل قدر ممكن من خصائصهم الشخصية، بينما يحتاج أصحاب العمل، بعدما اشتروا كمية من القدرات البشرية غير قابلة للقياس الكمي، إلى الحصول على أكبر قدر من الخصائص البشرية المشتراة بأقل سعر ممكن. وهنا تعمل افتراضات القانون، فعند اتخاذ القرارات الطوعية من قبل الأفراد، يجب أن يتحكم أصحاب العمل في عقود العمل. وكل عقد عمل، ما لم يتضمن شيئاً مخالفاً، يضع واجباً قانونياً قابلاً للتنفيذ على الموظفين لممارسة قدر معقول من المهارة والجهد، والتصرف بحسن نيَّة وإخلاص تجاه مصالح أصحاب العمل، والامتثال لجميع الأوامر المعقولة الصادرة عنهم. ويعكس انتشار هذه الواجبات في كل مكان مسألة أن «أيديولوجية العقود الفردية الخاصة» تشكل الموقف الافتراضي لتنظيم القانون لعلاقات رأس المال والعمل. وفي هذا السياق، تتشابه سلطة الدولة والسلطة القسرية الممنوحة لأصحاب العمل – من قبل نظام أمرٍ خاص يضمنه النظام القانوني – فقد زوِّدَ أصحاب العمل بالأدوات القانونية اللازمة لإقامة نظام شبيه لنظام العدالة الجنائية من شأنه أن يضبط سلوك المتمردين.
يُلخص بيرس المسألة كما يأتي: 1- تُطبَّع قدرة الطبقات العاملة على الإكراه بافتراض أنه لا ينبغي التشكيك في الطبيعة الطوعية للعمل في الاقتصاد الرأسمالي. 2- وهذا يتجنّب مشكلة الشرعية، لأن الإكراه في نظام سياسي ليبرالي «مفترض» أمر غير مقبول. وحتى سلطة الدولة في الإكراه، يجب تقييدها من خلال التحديد الواضح لنوع السلوك الذي يستحق التجريم. 3- يضمن القانون، بعد التظاهر أنه لا يوجد إكراه مثير للقلق ينشأ عن إبرام عقود العمل، أن يكون لأصحاب العمل سلطة قسرية مباشرة لمساعدتهم على المضيّ قدماً في أجندتهم التي تستهدف تحقيق أكبر قدر من الأرباح. هكذا يُمنَح الرأسماليون إعفاءات من قبل الدولة والقانون.
يمكننا إذاً القول، بناءً على ما سبق، إن الشركات هي موقعٌ يُمنَح فيه الرأسماليون المتعطشون للربح ترخيصاً ليكونوا غير مسؤولين ويشجَّعوا على عدم المسؤولية. وأداتهم المفضَّلة «الشركة القانونية» مناسبة بشكل مثالي لمساعدتهم على متابعة الأجندة الرأسمالية على حساب المجتمع. والغرض من القوانين التنظيمية هو إذاً تعزيز وتسهيل أنشطة تنظيم المشاريع مع الحدّ من الخطر السياسي للعديد من النتائج غير المرغوبة. فلدى المنظّمين المحتملين، العازمين على تعظيم الربح، رغبة طبيعية في إخفاء مخاطر عملياتهم والتأكيد على الفوائد التي سيحققونها، وهكذا ينظر إلى الأضرار الناجمة عن أفعالهم وسلوكياتهم على أنها نتائج لـ«حوادث مؤسفة»، على الرغم من أنها في الواقع نتاج لخطة تستهدف بجشعٍ تعظيم الربح على حساب أيّ شيء آخر.
*باحث مصري
المراجع:
[1] Beirne, P., & Messerschmidt, J. W. (2015). Criminology: A Sociological Approach (6th ed.). New York: Oxford University Press.
[2] Walklate, S. (2007). Understanding Criminology: Current Theoretical Debates (3rd ed.). England: Open University Press.
[3] Felson, M., & Eckert, M. A. (2018). Crime and Everyday Life: A Brief Introduction (6th ed.). California: Sage Publications, Inc.
[4] Williams, J. W. (2008). The lessons of Enron: Media accounts, Corporate Crimes, and Financial Markets. Theoretical Criminology, 12 (4), 471–499.
[5] Quinney, R. ([1970] 2017). The Social Reality of Crime. New York: Routledge.
[6] Pearce, F. (1976). Crimes of the Powerful: Marxism, Crime and Deviance. United Kingdom: Pluto Press.
[7] Bittle, S., Snider, L., Tombs, S., & Whyte, D. (Eds.). (2018). Revisiting Crimes of the Powerful: Marxism, Crime and Deviance. New York: Routledge.
عن (الأخبار) اللبنانية