رحلة إنسانية، تستعرض حياة واحدة من مآسى الزمن القادر على القهر، حين لم ترحمها يد السلطة، ويد التقدم العلمى الزاحف دون هوادة.. لكن يد الله الحانية، تمتد لتنتشل الإنسان من قاع الحزن، لاتساع أفق الأمل. استطاع جمال بربرى أن يُكثفها فى نطاق القصة القصيرة، مغلفة بشفافية اللغة، وبديع الصور، الخالقة لشعرية السرد.

عمود خشبي مُهمَل

جمال بربرى

كومةٌ سوداء مِن ملابسَ عكرة، في داخلها كيان آدمي، إلى جانب عمود خشبي مُهمَل، ينتصب في قارعة طريق.
تصطف أمامها زنابيل، ومقاطف، وقُفف، وأسبتة، ومكانس قوامها معطيات نخيل..
كانت قد لجأتْ إليه منذ سنوات لتعرض منتجاتِها على المارة، حتى شكلّت والعمود مَعلَماً هاماً يُشار إليه، ظلت والعمود بموضعيهما شاهدين على تواتر أحداث، وامتصاص حكاياتٍ، وأحاديثَ يجترها آخرون دون أن يعني لهما الحدث والأحاديث معنى ذا حيثية، تَنبت مِن حين لآخر أعمدة أسمنتية لمنازلَ حديثةٍ لا تلبث أن تستتر لاكتمال البناء بحوائطَ يكسوها ملاط، فيكسبها ألوانا بهيجة زاهية لا تهتم لها..
كل همِّها يتركز في تضفير سعف الجريد إلى بعضه في ضفائرَ طويلةٍ، ثم بمخرز وحبال رفيعة يتكون لديها زنبيل أو قُفَّة.
إن السعف النابت على جانبَي الجريدة يعد شيئاً تافهاً، بل يكاد أن يكون معدوم القيمة، لكنه بين يديها يتلوى على شكل ضفائر، ثم يتحول إلى مقاطفَ وزنابيل لها معنى (أيضاً سوق العراجين القديمة عديمة الفائدة تقريباً)
تَعمَد إلى سكين قديمة تغرسها بين أليافها؛ لاستنباط شرائحَ رفيعةٍ رقيقة تغمسها في الماء كي يلين ويسهل تشكيلها، هذه الشرائح مع أعواد حطب القطن تعتبر البناءَ الأساسي لمشناتٍ وأطباق كبيرة واسعة.
بطون جريد النخيل تبقرها بذات السكين توطئة لتكوين أقفاص..
تُحكِم زوائد العرجون الطازج حول يدٍ خشبية بحبال ليف رفيعة لإعداد مكنسة.
أورثتها أمُّها قبل رحيلها حرفة تَحَسُّبَاً لعوادي الزمن، وقد صدقتها حين لجأت إليها بعد وفاة عائلها.
كان رَجُلُها قد غرس بأحشائها نواتين أنبتتا طفلاً وطفلة، لم يمهله قدر لرعايتهما، فتكفلت بهما..
لا تدري كيف اتفق لها الجلوس إلى هذا العمود دون غيره؟..
ترى أن هناك أعمدة أخرى كان مجلس القرية قد غرسها بأماكنَ متفرقةٍ على الطريق لتمتد فوقها أسلاك برق وهاتف..
سمعت البقالَ، الذي افتتح متجراً بمواجهة مجلسها إلى العمود بإحدى تلك البنايات الحديثة، يقول: إن هذه الأعمدة باتت بلا معنى..
إذ إن رئيس المجلس القروي كان قد عدل عن مد أسلاك فوق الأعمدة مُستبدلاً إياها بكابلات أرضية.. ولم تعرف أبداً ماهية هذه الكابلات.
اعتبرت أن كلام البقال هذا تعريضٌ بجلستها، لم تُعِره اهتماماً.. كل ما تعيه أنها رأت في البقال أشياءَ بعينها تذكِّرها ببعلها الراحل.. ربما صوته الجهوري، أو حركته المتأنية حين يصف بعضاً مِن بضائعه أمام المتجر، أو حتى هيئته، وملامحه عن بُعد.. أيقظت تلك التوافقات بداخلها حنيناً للذي مَضى..
عادت إلى مجلسها بجوار رفيق جلستها، أمسكت بنواة البلح، راحت تضرب الحظ، وتُخطط على الأرض.
مِن حركات النواة تعرف حظها، أيقنت أن حياتها سوف تسير في نسق واحد، طريق يملؤه الشقاء والعناء، امتطت على شفتيها ابتسامة كسولة، وراحت بصوت عالٍ تلفت أنظار المارة إلى بضاعتها.
تتخذ النسوة المترددات على السوق مِن مجلسها إلى جوار العمود استراحة، أو محطة للقاء, وثرثرة مع لغوٍ مبالغ فيه.
منهن مَن يبتعن بعض منتجاتها، ولكن الأهم أنها تجد أُنسًا في مجلسهن إليها، إذ تفِد الأخبار منهن طواعية، فتلم بطزاجة الأحداث مِن مهدها دون عناء، تجد بنفسها امتناناً لعمود التصقت به لسنوات، حتى شجبت إليه مظلة مِن نسيج أجولة خيش قديمة، تقيها وجليسيها أشعة شمسٍ حارقة..
دائمًا ما تشعر أن رائحة الليف المبلول، شرائح العرجون القديم، طزاجة الجريد، قد امتزجت ورائحة جسدها الذي يتصبب عرقاً تحت وهج حرارة الشمس..
لذا فإنها تحرص عصر كل يوم خميس أن تستبدل ملابسها العكرة بأخرى نظيفة، بعد أن تستحم وتمشط شَعرها، تكتحل؛ استعدادًا لزيارة أسبوعية لفقيدها بمرقده الأخير..
هناك حيث ترى مثيلاتٍ لها عن بُعد تطلق عبراتٍ وزفرات، تذرف دمعات، تجود بها مِن مآقيها، في مناجاة، مِن طرف واحد، لمَن تركها دون عائل ورحل.
ترجع إلى منزلها, تسمع بخبر موت إحدى جيرانها.. راحت تولول، وكانت تحفظ كلمات" العدودة"، وتُشعل حماس النساء في الجنازة، وكأن الميت مِن أهلها..
وكانت أيضاً ماهرة بالضرب على الطبلة وقت الأفراح.. كانت تفرح وترقص معهم، تُغني الأغاني الشعبية، بالرغم من الحزن الساكن بين جدران حياتها...
غيوم القلق بدأت تنتشر، فتسقط أمطار الأحزان على طريق حياتها.
لاحظتْ أن مبيعاتِها مِن المكانس والسلال تناقصت وقل الإقبال عليها..!
غير أنها تفهمت السببَ عندما رأت صاحب المتجر الكبير بمواجهتها، الذي يدعى "ماركت"، يعرض مكانس وسلالاً بلاستيكية ذات ألوان زاهية جذابة، أفضلَ كثيراً مِن منتجها.. أُسقط في يدها، وعزمت الكف عن إنتاجها مكتفية بالزنابيل والقُفَف والأقفاص.
إحساس مريع بأنها تنكمش على نفسها ببطء على غير إرادة..
وأخيرًا غزت سماءَ حياتِها واقعةٌ زلزلت معنوياتِها بشدة..
ذات يوم انقض عليها عمال وموظفو مجلس القرية؛ ليُقصِوها عن موضع ارتبطت به على مدى سنوات، بكل غلظة، موضع بلغ بها حداً مِن تآلفٍ وانسجام لا يقل عن ألفة منزل قضت به الشطر الأكبر من حياتها..
ألقوا بكل منتجاتها بعيداً عن العمود الخشبي، بعثروا كيانها دون اعتبار لشيء.. ولولة وصراخ تلازما مع لم شعث دون أن يهتم لها أحد..!
لكن الأهم أنهم اقتلعوا العمود عن موضعه!
لا تدري كيف عادت إلى منزلها بما تبقى من منتج، فقدتْ أغلبه حزينة يائسة، كأن عائلها ما مات، وما فارقها، سوى هذه الساعة. 
لا مبالاة ذات وقْع أشد واجهتها مِن نبتتين رعتهما طويلاً بلغ حد ارتياح، إن لم يكن حد شماتة.. أذهلها جحود ونكران، وما أسعفتها كلمات احتجاج تواكب ما اعتراها من سخط وحنق، فانغلقت على نفسها بدموع تركتها تنساب في خطوط متعرجة على وجنتيها دون أن تنفضها..
هدأت أخيراً، لجأت إلى ركن بقاع منزلها، قد عزفت عن الطعام..
كلمات انسابت من النبتة الأكبر: آن لكِ الخلود إلى الراحة بعد طول عناء، فقد اشتد عود النبتتين، وأن هناك طالبًا ليد ابنتها..
أيضاً هناك مَن يخطِب ودَّها مِن جيرانهم متنكباً ذات السياق، لتحل عليهم كزوجة.
كلمات ابنِها تأتي إليها من وادٍ سحيق بعيد، بُعد ذلك الزمن القديم، مذ اتخذت من العمود الخشبي المُهمل مَوضعاً لعرض منتجاتها..
منذ أن فارقها العائل الأوحد، وتكفلت بإعالة أسرتها دون أن تمد يدًا لأحد، فلم تعقب.
أخذَ منها الحنين كل مأخذ..
تسللت مِن منزلها بعد أيام؛ لتتفقد الموضع الأحب إليها..
ذُهلت، إذ رأت عمودًا حديديًا انتصب بذات الموضع، امتدت أسلاك كهربية إلى جواره كومة في ملابس قشيبة، في داخلها امرأة، تبيع جُبناً وعسلا.