ماتت سناءُ الوحيدة، ولا أحد أتى ليكفِّنَها، أو يذرف عليها دمعةً مِن التي ذرفتها عليه، فات القطارُ على محطتهاِ دون أن يقف، ولا رُكَّابه مِن زينةِ الشباب نظروا إلى رصيفِها، حتى العربة الأخيرة التى بها رجالٌ يودِّعون رجولتَهم؛ عَبَرت بثقلِها دون أن يلتفتَ كهلٌ منهم.
المالُ والجَمالُ والحَسبُ هى أشياءُ لا تملكها، لا تملك إلا قلبًا ناصعا لا يراه أحد، ووجعًا فى الروحِ لا يسكِّنه أحد، كل الركاب الجائعين لم يلحظوا شَعرها الذى تطاير بفعل الهواء، وحدَه القطارُ صفَّرَ لها ولأزرارِ قميصِها المفتوحة، وكأن الحديدَ خاطَبَها بما لم يخاطبْهَا به الرجال، سناءُ تَقضي يومَها خلف الزجاج تبيع تَذاكرَ لمسافرين، هذا ذاهبٌ للجيشِ أو للجامعة، وذلك للعملِ فى مصانعٍ على جانِبَي الطريق، سناءُ تفرز الركَّابَ بعينِيها، تختار الوحيدين لتُجلِسَهم بجوار الوحيدات، هكذا تمارسُ هوايتَها فى تأليف المَقاعد وتترك الباقي لكيوبيد، هذا الذي ما خصها بسهمٍ مِن سهامه، والذى تراه يصعد للحافلةِ قبل غلْقِ الباب بثوانٍ، يطير فى الممرِ ويجلس فى المقعد الأخير، ولا يحجز تذكرةً.
تلك طريقتُها فى انتظار ِ الحبيب؛ بتقريب القلوب، فكلما قابلتْ قلبيْن وقعَا فى الحُب لَمَا تجاورت المَقاعد، شعرتْ أن الحبيبَ تقدَّم إليها خطوة، تبتسم البنتُ فى وجه الحبيبن وتطلب "حلاوتها" مِن الله، وكلما زارتها التجاعيدُ ولفَّتْهَا الوحدةُ اشترتِ الورودَ ودَسَّتها هنا وهناك، وفي عيدِ الحُبِ تلبس فستانَ زفافٍ ورِثته عن أمُها، وتنزل إلى الشارعِ توزِّع الورودَ على كل حبيبيْن يقعانِ في طريقِها، تكتب خطاباتِ الغرامِ وتبعثها هنا وهناك ليقع الناسُ فى الحُب، فتشعل الظنونَ في القلوبِ الخوالي، وتبدأ القلوبُ تنبض، والوجوهُ تّحمَرّ، ونظرات العيونِ تلمع، صارت تعرف الشخصياتِ التي قد تقع في الهوى، وصارت تعرف أن الحُبَ دقَّ قلبَ ذلك الفتى منذ أيام، أو أن الشوقَ أصاب تلك الفتاةَ بالهُزَال، تمرست سناءُ فصارت كالعازفِ الوحيد، والقلوبُ أوتارٌ لا تَشبع، كلما تأخَّر الحبيب أسرعت فى كتابةِ الخطابات وتركتِ الورودَ على الشرفات، وعرَفتْ أنها لم تزرعْ في حديقةِ الناسِ ورْدًا كافيا، لو أحصينا عددَ الأطفال الذين خلَّقَتهم سناءُ مِن تأليف القلوب لفاقوا الخمسين، تنظر لعين طفلٍ منهم وكأنها حملته في أحشائها وكأنه سِرُها الخاص، هذه زكاةُ الحب، تدفعها عن قلبهِا الخالي. لكنَّ العمرَ يركض كحصانٍ أفلت من الأسر، والليلُ يأكلُ لحمَ الوحيدات، والتنهيدُ يحرقُ الروحَ، والانتظارُ علقمٌ، والعروقُ تتيبسُ، والقلبُ يأفلُ ومَن يُحِب الآفلين؟! لكلٍ امرأةٍ مذاقٌ قد يفوق في حلاوته العسلَ المُصفّى، فكيف لسناء أن تَعرضَ مذاقَها للشاربين دون أن تعكِّر ماءَها؟ أيمكن أن تقطرمذاقَها فى زجاجةٍ كعصيرِ الفواكة؟ وتكتب فى ورقةِ الإعلانِ: "للمزيد عليك بزيارة المأذون"؟ هكذا فكرت سناءُ وهي تَقطعُ لنفسِها تذكرةً، وتترك المقعدَ المجاوِرَ خاليا، علَّه يأتي ويجلس هنا قُربَ قلبي، تاقت البنتُ أن تسافر سَفرًا يسَّرَته أعواما للناسِ، نظرتْ للبابِ المفتوحِ واهتز قلبُها مع اهتزازات الإقلاع، ورأت الملاكَ يصعد وقوسُه في يده، والبابُ يغلَقُ بعنفوان قطارٍ راحل، برقِةِ سكينٍ يَذبح، والأسفلت أسودُ بلونِ الحداد، والمقاعد تهتز، والتنهيداتُ تخفت، جلس الملاكُ بجوارها وقبَّلَها في جبيِنِها، فارتختِ العينانِ وتوقَّفَ الهواءُ دقيقةً أو دقيقتين حِدادا أو ذهولا، كانت تلك هي الحافلةَ الوحيدة التي لم يصعد إليها كيوبيد، وظل يبكي هناك بجانب النافورة.
ويجعل القاص محمد رفيع من العنوان مدخلا للقصة، وانفتاحا لرؤيتها التى تنحصر فى حكاية فتاة، لم تمتلك من مباهج الدنيا شيئا، إلا انها توزع أحمل ما في هذه الدنيا على الجميع، توزع الحب. فبه ما يكفى.. لحياة.
الآنسة كيوبيد