أعرف أن هذا جنون مطلق، لكنني متأكد أن الجنون هو ما سيحدث، ولابد أن أفعل شيئا سريعًا ولو على حساب حياتي.
شاهدت كل عروض فيلم تيتانك في جميع دور السينما بالإسكندرية.
في سينما سان استيفانو؛ كان جاك يبتسم سعيدًا بتضحيته حياته من أجل روز، اللمعة الأخيرة في عينيه أضاءت محيط الثلج الذي ابتلعه، لكنها كانت مفعمة بالرضا، كانت صورة روز وهي جالسة في حديقة منزلها الصغير على كرسي هزاز محتضنة صورته بجوار قلبها طوال الوقت وحتى آخر لحظة من حياتها؛ هي آخر ما رآه خياله.
لم ألاحظ أنني أشعر وأرى مع جاك إلا بعد مشاهدتي الفيلم في سينما ليلى بباكوس، وهي سينما درجة ثالثة. كنت أظن أنه مجرد توحد المُشَاهِد مع البطل، ثم اكتشفت أنني أصبحت جاك نفسه، وشعرت بالتشوش لتداخل صور عديدة في ذهنه/ذهني لروز وهي ترقص، وهي منتشية بالخمر، وهي في أحضان عدة رجال، وهي تحت رجال أكثر، وليس من بين كل هذه الصور صورتها الطوباوية على الكرسي الهزاز. كانت نظرته في كل عرض للفيلم تتغير من الرضا إلى الشك، إلى الحيرة، ثم الإحباط، فاليأس، ثم صارت نظرته تنطق بغضب شديد في آخر عرض للفيلم بالإسكندرية.
مزقت المسودة العاشرة لسيناريو فيلمي الجديد، هو الفيلم الثالث الذي أكتبه، أما الأول والثاني فقابعان في مكان ما بحجرتي الغارقة في الفوضى، إذ لم أستطع تسويقهما لدى أى شركة إنتاج.
فيلمي الجديد عن الأرض الخالية ذات السور المتهدم خلف بيتنا، مساحتها فدان تقريبًا، كانت منذ عقود مصنعًا صغيرًا للنسيج، تم إغلاقه وتركه مأوى للكلاب والقطط وأشباح طفولتنا. قبلها كانت هذه الأرض قصر السيد الجزيري مالك أراضي خورشيد كلها، كان بالقصر صالة كبيرة للعروض السينمائية بكاميرا 8مم، يشاهد صاحب القصر الأفلام مع أسرته، ثم يسمح لأهل القرية بمشاهدتها بعد ذلك. فهل أبطال هذه الأفلام هم العفاريت التي كانت تلعب في الأرض الخربة وتمنعني النوم لأن نافذة حجرتي تطل عليها؟
جلس جاك على صخرة معشبة وسط الأرض الخربة، كان يرسم بسرعة، وكانت أعمال محور المحمودية جارية على قدم وساق لإنشاء طريق عصري على ضفتي الترعة.
انتهى جاك من الصورة، ثم رفعها أمام عيني، أخرجت جهاز الموبايل خاصتي لأرى تفاصيلها في الظلام، كانت خورشيد غارقة في طوفان! المياه تتدفق بعنف من الشاشة، تغرق صالة السينما بمن فيها، تغرق قصر الجزيري، وتواصل هديرها الغاضب في شوارع القرية مكتسحة كل ما يقابلها.
فزعت: ما هذا؟
هذا ما سيكون إن لم تغير سيناريو تايتينك!- قال جاك.
كنت قد عرفت أن إحساسى بجاك ورؤيتي ما يراه ليس تماهيًا عاديًا، بل حيلة خبيثة منه ليجعلني تحت سيطرته، فأنا المختار بالنسبة له، أنا من عليه أن يغير تاريخ العالم، وتاريخ جاك وروز بالذات!
برغم الظلام؛ شعرت بدموع جاك وهو يتحدث بصوت مشحون بالألم: كنت أظن أنني سأحيا إلى الأبد لأن روز سوف تتذكرني، لكني لم أصبح سوى ذكرى باهتة تمر ببالها كل عدة سنوات، ولا تتوقف عندها كثيرًا، شعرت أنني خرقة بالية ملقاة في مزبلة، أريد استرداد حياتي!
بعد موته؛ شعر جاك بالندم، فروز جميلة جدًا، وليست أى شيء عدا ذلك، مجرد فتاة تافهة غير موهوبة، أما هو فعبقري كان يجب أن تملأ أعماله متاحف العالم ومعارض الفن التشكيلي الكبرى، ما حدث كانت خطأ كبيرًا، وسوء اختيار يعترف جاك أن حماس الشباب ومضاجعته الممتعة لروز دفعاه إليه، وهو يريد الآن إصلاح الخطأ بواسطتي.
لا يجب أن أموت بديلًا عن روز، هي يجب أن تموت، وأنت عليك أن تفعل ذلك، وإلا فلتغرق خورشيد كلها- تحدث جاك بتصميم مرعب.
كان "علي الشامي" مشغل آلة العرض السينمائي يستعد لتشغيل فيلم "خالد بن الوليد" بطولة حسين صدقي. صالة العرض في قصر الجزيري لا تتحمل أكثر من ثلاثين شخصًا، لكنني رأيت بها مئات من أهالي خورشيد. أبي شاب وسيم بلا شارب يجلس على ركبته حفيدي "محمد باسم"، كثيرون ممن ماتوا، وممن لم يولدوا بعد، عقدت الدهشة ألسنة الجميع، فقد انطلق خالد بن الوليد بحصانه في الصحراء، وبعد لحظة إظلام، أضاءت الشاشة بفتاة رائعة الجمال ترقص مع عمال سفينة، كان جاك يقف بجواري، نظر إلي بتواطؤ، ثم قفز إلى الشاشة، رقص مع روز، ثم أخذها إلى السيارة، رسمها، وضاجعها، وفرا إلى السطح، كان المكان خاليًا، والجمهور اشتعلت حماسته تصفيقًا وصفيرًا عندما رأى أحد أبناء خورشيد يدخل إلى الفيلم، تأملتُ لوحة روز العارية، فلاحظت أن خلفها لوحة أخرى، ألقيت بروز على كنبة السيارة، وتأملت تفاصيل اللوحة المختفية، "طوفان خورشيد".
اصطدمت تيتانيك بجبل الثلج بعنف، فوقعتُ على الأرض من هول الصدمة، توقف عقلي عن التفكير للحظات، وكان أبي يحتضن حفيدي والرعب يطل من عينيه، تمالكت نفسي، أخذت لوحة الطوفان وقفزت من الشاشة خارجًا من صالة العرض بأقصى سرعتي، وقفت أمام مجرى المحمودية، حمدت الله أنه يعاني الجفاف بسبب مشكلة سد النهضة، لففت اللوحة حول جسدي بإحكام، تدفق الطوفان في مجرى المحمودية، وفاض على مسافات ضئيلة من ضفتيها، وبينما أغرق كانت سينما الجزيري تتلاشى ليحل محلها مصنع نسيج ثم أرضٌ خربة، كنت خائفًا من لقائي القادم مع جاك بعد أن خدعته، لكنه كان يغرق في الثلج بلا أوهام حول جلسة روز فوق كرسي هزاز محتضنة صورته.
فى قصة تيتانك فى خورشيد، نستطيع تبين لغة الكاتب ومنهجه، الذى يعتمد على اللغة السهلة، والموضوع القريب جدا من حياة الإنسان العادى، غير أن السرد فى باطنه يحمل الكثير والكثير من القضايا الكبرى، التى تصب فى النهاية فى الرؤية العامة للوطن
تيتانك في خورشيد