منذ خمسة عشر عاما هي مدة زواجهما, وهي معتادة أن تترك له قدميها لمدة عشر دقائق قبيل ميعاد تحركهما الصباحي للعمل. إذ تركن جسدها إلى مقعد خشبي مريح يقع بالقرب من الباب. المقعد قديم الطراز لا يشبه بقية أثاث البيت، اشتراه الزوج خصيصا لأجل تلك الجلسة الصباحية التي يتشاركها معها, والتي من دونها لا يتمكن من الذهاب إلى العمل, ولا تحمل متاعب يومه.
ترتكن بظهرها كل صباح إلى ظهر المقعد الرحب. بينما يفترش الأرض من تحت قدميها وهو بكامل هندامه وأناقته, استعدادا للخروج المباشر من بعد إنهاء جلستهما الخاصة. التي يبدأها بعمل مساج خفيف لقدميها المغسولتين غالبا بصابون له رائحة الورد. تبتسم كلما تتذكر كيف استنكرت الأمر أول مرة. كيف استصعبت فكرة أن يفترش الأرض من تحتها, مأخوذة بمشاهد طفولية بعيدة, حين كانت تتأفف من بائعي الأحذية الذين يصممون على افتراش الأرض أمامها بنفس الطريقة لمساعدتها على ارتداء الحذاء الجديد والتأكد من مدى ملاءمة مقاسه لقدميها. لم تنتبه للأمر إلا بعدما تجاوزت سن الطفولة. وبدأت تسحب قدميها من أيديهم وتعفيهم من المساعدة, ظنا منها أنها تجنبهم الإحراج.. حتى بدأت تلاحظ الإلحاح والإصرار الغريب من البعض على ملامسة القدم لأطول فترة. لاتزال تذكر الابتسامات المرتعشة على الشفاه ونظرات الامتنان في الأعين, والتي لم تشعرها بشيء وقتها سوى النفور.. بينما الدقائق التي يركع فيها على ركبتيه أمامها تُوتر أعصابها, ترفعها دقائقه العشرة فوقه, وفوق نفسها وفوق العالم أجمع.. تشعر وكأنها أصبحت امرأة مقدسة, صنعتها أيدي الله للتو, قبل أن تتنزل عليه مباشرة من السماء... تربكها تلك الدقائق التي لا تتناسب مع شخصيته الحاسمة التي عرفتها وخبرتها على مدار سنواتهما الطويلة معا. هو شريك حياة ماهر ومنظم جدا.. كل شيء في حياته يخضع لميعاد محدد.. لا يؤخر إفطاره عن السابعة, ووجبة الغداء يتناولاها معًا بين الثالثة والرابعة.. بينما العشاء في الثامنة.. في الخامسة يتناول معها القهوة متبادلين بعض الأحاديث الجادة بخصوص العمل, أو حالة أحدهما الصحية. بينما في السابعة يكون من المسموح لهما التحدث لمدة خمسة عشرة دقيقة في توافه الأمور أو حتى إلقاء بعض النكات. مع مراعاة استبقاء خمسة وأربعين دقيقة لتحضير العشاء. حتى لأن ممارسة الحب كانت تتم في العاشرة وبموعد مسبق, يعرضه أحدهما كطلب رسمي على مائدة الإفطار ولا يتم اعتماده كموعد أساسيّ ضمن مواعيد اليوم قبل أن يعلن الطرف الآخر موافقته. وفي حالة عدم القبول يتم تمضية هذا الوقت المقدر ب ستين دقيقة في القراءة.
وهكذا اعتُبرَت الدقائق العشرة التي اعتاد أن يقضيها قبالة كرسيه المفضل دقائقه المقدسة, يتلذذ بها أكثر من تلذذه بأي شيء آخر.. بادئًا خلالها بمداعبة أصابع القدم بشفتيه.. متتبعا رائحة الورد بأنفه ثم خديه, ثم لسانه. قبل أن يحمل القدم تلو الأخرى ويطمئن لوضعها في داخل الحذاء بشكل مريح ومحكم. لقد اعتادا أن يمضيا تلك الدقائق العشرة صامتين تماما كأنهما في صلاة. صلاة يؤدي فيها هو دور المتعبد أو الناسك, بينما تقوم هي بدور ماسحة الذنوب.
عاش مطمئنا لتلك اللذة التي ظنها لن تبارحه, حتى جاءت في مرة وفاجأته بطلبها. اكتشفت وقتها أن جلَّ سعادتها التي تستشعرها خلال تلك الدقائق العشرة تنبت من إحساسها بسعادته هو.. بتبدل ملامحه.. بالارتياح الغريب الذي يكسو وجهه. ويزيح عن كاهله كل همٍّ أو حزن. مُطَمئنًا روحه كناسكٍ أدى ما عليه من صلوات وفروض.
طلبت منه مرة، وبعدما ألبسها الحذاء ككل يوم أن يجلس مكانها على المقعد, وأن تجرب تأدية طقوسه, وتُلبسه حذاءه كما يفعل معها.. بدا طلبها غريبا ومربكا لرجل لم يعتد أن يغير روتين حياته لخمسة عشر عام فائتة, هي مدة معاشرته لها خاصةً أنهما لم يرزقا بأطفال. لم تترك له ليلتها مجالًا للرفض. إذ نبهته لاستيقاظها المبكر عن ميعاد استيقاظها المعتاد, قامت وحضرت الإفطار وتناولاه وأنهيا جلستهما المقدسة, وتبقى عشر دقائق إضافية قبل ميعاد نزولهما إلى العمل.
لم تترك له المفاجأة الوقت الكافي للتفكير الجيد قبل اتخاذ القرار, لم يشعر بنفسه إلا وهو جالسٌ مكانها على المقعد, وهي أمامه على ركبتيها.. الأمر الذي أشعره بارتباك سرعان ماتحول إلى ألمٍ ثقيل بمجرد ما أن وقعت عيناه على حذائها الذي انثنت مقدمته نتيجة إتكائها عليه. تناولت إحدى قدميه في حنو بالغ لم يصبه إلا بقشعريرة مخيفة. تلمست كل نقطة في القدم الأولى قبل أن تعيدها إلى جوار الأخرى. التصقت أصابعه العشرة التي بدت متماثلة في الطول والحجم إلى حد غريب. شعرت أنها ترى أصابعه للمرة الأولى, تبدت أمامها كأصابع البيانو. كان هذا أول شعور راودها, حتى لأنها لامستهم بأصابع كفها المتتابعة, كما لو كانت ستعزف. قبل أن تدق أصابع البيانو تلك واحدا بعد واحد بالأنف أولًا قبل اللسان. لعقتهم جميعهم بالتتابع لتصدر منهم نغمة واحدة, تصاعدية أو تنازلية على حسب الاتجاه الذي ابتدأت منه. بينما حين حاولت لعق الكعبين.. سمعت موسيقى أشبه بدق الطبول, لم تحدد هل كانت الطبول تدق في صدره, أم في قلبها الذي تزايدت دقاته لدرجة واضحة ومسموعة.
كان الشيء نفسه يحدث معه كل صباح, لكنها لم تعرف. فلا هو أخبرها ولا هي اختبرت الأمر من قبل. لازالت في مرتها الأولى تستطلع اللذة الجديدة وتكتشفها. بعدما انتهت, وضعت قدميه في داخل فردتي الحذاء, بقدسية لم يعتدها أو حتى يتخيل وجودها.
أعجبتها الفعلة, واستغربت كيف حرمت نفسها من متعة كهذه كل تلك السنوات الفائتة. بينما ارتباكه كان قد وصل به إلى أقصى مدى. افترقا كالعادة عند مخرج البناية التي يسكناها ليتوجه كل منهما إلى عمله. مضت إلى شارعها, بينما هو لم يخط ولو خطوة واحدة. شعر بتعاسة, وثقلت قدميه لدرجة أنه لم يتمكن من تحريكهما إلا بعدما خلع عنهما الحذاء الذي ألبسته له. خلعه ولم يدرِ ماذا يفعل به, ولا أين يضعه. فكر أن يُدخله في جيب القميص, لكن حذاء بقياس 44 لم يكن ليدخل في جيب قميص له نفس القياس. راودته فكرة غريبة
بأن يضع الحذاء فوق رأسه ولكنه قاومها بصعوبة, مقررًا إخفاء زوجي الحذاء في جيوب بنطاله بوضع كل فردة في ناحية. شعر أخيرا ببعض الراحة والاتزان. وخطا أولى خطواته نحو الشارع.. من حسن حظه أن الشارع المرصوف حديثا, كان نظيفا, شعر بامتنان تجاه عامل النظافة الذي أدى واجبه على أتم وجه.
أكمل طريقه حافيا حتى محطة المترو التي اعتاد أن يركب منها كل صباح... شعر ببعض الرضا لذرات التراب التي محت عن قدميه أثر الجلسة المربكة. أثار شكله استغراب المارة, بهندامه الأنيق وشعره المرتب وذقنه الحليقة واللامعة, تناقضًا مع منظر القدمين الحافيتين. وصل إلى مقر مكتب البريد الذي يعمل به.. استغل زحام الناس وتخفى بينهم حتى وصل أخيرا إلى مكتبه الذي استغله كساتر جيد لإخفاء عري قدميه. بعدما استقر في جلسته. خطرت على باله فكرة أن يخرج الحذاء من جيوبه, ويضعه أمامه على الأرض, وإذا ما لاحظه أحد الزملاء, علل له الأمر بأنه يريح قدميه قليلا.. ولكن بمجرد ما أن أخرج الحذاء أمامه وتذكر ملامح وجهها العذبة, ويديها الرقيقتين وهما تضعان قدميه فيه بكل تقديس, حتى خجل من فكرته.. عاد لحيرته مرةً أخرى ولم يعرف مجددا ماذا يفعل. فكر أن يتصل بها ليسألها. لكنه شعر بمدى سخافة الفكرة.. فمن غير المنطقيّ أن تتصل بأحدٍ أيا كان لتسأله أين تضع حذائك.
فكر أن يضعه فوق المكتب, أو أن يخفيه في أحد أدراجه.. لكنه فوجيء بيديه وهما تتحركان غصبًا عنه وتضعان الحذاء فوق رأسه.. وقتها انفجر الجميع من حوله بالضحك.. بينما توتره كان قد بدأ يهدأ لدرجة أن بادلهم بعض الضحكات. أنهى دوامه الصعب متحملا كل ألوان السخرية. وحين هم بالانصراف حاول أن يزيح الحذاء من فوق رأسه ليخفيه مجددا في جيوبه, لكنه أحس بخطأ ما.. أحس بقوةٍ غامضةٍ تعانده, فيداه لم تتمكنا من إزاحته رغم استخدامه لبعض القوة في محاولات تالية. استسلم في النهاية لقوة التصاقه, وتابع طريق العودة وهو على نفس النحو المثير للضحك.. أشار إليه الأطفال وهم يتصايحون بضحكات عالية, بينما تعليقات الشباب اللاذعة كانت أكثر جرأة وسخافة.
بمجرد اقترابه من البيت ووولوجه مدخل البناية, وفي محاولة أخيرة منه لنزعه, نجح أخيرا. وضع الفردتين تحت أحد إبطيه كما كان يفعل مع ملفات العمل. صعد الدرج حافيا, وبمنتهى السرعة أدار المفتاح في ثقب الباب, رمى الحذاء اللعين بمجرد الدخول. قضى يوما سيئا لم يلتزم فيه بأي نظام لجدول مواعيده. فلم يتناول الطعام ولا حتى جرع فنجان قهوته. حتى أنه من شدة توتره لم يمارس معها الحب رغم الالتماس الذي كان قد تقدم به في الصباح وأبدت موافقتها عليه.
في اليوم التالي ورغم محاولاته المستميتة للتأخر في تناول الإفطار وارتداء ملابسه للعمل, إلا أن خبرتها كزوجة لرجل منظم يقدس الوقت والمواعيد, جعلتها تتمكن من استبقاء عشرة دقائق أخرى, لتقوم بنفس فعلة الأمس, التي حسنت مزاجها طوال اليوم بشكل ملحوظ.
استسلم لدقائقها متأففا , بيد أنه لم يتحمل الأمر لأكثر من أسبوع, أعلن بعده الرفض التام لتبادل المقعد معها. في اليوم الثامن, و بعد تأكده من وضع قدميها في داخل الحذاء بشكل مريح ككل مرة, لم يستجب لتوسلاتها. ولا حتى تأثر بملامح وجهها التي تعكرت بسبب رفضه. انصاعت له, بعدما تأكدت من تصميمه على الرفض.. وسبقته لأول مرة في حياتهما المشتركة في الخروج من الباب. حاول أن يلحق بها ليربت على كتفها على الأقل. لكنَّ غضبها جعلها تمضي بخطوات أسرع من المعتاد. وحين وصل إلى مخرج البناية. كانت هي في جوف شارعها. شعر لحظتها أنه يراها للمرة الأولى. كانت تضع حذاءها فوق رأسها وتمشي كما لو أنها معتادة على هذا الأمر منذ سنوات
بحس المرأة.. ترسم شيرين فتحى العلاقة بين الرجل والمرأة، تلك التى لا تستقيم، على ما لم تألفه نفس الإنسان الشرقى. باسلوب فنتازى، يحمل من الخيال أكثر مما يحمل من الواقع.
عشر دقائق مقدسة