1
يا رب
تهتف يا سمعان جاد الرب حين يجلد السوط فراغ الزنزانة. أنت يا سمعان قويٌ كثور، جلدك- تقول زوجتك مازحةً- سميك، يمكنه تحمل ألف جلدة دون أن تند عنك أنةٌ واحدة، لكن طرقعة السوط حين تشق الهواء العطن تصيبك بالجنون، فتغمض عينيك، ويقشعر جسدك وتنكمش على نفسك كقنفد
هعههعهع مالك يا ابن القحبة؟ خائف؟
هذا الملعون يا سمعان، جلادك الذي يحمل كرش حاملٍ في شهرها التاسع، وشارباً كسلك المواعين، وأنفاً أطول من عضوك حين يجتاحك الشبق في ليالي الشتاء الطويلة
يا رجل ألا تنهد؟
تتملص زوجتك تحتك بدلالٍ وغنج، تنشب أظافرها الطويلة المتسخة في كتفك، تجرحك -أنت ذا الجلد السميك- خشونة كفيها، تقول لك: دعني، بينما تلف ساقيها حول ظهرك رافعةً جذعها لأعلى كغانيةٍ متمرسة. هذه المرأة الساحقة.. من يظن أن تلك التي تدور طوال اليوم حافيةً في طرقات المدينة تحمل (مشنة) البيض، والزبدة، والسمن البلدي، تلحف وجهها الشمس حد طمس معالمه، يمكن أن تكون بمثل هذا الشبق في الفراش؟
"أنت محظوظٌ يا سمعان..محظوظ، لديك امرأة تساعدك على هم الزمان، تطبخ لك طعامك، تسرج حمارك وتضع له البرسيم والتبن، والخبز المنقوع في الماء، وفي الليل، الليل الطويل البارد...ها ها ها هه"
يا رب
يضحك جلادك يا سمعان، يقهقه حين يسمع هتافك المتضرع الجبان، يعرف- هذا الخبيث النتن- أنك تفزع من الصوت فيفرقع السوط في الهواء. لو كنت في موقفٍ يسمح لك لقطعت أذنيه الكبيرتين هاتين، لا ربما كنت قطعت عضوه، وهل يذل الرجل ويكسر قلبه أكثر من فقدان أعز ما يملك؟ ستسأله متشفياً قبل أن تبدأ: هل لديك واحد؟ كنت ستقهقه وأنت تحاول مد يدك إليه؛ فيدفعك بكرشه، ويسقط ليتدحرج على الأرض ككرةٍ من مطاط. لست ابن قحبة يا سمعان يا جاد الرب يا ابن خادم الكنيسة، أمك كانت صالحةً تقية، حين جاؤا لك بأشلائها ليلة العيد لم تبك، ماتت وهي تصلي للرب، لابد أنها أشعلت لك شمعةً في الكنيسة، وتضرعت للعذراء باكيةً أن يهبك الولد الصالح
(ولدٌ واحدٌ يا عذراء..ابني طيبٌ يا عذراء..نعم هو لم يطأ أرض الكنيسة مذ كان صغيراً لكنه يحبك، يقدسك ولا يتحدث عنك الا بخير)
هل كنت تضبط نفسك متلبساً بالضحك؟ ألست مؤمناً؟ ألا تحب الرب؟
يا رب..
اوووو! دع الرب وشأنه يا سمعان، أكيد هو مشغولٌ جداً هذا المساء، مات البابا ولابد أن السماء الآن على قدمٍ وساق، ليس أقل من أن يشرف بنفسه على تجهيز الفردوس، إنه البابا! سيكون في مقدمة المستقبلين على باب الملكوت، وأنت تافهٌ يا سمعان، تافهٌ وحقير، ومجدف...الكاهن قال لك هذا وهو يلوح بيده مغادراً بيتك الطيني المتهالك بعد واجب العزاء، هدد بحرمانك من الاعتراف، والطرد من الكنيسة! ها ها ها ها. قلت له ليس لدي ما أعترف به؛ فلم يصدقك، تعرف أنه رفض أن يشرب الشاي لأن الكوب متآكل الحواف في بعض الأماكن، كان ممتعض الوجه طوال الوقت، يتأفف بلا سبب، هو لم يكن يطيقك يا ذا الرائحة التي تشبه روث الحمار، ومع ذلك غضب حين دعاك لحضور القداس؛ فامتنعت!
يظنون أنك ماجنٌ عربيدٌ بلا قلبٍ يا سمعان، اندهشوا حين رأوك تفترش الأرض عند جثة حمارك منتحباً، كنت تحمل التراب وتضعه على رأسك ووجهك وتبكي كطفل. تغامزوا وتلامزوا عليك، قالوا:
لم يذرف دمعةً حين ماتت أمه! يحب حماره أكثر من أمه!
دعك منهم، لن يفهموك أبداً، هم حتى لم يحركوا ساكناً حين دهست سيارة (الباشا) حمارك بلا رحمة، صحت كالمجنون وأنت تضرب بيديك على مقدمة السيارة:
حماري يا باشا..ضنايا يا باشا..أكل عيشي يا باشا
لم يحاولوا الدفاع عنك والمخبرون يحيطون بك كزبانية الجحيم، يدعسونك بأحذيتهم الثقيلة، ويسبون أمك، وأباك ودينك وربك، ربك يا سمعان الذي تستنجد به الآن، وتظن أنه أصلاً يسمعك! هع هع هع.. كم أنت أحمقٌ خفيف العقل! الرب لم ينجد ابنه المسمر على الصليب، تركه ينزف حتى الموت! يقولون: مات لأجل خلاصك. ليكن، لكن أنت يا سمعان، لأجل من تموت؟ لأجل ماذا؟!
جلادك مازال يمارس ساديته عليك، وزوجتك لابد أنها الآن مقعيةٌ عند ساقي كاهنٍ تستجدي مساعدةً لمهرطقٍ زنديق، وحمارك يرقد الآن في سلام، ابتسم..ابتسم يا سمعان، واحلم بأنك تزرع سكيناً في قلب جلادك.. سكيناً كتلك التي زرعتها في قلب الباشا ذات أصيل.
2
دميانة
"يارب، ليتقدس اسمك، لتكن مشيئتك،تفضل يا رب أن تحفظنا في هذا اليوم بغير خطية. مبارك أنت أيها الرب إله آبائنا ومتزايد بركة، واسمك القدوس مملوء مجدا إلى الأبد.أمين. فلتكن رحمتك علينا يا رب كمثل اتكالنا عليك، لأن أعين الكل تترجاك، اسمعنا يا الله مخلصنا يا رجاء أقطار الأرض كلها. وأنت يا رب تحفظنا وتنجينا من هذا الجيل وإلى الأبد.أمين."
سمعان يا رب، سمعان جاد الرب، تعرفه بلا شك. هذا الرجل الأسمر الغليظ ذو الصوت الأجش.. الصوت المرتفع على الدوام، بملامحه غلظةٌ وشدة، وطيبةٌ لا تخطئها العين، لابد أنك تعرف هذا، طفلٌ كبيرٌ هو، يتهيج دائماً بلا سببٍ واضح، يضرب الأرض بقدمه القوية ويكسر كل ما تطاله يداه، يضربني أحياناً حتى يدميني، لكنه يحبني، هو مخلصٌ ومحب، حين يجن الليل يتبدل يا رب، يستكين كطائرٍ عاد إلى عشه بعد سعيٍ طويل، يضمني تحت جناحيه كفرخٍ صغير، يغرقني بفيض مشاعره، يشعرني أني ملكة هذا العالم، يعبر بي الملكوت، أضع له بقايا الطعام البائت فلا يعترض، يأكلها بنهمٍ وشهيةٍ بينما نظراته تنطق بالامتنان. من أين يمكن أن تنبع كل هذه المشاعر إن لم يكن مصدرها قلبٌ طيبٌ رقيق؟ أعد له الشاي على (الراكية)، يحبه ثقيلاً بسكرٍ خفيف، أفرك هذا النبات الذي يحضره معه يوميًا ويشبه أعواد ملوخية شائحة، أحشيه في أوراق (البفرة) الرقيقة، يضحك حين يراني أبلل أطراف الورقة بلساني كمحترفة. آهٍ لو رأيته حين يضحك يا رب! يصير ملاكاً، أمد له السجائر وارتمي في حضنه الدافيء القوي، أدفن رأسي في صدره، أستنشق رائحة عرقٍ نفاذٍ ودخان، وأمانٍ بحجم الكون، يحيط كتفي بذراعه؛ فأطير، أنسى عناء نهارٍ ساخنٍ كئيب. أدور طوال اليوم حافية القدمين فوق رأسي حملٌ ثقيل، وعلى صدري وكاهلي حملٌ أثقل، لابد أنك غاضبٌ مني لأني أخلط السمن النباتي بالبلدي، واللبن أحياناً بالقليل من الماء، القليل فقط يا رب. لن يلحظ أحد، ولن يهتم. نحن فقراء، أنت أردت لنا هذا، لا اعترض، ولا اشتكي، فقط أنا لا أريدك أن تغضب مني، ولا من سمعان. يقولون مجدفٌ مهرطق! لا تصدقهم يا رب، ربما هو حين يغضب لا يعي ما يقول، قد يخرج من فمه ما يغضبك، لكنه يحبك، نعم يحبك ويؤمن بك، سمعان أكثرنا يقيناً. هل تذكر يوم أسقطت جنيني الثالث؟ كنت أنزف كصنبورٍ بلا توقف، حملني كطفلٍ، وطار بي إلى المستوصف، في الاستقبال كان موظفان يجلسان، أعطاهما بطاقته بينما ينتفض خوفًا علي، نظر ذو اللحية المشعثة فيها، وقال لزميله:
-نصراني
كان يفحصه باحتقارٍ وقرف، حين سمعه سمعان لم يحتمل، نسي نفسه ونسيني وانهال عليه ضرباً وركلاً، كاد يهلك بين يديه حتى أنقذوه وهو بين الحياة والموت، سمعان لا يذهب إلى الكنيسة، لا يصلي ولا يلتزم بالتعاليم لكنه غضب لأجلك، لأجلك يا رب غضب صدقني، وهو من بعثني إليك، بالأمس بعد أن عدت يائسةً محطمة من بيت (أبونا) كنت أبكي وأنا اتلفت حولي بحثاً عن شيءٍ ما، أحدٍ ما يساعدني أو يسمعني، لا أدري كيف غفوت، ورأيته...سمعان جاد الرب يجر عربته (الكارو) كان حزيناً يا رب، حزيناً وبائساً، رأيت خطين أسودين محفورين تحت عينيه، شهق وقال:
-قتلوا الحمار يا دميانة
عانقته وبكيت، قلت:
-وأنا طردني (أبونا). أبقاني أمام بوابة بيته الكبير ساعةً في الشمس، في عز الشمس يا سمعان، لا بأس فالشمس صارت لا تلفحني، تحفظ العشرة وتشفق علي..بعدها جاءني يرفل في ثوبٍ حريريٍ فضفاض، تفوح منه رائحة العطر، سلمت عليه وقبلت يده، كفه ناعمةٌ رخوة ممتلئةٌ باللحم، تأفف وزفر ألف مرةٍ وأنا أحكي له وأبكي، بعدها نهرني. قال: زوجك مجرم، لا استطيع أن أفعل له شيئاً. تعلقت بثوبه، ارتميت على الأرض أقبل قدميه، دفعني بكل ما يملك من قوة، نادى على الخدم فأخرجوني، واغلقوا البوابة الحديدية التي صرت كأنها تئن.. لان قلب الحديد ولم يلن قلب (أبونا) يا سمعان!
مسح على شعري، ضمني وقبل بين عيني، وقال اذهبي إليه، نظرت حيث أشار؛ فوجدتك معلقاً تنزف على الصليب.
"يا رب، يا رب مبارك أنت يا رب، علمني عدلك، مبارك أنت يا رب، فهمني حقوقك. مبارك أنت يا رب، أنر لي برك. يا رب رحمتك دائمة إلى الأبد. أعمال يديك يا رب لا ترفضها، لأنك صرت لي ملجأ من جيل إلى جيل..."
ومن قاع القاع.. يئن المعذبون المقهورون، من سُدت أمامهم بيبان الأرض.. وبيبان السماء، وعندما ينضغط الإنسان.. فلا يصبح أمامه للتنفيس، غير طرطشات تتناثر ذات اليمين وذات الشمال.. ذلك ما استطاع مصطفى عوض أن يخرج به أنات المطحونين، المعجونين فى التجاهل والنسيان.
الحياة المديدة لسمعان جاد الرب